الكفاح من أجل البقاء
تمهيد: الموقف بعد المناداة بالولاية
أزاح إقلاع القبطان باشا من الإسكندرية في أكتوبر ١٨٠٥ حملًا ثقيلًا عن صدر محمد علي، عندما كان وجوده يهدد بتألب أعداء الباشا عليه في اتحاد عام، يسبغ عليه تزعم القبطان باشا — وهو ممثل السلطان العثماني صاحب السيادة على هذه البلاد — الصبغة الشرعية التي تزيده قوة وتوثقًا، فآذن استبعاد هذا العامل من الميدان، وتثبيت محمد علي في ولايته بانحصار التنازع على السلطة في الفترة التالية مباشرة بين باشا القاهرة وبين البكوات المماليك، وكان نزاعًا مريرًا؛ لأن محمد علي كان قد صح عزمه منذ أن دان له الحكم في مايو على الاستقرار في ولايته وعدم مبارحة البلاد، فبعث في طلب ولديه إبراهيم وطوسون، ووصل هذان إلى بولاق في ٢٧ أغسطس ١٨٠٥، وأصعد الباشا ابنه الأكبر إبراهيم إلى القلعة في اليوم التالي، وأجلسه بها، ثم لم يلبث أن توافد عليه مواطنوه يطلبون خدمته والعمل معه وتحت لوائه، وعهد إليهم الباشا بشتى الأعمال. وكان المماليك من ناحيتهم لا يقلون إصرارًا عنه على المضي في جهودهم من أجل انتزاع حكومة القاهرة منه، واسترجاع سلطانهم المفقود في بلادٍ عدُّوها ملكًا خالصًا لهم يقتسمون أرزاقها فيما بينهم، ولا يسمحون لطوائف الأجناد من أرنئود ودلاتية وغيرهم ممن اعتبروهم غرباء عنها بأن يشاركوهم في استغلالها. ولقد استمر المماليك مصدر أشد الأخطار التي تعرضت لها حكومة محمد علي لا في هذه الفترة فحسب، بل وطوال المدة التي احتفظوا فيما بمظاهر شوكتهم قبل أن يقضي عليهم القضاء المبرم في مذبحة القلعة المعروفة.
لقد تضافرت عوامل عدة على إضعاف البكوات المماليك، كان أهمها نقص قوة فرسانهم عدتهم الكبرى في الحروب، ووهن العلاقة التي ربطت بين «الأساتذة» و«الأتباع»، والأولون هم البكوات، منهم الحكام الصناجق (أو السناجق، جمع سنجق وهو البيرق شارة الإمارة والبكوية)، والآخرون هم المماليك الذين اختص كل واحد من الأساتذة، أو السادة الأمراء بعدد معين منهم، وقد عمد هؤلاء البكوات، أو الأمراء إلى الاستكثار من مماليكهم؛ بشرائهم الرقيق من أسوان في جورجيا والقفقاز خصوصًا، ولا يلبثون أن يرفعوا من شاءوا منهم عند اكتمال رجولتهم إلى رتبة البكوية والإمارة، ثم وهن العلاقة بين هؤلاء المماليك الذين أمرهم أساتذتهم وأسيادهم فصاروا «خشداشين» متساوين في الحقوق والتبعات، يربط بينهم الولاء لأستاذهم الأكبر سيد البيت الذي ينتمون إليه، ويسود وجوبًا الوئام والاتحاد بينهم بحكم هذه الصلة، حتى إذا خرج أحدهم على ما جرى به العرف عُدَّ ذلك إثمًا عظيمًا. وكان بيت السيد أو الأستاذ بمثابة المدرسة التي يتعلم فيها مماليكه الفروسية وفنون القتال، ويتدربون على الشجاعة والبسالة، ويلقنون المبادئ الأخلاقية التي أقرها النظام المملوكي، وأهمها طاعة التابع لأستاذه، والولاء له حتى يسترشدوا بها في حياتهم الخاصة والعامة على سنن يحفظ لطبقتهم المنعزلة في نظامها عن سائر طوائف وطبقات المجتمع تكتلها وكيانها.
وكان عدد البكوات أو الصناجق في العهد العثماني الأول أربعًا وعشرين، ثم أخذ ينخفض تارة ويرتفع أخرى ليصل إلى هذا الرقم، حتى إذا كان عهد الحملة الفرنسية نقص عدد البكوات، فلم يزيدوا عند خروج الفرنسيين من مصر على الاثني عشر «بك»، ثم نقص عدد مماليكهم، من الثمانية آلاف أو الاثني عشر ألفًا على أقصى تقدير إلى حوالي الألف أو الألف والخمسمائة فارس أو مملوك وبخاصة عندما أفقدهم النضال والتطاحن المستمر من أجل الاستحواذ على السلطة في القاهرة بعد الحملة الفرنسية الكثير من أعدادهم، وتعذَّر على البكوات أن يسدوا هذه الثغرة التي حدثت في صفوف مماليكهم؛ لأن الباب العالي لم يلبث أن بادر — عقب دخول البلاد مرة أخرى في حوزته — بإصدار الأوامر المشددة بوضع العراقيل في أسواق الرقيق التي يجلب منها البكوات مماليكهم وإيصادها دونهم، حتى صار هؤلاء يشْكون من هذا الإجراء شكوى مُرة، ويحاولون الاستعاضة عن المماليك الرقيق بمن صار ينضم إلى صفوفهم من العرب البدو واليونانيين والأتراك، ولم يكن الدافع لالتحاق هؤلاء بخدمة البكوات سوى استمرائهم لحياة السلب والنهب التي صار يعيشها البكوات أنفسهم في تنقلهم من إقليم إلى آخر منذ أن حُرموا نعمة الاستقرار في الحكم التي تمتعوا بها قبل مجيء الفرنسيين من ناحية والتي فقدوها نهائيًّا منذ أن طُردت حكومتهم من القاهرة على يد محمد علي، فلم يُفِدهم انضمام العرب واليونانيين والأتراك إليهم سوى رفع قوَّتهم العددية، بل أضعف من ناحية أخرى قوَّتهم المعنوية، أو بالأحرى زاد من إضعافها ووهنها، وذلك أن الانحلال الذي أخذ يدب في صفوف المماليك كان انحلالًا عامًّا شاملًا.
فالمماليك عند بدء النضال بينهم وبين محمد علي — وقد كان نضال بقاء أو فناء بالنسبة لهم — كانوا قد فقدوا تلك الميزات الأولى التي حفظت لهم كيانهم في الماضي، فلم يعودوا أولئك المحاربين الشجعان المتمسكين بولائهم لأسيادهم حتى الموت، بل انصرفوا إلى التمتع بلذائذ الحياة وانغمسوا فيها انغماسًا فانهمكوا في الشراب إلى حد السكر والعربدة، ولم يعفُّوا عن ارتكاب كل إثم وموبقة، وأنهكت هذه المفاسد قواهم الجثمانية والذهنية، وانعدم النظام وسادت الفوضى في صفوفهم، ونبذ الصغير طاعة الكبير، وفرَّقتهم عوامل الغيرة والحسد والكراهية والمنافسة الشديدة، وصارت الإمارة، أو البكوية مطمح كل فرد منهم في وسعه أن يجمع حوله نفرًا من زملائه المماليك، فيتآمر عليهم، وينشط لخدمة مآربه الشخصية دون نظر إلى صالح طائفته، واندثرت مدرسة البيت القديمة، وبدلًا من أن يتآمر اثنا عشر من البكوات، بلغ عدد المتآمرين منهم في بداية عام ١٨٠٦ حوالي الخمسين يعمل كل منهم في دائرته مستقلًّا عن الآخر، وذلك عدا فصائل كثيرة مبعثرة هنا وهناك تكاد تعيش منعزلة إحداها عن الأخرى وعن سائر جماعات المماليك، فانقسموا شيعًا وأحزابًا يُعادي بعضها بعضًا، وعجزوا عن تدبير شئونهم في الأقاليم التي بقيت في حوزتهم، فلم ينشئوا نظامًا للحكم والإدارة يكفل لهم حياة مستقرة تستند في تغذيتها على موارد ثابتة تعينهم على النضال في عزم ومثابرة، بل آثروا حياة التجول والإغارة على القرى لسلب الأهلين ونهبهم، ولقد وصف «دروفتي» في إحدى رسائله إلى حكومته في ١٦ أكتوبر سنة ١٨٠٥ مبلغ الانحطاط الذي وصلوا إليه فقال: «إن المماليك لم يعودوا أولئك المحاربين الشجعان المعروفين بإخلاصهم وولائهم لأسيادهم حتى الموت، وغاب من بينهم النظام كما انعدمت الطاعة، وأما بيت البك الذي كان في الماضي مدرسة يتعلم فيها المماليك النظام العسكري والعادات والأخلاق القويمة فقد استحال اليوم إلى مباءة للفساد والانحطاط الخلقي ومكانًا لنشر الفوضى وتعليم عدم النظام. لقد جعلتهم حياة التنقل وعدم الاستقرار والسلب والنهب التي يعيشونها كقطاع للطرق، متوحشين وأغبياء، بينما استل منهم حيويتهم ونشاطهم انكبابهم على الشراب وانغماسهم في سائر الرذائل والمعاصي، ثم إقبالهم على الحياة الرخوة الناعمة.»
وقد دل على هذا الانحلال الذي ألم بهم سوء تدبيرهم وانقسامهم الذي ضيع عليهم الاستفادة من عفو الباب العالي وصفحه عنهم في عام ١٨٠٣، ثم جعلهم يفقدون حكومة القاهرة في العام التالي، ثم منعهم من الاستفادة من النضال الذي نشب بين خورشيد ومحمد علي بعد ذلك، وقد تقدم كيف عرف محمد علي أن يستغل خرق البرديسي وحسده للألفي فاستعداه عليه وهو «خشداشه»، وكان يجب أن تردع هذه الصلة البرديسي، ولكنه لم يأبه لها في سبيل إرضاء شهوة الرياسة، ففقد البرديسي بسبب ذلك قدرًا كبيرًا من احترام زملائه له، ثم جاء انخداعه بصداقة محمد علي الزائفة ضِغْثًا على إبَّالة، وحمله حقده على الألفي بعد ذلك على تفويت فرصة أخرى ثمينة لاسترجاع حكومة القاهرة عندما صدر الأمر بتعيين محمد علي لولاية سالونيك ونقله من مصر في عام ١٨٠٦ لو أنه رضي بالاتحاد مع الألفي، حتى إن إبراهيم الكبير (أو العجوز) صار ينعى على البرديسي سوء تدبيره، ويعدُّه مسئولًا عن كل الكوارث التي حلَّت بساحة المماليك. ولم يمنع إبراهيم بك عن التحرر من البرديسي وروحه الشريرة سوى ضعفه وإيثاره الهدوء والاستكانة على النشاط والمعارضة لتأصل المداراة والمسالمة في طبعه منذ أن تقلد مشيخة البلد بعد وفاة أستاذه محمد بك أبي الذهب في سنة ١٧٧٥، ثم شاركه «خشداشه» مراد بك السلطة أميرًا للحج، فاستحالت هذه المداراة والمسالمة استخذاء عندما تقدمت به السن، ولم يجد لديه من متانة الخلق ما يجعله قادرًا على حزم أمره مع البرديسي أو تكدير صلته به أو قطعها، وبعد طرد حكومة البكوات من القاهرة اتخذ البرديسي وإبراهيم وعدد من الصناجق حولهما وممن كانوا أقل نفوذًا منهما الصعيد مرتعًا لهم، بينما اتخذ الألفي وأتباعه مركزهم بالوجه البحري، ولقد كان لدى الألفي وحده أكبر قوة عددية في وسع واحد من البكوات أن يجمعها حوله، فبلغ عدد مماليكه مع من انضم إليهم من بين اليونانيين والأتراك والمغاربة حوالي الألفين عدا بضعة آلاف من العرب البدو ويستخدمهم في تنفيذ مآربه وخططه الخاصة منفردًا عن سائر زملائه ومستقلًّا بنفسه.
على أن هذا الانحلال الذي طرأ على الطائفة المملوكية، لم يذهب بريح المماليك كله، ولم يمنعهم من أن يستمروا خطرًا يهدد حكومة محمد علي؛ وذلك لأن البكوات الصغار على الرغم من أنانيتهم وتنازعهم على الرياسة فيما بينهم كانوا يعترفون بتفوق وسيادة بعض كبار البكوات عليهم من بين الذين تقلدوا الإمارة من زمن قديم وارتفع ذكرهم، حتى إذا استعصى أي أمر عليهم أو مرت بهم أزمة طارئة أو ألمَّ خطْب يوجب العمل الجماعي، هُرعوا يسألونهم الرأي والنصيحة أو التفوا حولهم، وكان هؤلاء البكوات المعترف لهم بالتفوق والسيادة خمسة: إبراهيم بك الكبير (أو العجوز) وعثمان بك البرديسي، ومحمد بك الألفي الكبير — تمييزًا له عن الأمير بشتك بك الملقب بالألفي الصغير، مملوك الألفي الكبير، والذي أشركه إشراكًا محدودًا في حكومة القاهرة إبراهيم والبرديسي على نحو ما سبق ذكره في موضعه — ثم سليمان بك البواب المرادي وهو من الناقمين على البرديسي لسوء تدبيره، ثم عثمان بك حسن، ويبدو أنه كان أحصفهم رأيًا، وصفه «مسيت» بأن لديه فهمًا وإدراكًا للأمور، أكثر حكمة من زملائه، ولا يتدخل في خلافاتهم وانقساماتهم، بل يعمل في مثابرة على رعاية صالح المماليك عمومًا.
ولذلك فقد صار لزامًا على محمد علي أن يَحول بكل وسيلة دون اتفاق كلمتهم واتحاد صفوفهم، وكان في وسعه أن يفعل ذلك بسبب اختلافهم على وجه الخصوص بشأن النفوذ الأجنبي الذي صح عزمهم على الاعتماد عليه في وصولهم إلى الحكم والسلطان؛ فقد كفى أن يستند الألفي على مؤازرة الإنجليز حتى يمعن البرديسي في النفرة منه، ويقف اعتماده كله على الاستعانة بالفرنسيين وإمبراطورهم بونابرت العظيم، ولجأ محمد علي إلى توسيط المشايخ لإغراء طوائفهم على قبول الصلح والاتفاق معه اتفاقًا ما كان يريده أن يتم إلا على أساس اعترافهم الواقعي بحكومته، وما كان يقصد منه إذا أبوا ذلك إلا شل حركتهم وإخماد نشاطهم حتى يستكمل عدته لمناجزتهم، ولقد كان من الواضح أنه لا نُدحة عن قتالهم والقضاء عليهم إذا شاء أن يستقيم له الأمر وتتدعم أركان ولايته، لا لما كان في حوزتهم من أقاليم خارجة عن سلطان باشويته فحسب، بل ولأن الولاية أو الباشوية ذاتها كانت معرضة للضياع والإفلات من يده إذا تسنى للبكوات أن يظفروا بعفو آخر من الباب العالي على غرار ما حدث قبل ذلك بعامين.
فقد خبر محمد علي أساليب الديوان العثماني في أثناء الأزمات السابقة وآخرها أزمة المناداة بولايته هو نفسه، وعرف أن الباب العالي الذي أُرغم إرغامًا على التسليم بالأمر الواقع وقلده الولاية بعد أن انتزعها انتزاعًا لن يرضى ببقائه طويلًا في ولايته، ولن يمتنع عن تحيُّن الفرص لإقصائه، ولو أفضى ذلك إلى مهادنته للبكوات، وإرجاعهم إلى سابق عهدهم من السلطة والنفوذ في ظل نظام يقوم على الأسس القديمة، وكما كان الحال قبل مجيء الفرنسيين في حملتهم المعروفة على البلاد. ولا يبعد على الباب العالي — حتى يتخلص من التدخل الإنجليزي الفرنسي في شئون إمبراطوريته في وقت كان البكوات لا يزالون يستنجدون بحلفائهم وحماتهم، ويُلحُّون في توسيطهم لديه أن يسرع إلى المبادرة بالعمل والسعي بنفسه للوصول إلى اتفاق معهم. على أن الخلاص من خطر المماليك والتهيؤ لدرء ما قد يجِدُّ من أخطار من ناحية الباب العالي كانا يقتضيان وجود قوة عسكرية كبيرة تشد أزر محمد علي، ويكون في وسعه الاعتماد على ولائها له، ومع ما بذله الباشا من جهود مضنية لاستبقاء ولاء الجند له من جهة، وإلزامهم اتباع جادة النظام والطاعة من جهة أخرى، فقد ظل يشكو طوال هذه الفترة العصيبة من ولايته من افتقاره إلى العنصر العسكري الذي يبعث في النفس الثقة والاطمئنان إلى إدراك الانتصار في المعارك، فكان نجاحًا يدعو إلى الإعجاب حقًّا ذلك الذي أحرزه الباشا عندما عرف كيف يتغلب على هذه المشكلة الشائكة، ولا يدع زمام الجند يفلت من يده، أو يتيح لهم ولرؤسائهم الفرصة لتدبير انقلاب من طراز تلك الانقلابات التي أطاحت بحكومات أسلافه.
