تمهيد
الصعوبات الأولى والموقف الدولي
لم يعنِ رحيل القبطان باشا، تحمِل عمارتُه أحمدَ خورشيد وعلي
باشا سلحداره، وسائرَ أتباعه في أكتوبر ١٨٠٥، أنَّ الأمر قد
استتبَّ لمحمد علي، وأنَّ الانقلاب الذي أوصله إلى الحكم في ١٣
مايو قد أسفر عن تقرير ولايته بصورة تجعلها بمأمن من انقلابات أخرى
قد تحدث في أي وقت، ومن المنتظَر عند حدوثها أن تطيح بولايته ما لم
يتخذ باشا القاهرة الجديد من الوسائل ما يكفل درء هذا الخطر
عنها.
ذلك أن أولئك الذين تعاهد معهم من رؤساء القاهريين الذين نادَوا
بولايته على إرساء قواعد الحكم العادل الرشيد ما كانوا يرضون بأن
يتناسى الباشا شروط ذلك السند الذي وقَّعه، وهي شروط تهدف إلى
تخليص القاهرة من شرور الجند ومنع اعتداءاتهم على الأهلين، ورفْع
المظالم والمغارم عن أفراد الشعب، وإبعاد شبح المجاعة عن القاهرة
بفتح المواصلات وتأمين السبل بين القاهرة والصعيد مورد الغلال
والحبوب.
ولم يكن في وسع الباشا نفسه أن يتناسى هذه الشروط أو يُغفل
تنفيذها؛ لأن ذلك حقيق بأن يُبقي على حكومته صبغة الانقلاب، ولا
مَعْدَى حينئذٍ عن بقائها مزعزعة البنيان، معرضةً للانهيار إذا عصف
عليها ريح انقلاب آخر، وقد كانت مصر كما شاهدنا مسرحًا لعدة
انقلابات منذ جلاء الفرنسيين عنها، لا تلبث أن تتداعى؛ فالجند إذا
عجز الباشا عن كبح جماحهم وظلوا ينشرون إرهابهم في القاهرة،
ويعيثون فسادًا في كل مدينة وقرية يقصدون إليها أو يمرون بها، وظهر
لدى بعض رؤسائهم أو مغامريهم طموح للسلطة العليا وانتزاع الولاية،
والأهلون وزعماؤهم (وفي القاهرة خصوصًا مهد كل الثورات والانقلابات
السابقة العاتية) إذا ضاقوا ذرعًا بحكومة أوجدوها هم أنفسهم — في
اعتقادهم على الأقل — للأخذ بأسباب الإصلاح السريع الذي كان لا
يعدو في نظرهم العمل الفوري لإزالة عبء التكاليف المالية التي
أرهقتهم أو تخفيفه عن كواهلهم، ثم خُيِّل إلى بعض المتصدرين منهم
أن في استطاعتهم مشاركة السلطة العليا مسئولياتها، وأنهم يقدرون
على تدبير انقلاب يستبدل بالحكومة القائمة غيرها، والمماليك — وهم
المسيطرون على الصعيد، ثم على أقاليم واسعة في مصر الوسطى والوجه
البحري — إذا بقيت شوكتهم ومنعوا عن القاهرة المؤن والأغذية،
وحرموا خزانة الباشا من الميري وسائر الالتزامات المفروضة «للدولة»
على ما بأيديهم من إقطاعيات ثم تحقَّق حلمهم في استرجاع القاهرة —
غاية آمالهم ونهاية مقصدهم — فإن كل أولئك سوف يكونون متضافرين
معاول هدم تقوِّض عروش هذه الحكومة الانقلابية الجديدة لو أن
الباشا أغفل علاج قضاياهم وما يتفق مع صالح الحكم ويمكِّن من
استقراره.
ولقد كان مبعث الصعوبات التي اعترضت طريق الحكومات السابقة،
وزلزلت كيانها، والتي صادفت حكومة محمد علي عند تأسيسها ووجب عليه
تذليلها واحدًا في كلا الحالين؛ افتقار الخزانة والحاجة الملحة
للمال، والتنازع على السلطة بين الولاة أو الباشوات وبين البكوات
المماليك من ناحية، ثم بينهم وبين رؤساء الجند من ناحية أخرى، وضعف
الباب العالي وعجزه عن فرض نفوذه وسلطانه على هذه الطوائف والأحزاب
المتنازعة وبسط سيادته الفعلية على البلاد، ثم تنازع النفوذ بين
إنجلترة وفرنسا للظفر بالتفوق السياسي في مصر.
وقد هددت المشاكل التي نشأت من هذه الصعوبات حكومة محمد علي
تهديدًا بليغًا ومباشرًا في السنتين الأوليين ونصف السنة الثالثة؛
أي من حين المناداة بولايته في مايو ١٨٠٥ إلى حين جلاء الإنجليز عن
الإسكندرية في سبتمبر ١٨٠٧ بعد فشل حملتهم التي كانت قد جاءت
بقيادة الجنرال «فريزر» لاحتلالها في شهر مارس من العام
نفسه.
وشحذ محمد علي هِمَّته لمعالجة هذه المشاكل والذود عن كيان
حكومته، وساعده ما كان قد وضعه من أسس في أثناء نضاله الماضي من
أجل الوصول إلى الولاية والحكم على تناول هذه المشاكل بقسط وافر من
النجاح، فاستمر المشايخ والزعماء القاهريون في معاونته، وابتدع
محمد علي من الوسائل ما جعل هؤلاء في أحايين كثيرة ملزمين بهذه
المعاونة إلزامًا، فتيسر له المضي في فرض الإتاوات والمغارم
والمظالم على الشعب دون أن يلقى مقاومة، ولم يكن في مقدوره التنحي
عن سنن الطريق القديم؛ لنضوب مَعين الخزانة العامة بسبب كساد
التجارة، وتعطل الزراعة، وخروج أقاليم الصعيد من حوزة الحكومة،
وعدم دفع الميري عنها لوقوعها في قبضة البكوات المماليك؛ ولأن
«جمارك» الثغور وأهمها الإسكندرية، يتولى إدارتها مندوبون عن الباب
العالي وتُضبط إيراداتها «إلى الترسخانة السلطانية بإسلامبول»،
وكانت الإسكندرية ميناء القطر الأول منفصلة في شئونها عن باشوية
القاهرة. وقد دفع محمد علي من هذه الإتاوات والفرض وما إليها
مرتبات الجند، وسائر تكاليف الحكم والإدارة العامة، كما وجد منها
بعض حاجته لإرسال الهدايا ورشوة رجال الديوان العثماني في
القسطنطينية، أو مندوبي الباب العالي الذين جاءوا يحملون الأوامر
والفرمانات لمناصرة أخصامه البكوات ونقله من مصر إلى ولاية أخرى،
ثم استعان محمد علي بالمشايخ ووجهاء القاهرة و«المتصدرين» بها
لتأييد قضيته لدى الباب العالي، والمماليك، فاستكتبهم العرائض (أو
العرضحالات) لإظهار رضا الشعب عن حكمه وتشبُّثه ببقائه، وتقديم
المسوغ الذي يستند عليه الباب العالي في ستر عجزه وفشله أمام إصرار
محمد علي على نبذ أوامر السلطان ظهريًّا، والمقاومة السافرة إذا
ألحَّ هذا في عزله أو نقله، وتبرير تسليمه بالأمر الواقع جريًا على
عادته في كل ما وقع من أحداث في هذه البلاد منذ خروج الفرنسيين،
ولقد كان غضب الباب العالي من وصول الباشا إلى الحكم قسرًا عنه
مصدر خطر مستمر عليه في هذه السنوات الأولى، ثم استعان محمد علي
بالمشايخ والرؤساء القاهريين في إحباط تدابير المماليك؛ فكان منهم
الوسطاء والمفاوضون معهم، عندما مهَّدت مفاتحاته مع الألفي الكبير
في أثناء النضال ضد خورشيد لاستئناف المفاوضات والمباحثات معه، وإن
اختلفت أغراض كلا الفريقين منهما، وعندما ساعد تفرُّق كلمة البكوات
وانقسامهم على محاولة استمالة بكوات الصعيد إلى الوقوف موقف الحيدة
وإبطال حركتهم لا سيما في أزمتين عصيبتين؛ إحداهما: عند نجاح مساعي
الألفي لدى الباب العالي وعفو هذا الأخير عن المماليك وإرساله
القبطان باشا في عام ١٨٠٦ لإرجاع البكوات إلى سابق سلطانهم، ونقل
محمد علي إلى ولاية سالونيك، والأخرى: عند مجيء حملة «فريزر»، ولم
يكن مسعى محمد علي لبذر بذور التفرقة والشقاق بين المماليك وشل
نشاطهم وسيلته الوحيدة لهدم قوَّتهم؛ فقد سيَّر ضدهم الحملات
والتجريدات والتحم جنده معهم في معارك متعددة في الوجهين البحري
والقبلي على السواء، فكان النصر حليفهم تارة، وهزمهم البكوات تارة
أخرى.
ولقد زاد من حدة المصاعب التي صادفها محمد علي في هذه السنوات
الأولى، مثابرة إنجلترة وفرنسا على تنازعهما حول النفوذ في مصر،
وزاد خطر هذا التنازع بسبب استئناف الحرب بين الدولتين منذ مايو
١٨٠٣، وارتهنت مقدرات هذه البلاد بمبلغ نجاح كل من هاتين الدولتين
في مسعاهما مع تركيا، وكان ما حدث من نشاط في القسطنطينية، ثم في
القاهرة تبعًا لذلك حقيقًا بأن يزيد صعوبات محمد علي حدَّة على
حدتها؛ ذلك أن هذا النشاط لم يلبث أن انتهى إلى فصم العلاقات بين
تركيا وروسيا، وبينها وبين إنجلترة حليفة الثانية، وأسفر عن إرسال
أسطول «دكويرث» Duckworth
الإنجليزي إلى مياه القسطنطينية، وحملة «فريزر» إلى الإسكندرية في
١٨٠٧، وكانت هذه الحملة الأخيرة أعظم الأخطار التي تعرضت لها حكومة
محمد علي.
وقد بدأ هذا المسعى — كما سبقت الإشارة إليه في موضعه — منذ أن
عقد صلح «أميان»، ومنذ تبيَّن أنه إنما كان هدنة مسلحة، ثم لم تمضِ
شهور على عقده حتى اتضح أنه صار متحطمًا؛ فقد جلا الإنجليز عن مصر
بعد عقد الصلح، ولكنهم بقُوا في مالطة ولم يسلِّموها إلى فرسان
القديس يوحنا، وتمسَّك الفرنسيون بفتوحهم في إيطاليا. وبذل
الإنجليز والروس قصارى جهدهم لإحراز التفوق السياسي في تركيا، وسعت
فرنسا من جانبها على يد سفيرها «برون» لإحباط محاولات خصومها
وتعزيز نفوذها في القسطنطينية، وعندما أعلنت الحرب في مايو ١٨٠٣،
اعتمد الإنجليز على نشر تقرير «سباستياني» المعروف في إقناع الباب
العالي بأن بونابرت يريد غزو مصر في كسب الباب العالي إلى جانبهم،
وعبثًا حاول الفرنسيون إقناع الوزراء العثمانيين بأن خصومهم إنما
احتفظوا بمالطة حتى يتخذوا منها مركزًا لإرسال قواتهم إلى
«الليفانت» وإثارة الاضطرابات في مصر تمهيدًا لاحتلالها؛ لأن تركيا
التي خشيت من مشروعات بونابرت التي عزاها إليه أعداؤه وجدت في
حماية إنجلترة وروسيا لها منقذًا من هذا الخطر الذي يتهددها، لا
سيما وقد كانت روسيا إثر معاهدة تحالفها مع تركيا (في ٢٥ ديسمبر
١٧٩٨) قد فتحت بالاشتراك معها جزر الأيونيان التي كان الفرنسيون قد
غزوها قبل ذلك، وأقرت لهم معاهدة كامبو فرميو منذ أكتوبر من العام
السابق امتلاكها لها، فصار للروسيا الآن حماية «جمهورية الجزر
السبع» هذه، وقوي نفوذها في القسطنطينية حتى صارت سفنها الحربية
ونقالاتها تمر بحرِّية في البوغازات، وطلب الباب العالي تجديد
محالفته معها ثم مع إنجلترة (أي محالفة ٥ يناير سنة ١٧٩٩) قبل
انتهاء أجلهما، وكانت هاتان المحالفتان دفاعيتين هجوميتين، وعبثًا
حاول «برون» إثارة مخاوف الأتراك من مرور سفن الروس من البسفور؛
فقد حرص المبعوث الروسي «ديتالنسكي» والقائم بالأعمال الإنجليزي
«ستراتون» على تهدئة روع الباب العالي دائمًا، وعبثًا حاول «برون»
إقناع الباب العالي بأن توقيع معاهدة الصلح بين فرنسا وتركيا في
باريس في ٢٥ يونيو ١٨٠٢ — بعد أسابيع قليلة من انضمام السلطان سليم
الثالث في ١٣ مايو إلى معاهدة «أميان» — قد ألغى آثار معاهدتي
التحالف مع روسيا وإنجلترة، حيث أعيد السلام الآن بين تركيا
وفرنسا، بمقتضى صلح باريس، وأقر الباب العالي قبوله (المادة
الرابعة) كلَّ ما جاء في صلح أميان خاصًّا بتركيا، وحفظت مادة سرية
في هذا الصلح الحق للباب العالي في تجنُّب ما قد يقوم من حروب في
المستقبل بين فرنسا وأعدائها؛ فقد تصدى «ديتالنسكي» «وستراتون»
لدحض هذه الأقوال، واستمرا يُشِيعان الخوف في قلوب الوزراء
العثمانيين وهددا بتخلي دولتيهما عن حمايتهم إذا استجابت تركيا
لمطالب فرنسا. ولم يفلح «برون» في حمل الأتراك على الاعتراف بلقب
نابليون إمبراطورًا على الفرنسيين، واضطر «برون» إلى مغادرة
القسطنطينية في ١٢ ديسمبر ١٨٠٤ تاركًا تصريف الأمور في يد
«باراندييه» Parandier الذي
زودته حكومة باريس بتعليمات طلبت منه الوقوف موقفًا سلبيًّا من
نشاط أخصامه؛ حيث إن الواجب يقتضي الباب العالي أن يبتَّ في أمر
الانحياز إلى جانب فرنسا بناء على ما يهديه إليه تفكيره هو
فحسب.