فقد كان هناك «الدلاة» الذين استقدمهم خورشيد لنجدته فلم ينجدوه، ولم يشتركوا في كل ما دار من معارك بين البكوات وخورشيد ومحمد علي، بل قصروا نشاطهم على نهب القرى والاعتداء على الأهلين حتى أرهقوا الفلاحين وأهل القاهرة، ومنذ ثورة القاهرة (مايو سنة ١٨٠٥) صاروا يعرضون خدماتهم على المشايخ والأرنئود وزعيمهم محمد علي، وقد قبل هذا خدمتهم على أمل إبعادهم بإرسالهم ضد المماليك في الوجه البحري، ولكنهم بدلًا من الالتحام مع جند الألفي صاروا ينهبون القرى ويخربونها، واستمرت أعمال لصوصيتهم هذه جملة شهور حتى عزم محمد علي بمجرد أن تسلم شئون الحكم على تطهير البلاد منهم، فأمرهم بالعودة إلى الشام، وبادر بإرسال حسن باشا لتعقبهم عندما استخفوا بأمره، فاضطروا إلى الهروب، وانتهى الأمر بخروجهم من مصر محملين بأسلابهم ومنهوباتهم قاصدين إلى غزة.
ثم كان هناك الأرنئود، وهم عدة محمد علي وبنو جلدته، ولا يسعه الاستغناء عنهم، فقد كانوا مصدر خطر على حكومته بسبب جنوحهم إلى التمرد والعصيان، فاتخذوا من تأخر مرتباتهم ذريعة للامتناع عن الخروج لقتال المماليك تارة، ولمغادرة الصفوف والذهاب إلى المماليك والانضواء تحت لوائهم تارة أخرى، ولإعاثة الفساد في القاهرة وفي سائر المدن والقرى التي يمرون بها أو يقصدون إليها والاعتداء على أهلها دائمًا، زد على ذلك تآمر بعض رؤسائهم على الباشا نفسه، لم يمتنع عن الاشتراك في ذلك حسن باشا الأرنئودي من أقرب المقربين إلى محمد علي، وزاد خطر هذه المؤامرات حتى إن «مسيت» لم يلبث أن وجد لزامًا عليه تحذير الباشا منها، فكلف «عزيزًا» ترجمان القنصلية الإنجليزية بالقاهرة في نوفمبر ١٨٠٥ أن يبادر فور وصول رسالته إليه ودون أن يضيع لحظة واحدة بإبلاغ الباشا أن هناك مؤامرة تُحاك خيوطها في القاهرة ضد سلطته، وقد قام متزعم هذه المؤامرة بخطوات معينة مع الجند، ومع المماليك، ومع الباب العالي. وفي أول يناير ١٨٠٦ كتب «مسيت» وهو يعرض الموقف في مصر لحكومته أن حسن باشا الزعيم الألباني مصدر خطر يهدد محمد علي، وأنه يبذل قصارى جهده لدعم مركزه واستمالة الأهالي إليه، وأنه أدرك نجاحًا أكبر من منافسه (أي محمد علي)؛ لأن وجود هذا الأخير على رأس الإدارة، وعدم استطاعته إجابة كل مطالب جماعته يعرضانه لغضب القوم عليه. ولكن هذا النجاح الذي ذكره «مسيت» كان من غير طائل؛ لأن حسن باشا وإن ظل منافسًا قويًّا لمحمد علي في هذا الوقت، فقد عرف الباشا كيف يحد من أطماعه ويستبقيه إلى جانبه، فلم يُعرف عنه التمرد عليه أو عصيان أوامره، ومع ذلك فقد اضطر الباشا عندما تأزمت الأمور وقت أن جاءه أمر النقل إلى سالونيك أن يعمل للتأكد من إخلاص وولاء هؤلاء الرؤساء العسكريين له، فجعلهم يحلفون الأيمان الصادقة على مؤازرته وتأييده، وذلك قبل أن يُقدِم على إعلان عزمه على مقاومة أوامر الباب العالي.
ولقد كانت حاجة محمد علي الملحَّة إلى المال مبعث الصعوبات التي صادفها في علاقاته مع جنده ورؤسائهم، حيث كان من الواضح أنه لو تيسر له دفع مرتباتهم لهم بانتظام لاستطاع ردعهم وإرغامهم على الطاعة والامتثال لأوامره ووقف اعتداءاتهم على الأهلين، والخروج للقتال ضد المماليك، كما كان من الواضح أن توفر المال لديه سوف يتيح له الفرصة لإبطال نشاط خصومه في القسطنطينية وإقناع رجال الديوان العثماني، وعملاء الباب العالي وضباطه في مصر بالرضا والتسليم بالأمر الواقع وإلغاء ما قد يتخذونه من قرارات تؤذي مصالحه.
ولذلك فقد توقَّف لدرجة كبيرة نجاحه في التغلب على الصعاب التي صادفته عقب توليه الحكم مباشرة، ثم طوال فترة الاختبار القاسية على قدرته على استنباط الوسائل التي تأتيه بما يسد حاجته من المال، حتى إنه لمن المتيسر عند تتبع الحوادث في هذه الفترة ملاحظة مدى ما هنالك من ارتباط وثيق بين مسعى محمد علي لتذليل هذه الصعوبات وبين نشاطه لتوفير المال الذي يعينه على التغلب عليها.
(١) حكومة محمد علي
وعلى ضوء ما تقدَّم إذن كانت المشاكل التي صادفت محمد علي عند استلامه أزِمَّة الحكم وبعد رحيل القبطان باشا ثلاثًا: درء الخطر المملوكي عن العاصمة، واستئناف النضال مع البكوات لتأمين ولايته، ثم معالجة مسألة الجند لإرسالهم لمطاردة المماليك وقتالهم، وأخيرًا تدبير المال اللازم لدفع مرتبات الجند قبل أي شيء آخر. وقد سارت هذه المشاكل الثلاث جنبًا إلى جنب كما ارتبط علاج كل منها بالآخر، واتجه نشاط محمد علي نحو غاية واحدة هي تقرير الولاية وتثبيت أقدامها.
وقد تقدم كيف أن البكوات كانوا قد اقتربوا من العاصمة وقت انقلاب مايو ١٨٠٥ ثم مجيء القبطان باشا إلى الإسكندرية لتسوية الأمور، فظهر الألفي في الوجه البحري يتخذ منه ميدانًا للصوصية كبيرة، وظهر إبراهيم بك في لحظة من اللحظات بالقرب من القاهرة للمراقبة فحسب — لأن البكوات بسبب تنافسهم وتباغضهم لم يستطيعوا توحيد عملياتهم للقيام بمجهود مشترك من أجل الاستحواذ على القاهرة وقت اشتداد حروجة مركز محمد علي، ففوتوا على أنفسهم هذه الفرصة المواتية — وبقي عثمان البرديسي في الصعيد مريضًا، ويمني نفسه بوصول النجدات التي كان ينتظر أن يبعث بها الفرنسيون إليه، وآثر لذلك عدم الحركة، وقد تقدم كيف أن محمد علي استطاع أن يبدأ المفاوضة مع الألفي، متخذًا من أنانيته وكبريائه وانفصاله عن سائر زملائه وسيلة للتغرير به وشل حركته، يعاونه في ذلك السيد عمر مكرم الذي ظل هو الآخر يمنِّي الألفي بالوعود الطيبة، حتى اعتقد الأخير أن الانقلاب الذي أطاح بخورشيد وأجلس محمد علي في الولاية لا يلبث أن يمهد السبيل لاستيلائه على حكومة مصر، وقد أفلح محمد علي وعمر مكرم في شل حركة الألفي، ثم استمر الحال على ذلك حتى حدثت مكيدة يوم ١٦ أغسطس ١٨٠٥، وعلا فيضان النهر، واضطر البكوات القبالي إلى الانسحاب إلى الصعيد، وعندئذٍ غيَّر محمد علي لهجته مع الألفي بصورة أقنعت هذا بأن من الخير له، وقد صار الآن عاجزًا عن الاشتباك منفردًا مع محمد علي في قتالٍ قد تدور فيه الدائرة عليه، أن ينسحب هو الآخر إلى الفيوم.
ومع أن انسحاب الألفي قد ترك محمد علي سيدًا في القاهرة وفي الوجه البحري، إلا أنه كان من المتوقع أن يعود البكوات إلى الظهور من جديد حول القاهرة وفي الدلتا عند انخفاض النهر، وصار لزامًا على الباشا أن يبادر بإعداد جيشه وتهيئته لا للدفاع عن العاصمة فحسب، بل ولتطهير البلاد من البكوات وطردهم منها كلية وهم الذين شعر بأنهم أعداء أقوياء ومن المتعذر عقد أي صلح دائم معهم عندما كان غرضهم الظفر بحكومة القاهرة ذاتها واسترجاع سلطانهم على البلاد بأكملها، وكان إعداد هذا الجيش من أعقد المشاكل التي صادفت محمد علي.
مشكلة الجند
ذلك أنه كانت قد تجلت في الجيش وقتئذٍ ظاهرتان، كان مبعث كليهما في واقع الأمر أدواء مزمنة، إحداهما استمرار مغادرة الجند للصفوف وهروبهم للانضمام إلى قوات المماليك، والأخرى استمرار المطالبة بدفع مرتباتهم المتأخرة، أضف إلى هذا أن الجند ظلوا سادرين في غوايتهم ينهبون ويسلبون ويعتدون على الأهلين في القاهرة والأقاليم، حتى سادت الفوضى في الجيش، أو بالأحرى شراذم هؤلاء الجند المرتزقة الذين انعدم بينهم النظام، وشاركهم بعض رؤسائهم في أعمال التخريب، ونبذ الطاعة والخروج على كبار زعمائهم؛ فقد اكتظت القاهرة بالعسكر الأرنئود الذين رفضوا الذهاب لقتال المماليك ما لم تُدفع لهم مرتباتهم، واتخذوا من عدم دفعها لهم ذريعة لاستمرار اعتداءاتهم على القاهريين، وتعالت صيحاتهم وازدادت مطالبهم، وحذا حذوهم إخوانهم في بعض المراكز التي ظلت في أيديهم بالصعيد كحامية جرجا خصوصًا، ثم في الوجه البحري، وكان الأرنئود قد انتهزوا فرصة وصول الألفيَين الكبير والصغير إلى جهة الجيزة في ١١ أغسطس، فذهب جماعة منهم للانضمام إلى مماليكهما في اليوم التالي، وتعقبهم جند الباشا، وقتلوا عددًا منهم، ثم لم تمضِ أيام على ذلك حتى أغارت طائفة أخرى منهم على سوق إمبابة فنهبوا ما وجدوه بأيدي الفلاحين، وتكررت حوادث هذه الاعتداءات وفرار الجند في الوقت نفسه للانضمام إلى قوات المماليك لا سيما إلى قوات الألفي الذي كان يكثر من التنقل بجيشه بين الفيوم والجيزة والبحيرة خصوصًا، وذلك طمعًا في مشاركة هذا الجيش في أعمال النهب والتخريب، من ذلك اعتداء أحد الممباشية الأرنئود مع ستين من رجاله على جهة بولاق ونهبها وفضح نسائها، ثم فرار ممباشي آخر مع حوالي الأربعمائة من عسكره إلى معسكر الألفي.
وقد وصف الشيخ الجبرتي ضمن حوادث رمضان ١٢٢٠ (نوفمبر وديسمبر ١٨٠٥) فِعال الجند في القاهرة، فقال: «وقد زاد فحشهم وقبيحهم وتسلطهم على إيذاء الناس، وكثروا بالبلد، وانحشروا في كل جهة، وتسلطوا على تزوج النساء قهرًا اللاتي مات أزواجهن من الأمراء المصرلية، ومن أبت عليهم أخذوا ما بيدها من الالتزام والإيراد، وأخرجوها من دارها، ونهبوا متاعها، فما يسعها إلا الإجابة والرضا بالقضاء … ووصل كل صعلوك منهم لما لا يخطر على باله أو يتوهمه أو يتخيله ولا في عالم الرؤيا …» ولم تعرف القاهرة بسبب إيذاء الجند لأهلها راحة أو هدوءًا أثناء شهر رمضان هذا، وكفَّ الناس عن المرور في شوارعها ليلًا خوفًا من أذية العسكر واعتدائهم عليهم بالخطف والقتل والسلب وما إلى ذلك، ولم يأبه الجند لنداءات الباشا وأوامره المتكررة لهم بالخروج إما لقتال الألفي وإما لقتال بكوات الصعيد، ومع أنه استطاع في بعض الأحايين وبعد أن دفع لهم شيئًا من مرتباتهم المتأخرة إقناعهم بالخروج من القاهرة، فإنهم ما كانوا يغادرونها حتى يعودوا إليها، كما ظل رؤساؤهم يحضرون إلى العاصمة يطلبون مرتبات جنودهم الذين يهددون بالعصيان والتمرد، سواء في المنيا أم في أسيوط أم في جرجا أم في الفيوم أم في الجيزة، مثال ذلك حضور «محو بك» من المنيا يطلب العلوفة لجنده، وتخاذل حامية أسيوط الذي تسبب عنه امتلاك البكوات لها (أكتوبر)، ثم فرار ياسين بك وانضمامه إلى سليمان بك المرادي بالصعيد، وكان ياسين بك بعد خذلان خورشيد باشا وانتهاء مقاومته قد دخل في خدمة محمد علي على نحو ما سبق ذكره، وعهد إليه الباشا بكشوفية بني سويف والفيوم في ١٥ سبتمبر وخرج في تجريدة لقتال البكوات (الألفي في الفيوم وإبراهيم والبرديسي في بني سويف)، ولكنه ما لبث أن انهزم في الفيوم على يد جماعة الألفي، ثم بدلًا من انتظار النجدة التي بحث في طلبها من القاهرة، ذهب بجماعة من جنده إلى سليمان بك المرادي عند بياضة، وفضلًا عن ذلك فقد تباطأ حسن باشا (منافس محمد علي) في سيره مع جنده الذاهبين إلى الصعيد ضد البرديسي وإبراهيم اللذين استوليا على أسيوط وسليمان بك البواب (المرادي) في جهات بني سويف، وعثمان بك حسن الرابض مع أكثر من ثلاثين مملوكًا على الشاطئ الأيمن للنهر بين أسيوط والمنيا، ورفض الجند المخصصون للسير إلى الحجاز لتخليص جدة من أيدي الوهابيين الذين كانوا يحاصرونها وقتئذٍ الذهاب إليه.
أضف إلى هذا أن جند طاهر باشا — وكان من أقرباء محمد علي — المكلفين بوقف اعتداءات جماعة الألفي على الجيزة وصقارة والبلدان المجاورة لهما لم يلبثوا أن احتلوا دُور أهل الجيزة واستولوا على أمتعتهم وطردوهم من مساكنهم ولم يخرجوا لقتال جند الألفي وعربانه (ديسمبر)، وعندما تكرر اعتداء الألفية على بلاد الجيزة وجهة صقارة وأمر محمد علي عسكره بالخروج لقتالهم فتلكئوا واحتجوا بطلب العلوفة قرَّر الخروج بنفسه، ولكن سرعان ما انهزم جنده (١٨ ديسمبر) في بر الجيزة وذهب من الأرنئود طائفة إلى الأخصام وانضموا إليهم وعبر النيل بعد أيام قليلة (٢٢ ديسمبر ١٨٠٥) جماعة آخرون وانضموا إليهم كذلك، وحصل في العسكر ارتجاج واختلافات، وعندما عدى بعض الألفية إلى ناحية الشرق وأخذوا كلفًا من البلاد ووصل بعضهم إلى وردان بالبر الغربي، كثرت المناداة بخروج العسكر إلى طرة والجيزة، ولكنهم ما كانوا يخرجون حتى يعودوا أدراجهم دون الاشتباك مع العدو. واستمر الحال على هذا المنوال في الشهور التالية من هروب العسكر إلى المماليك وامتناعهم عن الخروج لقتالهم، حتى إن الباشا أمر بالمناداة في الأسواق (١٦ مارس ١٨٠٦) على العساكر الذين لم يكونوا في قوائم العسكر الذين يقال لهم السير بالسفر والخروج إلى بلادهم، ومن وُجد بعد ثلاثة أيام قُتل، وفي ٧ مارس من العام نفسه جمع الباشا الأجناد ورؤساءهم وأمرهم بالتعدية إلى البر الغربي، وكأنه تخوف من إقامتهم بالمدينة، وقال لهم: «من أراد منكم الذهاب إلى الأخصام فليذهب وإلا فليستمر معنا.» وفي ١٨ أبريل حضر عمر بك الأرنئودي من بني سويف يشكو من أن رجب أغا وطائفة من العسكر خامروا عليه، وانضموا إلى الأمراء القبليين، وكانوا حوالي الستمائة، ثم حضر «محو بك» من المنيا يطلب مرتبات وعلائف العسكر المحاصرين بها، وحدث في اليوم نفسه أن أراد كتخدا بك التوجه من إمبابة إلى الوجه البحري لمطاردة الألفية فقام عليه العسكر، وطالبوه بعلائفهم، وتطاولوا عليه، ومنعوه من الذهاب، فأراد التعدية إلى بر بولاق فمنعوه من ذلك أيضًا وجذبوا لحيته، ولم يستطع الإفلات من قبضتهم والعودة بأمان إلى القاهرة إلا بعد أن وعدهم بالسعي لدى الباشا في هذه المسألة.
وفي اليوم التالي (١٩ أبريل) أرسل كبار العسكر بناحية منوف يبلغون الباشا أن الجند يطلبون مرتبات اللحم والأرز والسمن؛ لأنهم لا يحاربون ولا يقاتلون بالجوع، ورجع وقتئذٍ كثيرون من الجند الذين بالصعيد إلى القاهرة، واضطر الباشا إلى تدبير المال بسرعة لإرجاع «محو بك» إلى المنيا ومعه مرتبات الجند، وإرسال صالح أغا السلحدار إلى الوجه البحري بطريق منوف وبصحبته قوة من الجند بعد أن قرروا له مقادير من الأكياس على كل بلد من البلاد التي يمر بها ولا يزال بها شيء من الرواج والعمار، ثم لم يستطع «دبوس أوغلي» الانتقال إلى إمبابة في ٢٧ أبريل إلا بعد أن دفع الباشا شيئًا من مرتبات الجند والعلائف المطلوبة. وفي مايو حضر إلى بولاق ومصر القديمة جماعة من جند حسن باشا في بني سويف يطلبون مرتباتهم، وكان حسن باشا قد امتنع عن دفعها لهم لما ظهر له من مخامرتهم عليه وميلهم إلى الأخصام، وحذَّر الباشا منهم، فجمع عددًا كبيرًا من عربان الحويطات والعائد وأقامهم بناحيتي شبرا ومنية السيرج وهدَّدهم بهم حتى استطاع إخراج من كان منهم قد دخل القاهرة، واستمال إليه بالحيلة صغار الضباط فاستثارهم ضد كبارهم، وتمكن بفضل ذلك من إخراج الأخيرين إلى دمياط في طريقهم إلى بلادهم، وكانوا اثنين وخمسين من كبار طائفة الأرنئود. وفي يوليو اعتدى جماعة من الأرنئود على قرية المنصورية بالقرب من الأهرام، فضربوا القرية ونهبوا أغنامها ومواشيها لتزويد معسكرهم بها، فتدخل عمر مكرم لإرجاع ما سُلب من النساء والفقراء إليهم، وأما ما بقي فقد ذهبوا به للمطابخ. وفي ٢٣ أكتوبر من العام نفسه (١٨٠٦) جاءت الأخبار عن وقوع اختلافات بين عسكر الصعيد ورجوع من كان منهم بناحية منفلوط وعصيان الموجودين بالمنيا بسبب تأخر مرتباتهم، حتى إن حسن باشا عندما قصد إلى المنيا قابله العصاة بالضرب عليه، فانحدر إلى بني سويف، واضطر الباشا إلى إرسال إسماعيل أغا الطوبجي كاشف المنوفية بمال إلى الجهة القبلية لاسترضاء العسكر وإنهاء تمردهم. وانتهز الجند في أوائل يناير ١٨٠٧ فرصة الخروج إلى بولاق استعدادًا لمطاردة الألفية فنهبوا كفر حكيم والقرى المجاورة، حتى إنهم أخذوا إلى جانب المواشي التي نهبوها النساء والبنات والصبيات، ودخلوا بهن إلى بولاق والقاهرة، وصاروا يبيعونهن «كأنهم — على حد تعبير الشيخ الجبرتي — سبايا الكفار.»
تلك إذن كانت حال الفوضى والتمرد بين الجند، وقد ظلت هذه الحال سائدة في جيش محمد علي وقت مجيء حملة «فريزر»، أي طوال فترة التجربة والاختبار القاسية التي بدأت — كما ذكرنا — من حين تسلمه أزِمَّة الحكم، وقد استمرت مشكلة الجند هذه قائمة حتى بعد ذهاب خطر الحملة الإنجليزية، وكان من الواضح أنه من المتعذر القضاء على هذه الفوضى وتطويع الجند وتعويدهم النظام وتلبية ما يصدره الباشا إليهم من أوامر إلا إذا عمل على إزالة أسباب الفوضى، وأهم هذه الأسباب عجزه عن دفع مرتبات الجند وعلائفهم لخلو خزانته من المال، ولم يكن في وسع محمد علي الاستغناء عن جنده الأرنئود أو إنقاص عددهم في وقتٍ كان البكوات المماليك ينازعونه السلطة، ويخضعون ثلثي مساحة القطر تقريبًا لسلطانهم، ولا يزالون يعملون على طرده من حكومة القاهرة، زد على ذلك أن ولايته ذاتها كانت مهددة بالزوال؛ حيث كان من المتوقع أن يعمد الباب العالي عند سنوح أول بادرة إلى خلعه أو نقله منها؛ لأنه كان من الواضح أن الديوان العثماني لن يرضى بالرضوخ والإذعان طويلًا لهذا «الأمر الواقع» الذي وجد نفسه مرغمًا إرغامًا على الاعتراف به في مايو ١٨٠٥ لضعفه وقلة حيلته، وأنه لن يتوانى إذا تهيأت له الفرصة عن استرجاع نفوذه عن طريق تولية أحد الباشوات ممن يتلقون أوامرهم من الديوان العثماني مباشرة ويحرصون على تنفيذها بحذافيرها؛ ولذلك فقد صار لزامًا على محمد علي أن يبذل كل ما وسعه من جهد وحيلة لتوفير المال حتى يستطيع قبل كل شيء دفع مرتبات الجند لإنهاء الفوضى المنتشرة في صفوفهم، وإزالة أسباب التمرد والعصيان بينهم.
تدبير المال
وأما تدبير المال فكان أمرًا شاقًّا عسيرًا؛ ذلك أن الحوادث الماضية كانت قد استنفدت كل ما لدى الباشا من أموال احتياطية، ونهب المماليك والعثمانلي، والأرنئود والدلاة كل المدن والقرى والدساكر التي وقعت تحت أيديهم، وجردوا أهلها من كل ما يملكون حتى غادر السكان القرى التي سُلِّط عليها سوط عذابهم، وترك الفلاحون الحقول فتعطلت الزراعة، وصاروا هم أنفسهم شبه عرايا وفي فقر مدقع، ويستحيل مطالبتهم بدفع شيء، وإن كان في وسع السلطة — إذا شاءت — أن تنتزع بالقوة والجبروت آخر دانق قد بقي لديهم، وأما المدن فلم يَعُد سكانها أغنياء بسبب نهب الجند وفرض الإتاوات والمغارم وما إليها عليهم، وإن كان في استطاعة السلطة كذلك — إذا أرادت — أن تحصل منهم بوسائل القهر والعنف ضرائب جديدة، ولكنه لم يكن ليغيب عن ذهن محمد علي أن اللجوء إلى هذه الأساليب يعرض حكومته لأخطار جسيمة؛ لأن حكومة سلفه أحمد خورشيد لم تتحطم إلا على صخرة الإتاوات والمغارم والفرض هذه، كما تحطمت على صخرتها كذلك حكومة البكوات المماليك.
غير أن الباشا ما لبث أن وجد مخلصًا من هذا المأزق؛ ذلك أن عديدين من الصيارفة ومحصلي الضرائب والتجار، سواء من القبط أم اليونانيين أم الشوام، ثم كثيرين من سراة القاهرة وأعيانها وكشاف الأقاليم، كانوا جميعهم كتجار أم حكام أو أصحاب حصص والتزام قد استفادوا من الفوضى في السنوات السابقة، لجمع ثروات لم يجد الباشا بأسًا في اقتسامها معهم لتحصيل المال اللازم لدفع مرتبات جنده، ثم إنه لم يكتفِ بتحصيل المال من سكان القاهرة بل صار يحصله كذلك من أهل المدن الأخرى، وفضلًا عن ذلك فإنه ما لبث أن حصل الإتاوات والمغارم من سواد الشعب في القاهرة وغيرها من المدن التي وجد عماله أنه لا يزال لدى أهلها فضلة من بقية في وسع حكومته ابتزازها منهم. ولما كان إجبار الأهلين من المساتير وأصحاب الدخول المحدودة الذين أرهقتهم الفرض والمغارم السابقة من شأنه إثارة سخطهم على الحكومة بدرجةٍ من المحتمل معها تحريكهم إلى الثورة عليها فقد حرص محمد علي عندما وجد أن لا مَعْدَى عن تحصيل المال منهم على توسيط المشايخ والعلماء وأصحاب النفوذ الظاهر عليهم.
وعلى ذلك، فقد كان المعلم جرجس الجوهري (كبير المباشرين) هو وجماعة من المباشرين والكتبة الأقباط القائمين بتحصيل المال وضبط حسابه أولَ من وقعوا تحت طائلة هذه الإجراءات المبتكرة، وكان جرجس الجوهري قد تسلم الرياسة على المباشرين قبل مجيء الفرنسيين، ثم ارتفع شأنه في أيامهم، وظل يحتل مكانًا مرموقًا منذ أن عادت البلاد إلى حظيرة الدولة، وكان عظيم النفس يهب الهبات ويعطي العطايا، ويعيش في أبهة ظاهرة، حتى زاحمه على هذه المكانة الرفيعة كبير آخر من المباشرين هو المعلم غالي، وكان كاتب الألفي بالصعيد قبل التحاقه بخدمة محمد علي، وصار الباشا يعتمد عليه في تفريج ضائقته المالية كلما امتنع الأول عن مسايرته في تحصيل المبالغ اللازمة له، فقبض عليه وعلى طائفة من الكتبة والمباشرين الخاضعين لنفوذه في أغسطس ١٨٠٥ وطالبه بتقديم حسابه ابتداء من عام ١٢١٥؛ أي من منتصف عام ١٨٠٠، وعيَّن المعلم غالي في مكانه، ولم يفرج عنه إلا بعد أن تعهد بدفع ٤٨٠٠ كيس قيمة النقص الذي أمكن تقديره أو الوقوف عليه في حسابات خمس سنوات، فشرع في توزيعها على نفسه وعلى كبراء الأقباط وصيارفهم ما عدا فلتيوس وغالي، وحولت عليه التحاويل، وحصل لهم كرب شديد، وضج فقراؤهم واستغاثوا، ولكن المعلم جرجس الجوهري ما لبث أن التجأ إلى دير مصر العتيقة مختفيًا، وطلب الباشا المعلمَين فلتيوس وغالي وجرجس الطويل للبحث في أمره وتدبير المال اللازم دفعه، واضطر جرجس الجوهري عندما عرف مكان اختبائه إلى مغادرة الدير إلى «تبين» ملتجئًا عند الألفي الكبير، فأُنزلت قوائم على البلاد والحصص التي كانت تحت التزامه إلى المزاد وبيعت (١٤ سبتمبر)، واتهم الباشا بطريق اليونان بالتستر على جرجس جوهري ومساعدته على الهروب، وألزمه بدفع تعويض مائة وأربعين كيسًا جمع البطريق بعضها من مواطنيه، كما أنه طالب بترك الدير فاحتجوا عليه بهروب جرجس الجوهري، وانحط الأمر على المصالحة بمائة وأربعين كيسًا وزعها الأقباط على أنفسهم ودفعوها.
وكذلك قبض الباشا على حسن أغا نجاتي المحتسب والأمير إبراهيم ديودار الرزاز عندما أراد تعيينهما كتخداءين للحج بشرط أن يكفلا نفسيهما من مالهما، فاعتذرا بعدم قدرتهما على ذلك، فحبسهما وعزل الأول عن الحسبة، ولم يفرج عنهما إلا بعد أن تعهَّد حسن أغا بدفع ٦٥ كيسًا، والرزاز ١٥ كيسًا (٩–١٤ سبتمبر)، وكان في غضون ذلك أن قبض كتخدا بك (محمد أغا) على كاشف المنوفية، وأخذ ما معه من أموال كان قد نهبها من البلاد ومواشٍ وغلال كثيرة، وفرض على البلاد التي وجد بها بعض العمار وعدتها نحو الستين بلدًا إتاوات ليستعين بها — كما قال — على دفع علائف العسكر وجماكيهم (١٣–٢٣ أغسطس)، وانتهز الباشا وصول قافلة السويس في ٩ سبتمبر فأراد الاستحواذ على متاجرها، فصالح أصحابها على أحمالهم بألف كيس بعد أن توسط لهم في ذلك الكتخدا بك، وقال «دروفتي» إن هذه القافلة قد أتته بألفي كيس.
ولما كانت هذه الأموال التي حصَّلها الباشا لا تكفي لدفع مرتبات الجند، وظلت هذه تتراكم ويطالب بها هؤلاء في صخب شديد، وكان لا مناص من تدبير وسائل أخرى لجمع المال، فقد رأى محمد علي أن يشرك المشايخ في الأمر، فجمعهم في أواخر سبتمبر ١٨٠٥، وسألهم الرأي في تدبير ثلاثة آلاف كيس جملة الباقي لعلوفة العسكر، ولا يعرف لتحصيلها طريقة، وقال محمد علي: «إن الجند الذين لا ضرورة لوجودهم سوف يرحلون إلى بلادهم بعد حصولهم على مرتباتهم.» فلا يبقى من العسكر إلا من كان الباشا في مسيس الحاجة إليهم والرؤساء الذين يشغلون المناصب الهامة، ووعد بأن تكون هذه آخر نوبة أو مرة يطلب فيها علائف ومرتبات لجنده منهم، وكان من رأي المشايخ في مبدأ الأمر أنه ما عاد في الإمكان تحمل الشعب لفرض إتاوات وضرائب جديدة عليه، ولكنهم بعد تصريحات الباشا ووعوده شرعوا يتشاورون فيما بينهم، وكثر الدوي في ذلك، ولغط الناس بالفردة وتقرير أموال على أهل البلد، ثم انحط الأمر بعد ذلك على قبض ثلث الفائظ من الحصص والالتزام، وأثار هذا القرار غضب القاهريين، وضج الناس وقالوا: «هذه تصير عادة، ولم يبقَ للناس معايش.»
واضطر محمد علي لتهدئة العاصفة إلى التعهد بكتابة فرمان أو سند يلتزم فيه بعدم عود ذلك ثانيًا، وأن يرقم فيه لعن الله من يفعلها مرة أخرى، وتوسط المشايخ لتهدئة النفوس الثائرة، ورضي الناس واستقر أمر هذه الفرضة الجديدة وشرعوا في تحريرها وطلبها، ولكن تحصيل هذه الضريبة الجديدة لم يجرِ إلا ببطء شديد، وراوغ كثيرون للتخلص من دفعها، ولجأ الباشا إلى أساليبه الأولى، لسد العجز في خزانته، فطلب من تجار رشيد أربعين ألف ريال فرانسة — والريال الفرانسة — يُطلق عمومًا على جميع أنواع الريالات المتداولة — وكان هذا مبلغًا ضخمًا، فلم يَسعْ أهل رشيد سوى المجيء إلى القاهرة وتوسيط المشايخ والسيد عمر مكرم لإنقاص المبلغ، فاستقرت غرامتهم على عشرين ألف فرانسة، وسافروا على ذلك في ٢٤ أكتوبر ١٨٠٥ وأخذوا في تحصيلها، وقال «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» من الإسكندرية في ٢١ سبتمبر ١٨٠٥: «إن محمد علي يتخذ وسائل لجعل القرض الجبري الذي طلبه من القاهرة ودمياط وحصَّله منهما يشمل كذلك أسكلتَي رشيد والإسكندرية.» فبعث أحمد أفندي الدفتردار (الذي حل محل جاثم أفندي) بمنشور إلى كل القناصل بالإسكندرية في هذا الشأن وفحواه أن الباشا يريد إنهاء الكوارث التي نزلت بالبلاد، وما حدث من قلقلة في شئون التجارة التي يهم الأوروبيين أمرها، وأنه يريد من أجل ذلك إنقاص عدد جنده، مما يجعله مضطرًّا إلى عقد القروض؛ ولذلك فقد خاطب القناصل حتى يقوموا بتوزيع المبالغ التي يمكن اقتراضها على الأفراد التابعين لهم بمعرفتهم، وقال «دروفتي»: «إن أحمد أفندي الدفتردار يطلب ٩٠٠ كيس من رشيد والإسكندرية بضمان إيرادات جمركيهما، ويطلب من القناصل أن يعينوا مسئولًا لاستلام هذه الإيرادات لحساب القروض المطلوبة.» وفي ٢٥ أكتوبر أمر الباشا برفع حصص الالتزام التي بأيدي النساء، فجزعن، وسُويت المسألة على مصالحات بقدر حالتهن. وفي ديسمبر أُنزلت في المزاد حصص بعض المغضوب عليهم، كما فتح طلب الميري من الملتزمين عن سنة ١٢٢١ مع أن سنة ١٢٢٠ الراهنة لم يكن — في هذا التاريخ — قد استحق منها الثلث، وكانت قد فُتحت بعجلة وقُبض نصفها على أن يجري تحصيل النصف الآخر بعد أربعة أشهر، ففتحت الآن سنة ١٢٢١ على أن يتم تأدية مطلوبها بالكامل وقبل أوانها بسنة، ثم عملت قوائم «فرد ومظالم» على الأقاليم، وزودوا بها الكشاف لتحصيلها (٢٦ ديسمبر). وعندما وصلت قوافل التجار من السويس في أوائل يناير سنة ١٨٠٦ محملة بالبن أراد الباشا الاستيلاء عليها فانزعج أصحابها من هذه المصادرة بعد أن دفعوا عشورها ونولونها وأجرها وما فُرض عليها من المغارم السابقة، ثم انحط الأمر كالمعتاد على المصالحة بتحصيل خمسين ريالًا على كل فرق من فروق البن، «ولم ينتطح في ذلك شاتان» على حد تعبير الشيخ الجبرتي، والفرق مكيال اختُلِف في تقدير سعته من الأرطال بينما يساوي الريال تسعين فضة أو قرشين وربع قرش، وقد ذكر الوكلاء الفرنسيون في ١٥ يناير أن قافلة السويس هذه قد أحضرت ألف فرد من البن، ثم ذكروا في ١٨ فبراير أن الباشا فرض إتاوات جديدة على المستأمنين اليونانيين.