وفي بداية عام ١٨٠٥ أخذت تتجمع الأسباب في سرعة؛ «لهداية» الباب
العالي إلى ما فيه رعاية صالحه ولم يجد مناصًا لرعايتها من انحياز
إلى وجهة النظر الفرنسية؛ ذلك أن الروس ما لبثوا أن طلبوا أن يأتي
تجديد محالفتهم مع تركيا متلائمًا مع الظروف القائمة، بإضافة مواد
سرية إلى المعاهدة، بعد أن فرغوا في مشقة وعناء من الاتفاق مع
الأتراك على موادها العلنية (١٥ أبريل ١٨٠٥)، وعندما شرع
«ديتالنسكي» يتفاوض في المواد السرية، وصل إلى القسطنطينية المواطن
«جوبير» Jaubert يحمل رسالة
من نابليون إلى سليم الثالث (بتاريخ ٣٠ يناير ١٨٠٥) يحذِّره من
روسيا، ويستنهض هِمته للاعتراف بلقبه الإمبراطوري، فيقول: «هل زال
حكمك وانقطع وأنت سليل العثمانيين الأمجاد، وإمبراطور إحدى كبريات
إمبراطوريات العالم؟ وكيف أجزت لنفسك الرضا بتلقي الأوامر من
روسيا؟ وتأبى لي ما رضيته أنا لك، فهل عميت بصيرتك في هذه المسألة
(أي الاعتراف بنابليون) عن إدراك ما فيه صالحك ونفعك؟» ثم يستطرد
مشيرًا إلى خطر الروسيا على الدولة، ومحذرًا سليمًا الثالث من
خيانة وزرائه فيقول: «وإذا كان لدى روسيا خمسة عشر ألف رجل في
«كورفو» (من جزر الأيونيان) فهل تعتقد أن وجودهم هناك موجَّه ضدي؟
وقد صار وقوف سفنها المسلحة أمام القسطنطينية وحضورها إليك عادة
سارية، فهل عميتَ حتى صرت لا تدرك أن روسيا سوف تقدم بأي عذر من
الأعذار على غزو العاصمة؟ وايم الحق إن بيتك لا يلبث أن يفنى
ويَجُرَّ عليه الزمانُ أذيالَ النسيان؛ فالريس أفندي يخونك، ورئيس
الديوان قد باع نفسه لروسيا، وأفقدك موت القبطان باشا أخلص
أصدقائك، لقد حذَّرتك مرتين، وها أنا ذا أحذِّرك للمرة الثالثة،
فاطرد أعضاء ديوانك، واطرد الريس أفندي، وأما أنا فقد أردت أن أكون
صديقًا لك، فإذا كنت لا تزال مصرًّا أو صحَّ عزمك على رفض ما أطلبه
مما كان لفرنسا في كل الأزمان، وهو القِدْح المُعَلَّى في
القسطنطينية، فسوف أناصبك العداء، ولم يُعرف عني بتاتًا أني كنت
عدوًّا مستضعفًا. إن ديوانك لم يتخذ أية وسيلة لتقرير النظام في
مصر والشام، ويترك مكة والمدينة تضيعان من يدك، ويهين أصدقاءك
ويحدب على أعدائك … فقم يا سليم من سباتك واستيقظ، وادعُ لوزارتك
أصدقاءك واطرد الخونة، وثِق في محبيك؛ فإنك إذا ما ترددت في
الاختيار بين فرنسا وروسيا فسوف تفقد بلادك، ويضيع الإسلام ويزول
بيتك! …»
تلك كانت الرسالة التي أصرَّ «جوبير» على تسليمها إلى السلطان
يدًا بيد، ولم يظفر ببغيته إلا بعد أن هدد بترك القسطنطينية،
فقابله في ٢ مايو ١٨٠٥، ونمَّق سليم كتابًا لنابليون حمله «جوبير»
إلى باريس، وقامت قائمة الممثلين: الروسي والإنجليزي في
القسطنطينية، وهدد «ديتالنسكي» الباب العالي، وحذِّره من عواقب
تغيير سياسته، فأحجم عن الاعتراف بلقب الإمبراطور، واستؤنفت
المفاوضات حول المواد السرية، ومدارها انضمام تركيا إلى محالفة
أوروبية ضد فرنسا، وقاومت تركيا كثيرًا في قبول هذه المحالفة التي
تفقدها حيدتها وتزج بها في الحرب، وزاد من حنق الريس أفندي أن
السفير الإنجليزي الجديد «شارلس أربثنوت» جاء إلى القسطنطينية دون
أن تكون لديه تعليمات من حكومته بشأن تجديد المحالفة مع الأتراك،
أو تسوية مسألة التعريفة الجمركية وإنهاء الخلاف الدائر حولها بين
تركيا وإنجلترة. وفي يوليو لم يرَ الباب العالي مناصًا من قبول هذا
القِسم من المواد السرية التي أصرت عليها روسيا، والتي تستهدف
اشتراك تركيا معها ضد فرنسا ووضع موارد الأولى تحت تصرف حليفتها،
وخضوع عمليات قتال الأتراك لإرشاد القيصر نفسه، ثم لم يلبث أن اتضح
للأتراك ما كانت تنطوي عليه مطالب الروس من أخطار عندما أرادوا أن
تتضمن سائر المواد السرية حق إرسال روسيا قوة عسكرية كبيرة إلى
الولايات الدانوبية العثمانية: مالدافيا وولاشيا (البغدان
والأفلاق) ووضع حامية في «بارجا» Parga في إقليم «أبيروس» في مواجهة «كورفو»
وسائر جزر الأيونيان ثم انضمام الباب العالي إلى روسيا في توجيه
الدعوة إلى إنجلترة حتى ترسل جنودًا إلى الإسكندرية، وإجازة
استيلائها على ميناء في شبه جزيرة المورة، وهذا كله عدا مطالبة