ومع أن كتخدا بك كان قد فرغ من مهمته في يناير ١٨٠٦ وحصل أموالًا كثيرة من المنوفية وسائر أقاليم الوجه البحري بعدما فعل ما فعله من الفرد والمظالم الخارجة عن الحد، حتى قُدِّر ما حصله من الإتاوات التي فُرضت على هذه البلاد المرهقة بثلاثة آلاف كيس، وجمع الباشا من قافلة السويس السالفة الذكر، وكانت تتألف من ألف وخمسمائة جمل مبالغ طائلة؛ إذ حصَّل على كل قنطار من البن أربعين قرشًا، فقد استنفد دفع مرتبات الجند وتجهيز الحملات التي بعث بها لمطاردة المماليك هذه الأموال التي جمعها، واقتضى استمرار العمليات العسكرية ضد هؤلاء في الفترة التالية حتى وقت مجيء القبطان باشا إلى الإسكندرية يحمل فرمان النقل إلى سالونيك جمعَ المال بشتى الوسائل وبخاصة للاتفاق على طوائف جديدة من الدلاة وغيرهم أحضرهم الباشا من الشام في بداية عام ١٨٠٦ لتعزيز جيشه، فطلب دراهم سلفة من أعيان القاهريين في أبريل ١٨٠٦ لأجل نفقة العسكر، وفرضوا على البلاد ثلاثة آلاف كيس، ثم إنه لم يكتفِ بذلك بل صادر متاجر القافلة التي وصلت من السويس في هذه المرة كذلك، فأرسل إلى الخانات والوكائل أعوانًا ختموا على حواصل التجار بما في داخلها من البن والبهار، ولم يُفرِج عنها إلا بعد أن صالح هؤلاء عليها (٢٤ أبريل). وكتب الوكلاء الفرنسيون في ١٩ أبريل أن الباشا يطرق كل سبيل لجمع المال اللازم لدفع مرتبات الجند الدلاة المعسكرين في إمبابة والذين يرفضون السير ضد الألفي قبل حصولهم عليها، فالجميع لذلك يدفعون حتى ضباطه، وكذلك القبط ومسيحيو الشام، فدفع الأولون ١٠٠ كيس، والآخرون ثلاثين كيسًا، واستولى على البن الموجود في القاهرة، ولكن ذلك كله لا يكفي؛ لأن المطلوب هو ثلاثة آلاف كيس؛ وعلى ذلك فقد ابتدع الباشا فرضة جديدة بأن طلب من كل بلد من البلاد إتاوة من الغلال قمح وفول وشعير، وقال الشيخ الجبرتي: «إنها كانت ثالث فرضة ابتُدعت من الغلال على البلاد في هذه الدولة.» وعزل الباشا محمد أغا كتخدا بك في ٢٩ أبريل وطلب منه ألف كيس، وقد في الكتخدائية خازنداره «طبوز أوغلي» المعروف بدبوس أغلي، وأخرج الأول منفيًّا إلى دمياط في ٧ مايو.
وعاون السيد عمر مكرم الباشا في تحصيل الإتاوات المفروضة على الأهلين معاونة جدية، فاستمر الطلب والتوزيع بالأكياس … لا ينقطع عن أعيان الناس والتجار والأفندية الكتبة وجماعة الضربخانة والملتزمين بالجمارك وكل مَن كان له أدنى علاقة أو خدمة أو تجارة أو صنعة ظاهرة أو فائظ أو له شهرة قديمة أو من مساتير الناس، وكان عمر مكرم في غالب الأحيان هو المحصل لذلك بالرغم مما كان معروفًا عنه في المناسبات الماضية من التوسط لدى السلطات القائمة لتخفيف هذه الأعباء المالية عن كاهل أفراد الشعب، حتى إن الشيخ الجبرتي لم يلبث أن علَّق على نشاط السيد عمر أفندي النقيب، فقال: «وقد حكمت الصورة التي ظهر فيها، وانعكس الحال والوضع حتى ساءت الظنون، والأمر لله وحده.»
وتوالى تقرير الفرض على البلاد مالًا وعينًا، وطلب السلفيات من الملتزمين والتجار وغيرهم، فتقررت فرضة من النوع الأول في ٢٤ مايو، وفي ٣٠ مايو طلب الباشا دراهم سلفة، واعتمد في توزيعها على دفتر كان أُعد أيام خورشيد باشا (١٨٠٤) لتوزيع سلفة حصلها خورشيد وقتذاك، واشتط عملاء الباشا في تحصيل هذه السلفة المزعومة، فلم يمهلوا أحدًا، ومن لم يجدوه طالبوا أهله أو جاره أو شريكه، وخاب أمل القاهريين في السيد عمر مكرم في هذه المرة كذلك؛ لأنه صار يقابل أفواجهم الذاهبة للشكاية إليه بالتضجر والتململ وإظهار الأسف وتهوين الأمر عليهم، وبذْل الوعود بالسعي في تخفيفها، دون أن يبدو منه أنه سوف يبر بوعده حقًّا، بل ظهر عليه أنه قد تورط في الدعوة، ولم يتحرك عمر مكرم أو المشايخ إلا وقت أن عظم ضجيج الناس واشتد تذمرهم عندما فتح الباشا الطلب في أواخر يونيو بفائظ البلاد والحصص من الملتزمين والفلاحين، وأمر الروزنامجي طائفته بتحرير ذلك عن السنة المقبلة، فتردد الملتزمون على السيد عمر مكرم وسائر المشايخ يوسطونهم لدى الباشا، وأسفرت وساطتهم عن تقرير قبض ثلاثة أرباعه، النصف على الملتزمين والربع على الفلاحين. وفي يوليو شرع الباشا في فرض إتاوة عينية على مديريات الوجه البحري من غلال وغنم وجبن وأرز وسمن، ثم شرع في سبتمبر يقرر فرضة عظيمة على البلاد والقرى والتجار ومسيحيي الأروام والأقباط والشوام ومساتير الناس ونساء الأعيان والملتزمين وغيرهم، ستة آلاف كيس، وذلك برسم مصلحة القبودان عندما اقتضى تعطيل قرار النقل إلى سالونيك الذي حضر به القبطان باشا إلى الإسكندرية وقتئذٍ رشوة القبطان؛ لإقناعه بتأييد مصلحة محمد علي ضد خصومه على نحو ما سيأتي ذكره في موضعه، وقد أكد الباشا أن الأموال التي شرع في تحصيلها ليست سوى سلفة يدفعها لأصحابها بعد ستة أيام فحسب، وكان واضحًا أنه لن يستطيع فعل ذلك ولم يفعله. ثم اضطر الباشا لطلب المال مرة أخرى عندما صار يستعد لمناجزة البكوات وإرسال التجريدات لقتالهم في الوجهين البحري والقبلي، بعد أن اطمأن خاطره من قضية القبودان والعزل، فضلًا عن حاجته إلى المال لدفع مرتبات الجند في نواحي منفلوط والمنيا وبني سويف، وكان هؤلاء قد بدءوا يتمردون لتأخرها (أكتوبر).
وفي نوفمبر وديسمبر ١٨٠٦ توالى الطلب والفرض والسلف التي لا تُردُّ. وفي أوائل ديسمبر طلب الباشا من السيد عمر مكرم توزيع جملة أكياس على أناس من مساتير الناس على سبيل السلفة، ثم عاد في ٢١ ديسمبر فالتمس منه توزيع أربعمائة كيس برأيه ومعرفته، وقد ضاق صدر عمر مكرم من تكرر هذا الالتماس ولكنه لم تسعه المخالفة فشرع في توزيعها على التجار ومساتير الناس، حيث لم يمكنه التخلف ولا التباعد عن ذلك لأسبابٍ سوف يأتي ذكرها في موضعها. وكان في أواخر هذا العام وبداية التالي (١٨٠٧) أن قرر الباشا فتح طلب الميري عن السنة المقبلة، وجدَّ في التحصيل، ووجهوا بالطلب العساكر والقواسة والأتراك بالعصي المفضضة وضيقوا على الملتزمين، وانتهز الباشا فرصة وصول قافلة من قوافل الصعيد وبها أحمال كثيرة وبضائع مع عرب المعازة وغيرهم، فركب الباشا ليلًا في ١١ يناير ١٨٠٧ وكبسهم على حين غفلة، وأخذ جمالهم وأحمالهم، ونهب الجند متاعهم ثم أولاد العربان والنساء والبنات ودخلوا بهم إلى المدينة يقودونهم أسرى في أيديهم ويبيعونهم فيما بينهم كما فعلوا بأهل كفر حكيم وما حوله، وعندما علم الباشا بوفاة الألفي، ورفض الألفيون الصلح وعزم على مطاردتهم، استمر طلب السلف وفرض المغارم وتحصيل الإتاوات (فبراير ١٨٠٧).
وواضح مما تقدَّم جميعه أن اللجوء إلى هذه الإجراءات الشاذة في طلب المال كان يحدث كلما اشتدت حروجة مركز محمد علي، وظهرت حاجته الشديدة إلى المال لاجتياز الأزمات التي صادفته، وكان هذه إجمالًا على نوعين: أزمات سياسية طارئة، كما حدث عند مجيء أمر النقل إلى سالونيك، وأزمات مزمنة، مبعثها الضرورة الملحة لدفع مرتبات الجند، لحملهم على الخروج لمطاردة المماليك، أو استمرار مقاومة مختلف الحاميات وخصوصًا حاميات الصعيد ضدهم.
وثمة حقيقة أخرى، مترتبة على خلو خزانته من المال، وصعوبة تطويع الجند تبعًا لذلك، هي أن محمد علي لم يكن في استطاعته آنئذٍ مقاومة البكوات المماليك — وهم مصدر أكبر الأخطار التي هددت حكومته مباشرة — مقاومة حاسمة فعالة بأن يثير عليهم حربًا شعواء لا هوادة فيها ولا رحمة، وقد بلغ من تمرد الجند وعدم طاعة رؤسائهم له في الشهور الأولى من ولايته خصوصًا أن علَّق «مسيت» على ذلك بقوله في رسالته إلى السفير الإنجليزي بالقسطنطينية في ١٨ نوفمبر ١٨٠٥ أن الزعماء الأرنئود رفضوا تلبية أوامر محمد علي عندما أراد إرسال نجدات قوية إلى الصعيد وإخراج البكوات من مراكزهم في الفيوم وأسيوط؛ لأنهم كانوا قليلي الثقة في الرجل الذي رفعوه إلى منصب الولاية … حتى إنه ليبدو أن محمد علي صار متأرجحًا على عرشه وعلى وشك السقوط منه، ولو أنه قد يستطيع بفضل ما يتصف به من خلق ثابت متين إحباط مشاريع خصومه، وقد عرف محمد علي كيف يتغلب على خصومه هؤلاء في الجيش: رؤساء الجند الذين وُجد من بينهم من أراد منافسته أو الانحياز إلى جانب المماليك، ثم الجند أنفسهم الذين انضمت جماعات منهم فعلًا إلى العدو، وظلوا يلحون في طلب مرتباتهم المتأخرة، وبخاصة كلما استدعى الأمر خروجهم للقتال ضد المماليك والقيام بأية عمليات عسكرية، وذلك بتدبير المال اللازم لدفع المرتبات والعلائف، وإبعاد العناصر المشاغبة منهم، وجمع كلمة رؤساء الجند حوله أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، ومثلما أحبط محمد علي مشاريع خصومه من الجند ورؤساء هؤلاء، فقد تمكن من إحباط تدابير خصومه الآخرين، البكوات المماليك.
النضال مع البكوات
وجرى النضال مع البكوات المماليك في طريقين؛ أحدهما عسكري، وكان هذا — في الواقع — أقلهما شأنًا طوال الفترة التي تعذر فيها عليه تجريد حملات قوية ضدهم للالتحام معهم في معارك كبيرة فاقتصر الأمر على مناوشات متفرقة ينقصها التنسيق، وقد استمرت هذه الفترة حتى أوائل عام ١٨٠٦، ولم يكن الغرض مما وقع فيها من عمليات عسكرية سوى إظهار تصميم الباشا على مناجزته لهم، ثم تخويفهم وحملهم على مهادنته حتى يستجمع قواه ويتمكن من التفرغ لمناجزتهم جديًّا، وأما الطريق الآخر — وكان أجداهما ثمرة فيما قصد إليه الباشا مباشرة وقت ملاحقة الأزمات له — فكان سياسيًّا، وذلك بفتح باب المفاوضة مع الألفي في الدلتا والفيوم، ومع إبراهيم البرديسي وعثمان حسن في الصعيد، فنشأت من ثم مساومات ومباحثات مع الفريقين لم يكن غرض الباشا منها سوى زيادة شقة الخلف والانقسام اتساعًا بين هذين الفريقين المتباغضين المتنافسين، حتى يحول دون اتفاق كلمتهما بجهد عسكري متحد ضد حكومته لا مراء في أنه لو حدث وقتئذٍ لقضى عليها. ولقد نجح الباشا في سياسته هذه نجاحًا كاملًا، وتضافرت عوامل أخرى على تمكينه من تنفيذ مأربه منها، أهمها منافسة البرديسي الشديدة للألفي، وخرق رأيه وتسلُّطه على زميله إبراهيم بك، وإصرار عثمان حسن على الابتعاد عن هذه النزاعات المملوكية، وميله للانطواء على نفسه من جهة، وللتفاهم والاتفاق مع الباشا من جهة أخرى، ثم ضعف قوة البكوات المادية عمومًا، وتسلط روح الأنانية وعدم التضحية عليهم، ورفضهم أن يدفعوا من جيوبهم الثمن الذي كان في وسعهم أن يشتروا به حكومة القاهرة ويسترجعوا في نظير حفنة من المال سيطرتهم القديمة على باشوية مصر وسلطانهم المفقود.
وقد أتيحت لمحمد علي الفرصة لبدء سياسة المفاوضة مع المماليك، عندما رفض الألفي بعد حادث مكيدة القاهرة المعروف في ١٦ أغسطس ١٨٠٥ الاتحاد مع بكوات الصعيد، وكان هؤلاء عندما انطلت عليهم الحيلة وأرادوا دخول القاهرة قد أبلغوا الألفي بعزمهم ولكنه امتنع عن مسايرتهم، ثم كان من أسباب نقمة إخوانه عليه أنه لم يشرك أحدًا منهم في الأسلاب الكثيرة التي غنمها من الدلتا، فانسحب البكوات إلى الصعيد، وانسحب الألفي إلى الفيوم، ولكنه ما لبث أن سعى للمفاوضة مع محمد علي، ورحَّب الباشا بهذا المسعى، واختلف مقصد كل منهما من هذه المفاوضة عن مقصد الآخر، أما الألفي فكان قد ضاق خناقه من الإجراءات التي اتخذها محمد علي لمنع كل اتصال بين أفراد الشعب والبكوات، ففرض رقابة صارمة على الباعة والمتسببين حتى لا يمدوا البكوات بحاجتهم من المتاع والأسلحة والملابس وما إلى ذلك، وأنزل العقوبات الشديدة بكل من ضُبط من هؤلاء الباعة يحمل بضائع إليهم وصادر بضاعته، فامتنع ذهابهم، ووجد الألفي أنه إذا فتح باب المفاوضة من أجل الصلح مع الباشا استطاع وكلاؤه الدخول إلى القاهرة وابتياع حاجتهم من أسواقها بأمان، وأما محمد علي فكان يبغي من هذه المفاوضة بذر بذور الشقاق والتفرقة بين الألفي وسائر زملائه من جهة، يساعده على ذلك ما كان قد ظهر بينهم من خلاف، ثم كسب الوقت حتى يستطيع تدبير المال ودفع مرتبات الجند وإعداد التجريدات اللازمة لقتال المماليك من جهة أخرى؛ وعلى ذلك فقد انتقل الألفي إلى وردان وبعث بكتخداه أو كخياه محمد يعرض على الباشا الصلح في ٩ سبتمبر ١٨٠٥، فرحب به محمد علي، وأذن له بقضاء أشغاله واستمرت المفاوضة شهرًا تردد في أثنائه محمد كتخدا الألفي على القاهرة أكثر من مرة، وكان مندوبا الباشا في هذه المفاوضة سلحداره وموسى البارودي، وطلب الألفي كشوفية الفيوم وبني سويف والجيزة والبحيرة ومائتي بلد من الغربية والمنوفية والدقهلية التزامًا يستغل فائظها، وأن يأتي إلى الجيزة ويقيم بها، ويكون تحت طاعة محمد علي، وأصر الباشا من جهته على أن يكون الصلح شاملًا، فلا يقتصر على الألفي وحده بل يدخل فيه كذلك بكوات الصعيد، وكان هؤلاء — كما قدمنا — قد اتخذوا «بياضة» مقرًّا لهم.
وطلب محمد علي أن يذهب الألفي كذلك إلى الصعيد وينضم إلى إخوانه، على أن يُقْطعهم الباشا جميعًا مديريتي جرجا وإسنا ما عدا عاصمة الأولى مدينة جرجا التي ينزل بها الحاكم المولَّى عليها من قبل الحكومة، وأن يدفع البكوات المال والغلال الميرية عن هذه الأراضي، ورفض الباشا أن يعقد اتفاقًا منفصلًا مع الألفي ضد مصلحة زملائه كما قال، ثم أرسل من فوره يبلغ بكوات الصعيد شروطه ويهددهم بإرسال جنده ضدهم، ولكن هؤلاء لم يستجيبوا لدعوته، كما تمسك الألفي بمطالبه، فكتب «دروفتي» إلى حكومته في ٤ أكتوبر: «إن المندوبين الذين أرسلهم محمد علي إلى معسكر البكوات قد رجعوا مع كتخدا الألفي ينقلون جواب البكوات، وفحواه أنهم لا يروقهم شرط الإقامة بالجيزة، ووضعهم تحت إشراف محمد علي ومراقبته لهم؛ إذ يعزلهم ذلك عن العرب وهم العنصر القوي الذي يعتمدون عليه في ملء صفوفهم وتعزيز قوَّتهم.» أضف إلى هذا أن إقامتهم بالجيزة سوف تفقدهم نفوذهم في الصعيد وتشجع صغارهم ومرءوسيهم على ترك معسكرهم وتجعلهم جميعًا تحت رحمة محمد علي؛ وعلى ذلك فقد ظل الألفي يساوم على قبوله الصلح منفردًا مع الباشا، فطلب ثلاث مديريات بدلًا من أربع، ثم رضي بمديريتين اثنتين، ولكن محمد علي الذي كان قد شرع يسعى لمناجزة بكوات الصعيد وأراد إطلاق يده حتى يتسنى له التوفر على معالجة مسألتهم، رضي بإعطاء الألفي مديرية واحدة خالية من المطالب الميرية على شريطة أن يكفَّ عن النضال. وفي ٥ أكتوبر غادر محمد كتخدا الألفي القاهرة يحمل إلى سيده هذا العرض الأخير الذي رفضه الألفي عندما أدرك غرض محمد علي، وبعد أن فاز ببغيته من هذه المفاوضة الطويلة؛ لأن كتخداه لم يغادر القاهرة إلا بعد أن قضى أشغاله واحتياجاته من أمتعة وخيام وسروج وغير ذلك. وفي ١٦ أكتوبر كتب «دروفتي» أن المفاوضات قد توقفت بين الألفي ومحمد علي.
ولكن «دروفتي» ذكر في رسالته هذه كذلك، أن جيشًا مؤلفًا من ألف وخمسمائة من العثمانلي والأرنئود بقيادة ياسين بك قد نزل إلى النيل غداة مبارحة كتخدا الألفي القاهرة، قاصدًا إلى بني سويف والمنيا، وكان ياسين بك قد عُيِّن كاشفًا على بني سويف والفيوم منذ ١٥ سبتمبر — على نحو ما تقدم ذكره — ولكن ياسين بك لم يلبث أن انهزم في الفيوم على يد الألفي الذي كان قد انسحب إليها بعد أن قضى وطره من المفاوضة التي بدأها مع محمد علي، وهرب ياسين بك مع بكوات الصعيد، وكان البرديسي وإبراهيم بك منذ أن شعرا بعزم الباشا على إرسال جيشه ضدهما قد انسحبا من مراكزهما أمام بني سويف إلى أعلى واستوليا على أسيوط، بينما ذهب حسين بك الزنطاوي مع جماعته إلى حدود الصعيد، في انتظار قافلة وسط إفريقية للإغارة عليها وسلبها، بينما طلب عثمان بك الاتفاق مع الباشا منفصلًا عن سائر زملائه، وأرسل مندوبًا من قِبَله إلى القاهرة لهذه الغاية، ولو أن هذه المفاوضة أخفقت في أكتوبر لأن عثمان حسن قد طالب بإقطاعيات كثيرة له ولزملائه أكثر مما وافق عليه محمد علي، وهو إقطاعهم جميعًا مديريتي جرجا وإسنا بالشروط السابقة فحسب. ولما كان البرديسي يعتزم محاربة محمد علي وينتظر انخفاض النيل للاشتباك مع الأرنئود الموجودين بحاميات الصعيد ولديه حوالي الخمسمائة من العثمانلي، والألف وخمسمائة من الدلاة، ويتراسل معه سليمان بك المرادي (البواب) الرابض شمالي أسيوط ويريد التفاهم معه، ولا يزال عثمان حسن يميل إلى الاتفاق مع الباشا؛ فقد كان من الواضح أن الانقسام لا يزال سائدًا بين بكوات الصعيد.
وعلى ذلك فقد قرر محمد علي تجهيز حملة عظيمة ضد الألفي في الفيوم من جهة، واستئناف مفاوضاته مع بكوات الصعيد لشل حركتهم من جهة أخرى. وفي أوائل نوفمبر بدأ الأرنئود يجتمعون في القاهرة، وحضر منهم جماعة كبيرة من دمياط، ووضعوا تحت قيادة حسن باشا، وبذل محمد علي جهده لتدبير المال اللازم لدفع مرتباتهم وإكمال استعداداته لإنفاذهم إلى الصعيد، وأبطل الحملة المعدَّة للذهاب إلى جدة، وأعلن أنه سوف يتولى بنفسه قيادة هذه التجريدة الكبيرة، وحدَّد موعدًا قريبًا لخروجها، ثم إنه ريثما تتم استعداداته بادر بإرسال مندوبيه إلى بكوات الصعيد، وسارت هذه المفاوضة جنبًا إلى جنب مع بعض العمليات العسكرية التي اضطر الباشا إلى القيام بها ضد جماعة الألفي لوقف اعتداءاتهم على إقليم الجيزة خصوصًا، وشدد — على وجه الخصوص — في وقف الإمدادات إلى الألفي، وكان هذا منذ أن انقطعت المفاوضات بينه وبين محمد علي قد تزايد اعتماده على جلب ما يحتاج إليه معسكره من بيوت التجارة الأوروبية ومن بعض الوكلاء الإنجليز الذين يزاولون التجارة لا سيما «البطروشي» في رشيد، فطلب الباشا من الأخير أن يكفَّ عن نشاطه، وطلب من «مسيت» أن يمنعه من إرسال ما تحتاج إليه جماعة هم عصاة ثائرون على الباب العالي، ويرجوه أن يصدر إليه تعليماته وأوامره القاطعة بالكف عن مراسلة المماليك، ولم يشأ «مسيت» أن يتورط الوكلاء الإنجليز في النضال بين ممثل صاحب السيادة الشرعية على البلاد وبين الخارجين على سلطانه، فكتب يستدعي «البطروشي» إلى الإسكندرية في ١٥ أكتوبر، وأبلغه رسميًّا بوجوب الكف عن الاتصال بالمماليك.
وفي ١١ ديسمبر أرسل محمد علي مندوبيه مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي بمكاتبات إلى بكوات الصعيد ليصطلحوا على أمر، كما أوفد علي جاويش الفلاح، وبلغ التفاؤل في نجاح هذه المفاوضة حدًّا جعل الوكلاء الفرنسيين يكتبون في ١٥ يناير ١٨٠٦ أن الأمل كبير في إمكان الوصول إلى تسوية مع البكوات، ما عدا الألفي، حيث قد بلغهم أن إبراهيم بك وعثمان حسن وجماعتهما قد أخبروا الباشا بقبول مقترحاته ولكنهم يطمعون في كرمه ويرجونه زيادة الإقطاعيات التي رضي بإعطائها لهم، وكان هؤلاء الوكلاء يرون أن الباشا بسبب ظروفه الراهنة سوف يجد نفسه ملزمًا بالاتفاق معهم، ذلك الاتفاق الذي لا يمكن بدونه — كما قالوا — أن تصلح القاهرة للسكنى لأن محمد علي لا يستطيع إخراج الجند الموجودين بها وإرسالهم للاشتباك مع المماليك في أية معارك، وعاد إلى القاهرة مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي وعلي جاويش الفلاح في ٢٩ يناير، وأحضروا معهم من الصعيد ثلاثة وثلاثين مركبًا محملة بالمؤن لتموين القاهرة، ولكن البكوات طلبوا أبناء الباشا كرهائن لديهم لضمان السلام الذي أعلنوا استعدادهم لعقده، فأوفد الباشا مصطفى أغا والصابونجي لمقابلتهم في أسيوط في ٢ فبراير، وقال الوكلاء الفرنسيون إنهما كانا مزودَين بسلطات جديدة ويحملان إنذارًا نهائيًّا من محمد علي لهم، وعاد المندوبان من مهمتهما في ٢٠ فبراير، ولم تسفر هذه المساعي عن شيء، وكتب «مسيت» إلى «أربثنوت» منذ ١٣ فبراير أن المماليك قد قابلوا بكل احتقار عروض محمد علي للصلح معه، ولو أن المفاوضات لا تزال جارية بينه وبين إبراهيم بك والبرديسي، ومن الواضح أن غرض محمد من كل ذلك إنما هو شل حركة هذين البكين وتقييد قواتهما ووقفهما عن العمل، بينما تنشط قواته هو ضد الألفي، وهذا إذا تسنى له إقناع جنده بالخروج من القاهرة.
وقد ذكر الجبرتي السبب في إخفاق المفاوضات مع بكوات الصعيد، فقال: «وقد حكى الناس عنهما أن المذكورَين لما ذهبا إلى أسيوط وجدا أن إبراهيم بك قد انتقل إلى ناحية طحطا، واجتمعا بعثمان بك حسن والبرديسي، فلم يرضيا بالتوجه الذي وجِّها به إليهم، وهو من حدود جرجا، وقالا: لا يكفينا إلا من حدود المنية، فإن الفرنساوية كانوا أعطوا حكم البلاد القبلية من حدود المنية لمراد بك بمفرده فكيف أنه يكفينا نحن الجميع من جرجا؟ وشرطوا أيضًا أنه إذا استقر الصلح على مطلوبهم لا بد من إخلاء الإقليم من هذه العساكر الذين لا يتحصل منهم إلا الضرر والخراب والدمار والفساد، ولا يبقي الباشا منهم إلا مقدار ألفي عسكري، وقالوا: إنه أيضًا إذا لم يعطنا مطلوبنا فهو لا يستغني عن أناسٍ من العسكر يقيمون بالبلاد التي يتجمل علينا بها فنحن أولى له وأحسن منهم، ونقوم بما على البلاد من المال والغلال، وعند ذلك يحصل الأمن ويسير المسافرون في المراكب وترد المتاجر والغلال ويحصل لنا وله الراحة. وأما إذا استمر الحال على هذا المنوال فإنه لم يزل متعبًا من كثرة العسكر ونفقاتهم وكذلك سائر البلاد، على أنه إن لم يرضَ بذلك فها هي البلاد بأيدينا والأمر مستمر معنا ومعهم على التعب والنَّصَب.» وقال «مسيت» إن البكوات رفضوا مقترحات محمد علي وهم مدهوشون من أن يأخذ على عاتقه عرض ما يمتلكونه هم فعلًا، وما ليس في مقدوره هو أن يحرمهم منه.
ورضي الباشا بأن يبدأ إقطاع البكوات عند ملوي؛ أي في منتصف المسافة تقريبًا بين المنيا وأسيوط على أن يصرف هؤلاء ما لديهم من عربان وعثمانلي ويونان وأرنئود فلا يبقى معهم سوى مماليكهم فحسب، وطلب البكوات من جهتهم أن ينقص محمد علي جيشه إلى أربعة آلاف وأن يخرج الباقون من مصر، وقد رفض الباشا ذلك. وقال «دروفتي» في رسالته إلى حكومته في ٢٣ مارس ١٨٠٦، يعلل سبب قطع المفاوضات بعدم اطمئنان فريقي المتفاوضين إلى بعضهما بعضًا، وانعدام وجود ما يضمن لكل منهما قيام الآخر بتنفيذ ما يتعهد به، وكان طلب البكوات من محمد علي إنقاص جيشه الصخرةَ التي ارتطمت بها المفاوضات؛ لأنه حتى ولو كان الباشا — كما قال «دروفتي» — صادق النية ويريد الإيفاء بعهوده حقًّا، فكيف يتسنى له أن يطرد من مصر جندًا اعتادوا على النظر إلى هذه البلاد كأنها ملك لهم، جندًا فرضوا إرادتهم في كل الأوقات على رؤسائهم كقانون لا سبيل إلى تحطيمه.
فلم يبقَ أمام محمد علي سوى إرسال الجند الذين كان بسبيل إعدادهم لقتال البكوات، ثم محاولة تجديد المفاوضة مع الألفي لشل حركته أثناء انشغاله بمناجزة بكوات الصعيد، وقد كانت المناوشات دائرة بين جنده وبين عربان الألفي وجنده منذ انقطاع المفاوضة السابقة بينهما لتكرر الكلام عما ظهر من تلكؤ الجند في الخروج للقتال وفرارهم من جيش محمد علي للانضمام إلى المماليك، فكان من أخطر هذه المصادمات ما وقع في ١٨ ديسمبر ١٨٠٥، ثم في منتصف فبراير من العام التالي (١٨٠٦)، فبذل الباشا قصارى جهده الآن لإخراج العسكر للتجريدة، وكان قد أقام منذ أواخر أكتوبر ١٨٠٥ معسكرين؛ أحدهما ببر الجيزة، والآخر بناحية طرا، وجدَّد الباشا إنذاراته وتحذيراته للجند بالخروج والتجمع في هذين المعسكرين منذ آخر يناير ١٨٠٦، ثم حدث في أواخر فبراير أن حضر سليمان أغا الأرنئودي من جهة المنيا يحمل أخبار هزيمة جنده على يد بكوات الصعيد، وذلك أن الباشا كان قد لبسه كاشفًا على منفلوط حين عُيِّن ياسين به كاشفًا على بني سويف والفيوم، وغادر هذان القاهرة مع سائر الكُشَّاف الذين عُينوا في جهات أخرى منذ ٥ أكتوبر ١٨٠٥، ولكن سليمان أغا وكبار العسكر بالمنيا ما لبثوا أن وقعوا تحت رحمة البكوات الذين ضيقوا الحصار عليهم ومنعوا عنهم الموارد ولم يستطيعوا جمع أية إتاوات، فساءت حالهم واستبد بهم القحط، وقرروا العبور إلى البر الشرقي والاستيلاء على بلدة المطاهرة، ولكن المماليك سرعان ما أحاطوا بهم وقاتلوهم عدة أيام حتى ظهروا عليهم، وفرقوهم وأسروا كثيرين منهم، وكان سليمان أغا من بين الأسرى، وتوسط له بعض الأجناد لدى البكوات فنجا من القتل، ثم أنعم عليه البكوات بكسوة ودراهم وسلاح، وأقام معهم أيامًا ثم استأذنهم للعود، وحضر إلى مصر وجلس بداره، وعندما أغار شاهين بك الألفي مع عربانه على إقليم الجيزة في الأيام الأولى من شهر مارس ١٨٠٦، لم يجد الباشا مناصًا من الخروج بنفسه إلى ناحية بولاق، وإنفاذ التجريدات ضد جماعة الألفي وضد بكوات الصعيد.
فعبر النيل في ٥ مارس ١٨٠٦ طائفة من العسكر الخيالة إلى بر الجيزة، وعدى طاهر باشا بجنده إلى بر إمبابة، وشرع عسكر حسن باشا في التعدية إلى البر الآخر من ناحية معادي الخبيري ولحق بهم حسن باشا في ١٥ مارس وكان مكلفًا بالزحف على الصعيد وبلوغ جرجا التي عُين حاكمًا عليها، وكان من المنتظر أن يحدث التحام بينه وبين الألفي عند مروره بالفيوم، وكان الجيش الذي خرج به حسن باشا من حوالي الأربعة آلاف مقاتل، اعتبره «مسيت» غير كافٍ لمناجزة الألفي وبكوات الصعيد لدرجة أنه صار يعتقد — على حد قوله في رسالة له إلى السفير الإنجليزي بالقسطنطينية في أول مارس ١٨٠٦ — أن محمد علي عند إعطائه قيادة هذا الجيش إلى حسن باشا إنما كان يبغي من ذلك تعريض منافس خطير له إلى خطر عظيم أو على الأقل إلحاق الأذى بسمعته، وليس الغرض من إرسال هذا الجيش إخضاع الألفي، ثم استطرد «مسيت» يقول: «وكذلك فلا يزال سبب قبول حسن باشا لهذه القيادة مجهولًا وهو الذي رفضها مرات كثيرة، اللهم إلا إذا كان غرضه الانضمام إلى العصاة.» ومهما كان من أمر فقد صح ما توقعه «مسيت» من حيث هزيمة حسن باشا عند اشتباكه مع جند الألفي.
فقد حصل أول اصطدام بين حسن باشا وجند الألفي بناحية «جرزا الهوى» «والرقق» — وتتألف الرقق من الرقة الكبير على مسافة ٥٢ كيلومترًا من القاهرة و٣٦ كيلومترًا من بني سويف على الشاطئ الأيسر من النهر، والرقة الصغير على مسافة كيلومترين من الرقة الكبير — وانتصر حسن باشا في مبدأ الأمر بسبب مفاجأته لمعسكر المماليك، ولكن هؤلاء ما لبثوا أن فاجئوهم في مساء اليوم نفسه وأوقعوا بهم هزيمة كبيرة، ولكنه ما كاد يجتاز الرقق حتى ظهرت فجأة كل قوات الألفي الذي كان قد ترك الفيوم في طريقه إلى الدلتا، وكان جيشه يتألف من حوالي مائتين أو ثلاثمائة مملوك عدا حوالي الستة آلاف من العربان المنتشرين في السهل وراءه، فانقض الألفي على الأرنئود وأبلى مماليكه بلاء حسنًا، وأرهق العربان الأرنئود، فانهزم حسن باشا واضطُرَّ إلى اللجوء إلى الرقق والتحصن بها، وأرسل يطلب النجدة من القاهرة، وذاع في العاصمة خبر هذه الهزيمة في ٢٦ مارس، فأمر محمد علي بإرسال النجدات إليه، وخرج في مساء اليوم نفسه كتخدا بك ونصب «وطاقه» ببر إمبابة، وخرج سليمان أغا مع فريق آخر من الجند إلى ناحية طرا، وذهب عابدين بك لنجدة أخيه حسن باشا إلى الفيوم، وكان قد احتلها مع عسكر الدلاة الذين معه بسبب خروج الألفي منها.