روسيا بحق التدخل في صالح رعايا الدولة من أصحاب الديانة
الأرثوذكسية في أي وقت تشاء، والمقصود بذلك وضع اليونانيين رعايا
الدولة العثمانية تحت حماية روسيا، وكانت دعوى هذه في تبرير
إصرارها على هذه المطالب المجحفة، والتي عارضها الباب العالي
معارضة شديدة، رغبتها في تحرير موارد الدولة من النفوذ الفرنسي،
وعبثًا حاول السفير الإنجليزي إقناع الأتراك بقبولها أو إقناع
زميله الروسي في أول الأمر بتخفيفها، وكان رأي الباب العالي أن
إدخال جنود أجنبية إلى الولايات الدانوبية سوف يحفز الولاة في سائر
ولايات الدولة إلى الثورة، وقبِل «ديتالنسكي» إخراج هذه المسألة من
مواد المعاهدة السرية، ونصح لحكومته بالإغضاء عنها وسحبها، ولكنه
تمسَّك من ناحية أخرى بالمادة المتعلقة بتدخل روسيا في شئون
اليونانيين أتباع الكنيسة الأرثوذكسية للمحافظة على مصالحهم، أو
على الأصح لبسط حمايتها عليهم، فلما رفض الباب العالي ذلك صمم
الروس على قطع المفاوضة، ولم يمنع «ديتالنسكي» من إرسال مذكرة
تهديدية للباب العالي سوى توسط السفير الإنجليزي (سبتمبر ١٨٠٥)، ثم
سرعان ما جاءت تعليمات الحكومة الروسية إلى مبعوثها لا بالموافقة
فحسب على سحب شرط إدخال جنود أجانب في أملاك الدولة العثمانية
وغيره من شروط المواد السرية التي يعارضها الباب العالي، بل وتطلب
إليه إزالة كل ما قد يعترض إبرام معاهدة التحالف من عقبات فورًا
ودون أي إمهال لتوقُّع قيام الحرب قريبًا بين روسيا وفرنسا؛ وعلى
ذلك، فقد أُبرمت معاهدة التحالف بين تركيا وروسيا في ٢٤ سبتمبر
١٨٠٥ كما وُقِّعت المواد السرية في اليوم نفسه، ولكن دون أن يكون
من ضمنها المادتان اللتان عارضتهما تركيا، واللتان بعث السلطان
سليم بشأنهما كتابًا إلى القيصر، أوضح فيه تناقض مطلبي إدخال الجند
الأجانب في ولايات الدولة وبسط حماية روسيا على رعاياها مع قوانين
الدولة العثمانية وطبيعة حكومتها.
وكان لهذا النجاح الذي أدركته تركيا أثره على المفاوضة التي جرت
بينها من ناحية أخرى وبين إنجلترة لتجديد المحالفة بين الدولتين.
وكانت الحكومة الإنجليزية ترى في حالة قبول تركيا لمطلب روسيا
الخاص باحتلال الولايتين الدانوبيتين أن تسمح لها هي الأخرى بإرسال
حامية لاحتلال الإسكندرية. حقيقة لم تكن هذه الحكومة مستعدة في هذه
اللحظة لإرسال جند إلى مصر، ولكن موافقة الباب العالي سلفًا على
هذا الإجراء سوف يكون لها شأن عظيم إذا حدث في أثناء الحرب أنه صار
لا مَعْدَى عن اتخاذه، وأما إذا تمسك الباب العالي بمعارضته لمطالب
روسيا ولمثل هذا الطلب فخليق بالسفير أن يسلك مسلك الحكمة حينئذٍ،
خاصة وأن حكومته كانت ترى من المستحسن تأجيل احتلال أية أراضٍ
تركية سواء جاء هذا الاحتلال من جانب الروس أم الإنجليز، وذلك حتى
يحين الوقت الذي يبدو فيه هذا الاحتلال أمرًا ضروريًّا؛ وعلى ذلك،
فإن مما يكفيها في الوقت الحاضر أن تحصل من الباب العالي على
موافقته على المبدأ فحسب، وكانت الحكومة الإنجليزية قد احتاطت
للأمر فأصدرت تعليماتها منذ ٢٩ مارس ١٨٠٥ إلى قائد قواتها بالبحر
الأبيض «السير جيمس كريج» Craig
تلفت نظره إلى أنه قد يحدث ما يدعو إلى الاعتقاد بأن فرنسا تنتوي
غزو مصر، وأن احتلال الإسكندرية يصبح عندئذٍ أمرًا لا نُدحة عنه.
وفي ٢٥ أكتوبر وصلت «أربثنوت» سلطات تفوضه التوقيع على المعاهدة مع
تركيا، ولكن سرعان ما قامت العقبات الكثيرة تحول دون
إبرامها.
فقد استعادت السياسة الفرنسية نشاطها في القسطنطينية بعد فترة
طويلة من الركود سارت في أثنائها المفاوضات لعقد المعاهدة التركية
الروسية دون أية عراقيل من جانب ممثلي فرنسا بالقسطنطينية، حتى إذا
بادر «تاليران» الآن بالكتابة في ٢٥ أغسطس إلى «روفان» الذي حل محل
«باراندييه» في القيام بأعمال السفارة الفرنسية بعد استدعاء الأخير
منذ أواخر يوليو، يطلب إلى «روفان» تحذير الباب العالي من عقد هذه
المعاهدة المنتظر أن يسيء إبرامها إلى العلاقات بين فرنسا وتركيا،
كانت المعاهدة عند وصول هذه التعليمات إلى «روفان» قد أُبرمت، ووعد
الباب العالي بالتسويف والمماطلة لتجنب التصديق عليها.
وتضافرت أسباب عدة لتبدل موقف الباب العالي؛ فقد خشي أن يكون
الغرض من وصول القوات البريطانية بقيادة «جيمس كريج» إلى البحر
الأبيض إعداد حملة في مالطة لغزو مصر، ثم ما لبثت أن وردت الأخبار
معلنة انتصار نابليون على النمسا في «أولم» Ulm في ٢٠ أكتوبر ثم في «أوسترليتز» Austrlitz في ٢ ديسمبر، وقد
وصف «روفان» الأثر الذي أحدثه هذا الانتصار الأخير في الديوان
العثماني، فقال: «إن شمس «أوسترليتز» قد بددت سُحُب الطرف الآخر
وشتتتها.» وكان «نلسن» قد أحرز نصرًا باهرًا في هذه المعركة
البحرية على أسطولي فرنسا وإسبانيا مجتمعين في ٢١ أكتوبر من العام
نفسه، ودفع حياته ثمنًا لهذا المجد الذي ناله، ثم ارتفع شأن فرنسا
عندما أرغمت النمسا على عقد صلح «برسبورج» Pressburg في ٢٦ ديسمبر فاعترفت بمملكة إيطاليا
التي كان نابليون قد أنشأها، بل وتنازلت عن البندقية ودلماشيا
وأوستريا كي تُضم جميعها إلى هذه المملكة. وكان من أثر كل هذه
الحوادث، وبخاصة هزيمة النمسا في «أوسترليتز» أن صار لزامًا على
روسيا دعوة جندها للتأهب والاستعداد عندما توقعت أن يبادر نابليون
بتسديد ضربة قاتلة إلى بولندة وأن يشرع في الزحف عليها لفتحها،
ففقدت الكثير من احترامها السابق في أعين الوزراء العثمانيين، زد
على ذلك أن «تاليران» لم يلبث أن كتب إلى الريس أفندي غداة صلح
«برسبورج» أنَّ تنازل النمسا عن الأراضي التي ضُمت إلى مملكة
إيطاليا من شأنه أن يجعل (لحسن الحظ) إمبراطور الفرنسيين قريبًا من
أملاك الباب العالي، ويؤدي — كما قال — إلى تحقيق رغبة الإمبراطور
في توطيد صلات المحبة مع السلطان العثماني، ودعم العلاقات بين
أملاكه وأملاك الدولة العثمانية، وسهل على «روفان» في هذه الظروف
أن يحصل من الباب العالي على الاعتراف المطلوب بلقب نابليون
إمبراطورًا على الفرنسيين في أول فبراير ١٨٠٦، ونصح «أربثنوت»
لحكومته بأنه لا سبيل لإرغام الأتراك على احترام عهودهم مع روسيا
وتجديد محالفتهم مع إنجلترة إلا بإثارة الخوف في نفوسهم من أن تعمد
الجيوش الروسية إلى مهاجمة الدولة والدخول في أراضيها، يؤازرها في
عملياتها العسكرية أسطول إنجليزي، وطلب مجيء أسطول إلى مياه
القسطنطينية، وإنذار الأتراك بأن تجاهلهم لروسيا ومضيهم في الغض من
كرامتها سوف تعده إنجلترة عملًا عدوانيًّا موجهًا ضدها، وتدخل
المبعوث الروسي لدى الديوان العثماني حتى يعقد الباب العالي
المعاهدة مع إنجلترة، ويظهر رغبته — عملًا بروح المعاهدة الروسية
العثمانية — في دفع ذلك الهجوم الذي توقَّع الروس أن يأتيهم من
جانب فرنسا.
ولكن الباب العالي وقد نفض عنه ثوب المذلة والمسكنة، وتحرر بفضل
انتصارات نابليون على خصومه من الخضوع لروسيا وحلفائها الإنجليز،
لم يُعِرِ احتجاجات «ديتالنسكي» وزميله «أربثنوت» أي التفات، ونشطت
استعداداته العسكرية، وتذرع بشتى الوسائل للتخلص من إبرام المعاهدة
مع الإنجليز، وقرر عدم تجديد محالفته معهم حتى يستقر السلام العام،
ويتم الصلح بين فرنسا وإنجلترة الدولة التي صارت بمفردها الآن في
عداء مع الإمبراطور، فيتسنى عندئذٍ للباب العالي الدخول في
ارتباطات جديدة مع إنجلترة دون خطر عليه منها، ونفى أن استعداداته
العسكرية موجهة ضد روسيا، كما أكد رغبته في الإبقاء على علاقات
المودة والصفاء مع إنجلترة، وكتب السلطان إلى القيصر بسبب إلحاح
السفير الإنجليزي، حتى يبدد الشكوك التي ساورت روسيا من ناحية
استعدادات العثمانيين العسكرية.
وكان من الواضح أن ما فعله الباب العالي لم يقصد به سوى التمويه
وكسب الوقت، وأن نفوذ روسيا في القسطنطينية قد وصل إلى الحضيض، وأن
الباب العالي في الظروف القائمة لن يجدد المحالفة مع إنجلترة،
ووجدت روسيا على وجه الخصوص أن اعترافه باللقب الإمبراطوري
لنابليون ثم امتناعه عن إبرام المحالفة مع إنجلترة علاوة على
استعداداته العسكرية على الحدود الروسية التركية، كل أولئك براهين
ساطعة على سوء نواياه، وتقتضي عملًا حاسمًا من جانبها، وهددت في
أبريل ١٨٠٦ باجتياز جيوشها للحدود العثمانية، ولكن دون طائل، بل إن
تركيا ما لبثت أن عارضت في مرور جند من الروس أرادت روسيا إرسالهم
بحرًا بطريق البوغازات إلى جزر الأيونيان، ثم ألغت بجرَّة قلم
واحدة كل ما كان يتمتع به الرعايا الروس من امتيازات في
الإمبراطورية العثمانية من عهد بعيد، وتوسط «أربثنوت» في منع
الأتراك من اتخاذ أي إجراء يثير غضب روسيا، واستمع الأتراك لوساطته
عندما هدد السفير بأن الحرب بين روسيا وتركيا سوف يتبعها حتمًا
إغارة الأسطول الإنجليزي الرابض في البحر الأبيض على أملاك تركيا
المطلة عليه، ومع ذلك فقد ظل الباب العالي حتى شهر يوليو يرفض مرور
الجند الروس من البوغازات إلى «كورفو».