وكان سبب إخلاء الألفي للفيوم إقفار هذا الإقليم من الأرزاق والأقوات، بعد أن استمر جنده والعربان الذين معه — ويُعَدُّون بالألوف — زمنًا طويلًا يسلبون أهله، وينهبون غلات الأرض، ثم زاد ضيقهم بسبب المراقبة الصارمة التي فرضها محمد علي من جديد على البائعين والمتسببين حتى لا يمدوا معسكر الألفي بشيء بعد فشل المفاوضات الأولى معه، ولم يجد الألفي من الحكمة مهاجمة حسن باشا بعد تحصنه في الرقق، فتقدم بجيشه حتى وصل إلى كرداسة، وانتشر جنده وعربانه في إقليم الجيزة يسلبون أهله وينهبونهم ويصادرون أرزاقهم وأقواتهم، وانضم إليهم في ذلك بضعة ألوف من عربان ليبيا، ثم إنه بادر باستئناف المفاوضة مع محمد علي لعله يصل إلى اتفاق معه بالشروط التي عرضها سابقًا والتي قد لا يجد محمد علي في أزمته الراهنة مناصًا من قبولها.
وكان الألفي يعلم ما للمشايخ من مكانة عند القاهريين — ومثله في ذلك مثل محمد علي نفسه — فأراد استمالتهم إلى تأييد قضيته؛ ولذلك فقد أوفد أحد رجاله مصطفى كاشف المورلي بكتاب إلى السيد عمر مكرم والمشايخ (٢٩ مارس) يذكر فيه أنه لم يحضر إلى إقليم الجيزة إلا لطلب القوت والمعاش؛ حيث لم يبقَ بالفيوم شيء يكفيه ومن معه من الأجناد، ويرجون شفاعتهم في حقه وتوسطهم لدى محمد علي، لعله ينال من مراحم أفندينا ما يمكنه أن يتعيش به كما سبق له أن رجا ذلك منه، فأبلغ عمر مكرم الباشا الرسالة، وطلب هذا منه أن يكتب إلى مصطفى كاشف بالحضور «حتى نتروَّى معه — كما قال محمد علي — مشافهةً»، وقابله عمر مكرم بمحمد علي في ٣١ مارس وحمل كتابًا إلى الألفي عاد به من ليلته، وكان غرض محمد علي من هذه المفاوضة كسب الوقت كعادته، ومنع الألفي من الاتحاد مع زملائه في عمل مشترك ضد جيش حسن باشا.
وحضر مصطفى كاشف المورلي بجوابٍ آخر من الألفي في ٢ أبريل يوسط السيد عمر مكرم والمشايخ مرة أخرى لدى الباشا، ويلقي مسئولية ما يقع من اعتداءات جنده على الأهلين سواء بإقليم الجيزة أم بغيره من الأقاليم على كاهل محمد علي وعناده وإصراره على عدم إجابة مطالبه وإنهاء الخلافات بينهما، تلك الخلافات التي هي مبعث كل ما يقع على الأهلين من مظالم، ويحاول إقامة الحجة على أن مسلكه لا يختلف عن مسلك الباشا نفسه في هذا الشأن، بل ويعزو إليه المبادأة بالعدوان بسبب ما يجمعه من أصناف الجند الغرباء عن البلاد لقتال أصحابها، فقال في كتابه لهم: «إننا أرسلنا لكم نرجو منكم أن تسعوا بيننا بما فيه الراحة لنا ولكم وللفقراء والمساكين وأهالي القرى، فأجبتمونا بأننا نتعدى على القرى، ونطلب منهم المغارم، ونرعى زرعهم، وننهب مواشيهم، والحال أنه والله العظيم ونبيه الكريم أن هذا الأمر لم يكن على قصدنا ومرادنا مطلقًا، وإنما الموجب لحضورنا إلى هذا الطرف ضيق الحال والمقتضي للجمعية التي نصحبها من العربان وغيرهم إرسال التجاريد والعساكر علينا، فلازم لنا أن نجمع إلينا من يساعدنا في المدافعة عن أنفسنا، فهم يجمعون أصناف العساكر من الأقطار الرومية والمصرية لمحاربتنا وقتالنا، وهم كذلك ينهبون البلاد والعباد للإنفاق عليهم، ونحن كذلك نجمع إلينا من يساعدنا في المنع ونفعل كفعلهم لننفق على من حولنا من المساعدين لنا، وكل ذلك يؤدي إلى الخراب والدمار وظلم الفقراء، والقصد منكم — مخاطبًا المشايخ — بل الواجب عليكم السعي في راحة الفريقين.»
وعرض الألفي مطالبه لإبرام الاتفاق بينه وبين محمد علي، وهي أن يكف الباشا عن قتاله، وأن يخصص له جهة يرتاح فيها، فإنَّ أرضَ الله — كما قال — واسعة تسعنا وتسعهم، كما أنه اشترط لإبرام هذا الاتفاق إعطاءه عهدًا بكفالة من يعتمد عليه من ناحيته وناحية محمد علي، ويكتب بذلك محضر لصاحب الدولة؛ أي للصدر الأعظم، وينتظر الطرفان رجوع الجواب من الباب العالي، وعند وصوله يكون العمل بمقتضاه، وطلب الألفي كشوفية والتزام مديريات البحيرة والجيزة والفيوم، ولكن الباشا وافق على أن يقطعه إقليم الجيزة فحسب وكتبوا له جوابًا بذلك من غير عقد ولا عهد ولا كفالة كما أشار الألفي، وسلموا الجواب لمصطفى كاشف المورلي ورجع به، فعاد الألفي يطلب مديرية البحيرة وجزيرة السبكية — وهي جزيرة يصنعها فرعا النيل وقناة منوف وبها سبعون قرية — وأوفد رسولًا آخر، أحمد أبو الذهب العطار يحمل رسائل بنفس المعنى الذي أوضحه في كتابه السابق إلى السيد عمر مكرم وسائر المشايخ ورجال الدولة أو مندوبي الباب العالي في مصر، سعيد أغا دار السعادة وصالح بك القابجي، ولكن دون جدوى، وكتبوا له بالمعنى الأول، وقد صحب رسول الألفي في هذه المرة عند عودته إلى سيده أحد المتعممين، السيد أحمد الشيتوي، لعله يستطيع إقناع الألفي (١١ أبريل).
وكان واضحًا بسبب تمسُّك كلٍّ من الفريقين بمطالبه، أن هذه المفاوضات على حد قول الجبرتي — أمور صورية وملاعبات من الطرفين لا حقيقة لها، والواقع أن أحدًا منهما: لا الألفي ولا محمد علي كان يريد اتفاقًا لا يحقق له مقاصده، بل إن أجناد الألفي أثناء هذه المفاوضات لم يكفُّوا عن الإغارة على مختلف البلدان التي مروا بها في طريقهم إلى الدلتا؛ لأن الألفي عندما غادر الفيوم كان يقصد الزحف على البحيرة، والاقتراب ما أمكن من الإسكندرية؛ لأنه كان قد أرسل وكلاءه إلى القسطنطينية للسعي لدى الباب العالي من أجل استصدار عفو عن المماليك وإعادة سلطاتهم السابقة إليهم بزعامة الألفي نفسه، على نحو ما سيأتي ذكره في موضعه، فصار يهمه أن يكون قريبًا من الإسكندرية لتلقي ما قد يرِد من أخبار من القسطنطينية من جهة، وحتى يستطيع الاتصال بسهولة بالوكيل الإنجليزي «مسيت» المقيم بها من جهة أخرى، وكان الألفي يعتمد على وساطة الإنجليز في نجاح مساعيه لدى الباب العالي؛ وعلى ذلك فقد طلب أجناد الألفي كلفًا من برطيس وأم دينار ومنية عقبة، وكان العساكر الأتراك بهذه النواحي قد أغروا أهلها بمقاومة جنود الألفي، والامتناع عن إعطائهم الكلف والدراهم ووعدوهم بنجدتهم إذا اشتبكوا معهم؛ وعلى ذلك فقد امتنعوا عليهم اعتمادًا على هذه الوعود، فضربهم الألفية وحاربوهم ونهبوهم، وأما جند الباشا فإنهم لم يسعفوهم ولم يخرجوا من أوكارهم، وفي اليوم نفسه الذي جاء فيه أحمد أبو الذهب العطار بعروض الألفي الأخيرة في ١١ أبريل، وهي المطالبة بمديرية البحيرة وجزيرة السبكية، أصدر محمد علي أوامره إلى كشافيه في تلك الجهات بجمع كل ما لديهم من قوات والذهاب إلى ساحل السبكية للمحافظة على الجزيرة من وصول جنود الألفي إليها؛ لأنهم إذا حصلوا عليها تعدى شرهم إلى المنوفية بأسرها، بل وأُشيع عزم الباشا على الذهاب إليها بنفسه بطريق القليوبية على أن يلحق به كتخدا بك وطاهر باشا، وأرسل يطلب حسن باشا وجنده، وكان هذا بعد واقعة الرقق قد استمر في سيره حتى وصل إلى بني سويف ويستعد لمواصلة السير إلى المنيا.
وأما الألفي فإنه كان هو الآخر قد غادر كرداسة قبل انقطاع المفاوضة، وكان من أسباب ارتحاله عنها توقُّعه فشل المفاوضة من جهة، ثم ما أحدثه وجوده على أبواب الجيزة من ذعر بالقاهرة وخوف القاهريين أن يعمد إلى مهاجمتها بعد انتصاره الأخير في الرقق، فتسلح قسم من أهلها، وصاروا يخرجون مع أغا الانكشارية، والفرسان الموجودين بها إلى خارج أسوارها استعدادًا للمعركة التي لم تحدث لشيء سوى رغبة الألفي في الذهاب إلى البحيرة بكل سرعة للأسباب التي ذكرناها، فجعلته هذه المظاهرة يستأنف سيره، وذلك بعد أن انضم إلى صفوفه أيضًا أحد البمباشية الأرنئود مع حوالي الأربعمائة من جند الباشا، فوصل إلى جزيرة الأسود مجتازًا إمبابة في ٨ أبريل، وكان هدفه التالي جزيرة السبكية، وبعث محمد علي يستدعي الدلاة الذين كانوا مع حسن باشا في بني سويف، كما أصدر أمره للجند المعسكرين في إمبابة بالخروج لمطاردة الألفي، ولكن حسن باشا الذي كان يستعد لمواصلة السير إلى المنيا — كما قدمنا — لم يلبث أن أعلن أنه لا يذهب إلى أبعد من المكان الذي وصل إليه (بني سويف) ما لم تُدفع له مرتبات الجند المستحقة عن أربعة شهور، وبدا كأنما هو يرفض تلبية أوامر محمد علي بشأن إرسال الدلاة، ومع ذلك فقد وصل جماعة من هؤلاء بعد ذلك في ١٩ أبريل وانضموا إلى الجند المعسكرين في إمبابة، ولكنهم رفضوا جميعًا الخروج كذلك، فتحرج موقف محمد علي، وساد الذعر والفزع في القاهرة حتى إن الأوروبيين الذين كانوا بها لم يلبث أن غادرها كثيرون ممن استطاعوا منهم فعل ذلك، قاصدين إلى رشيد ودمياط، وزادت حروجة محمد علي عندما وصلت الأخبار إلى القاهرة في ١٤ أبريل تعلن استيلاء جند الألفي وعربانه على جزيرة السبكية وتخاذل المحافظين عليها وهروبهم من وجوههم، فأرسل محمد علي إلى منوف قوة من الفرسان بقيادة طاهر باشا (١٨ أبريل)، ثم أراد أن يلحق بالأخير كتخدا بك بسائر قوات الحملة، ولكن الجند ما لبثوا أن أوقفوه عندما أراد الانتقال إلى بولاق، فأُرغم على العودة إلى القاهرة في الظروف التي سبق ذكرها. وفي ٢٤ أبريل جاءت الأخبار بأن الألفي قد ارتحل من ناحية الجسر الأسود والطرانة قاصدًا إلى البحيرة، فبذل محمد علي قصارى جهده لتدبير المال اللازم لدفع مرتبات الجند، واستطاع كتخدا بك (دبوس أوغلي) الانتقال إلى إمبابة «بوطاقه» في ٢٧ أبريل.
وانتهز الألفي فرصة ازدياد متاعب محمد علي، فجدد عروض الاتفاق معه — كما كتب الوكلاء الفرنسيون — على أساس حصوله على مديريتي البحيرة والشرقية إلى أن تحضر الفرمانات التي قال إنه طلبها من الباب العالي، ولكن الباشا رفض ذلك؛ لأنه لم يشأ قبول تقسيم للبلاد يعرِّض سلطته للخطر، فترتب على رفضه هذا أن انقض ثلاثة من صغار بكوات الألفي على مديرية المنوفية يعيثون فيها فسادًا، بينما استمر الألفي في طريقه، متخذًا من رفض محمد علي للصلح معه ذريعةً لمهاجمة دمنهور، فوصلها في ٢٣ أبريل وطلب من أهلها التسليم طوعًا، ولكن هؤلاء لم يجيبوه إلى طلبه؛ ذلك أن محمد علي كان قد وسَّط السيد عمر مكرم منذ أن بدأ الألفي حركته صوب الدلتا، لتحذيرهم من التسليم له وتحريضهم على المقاومة، كما صار يمدهم بآلات الحرب والبارود فنهضوا لتحصين البلدة وترميم أسوارها، وحفر الخنادق حولها، كما جلبوا إليها من المؤن ما يكفيهم لمقاومة أي حصار يُضرب عليها، ولو استطالت مدته سنة بتمامها. فلم يجد الألفي سبيلًا لإخضاعها إلا بمحاصرتها، وبلغ الخبر القاهرة بتوجه الألفي إلى دمنهور ومحاصرته لها في ٢٩ أبريل، ولكن الألفي لم يلبث أن رفع الحصار عنها لحاجته إلى المؤن ولوقوع سوء تفاهم بينه وبين العربان الذين معه، ولِما بلغه أخيرًا من تحرك الدلاة وخروجهم من إمبابة لقتاله، ويقول الوكلاء الفرنسيون: إن تحرك هؤلاء، ولو أنهم تباطئوا في سيرهم، كان كافيًا لأن يجعل الألفي يرفع الحصار عن دمنهور، فارتد عنها إلى ناحية وردان، وعدى من جيشه وعربانه طائفة إلى جزيرة السبكية، فلم يَلقوا بها أية مقاومة لتخاذل جند الباشا الذين كانوا قد عادوا إليها بعد رحيل الألفي إلى دمنهور، فولوا الأدبار في هذه المرة كذلك، فطلب الألفي من أهل السبكية دراهم وغلالًا ولكن أكثرهم استطاعوا الفرار فجلوا عنها، وتفرقوا في بلاد المنوفية (٢٨ مايو).
وبينما كانت هذه الحوادث تجري في الوجه البحري، كان حسن باشا غير قادر على مغادرة بني سويف، لتمرد جنده من جهة، ولكثرة من ترك جيشه منهم، وانضم إلى صفوف المماليك من جهة أخرى، والبرديسي وإبراهيم واقفان على حصار المنيا ويتأهبان لمهاجمتها، ويبعث حسن باشا في طلب النجدة من القاهرة، وقد استمر الحال على ذلك فترة من الزمن، حتى استطاع الباشا أن يبعث ﺑ «محو بك» بالذخيرة، فما إن وصل هذا إلى بني سويف حتى خرج مع عابدين بك لإنقاذ حامية المنيا، وعندئذٍ قامت الحامية بخروج مسلح لاستقبال النجدة الآتية إليها، ودارت بينهم ومعهم قوات عابدين بك وبين قوات المماليك بقيادة رجب أغا الأرنئودي وزميله الثائر الآخر ياسين بك معركة شديدة انهزم فيها الأخيران، ودخل عابدين بك المنيا، وأُطلقت المدافع من قلعة القاهرة ابتهاجًا بهذا النصر عندما بلغ الباشا الخبر في ٢٤ مايو ١٨٠٦.
ولما كان الألفي قد اتخذ مقره بجهة حوش عيسى، ويلتزم خطة الانتظار بدلًا من محاولة استئناف حصار دمنهور، أو شن هجوم جديد على أعدائه، واستطاع الباشا تدبير المال اللازم لدفع مرتبات الجند أو — على الأقل — قسم منها، وتهدئة فتنة الجند في مختلف الحاميات سواء بالوجه البحري أم بالصعيد، فقد بدا أن الموقف بسبيل التحسن، وأن العمليات العسكرية سائرة في طريقها، وأنه لا يكاد يكون هناك خطر جسيم يهدد سلطانه، ولكن كل أمل في انفراج الأزمة لم يلبث أن زال سريعًا عندما جاء السعاة من الإسكندرية يعلنون نبأ وصول بشارة إلى الألفي بالرضا والعفو للأمراء المصرية من الدولة بشفاعة الإنجليز، فدل ذلك على حدوث تغيير مفاجئ في سياسة الديوان العثماني، لا سيما وأن محمد علي كان منذ سفر القبطان باشا (عبد الله رامز) في أكتوبر ١٨٠٥، قد حصل من القسطنطينية على الرتبة ذات الثلاثة أطواخ، وحضر من عهد قريب (٤ فبراير ١٨٠٦) نحو السبعين ططريًّا ومعهم البشارة له بوصول الأطواخ إلى رودس، ثم وصل إلى بولاق في ٢٤ مارس قابجي وبيده تقرير له بالولاية على مصر، وجاءته الهدايا من القسطنطينية وبعث إليه السلطان بفرو التقليد، فكان معنى هذا التبدل الذي طرأ على سياسة الدولة أن الباب العالي المتقلب والذي لا يمكن لأي باشا من باشوات الإمبراطورية أن يركن إليه قد صح عزمه على إنهاء حكمه وطرده من الولاية.