وزاد تمسُّك الباب العالي بموقفه عندما وصل السفير الفرنسي
الجديد «سباستياني» — صاحب البعثة المعروفة إلى تركيا ومصر قبل ذلك
بأربع سنوات — إلى القسطنطينية في ١٠ أغسطس ١٨٠٦، فاستقبله الباب
العالي بحفاوة بالغة، وأذاع «سباستياني» أن غرض حكومته حماية الباب
العالي من مؤامرات أعدائه، وإقناعه باتخاذ قرار حاسم من أجل الوقوف
إلى جانب فرنسا ضد أعدائها وأعدائه، الروس والإنجليز، ثم أذاع أن
دولته قد أنزلت الهزيمة بالروس أمام «راجوزا» Ragusa عند طرف دلماشيا الجنوبي، ثم عظمت
مهانة روسيا عندما عُرف في القسطنطينية في ١٦ أغسطس خبر إبرام
روسيا على يد مبعوثها «أوبريل» Oubril صلحًا منفردًا مع فرنسا في باريس (في
٢٠ يوليو)، من بين شروطه ضمان روسيا وفرنسا استقلال وكيان
الإمبراطورية العثمانية، وذلك إلى جانب ترتيبات أخرى تستهدف عزلة
إنجلترة وتوطيد أقدام فرنسا في إيطاليا، فكان رضوخ روسيا لهذه
الشروط اعترافًا منها بتفوق الإمبراطور الفرنسي، وأمعن «سباستياني»
في إظهار زرايته بها واتخاذ توقيعها على هذه المعاهدة دليلًا على
مبلغ مهانتها، وصار يحض الباب العالي على التحرر من نفوذ روسيا
وسلطانها عليه، وانتهز الأتراك الفرصة، فأصدروا قرارًا في ٢٤ أغسطس
بعزل حاكمي البغدان والأفلاق دون مشاورة روسيا خرقًا لما هو متفق
عليه بين روسيا وتركيا بشأن تنصيب حاكمي هاتين الولايتين
الدانوبيتين حسب تنظيم ١٨٠٢، وكان هذان الحاكمان «موروسي» Mourousi في البغدان
و«أبسلانتي» Ipsilanti في
الأفلاق معروفَين بميولهما الظاهرة نحو روسيا، وحذَّر «أربثنوت»
حكومته إذا هي لم تعمل على المحافظة على هيبتها الآن وقبل فوات
الوقت، فسوف تجد نفسها ملزمة باستخدام وسائل العنف والشدة لإعادة
الأمور إلى نصابها، وأما روسيا فقد أبلغت مبعوثها أن «أوبريل» قد
جاوز تعليماته، ولم يكن مخولًا عقد الصلح مع فرنسا، وطلب
«ديتالنسكي» من الباب العالي إرجاء ذهاب الحاكمَين الجديدين إلى
منصبهما حتى يتضح موقف حكومته من هذه المسألة، واشترك «أربثنوت»
معه في ذلك، ولكن دون طائل.
فقد كان واضحًا أن الباب العالي ماضٍ في سبيله ولا يأبه
لأقوالهما واحتجاجاتهما، وقدَّم «سباستياني» بدوره مذكرة في ١٦
سبتمبر تحدث فيها عن إصرار الإمبراطور نابليون على ضرورة غلق
البوغازات في وجه السفن الحربية الروسية واعتباره فتحها لمرور
الروس عملًا عدوانيًّا ضد فرنسا، كما يعتبر الإمبراطور استمرار
محالفة الأتراك للروس أو تجديد معاهدتهم مع الإنجليز خرقًا صريحًا
للحياد ومساعدة من جانب الباب العالي لهؤلاء في الحرب القائمة ضد
فرنسا، وهدد الإمبراطور باضطراره إذا أهملت تركيا مطالبه أن يتخذ
ما يراه متفقًا مع ما تقتضيه رعاية مصالحه والمحافظة على هيبته،
فكان بفضل هذا التهديد أن وجد الباب العالي مستندًا جديدًا يؤيده
في رفضه مرور الروس من البوغازات، وطلب «أربثنوت» من حكومته إرسال
أسطول صغير إلى مياه القسطنطينية، لتعزيز موقفه وموقف زميله، وهدد
«ديتالنسكي» بطلب جواز سفره ومغادرة القسطنطينية إذا لم يَعُد
الحاكمان إلى منصبهما دون إمهال، وهدد «أربثنوت» بدخول إنجلترة
الحرب ضد تركيا إذا وجدت روسيا نفسها مرغمة بسبب موقف الأتراك على
محاربتهم. ثم جاءت الأخبار من فينا تنبئ بتوقُّع عقد محالفة جديدة
ضد فرنسا من بروسيا والسويد والدانمرك، ومن المحتمل كذلك النمسا
إلى جانب إنجلترة وروسيا. وأمام هذه التهديدات وبسبب هذه الأخبار
التي بعث بها السفير الإنجليزي لدى النمسا، السير «روبرت آدير» Robert Adair أعلن الباب
العالي في ١٣، ١٥ أكتوبر موافقته على إعادة حاكمي البغدان والأفلاق
المعزولين إلى منصبيهما، وكتب «ديتالنسكي» إلى حكومته في ١٨ أكتوبر
يبلغها نبأ ذلك.
فحقق هذا التراجع من جانب الباب العالي هزيمة «سباستياني»، وصرح
السلطان أنه يفضل رؤية الحرب يستعر أوارها في البوسنة (على حدود
دلماشيا التي يمتلكها الفرنسيون) على نشوبها تحت أسوار قصره؛ أي في
مياه القسطنطينية، وأرشى «ديتالنسكي» «وأربثنوت» وزير الخارجية
غالب أفندي في صورة هدايا ثمينة، ولكن هذا الفوز لم يستمر طويلًا؛
ذلك أن استنجاد السفير الإنجليزي بحكومته وطلبه منها إرسال أسطول
صغير إلى مياه القسطنطينية، لم يلبث أن لقي آذانًا مصغية، فبعث
أمير البحر الإنجليزي «كولنجوود» Collingwood قِسمًا من الأسطول بقيادة
«السير توماس
لويس» Thomas Louis إلى المياه العثمانية، فوصل لويس بقِطَع
أسطوله إلى مالطة أولًا في ٨ نوفمبر ١٨٠٦، ومع أنه علم بنجاح مساعي
السفير الإنجليزي والمبعوث الروسي فقد قرر المضي في مهمته، ووصل
إلى «تينيدوس» في ٢١ نوفمبر، وفي اليوم نفسه ألقت إحدى قطع أسطوله
مراسيها أمام القسطنطينية، فكانت هذه الخطوة الوسيلة التي تذرع بها
السفير الفرنسي ليحرك السماء والأرض من أجل تحويل الباب العالي عن
عزمه، وجذبه ثانية لتأييد المصالح الفرنسية، فقابل الريس أفندي في
اليوم التالي، وأعلن إليه خبر الانتصارات التي أحرزها نابليون
أخيرًا، وأهمها دخوله برلين في ٢٥ أكتوبر، وزحفه صوب بولندة
للاشتباك مع الجيش الروسي، وكرر مطالب الإمبراطور من تركيا، وهي
تمزيق معاهدة التحالف مع روسيا، وإغلاق البوغازات، وتجنيد جيش
عثماني كبير، وتسليح كل السفن الصالحة للعمل، وأبلغ «سباستياني»
الريس أفندي — الذي خشي أن يفضي حرمان الروس من حق مرور سفنهم
الحربية من البوغازات إلى إعلانهم الحرب ضد تركيا — أن في وسعه أن
يعزو ذلك الإجراء إلى ضغط فرنسا الشديد عليه. ولما كانت الجيوش
الفرنسية منتصرة في كل مكان ذهبت إليه، فقد خشي الباب العالي مغبة
المقاومة، وقرر المفاوضة من أجل عقد محالفة مع فرنسا، وإصلاح قلاع
البسفور والدردنيل، وتأليف جيشين كبيرين أحدهما في «صوفيا» لإخضاع
الصرب، والآخر في «إسماعيل» على أحد فروع مصابات الطونة في
بسارابيا لمقاومة الروس إذا حاولوا عبور نهر «دنيستر».
ثم أتيحت الفرصة لجذب الباب العالي نهائيًّا إلى جانب فرنسا
عندما تسرعت روسيا فأصدرت أمرها لجيشها الرابض على حدود
البغدان Moldavia باجتياز
الحدود في ٢٨ أكتوبر، وذلك بعد أن استبطأت رد مبعوثها عن نتيجة
تهديداته للباب العالي، وهي التهديدات التي كانت قد أسفرت — كما
رأينا — عن موافقة تركيا على إعادة حاكمي البغدان والأفلاق إلى
منصبيهما، فلم يصل كتاب «ديتالنسكي» إلى بطرسبرج إلا يوم ٤ نوفمبر،
ومع ذلك فقد اعتبرت حكومته ما جاء في كتابه موجزًا إلى حد
الاقتضاب، ولا يسوِّغ تراجعها، كما اعتبرت تفصيلات أخرى بعث بها
«ديتالنسكي» إليها في ٢٨ أكتوبر قاصرة عن الغرض، وعادت تصر على
ضرورة استصدار إعلان رسمي من الباب العالي يؤكد فيه عدم تعطيل حق
الروس في المرور من البوغازات، كما أصرت على ضرورة مبادرة الباب
العالي بتجديد معاهدة تحالفه مع إنجلترة حتى يتحرر من سلطان فرنسا
عليه واستبدادها به؛ وعلى ذلك فقد استمر «ميشلسون» Michelson قائد الجيش الروسي في
توغله في البغدان واحتل «ياسي» Jassy وغيرها من المدن الهامة. وفي ١٤ ديسمبر
قابل «سباستياني» السلطان سليم وسلمه كتابًا من نابليون يعده بشد
أزره، ويقطع على نفسه عهدًا بعدم عقد السلام إلا إذا أعيدت إلى
السلطان العثماني الولايتان الدانوبيتان، ونُصب عليهما الحاكمان
اللذان اختارهما الباب العالي، فعقد الوزراء العثمانيون مؤتمرًا
شهده «سباستياني» لبحث الموقف، وفي هذا المؤتمر تقرر إعلان الحرب
على روسيا، وقد أعلنت هذه رسميًّا في ٢٧ ديسمبر ١٨٠٦، وكان
«ديتالنسكي» قد انتقل قبل ذلك إلى إحدى السفن الإنجليزية من أسطول
الأميرال لويس، وفي ٢٨ ديسمبر غادر الأميرال الإنجليزي مياه
القسطنطينية ليجمع سائر قِطَع أسطوله الموزعة بين الدردنيل
والبسفور استعدادًا للطوارئ، بينما أبحر «ديتالنسكي» إلى
مالطة.
وبذل «سباستياني» كل ما وسعه من جهد وحيلة لإقصاء غريمه الآخر
«أربثنوت» من القسطنطينية، وتزايدت حروجة مركز «أربثنوت» تبعًا
لازدياد نشاط «سباستياني»، وفي ١٣ يناير ١٨٠٧ طلب الريس أفندي من
السفير الإنجليزي إبعاد الأسطول عن مدخل الدردنيل، وجعل مرساه عند
«تينيدوس» ثم أبلغ بعد ثلاثة أيام الحكومات المختلفة عزمه على
إغلاق البوغازات، وما إن وصلت «أربثنوت» تعليمات حكومته المؤرخة في
١٤ نوفمبر من العام السابق حتى طلب الاجتماع بالوزراء العثمانيين
في ٢٥ يناير يبلغهم فحواها، وهي تخيير الباب العالي بين تجديد
محالفته مع إنجلترة وروسيا وعودة الأمور إلى سابق عهدها، وطرد
السفير الفرنسي «سباستياني»، وبين قطع العلاقات بين إنجلترة
وتركيا، وهدد «أربثنوت» الوزراء العثمانيين حتى يبرهن لهم على صدق
عزيمة حكومته بأن أسطولًا إنجليزيًّا سوف يحضر قريبًا للعمل مع
الأسطول الرابض عند «تينيدوس»، ولاقتحام البوغازات بالاتحاد مع
الأسطول الروسي، ولكن دون طائل. ولما كانت تعليمات السفير
الإنجليزي قد ذكرت: حيث إنه من المحتمل في الظروف القائمة قطع
العلاقات بين إنجلترة وتركيا فقد صار عليه أن يتخذ ما يراه من
إجراءات أو وسائل تكفل سلامته وسلامة سفارته، فقد قرر «أربثنوت»
مغادرة القسطنطينية وبخاصة بعد أن بلغه أن الحكومة العثمانية صارت
تفكر في الاستيلاء على السفينة التي تركها «توماس لويس» لخدمته، بل
والقبض عليه هو نفسه وسائر أفراد الجالية الإنجليزية كرهائن، فغادر
العاصمة في ٢٩ يناير وترك القائد العثماني عند الدردنيل سفينته تمر
بسلام، وفي ٣١ يناير ألقت السفينة وكانت الفرقاطة «إنديميون» Endymion مراسيها إلى جانب
سائر قطع الأسطول الواقف أمام الدردنيل، واعتقد «أربثنوت» أنه قد
صار في وسعه الآن المفاوضة بحرِّية مع الباب العالي، والعودة
قريبًا إلى القسطنطينية من غير حاجة إلى استخدام وسائل العنف
والشدة، ولكن «أربثنوت» كان واهمًا فيما ذهب إليه؛ ذلك أن الحكومة
الإنجليزية كانت قد أبلغت تعليماتها منذ ٢١ نوفمبر سنة ١٨٠٦ إلى
قائد قواتها البرية في صقلية الجنرال «فوكس» Fox تطلب منه التهيؤ لنقل جيش من خمسة آلاف
جندي إلى مصر يكونون على قدم الاستعداد للقيام إليها فور صدور
الأوامر لهم بذلك، ثم إلى الأميرال «كولنجوود» الواقف بأسطوله أمام
«قادش» Cadix لإرسال قِسم منه
بقيادة السير «جون داكويرث» إلى مياه القسطنطينية لتأييد «أربثنوت»
في مفاوضاته، ثم القيام بعمل عدواني ضد القسطنطينية إذا أخفقت هذه
المفاوضات، وقد غادر أسطول «داكويرث» قادش منذ ١٥ يناير ١٨٠٧ وقبل
وصوله إلى «تينيدوس» في ١٠ فبراير كان قد علم بهرب السفير
الإنجليزي من القسطنطينية، فبعث إلى الجنرال «فوكس» بهذا الخبر،
فأصدر الأخير أمره بإبحار الحملة المعدة بقيادة «فريزر» إلى
الإسكندرية، بينما اقتحم «داكويرث» الدردنيل في ١٩ فبراير في
مظاهرة فاشلة؛ لأنه لم يرَ من الحكمة القيام بعمل عدواني ضد
التحصينات التي كان قد أنجزها الأتراك، بينما استبدت بالسفير
الإنجليزي نفسه الشكوك في رجاحة عقل الحلفاء الروس الذين سببوا
بعدم حكمتهم هذا المأزق، وخشي «داكويرث» «وأربثنوت» أن يكون
المقصود من قبول الأتراك لاستئناف المفاوضة مع السفير الإنجليزي
مراوغة الإنجليز ونصب الفخاخ لأسطولهم حتى إذا كملت كل استعداداتهم
أنزلوا به كارثة كبيرة، فقرر الاثنان عدم الانتظار، والانسحاب
بمجرد أن تبدلت لهجة الأتراك معهما عند فراغهم من استعداداتهم،
فطلبوا بعزمٍ خروج الأسطول من مياههم، فعاد الأسطول أدراجه في أول
مارس ميممًا شطر الدردنيل، وقابلته قلاع الدردنيل بإطلاق مدافعها
عليه، ففقد مركبين من نوع القرويت وستمائة قتيل، وكان بعد هذه
الحوادث بخمسة أيام فحسب أن أقلعت حملة الجنرال «فريزر» من
«مسينا»، وهي الحملة التي لو قُدِّر لها النجاح لقضت على حكومة
محمد علي.