(٢) الباب العالي ومحمد علي
ويرجع سبب التبدل الذي طرأ على موقف الباب العالي من محمد علي إلى مسعى الديوان العثماني دائمًا منذ أن عادت مصر إلى حظيرة الدولة لبسط نفوذه الفعلي عليها، كما كان مرده إلى قِصَر نظر رجال الديوان المسئولين الذين توهموا أثناء اشتداد تنازع النفوذ في القسطنطينية بين إنجلترة وروسيا من جانب وبين فرنسا من جانب آخر، وبدء توتر العلاقات بين روسيا وتركيا بدرجة تهدد بقيام الحرب بينهما — ثم بين تركيا وإنجلترة تبعًا لذلك — بسبب النزاع الدائر حول منصبي حاكمي الأفلاق والبغدان من جهة، ومسألة مرور الجند الروس عبر البوغازات إلى «كورفو» من جهة أخرى، أن في وسعهم تأمين السلام في ركن من أركان الإمبراطورية كان — في نظرهم — معرضًا لعدوان الإنجليز والفرنسيين على السواء عليه إذا هم أعادوا به ذلك الوضع القديم الذي حفظ لهم سلطة اسمية ظاهرية يمثلها باشا من الباشوات الذين في استطاعتهم أن يولوهم أو يعزلوهم متى شاءوا، والذي وضع السلطة الفعلية في أيدي طغمة من المماليك، لم يمتنعوا على كل حال عن دفع الأموال الميرية، ولم يتمردوا أو يحاولوا نبذ سيادة الدولة الشرعية عنهم إلا في مرات قليلة نادرة.
ولقد وافق الباب العالي على تسمية محمد علي لولاية مصر بعد انقلاب مايو ١٨٠٥ نزولًا على حكم الضرورة واعترافًا بالأمر الواقع عندما تبين للقبطان رامز باشا أن خورشيد وأحلافه المماليك عاجزون جميعًا أمام عناد زعماء القاهريين وحيلة ودهاء محمد علي عن استرجاع حكومة القاهرة. واستعصى على الباب العالي أن يتحرر من نظام أوجده ضعف السلطنة، ثم جعله ينظر إلى التطاحن الدائر بين هذه القوى المتنازعة كخير ما يمهِّد له السبيل لبناء نفوذه الجديد في مصر على أشلاء هذه القوى المتحطمة، فعندما وصل القبطان باشا إلى مصر لم يكن لأولئك الذين بعثوا به إليها عينًا لهم ليرى أي كفَّتي الخصمين (خورشيد ومحمد علي) هي الراجحة، من هدفٍ سوى تقرير سلطان الباب العالي بالوسيلة التي لازمت خطته في مصر منذ أن خرج الفرنسيون منها، وهي الاعتراف بالأمر الواقع دائمًا. ولقد كان تقرير النفوذ والسلطان بهذه الوسيلة العاجزة يتطلب من أجل إرضاء القائمين على سياسة الدولة المحافظة على مظاهر السيادة، وأهمها دفع الخراج ورفع قيمته كلما تيسَّر ذلك، وإرسال النجدات من مؤن وجند ومال مما قد يساعد الدولة على اجتياز أزمة من الأزمات الكثيرة التي هزت كيانها وقتئذٍ، ثم إغداق العطايا والهدايا على رجال الديوان العثماني ثم على السلطان نفسه، وإذعان الولاة أو الباشوات لأوامر الباب العالي، ثم استطاعة الباب العالي أن يعزل أو يولِّي من يشاء من هؤلاء الباشوات أنفسهم.
ولم يكن وجود محمد علي في الولاية من صنع الباب العالي، بل كان من أثر عوامل كثيرة أخرى، أبرزها تمسك القاهريين به ونبذهم لحكومة خورشيد باشا، ولم تدخل هذه العوامل في مبدأ الأمر في حسبان القبطان باشا أو سائر رجال الباب العالي من بطانته وسائر المحيطين به من القائمين بشئون الحكومة في الإسكندرية التي ظلت معقلًا للنفوذ العثماني أثناء تنازع الباشوات والمماليك على السلطة في القاهرة واستئثار الأخيرين بالسلطة الفعلية الكاملة على أكثر أقاليم القطر، بل إن القبطان باشا ومَن ذهب مذهبه كانوا لا يزالون يعلقون آمالًا كبيرة، حتى بعد اندحار خورشيد ونزوله من القلعة، على أن البكوات المماليك في وسعهم أن يطردوا محمد علي من القاهرة؛ فقد كتب «دروفتي» إلى «تاليران» في ٢٣ أغسطس ١٨٠٥، بعد مكيدة القاهرة المعروفة التي ذهب ضحيتها عدد من البكوات وأتباعهم يوم ١٦ أغسطس، أن أحدًا من رجال الدولة وممثليها بالإسكندرية لم يُسَرَّ لأنبائها، بل ولا يريدون تصديقها، ثم استطرد يقول: «وهكذا فإن هذا النجاح الذي كان يُعَد في الماضي نصرًا؛ وذلك بسبب ما هو معروف من قديم عن رغبة الباب العالي الشديدة في التخلص من البكوات، قد تأجَّل الاحتفال به حتى صباح هذا اليوم، وذلك بإطلاق إحدى عشرة طلقة مدفع فحسب، ويشاطر الإنجليز الأتراك فيما يبدونه من عدم الارتياح والرضا.» وقد وصل «دروفتي» من ذلك إلى تقرير أن خطة خورشيد باشا قد تكون هي المتغلبة (أي اتحاده مع القبطان باشا والبكوات المماليك في عمل مشترك من أجل طرد محمد علي)، وأن إعادة تأسيس حكومة البكوات في القاهرة وطرد الأرنئود كان الرأي الذي دان به القبطان باشا كأفضل الطرق الممكنة لإنهاء هذا النزاع، وذلك أنهم يخشون قيام حكم أرنئودي أكثر مما يخافون من قيام حكم مملوكي.
ولقد حاول «دروفتي» بعد انتهاء الأزمة في صالح محمد علي وتهيؤ القبطان باشا للعودة إلى القسطنطينية، أن يقف على حقيقة رأي هذا الأخير في الحوادث التي أفضت إلى إلزامه إبقاء الولاية في يد محمد علي، فلجأ إلى ترجمان القبطان باشا الأول يستوضحه الأمر بعد أن صعب عليه إدراك قصده من أحاديثه مع القبودان نفسه، ثم كتب إلى حكومته في ١٦ أكتوبر ١٨٠٥ أنه استخلص من الإجابات التي حصل عليها، أن القبطان باشا قد غادر مصر وهو مقتنع بأنه من الواجب اعتبار محمد علي في زمرة العصاة الثائرين على الباب العالي، بل ويخشى منه كثيرًا بسبب ما له من دهاء وحنكة سياسية ولباقة، وقد علل «دروفتي» نفسه منشأ هذا الرأي بقوله: «إن هذا الوالي (محمد علي) ولو أنه في الحقيقة يحتفظ بمظهر تبعيته للباب العالي إلا أنه يسلك مسلك الحاكم بأمره، وعلاوة على ذلك فإني أعرف أنه متحرز كل التحرز من الحكومة التركية ويسيء بها الظن تمامًا، ويتخذ كل إجراء من شأنه أن يبعده عن مرمى كل سهم قد يُسدَّد إليه؛ إما بطريق الغدر والخيانة، وإما بطريق استخدام القوة السافرة ضده.» وأما القبطان باشا نفسه فقد قال وهو يبرح هذه الديار: «لقد خلَّفت ورائي في هذه البلاد رجلًا سوف تلقى فيه الإمبراطورية ذات يوم دون شك ولا ريب ثائرًا من أشد الثوار خطرًا عليها، فإنه لم يسبق أبدًا أن كان لسلاطيننا من يفوق هذا الباشا في حنكته السياسية ونشاطه الجم وقدرته على المداهنة والمراوغة.»
وبذل وكلاء محمد علي في القسطنطينية كل ما وسعهم من جهد وحيلة لإظهار حكومته في خير صورة، وظلوا طوال الأزمة التي نشأت عن المناداة بولايته يستندون في إلحاح — لضرورة بقائه في الحكم — على أن المشايخ والعلماء المفصحين عن رغبات الشعب هم الذين يريدونه ولا يرضون سواه حاكمًا عليهم، وأنه قد تعهد بتنفيذ برنامج واسع للإصلاح الإداري، كما صاروا يحيون أمل السلطان في انتظار الفائدة التي اعتقد أن من حقه أن يجنيها من امتلاك هذه الباشوية الهامة، فراحوا يؤكدون أنه سوف يأتيه بمجرد استقامة الأمر لمحمد علي كل ما يريده من مال وجند لقتال الوهابيين، ينهض دليلًا على ذلك تهيؤ ظاهر باشا من أقرباء محمد علي نفسه للسير إلى الحجاز على رأس جنده المعسكرين لهذا الغرض خارج القاهرة عند أول إشارة يتلقاها، كما أكدوا أن أوامر السلطان سوف تصبح قطعًا نافذة. وكان لهذه الدعاوى والوعود وزنها في تسويغ الخضوع للأمر الواقع وإصدار التعليمات إلى القبطان باشا تبعًا لذلك بإقرار محمد علي في الحكم، حتى أخفقت كل محاولات خورشيد في استرجاع الولاية.
ولكنه وإن كانت هذه الوعود قد ساعدت على تسليم الباب العالي بالأمر الواقع فيما يتعلق بباشوية القاهرة، فقد ظلَّ الديوان حريصًا على استبقاء الإسكندرية معقلًا للنفوذ العثماني في مصر، والحلقة التي تصل بين السلطنة والولاية، والمكان الذي في وسع عماله المرتبطين به مباشرة أن يراقبوا منه مجريات الحوادث ونشاط محمد علي خصوصًا. وعلى ذلك، فإنه لم تمضِ أيام قلائل على رحيل القبطان باشا إلى القسطنطينية، حتى وصل من الباب العالي فرمان يثبِّت أمين أغا (الذي حل محل كخيا خورشيد باشا القديم منذ يوليو ١٨٠٥)، في حكومة الإسكندرية، واسترعى هذا الإجراء في الظروف القائمة نظر الوكيلين؛ الفرنسي والإنجليزي، فنقل «دروفتي» هذا الخبر إلى حكومته في ١٦ أكتوبر ١٨٠٥، وعلَّق عليه بقوله: «إن صدور هذا الأمر الخاص من القسطنطينية بتعيين أمين أغا لحكومة الإسكندرية برًّا وبحرًا يشير على ما يبدو إلى أن الباب العالي إنما يريد التمسك بهذا المكان (الإسكندرية) مستقلًّا عن باشوية مصر.» وأما «مسيت» فقد كتب من الإسكندرية في ٢٠ أكتوبر إلى حكومته يقول: «إن فرمانًا قد وصل من الباب العالي إلى حاكم هذه المدينة بتثبيته في حكم الإسكندرية — المستقل عن باشوية مصر — وحصونها، ويأمره بمنع أي جند من دخولها عدا أولئك الملتحقين بخدمته هو نفسه.» ثم استطرد «مسيت» يقول: «وإذا قبل محمد علي هذا الوضع فلا خوف حينئذٍ من علاقاته مع فرنسا، ولكنه لا يجب علينا أن نتوقع أنه سوف يسلِّم بحرمانه من ميناء كهذا له أهميته الكبرى لحكومته، وبدونه يتعذر عليه تنفيذ ذلك المشروع الواضح أنه لديه والذي يبغي منه جعل نفسه مستقلًّا عن الباب العالي بمساعدة فرنسا.» وقد تقدم كيف أن «مسيت» منذ طرد حكومة البكوات من القاهرة وانقلاب مايو ١٨٠٥ بعد ذلك قد صار يلفت نظر حكومته إلى مشروعات الباشا هذه نحو الاستقلال، واعتماده في بلوغ مأربه على فرنسا.
ثم إنه سرعان ما تبين بعد تقليد محمد علي منصب الولاية أن الآمال التي عقدها الباب العالي على حكومته في ضوء الوعود الجميلة التي بذلها وكلاء الباشا في القسطنطينية أثناء الأزمة كانت سرابًا خادعًا، فلم يظفر الباب العالي بالإمدادات التي كان يريدها، ولم يخرج جيش طاهر باشا إلى الحجاز لحرب الوهابيين، ولم يستطع محمد علي الإغداق على السلطان ورجال الديوان بالهبات والعطايا، ولم تكفِ إيرادات مصر — كما شاهدنا — في أحايين كثيرة لدفع مرتبات الجند المتمردين على الباشا، وصار ما ناله السلطان العثماني كدليل على بقاء سيادته العليا على البلاد، أو ما ناله وزراؤه لا يعدو بعض الهدايا والسيوف والخيول، على أن الذي اغتم له الباب العالي أكثر من أي شيء آخر أن أوامره لم تنفَّذ، وأن محمد علي بدلًا من إرسال النجدات التي وعد بها إلى الحجاز، قد استبقى الجند وقائدهم طاهر باشا في مصر لاستخدامهم في عملياته العسكرية، وأنه إلى جانب نبذه لأوامر السلطان ظهريًّا يبذل قصارى جهده لدعم ولايته لصالح نفسه، وحتى ينفرد بحكومتها مستقلًّا عن الباب العالي، وحرمان هذا الأخير من تلك الأداة التي ساعده استخدامها على الاحتفاظ بمظهر سيادته في ولايات الإمبراطورية المختلفة، وهي تعيين الباشوات وعزلهم حسب مشيئته، ولقد كان لهذين الاعتبارين الأخيرين؛ ضآلة ما يحصِّله الباب العالي من مال من باشوية القاهرة، وتعطيل مظهر سيادته ونفوذه، أكبرُ الأثر في إقناعه بضرورة تدبير عزل محمد علي، حتى إنه عندما جاء قرار نقل الباشا إلى سالونيك، لم يجد «دروفتي» بدًّا من توضيح أثر هذين العاملين لحكومته (١٦ يونيو ١٨٠٦). وكان مما ذكره عن فقد الباب العالي لنفوذه في مصر أنه منذ ثورة مايو ١٨٠٣ التي أسفرت عن طرد خسرو باشا صار الأرنئود هم أصحاب السلطة في مصر، وليس للحكومة العثمانية شيء منها سوى إرسال الفرمانات التي رُوعي تنفيذ ما تضمنته من أوامر وتوجيهات طالما كانت هذه غير متعارضة مع الأهداف الاستقلالية للبيت الحاكم الجديد.
وقد حرص الباب العالي على تعزيز نفوذه في مصر، ثم تحصيل ما يمكن تحصيله من مال منها عندما عيَّن مندوبين من قِبله لإدارة جمارك الإسكندرية ودمياط ورشيد في أبريل ١٨٠٦، وأرسل في الوقت نفسه قابجي وعلى يده مرسومات بالجمارك وغيرها، ومنها ضبط ترك الموتى المقتولين والمقبورين وكذلك تركة السيد أحمد المحروقي وآخر يُسمَّى الشريف محمد البرلي، وقال الشيخ الجبرتي: «إن القصد من ذلك تحصيل الدراهم بأي حجة كانت.» ولكن الباشا سرعان ما انتهز وجود هذا القابجي لاستمالته إلى تأييد قضيته فأغدق عليه النعم والعطايا، ثم زوده بعطايا وهدايا أخرى للدولة وأربابها، فلم تطل إقامته بالقاهرة وغادرها بعد ستة أيام فحسب من وصوله إليها، وخرج الباشا مع سعيد أغا والسيد عمر مكرم لتوديعه عند سفره من بولاق في ٢٦ أبريل، وعرفه بقضايا وأغراض يتممها له في القسطنطينية.
غير أن مسعى أصدقاء الباشا ووكلائه في القسطنطينية لم يُجدِ نفعًا في صرف الباب العالي عن عزمه، بل كانت تجري المباحثات هناك من مدة في أمر محمد علي وتدبير عزله من باشوية مصر ونقله إلى ولاية أخرى.
(٣) أزمة النقل إلى سالونيك
مفاوضات وكلاء الألفي في القسطنطينية
وصحبت المباحثات التي دارت بالقسطنطينية وتعيين موسى باشا بدلًا عنه في باشوية القاهرة، وصدور عفو السلطان عن المماليك، وتأسيس نفوذهم من جديد بزعامة الألفي، ملابسات كثيرة كان من أثرها ذيوع الاعتقاد وقتذاك بأن ذلك كله قد حدث بناء على شفاعة ووساطة الإنجليز، ولقد بلغ من رسوخ الفكرة في أذهان المعاصرين أن اعتقد بصحة ذلك الشيخ الجبرتي — وهو يسجل ما يعرفه وما يشيع كذلك في أوساط المشايخ وبين سائر العليمين بالأمور — ثم الوكلاء الفرنسيون في مصر ورجال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية، والألفي نفسه وجماعته وسائر البكوات والمماليك، ولا يُستغرب أن يصدِّقه الباشا نفسه، والسبب في ذيوع هذا الاعتقاد ما كان معروفًا عن مسعى الإنجليز دائمًا في السنوات السابقة وحتى قبل أن تتزعزع — في المدة الأخيرة — علاقاتهم مع الباب العالي من أجل معاونة البكوات، ولا سيما أولئك الذين اعتبروهم من أنصارهم، على استرجاع سيطرتهم المفقودة، والعود إلى ذلك النظام السابق الذي كفل للمماليك القوة والنفوذ قبل مجيء الحملة الفرنسية، أضف إلى هذا أن الألفي نفسه عندما بدأت هذه المباحثات أسرع في طلب وساطة الإنجليز لدى الباب العالي اعتقادًا منه أن في هذا تعزيزًا لقضيته، كما أن الوكلاء الإنجليز بمجرد أن تم الاتفاق بين الديوان العثماني ومندوب الألفي في القسطنطينية بادروا بزف البشرى إليه، وصار من مصلحة هؤلاء الوكلاء أن يروج خبر شفاعتهم أو وساطتهم المزعومة، ولما كان الترتيب الذي تم الاتفاق عليه قد أتى محققًا لرغبات الألفي وفي صالحه، وكان المعروف من قديم أنه صنيعة الإنجليز، فقد سهل تصديق هذه المزاعم.