ذلك إذا كان تطور الموقف الدولي الذي أسفر في مراحله الأخيرة عن
إرسال حملة «فريزر» إلى مصر لاحتلال الإسكندرية، وكان لهذه الحوادث
أكبر الأثر على ما وقع من حوادث كذلك في مصر؛ فانشغال الباب العالي
بهذا الصراع الدائر في القسطنطينية لتنازع النفوذ بين فرنسا من
جانب وبين إنجلترة وروسيا من جانب آخر قد أعجزه عن معالجة الموقف
في مصر وبسط سيطرته وسلطانه الفعلي عليها، فكان هذا الانشغال من
العوامل التي جعلته رضخ للأمر الواقع فيقبل النزول عند إجماع
القاهريين وتقليد محمد علي منصب الولاية على كره منه، كما أنه كان
كذلك من الأسباب التي جعلته يعفو عن البكوات بعد قتلهم علي
الجزائرلي واستيلائهم على حكومة القاهرة، عندما تم الاتفاق بينه
وبين مندوبي الألفي بالقسطنطينية على إرجاع سيطرة البكوات القديمة
إليهم، وإصدار أمره بنقل محمد علي إلى ولاية سالونيك، ثم جعله
اشتداد الأزمة يرضخ مرة ثانية لمشيئة محمد علي الذي رفض تلبية
أوامر السلطان (١٨٠٦).
ومثلما استعان محمد علي بالمشايخ ورؤساء القاهريين في تذليل
القدر الكبير من الصعوبات التي صادفته في الشهور التي تلت المناداة
بولايته، فقد اعتمد على مؤازرتهم في اجتياز أزمة النقل هذه بسلام،
سواء في استكتابهم العرائض للباب العالي وللقبطان باشا أم في إبطال
نشاط البكوات أم في معاونته على جمع المال اللازم لدفع مرتبات
الجند.
وقد زاد من خطورة هذه الأزمة الأخيرة أنه كان على الباشا مصارعة
خصمين عنيدين؛ أحدهما الألفي أعظم البكوات نشاطًا وأكثرهم تمرسًا
في فنون السياسة، كما كان يتسع أفق تفكير البكوات لإدراك أسرارها
وفهم مكنونها، والآخر الوكيل الإنجليزي «مسيت» عدو محمد علي اللدود
والمراوغ المداهن والرجل الذي رأى في وجود محمد علي في الحكم مبعث
كل النكبات التي حلت بمصر، ومصدر الفوضى المنتشرة في أرجائها،
والذي اعتقد أنه طالما عجزت حكومته الإنجليزية عن إرجاع البكوات
إلى الحكم وإقصاء محمد علي عنه فسوف تظل البلاد ضعيفة وعاجزة عن
دفع أي عدوان خارجي عليها، ولا مندوحة لذلك من أن يحتل جند
بريطانيون الإسكندرية، بل والبلاد بأسرها عند الضرورة، لتأمين
سلامة مصر — كما قال — وحتى يتسنى منع الفرنسيين من غزوها.
ولقد كان من المتوقع ألا يلقى محمد علي أية معونة من فرنسا ومن
ممثليها في مصر بسبب سياستها السلبية التي سبق توضيحها، وبسبب
اعتقاد حكومتها أن في وسعها الاعتماد على طائفة البكوات المناصرين
لها بزعامة البرديسي لتعزيز مصالحها، ولكنَّ تبديلًا حاسمًا ما لبث
أن طرأ على هذه السياسة، فاستحالت إلى سياسة إيجابية عملت على
مؤازرة محمد علي وتأييد حكومته، ولم تكن الحكومة الفرنسية ذاتها هي
صاحبة الفضل في هذا التحول الذي حدث، وإنما كان صاحبه ممثلها في
مصر «برناردينو دروفتي» الذي خشي من استفحال أمر الألفي صنيعة
الإنجليز، وخشي من انهيار النفوذ الفرنسي انهيارًا تامًّا وضياع
مصالح فرنسا إذا تسنى للألفي تأسيس حكومته في مصر بمعاونة
الإنجليز، فطفق يسعى بكل ما وسعه من جهد وحيلة لإحباط مشروعات
الألفي والإنجليز ومناصرة حكومة محمد علي وتأييدها، ثم كان ﻟ
«دروفتي» نصيب كبير في كل ما بدا من نشاط لهزيمة حملة «فريزر» عند
مجيئها.
ولا جدال في أن حكومة محمد علي ظلت في أثناء ذلك كله معرضة
لأخطار جسيمة، بل لقد صادفت هذه الحكومة أزمات كادت تزلزل كيانها
وتقضي عليها، وكان آخر هذه الأزمات حملة «فريزر» على مصر، فكانت
الفترة من وقت المناداة بولايته في مايو ١٨٠٥ إلى وقت جلاء
الإنجليز عن الإسكندرية في ١٩ سبتمبر ١٨٠٧ فترة اختبار وتجربة،
عجمت الحوادث في أثنائها عود محمد علي، وتأرجحت ولايته، وارتهن
بقاؤها بقدرته على تذليل الصعوبات التي اعترضته أو عجزه عن تداركها
وجرفها لحكومته، ولقد كان امتحانًا قاسيًا اجتازه محمد علي بنجاح،
فأقام الحجة على أنه رجل دولة وسياسة، في وسعه إرساء قواعد الحكم
على أسس قوية ثابتة ودعم أركان الولاية، الأمر الذي اختصه بعنايته
في نشاط ومثابرة في السنوات الثلاث التالية (١٨٠٧–١٨١١).