والحقيقة أن زمام المبادأة في هذه المباحثات كان بيد الباب العالي نفسه، وأن الألفي لم يوفد مندوبه إلى القسطنطينية إلا بعد أن طلب إليه المسئولون هناك أن يفعل ذلك، وأن السفارة الإنجليزية لم تتدخل إطلاقًا في المباحثات، وأن الاتفاق قد حصل دون استشارتها فيه، ناهيك عن إشراكها في موضوعه، وأن رجالها والوكلاء الإنجليز في مصر لم يرتاحوا للترتيب الذي وُضع ولو أنه في صالح الألفي، بل نقدوه وتنبئوا بفشله، زد على ذلك كله أن الإنجليز أنفسهم في الوقت الذي حدث فيه الاتفاق لم يكن لديهم من النفوذ في القسطنطينية ما يجعلهم يتشجعون على التوسط والتدخل، أو ما يجعل الباب العالي نفسه يصغي لوساطتهم إذا هم فعلوا ذلك.
فقد اعتقد الباب العالي للأسباب التي سبق الحديث عنها، وعندما نفد صبره من رؤية محمد علي لا يحقق شيئًا من الوعود التي كان وكلاؤه قد منَّوا بها الديوان العثماني، أن خير وسيلة لإنهاء حكومة الأرنئود وبسط نفوذ الدولة الفعلي في مصر هي تمليك البكوات ورجوعهم على شروطٍ تشترطها عليهم الدولة أولى من تمادي العداوة بينهم وبين محمد علي الذي وصفه الصدر الأعظم محمد باشا بأنه رجل جاهل متحيل لم يتقلب في مناصب الدولة، وإنما ظهر من العسكر في حين أنه لا يسهل إجلاء المماليك عن أوطانهم وأولادهم وسيادتهم التي ورثوها عن أسلافهم، ومن المنتظر لذلك أن تستمر الحروب بين محمد علي والمماليك مع ما يتبع ذلك من احتياج الفريقين إلى جمع العسكر وكثرة النفقات والعلائف والمصاريف، يجمعونها من أي وجه كان ويؤدي ذلك إلى خراب الإقليم، فالأولى والمناسب صرف ذلك المتقلب (أي محمد علي) وإخراجه وتولية خلافه، والعود بنظام الحكم في مصر إلى الوضع الذي كان عليه قبل مجيء الفرنسيين إليها، وفاتح الصدر الأعظم في هذه المسألة سليمان أغا، وهو من مماليك صالح بك الوكيل.
كان الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا قد قلده سلحدارًا وبعث به إلى إسلامبول، وأقام بها من ذلك الحين يشرف على مصالح البكوات عمومًا، وقرب بينه وبين محمد باشا السلحدار أن الأخير كان في الأصل مملوكًا للسلطان مصطفى الثالث، ويعطف بسبب رابطة الجنس على قضية البكوات المماليك، وأكد الصدر لسليمان أغا صدق نواياه في الوصول حقيقة إلى اتفاق مع البكوات، على شريطة أن تفيد الخزينة العامرة منه؛ أي في نظير أن يرفع البكوات قيمة الخراج السنوي وتأتي الأموال والعطايا إلى القسطنطينية، فاقترح عليه سليمان أغا أن يطلب الباب العالي من الألفي بإرسال كتخداه محمد أغا؛ لأنه رجل يصلح للمخاطبة لمثل ذلك، ففعل. فكان ذلك منشأ المباحثات التي انتهت بالاتفاق الذي كان من بين قواعده عزل محمد علي من ولاية مصر ونقله إلى ولاية سالونيك.
وقد ذكر الشيخ الجبرتي هذه الرواية عند ترجمته لسيرة الألفي، ثم عززها ما ذكره الوكيل الإنجليزي «مسيت» عندما أرسل يبلغ «شارلس أربثنوت» بالقسطنطينية وصول مندوبي الألفي إليها للمفاوضة مع الباب العالي، ويبلغه كذلك طلب الألفي وساطة السفير الإنجليزي في القسطنطينية.
وفي ١٣ مارس ١٨٠٦ كتب الألفي للميجور «مسيت» يُعلِمه بأنه قد بعث بأحد مماليكه إلى القسطنطينية، ويطلب منه أن يكتب إلى السفير الإنجليزي بها حتى يجعل نفسه مسئولًا أمام الباب العالي عن قيام الألفي بتنفيذ كل اتفاق عادل يتم بين الفريقين، ويرجو أن يأخذ السفير الإنجليزي على عاتقه مهمة الدفاع عن قضيته، متعهدًا في الوقت نفسه بقبول كل ما يجده السفير في صالحه، وللسفير أن يؤكد للباب العالي باسم الألفي والبكوات أنهم سوف ينفِّذون كل مطلب عادل يُطلب منهم. وأما القواعد العادلة التي أراد الألفي أن يقوم عليها الاتفاق، فقد ذكرها في قوله: «إنه يرجو أن يرضى الباب العالي، بعد أن عرف أحوال مصر السيئة في الوقت الحاضر، بعودة الأمور فيها إلى ما كانت عليه سابقًا، وكل الرؤساء الدينيين (أي المشايخ والعلماء) والأهالي يريدون حكومة البكوات؛ لإعادة الهدوء والاستقرار، والجميع عمومًا يرغبون في أن يُجرى الاتفاق عن طريق تدخل الإنجليز؛ حتى يحدث الاطمئنان إلى أن الاتفاق الذي يُبرم سوف يكون تسوية مستديمة.» ثم يختم الألفي رسالته بإثارة المسألة التي أقضَّت مضجع «مسيت» دائمًا، فقال: «وكل أولئك الذين يهيمنون اليوم على حكومة القاهرة يتصلون بالعدو (أي فرنسا) ويتراسلون مع وكلائها.» الأمر الذي لا بد أن يكون «مسيت» قد عرفه يقينًا وبلغه خبره.
ثم يستطرد «مسيت» فيقول: «ويصرِّح الألفي — وكل رجل غير متحيز يقره على ما ذهب إليه — بأن مصر لن تنعم بأي هدوء مستقر إلا إذا أُعيد تأسيس الحكومة المملوكية، ولكنه لا يوضح الوسائل التي يمكن بها إعادة تأسيسها، ومن المحتمل أن يخضع أكثر المماليك لسلطته إذا وضع (أي الألفي) على رأس الحكومة، ولكنني (أي «مسيت») لا أميل إلى الاعتقاد بأن أعداءه الشخصيين وخاصة عثمان البرديسي وسليمان بك المرادي سوف يرضيان بالخضوع له أبدًا، على أن مقاومتهما لمثل هذا الترتيب ليست هي وحدها أكبر المشاكل التي سوف تصادفه؛ لأن الأرنئود لن يرضوا بالنزول عن سيطرتهم التي اغتصبوها، ولا سبيل لإخراجهم من مصر وإقصائهم عنها إلا باستخدام القوة وحدها، ولقد أثبتت التجارب أثناء الأعوام الثلاثة الماضية أنه كان من أثر مساعي الباب العالي للوصول إلى هذه الغاية زيادة الحال سوءًا على سوئها؛ لأنه كان من السهل إغراء الجند الذين كُلِّفوا بالعمل ضد الأرنئود أو التغلب عليهم بقوات متفوقة عليهم وأكثر عددًا منهم.»
وعلى ضوء هذه الملاحظات إذن تقدم بالرأي الذي طالما نادى به هو وغيره من بعض الساسة والعسكريين الإنجليز، ونعني بذلك احتلال الإسكندرية، وأما إذا تعذر احتلالها فلا أقل من طرد محمد علي والأرنئود من مصر، فقال: «وأما إذا كان الديوان العثماني، مسترشدًا بما تقضي به الحكمة السياسية وسعة الأفق، يتقدم بطلب إلى الحكومة الإنجليزية من أجل وضع فرق عسكرية بالإسكندرية (أي احتلالها) وأجيب هذا الطلب، فإن مصر سوف تتخلص من أولئك الذين أرهقوها وظلوا عبئًا ثقيلًا جاثمًا على صدرها، ولكنه حيث لا أمل هناك في حدوث شيء من ذلك، فلا يوجد سوى علاج ناجح واحد هو أنه إذا أمكن أن يقتنع الباب العالي بالاعتراف علنًا بالمماليك حكامًا شرعيين لمصر، فعليه أن يصدر أمره في الوقت نفسه برحيل الأرنئود فورًا، وأن يعلن هؤلاء عصاة وثوارًا إذا رفضوا الطاعة وتلبية أوامره، ويوجه الدعوة إلى العلماء (المشايخ) والأهالي لمساعدة المماليك بأقصى ما لديهم من جهد والتعاون معهم على طرد الجند العصاة الثائرين.»
وحضر محمد أغا كتخدا الألفي و«ستافراكي» ترجمانه إلى القسطنطينية، وزار الأخير يوم وصوله وبصحبته محمد أغا السفير الإنجليزي، وسلم «ستافراكي» رسالة «مسيت» السالفة الذكر إلى السفير، كما تسلم السفير رسالة الألفي إليه، وبدأ مندوبا الألفي نشاطهما في القسطنطينية.
فقد كتب السفير إلى وزير الخارجية البريطانية في ٥ مايو ١٨٠٦ يخبره بمقابلة مندوبي الألفي له، ويذكر ما تضمنته الرسائل التي تسلمها منهما، فقال: «إن إعادة تأسيس سلطة (أو حكومة) المماليك في مصر عن طريق تدخل حكومة إنجلترة هو كما ترى — مخاطبًا «فوكس» — الغرض من إرسال هذه الخطابات، وقد سمعت من الكخيا محمد أغا كتخدا الألفي أن بعثته إلى القسطنطينية كانت بناء على مفاتحة من الباب العالي مبعثها الرغبة في السلام؛ ولذلك فقد أحضر معه عريضة استرحام يرجو فيها البكوات أن يظفروا ثانية بعطف سيدهم السلطان عليهم، ولكنهم يريدون أن تكون شروط الاتفاق والتسوية بضمانة إنجلترة …» ثم أضاف كتخدا الألفي أنه يعلم بأن هناك هدايا يجب تقديمها في مثل هذه الحالات إلى الوزراء العثمانيين، وأبلغني أنه مخول بدفع المبالغ التي يجد «أربثنوت» أنها ضرورية لهذا الغرض، ولكنه (كتخدا الألفي) أخبر السفير أن البكوات يعرفون خداع الباب العالي؛ ولذلك فهم لا يدفعون شيئًا ولا يوافقون على شيء إلا إذا حصلوا على وساطة حكومة أو ممثلي جلالة الملك فيما يعود عليهم بالنفع والفائدة.
وعندئذٍ وعد السفير كتخدا الألفي بالكتابة إلى حكومته، وأبلغه أنه ليس لديه أية تعليمات في هذا الموضوع، ثم كتب كذلك إلى «مسيت» بهذا المعنى، ثم زاد عليه: ولو أنه يعتقد من سوء السياسة خسارة صداقة البكوات بفضل ما يبدو من جانبه من عدم إجابة ملتمَسهم، فهو يشعر كذلك أن من عدم الحكمة تشجيع فكرة وساطة الإنجليز؛ لأنه متأكد تمامًا من أن الباب العالي في مثل هذه الموضوعات لن يوافق بحال من الأحوال على تدخل أية دولة أجنبية، وهم في القسطنطينية لا يميلون اليوم بتاتًا للمناقشة في أية مسألة مهما كان مساسها بعيدًا بشئون الإمبراطورية العثمانية الداخلية، حتى ولو كان ذلك مع بريطانيا العظمى بالرغم مما لهذه من نفوذ كبير لدى الباب العالي، وقد اختتم السفير رسالته بطلب التعليمات من حكومته.
وقد يظهر من الفقرة الأخيرة التي وردت في هذه الرسالة أنه كان لبريطانيا العظمى نفوذ عظيم حقًّا في القسطنطينية وقتئذٍ، ولكن المتتبع لتطور الموقف السياسي في عاصمة السلطنة، وبالصورة التي سبق توضيحها عند بحث الموقف الدولي، لا يلبث أن يلحظ أن السفير إنما قصد المغالطة عند ذكره لهذا النفوذ العظيم، أو أن ما ذكره تعبير عما كان يتمناه هو نفسه؛ إذ من المعروف أن الأمور كانت قد تأزمت وقتئذٍ بين الأتراك والروس، وأن الإنجليز كانوا يشعرون بزيادة حروجة مركزهم وهم يحاولون تسوية النزاع بين الطرفين لصالح حلفائهم الروس فضلًا عما كانوا يبذلونه من جهود كبيرة لمنع انحياز الباب العالي إلى فرنسا في وقت كان نفوذ هذه الأخيرة قد بدأ يقوى من جديد بسبب انتصاراتهم الأخيرة في أوروبا ودل على قوَّته اعتراف الأتراك بلقب الإمبراطور الفرنسي منذ أول فبراير من العام نفسه.
ولما كان «أربثنوت» قد بعث إلى «مسيت» منذ ٢٦ أبريل ١٨٠٦ بتعليماته الموضحة لرأيه في مسألة الوساطة التي يطلبها الألفي، مع إبداء أسفه على أن يكون امتناعه عن التدخل سببًا في فقد صداقة البكوات، فقد أوفد «مسيت» رسولًا إلى الألفي يؤكد له — كما قال في كتابه إلى «أربثنوت» من الإسكندرية في ٢٢ مايو — رغبة السفير الصادقة في خدمته، ولكنه حذَّره في الوقت نفسه من أن مساعي أعداء الإنجليز في القسطنطينية وحدَّ البابِ العالي من تدخل دولة أجنبية في مسألة يعتبرها من شئون الإمبراطورية الداخلية سوف يلقي صعوبات جسيمة في طريق المساعي الإنجليزية، ولكنه عندما بعث برسالته هذه إلى «أربثنوت» كانت قد وصلت الأخبار إلى الألفي منبِئة بنجاح مساعي مندوبيه في القسطنطينية، فقال «مسيت»: «إن أشخاصًا مختلفين قد وصلوا من القسطنطينية في هذه الأيام الأخيرة وأذاعوا أخبارًا أحدثت تأثيرًا مباشرًا على الألفي، فحواها أن الوزراء العثمانيين قد قابلوا كتخداه بكل احترام ومحبة، وأن الأخير نجح تمامًا في بعثته، وأنه سوف يُعاد تأسيس الحكومة المملوكية في مصر بفضل وساطة بريطانيا العظمى، ثم قال: ولا شك في أن الألفي سوف يذيع هذه الأخبار بين العرب، ولا شك كذلك في أنها سوف تبلغ محمد علي.» ولكنه (أي «مسيت») بادر باتخاذ خطوات معينة لتلافي الأثر الذي قد تحدثه هذه الأخبار عليه، وحتى لا يصغي لاتهامات ذوي الأغراض السيئة، (وهم الوكلاء الفرنسيون دائمًا في نظر «مسيت») ضد بريطانيا.
وأما المفاوضات التي جرت فعلًا بين مندوبي الألفي والباب العالي، والاتفاق الذي استطاع الفريقان الوصول إليه، فقد تحدث عنها محمد أغا في كتابٍ بعث به إلى «أربثنوت» في ٢ يونيو ١٨٠٦، يتضح منه — إلى جانب ذكر الأسس التي قام عليها الاتفاق — أن السفير الإنجليزي لم يشترك في هذه المفاوضة، فقال كتخدا الألفي: «إنه لما كان الباب العالي قد تناول المسألة بالبحث فقد قررت هذه الحكومة (العثمانية) منح العفو من جديد للمماليك، وإعادة حقوقهم الأولى (السابقة) إليهم، وإعطاءهم كل المزايا التي يريدها سيدنا الألفي بك، ولسعادتكم (مخاطبًا السفير) أن تلاحظوا أني لم أغفل بناء على ما أجزتموه لي، عن ذكر اسمكم، وأن أجعل مفهومًا لدى الباب العالي أن هذه المسألة يجب أن تتم بطريقكم وبوساطتكم، وأنه لذلك لا مَعْدَى عن إبلاغكم الموضوع قبل البت فيه، وأن تعطوا سعادتكم الجواب المطابق. وقد أبدى رجال الباب العالي ارتياحهم لذلك، وقالوا: إنه سوف يجري إخبار سعادتكم عندما تبتُّ الحكومة العثمانية نهائيًّا في المسألة وتأتي موافقة السلطان، وقد كادوا يفرغون منها تمامًا، وتسمية باشا القاهرة وهو موسى باشا الموجود الآن في سالونيك، وقد كلف القبطان باشا بالذهاب إلى الإسكندرية ومعه إحدى عشرة سفينة حربية وخمسة آلاف رجل، والانضمام إلى موسى باشا، وأن يعمل بمقتضى أوامر وفرمان الباب العالي على ممارسة المماليك لحقوقهم الأولى واستعادتهم لممتلكاتهم، وعلاوة على ذلك فإن الباشا الموجود حالًا في القاهرة، (محمد علي) قد عُيِّن بناء على أمر الباب العالي باشا أو حاكمًا في بر الشام، وكذلك حسن باشا زعيم الأرنئود؛ وعلى ذلك فالألفي بك يتعين شيخًا للبلد أو رئيسًا أعلى، وكذلك إبراهيم بك يبقى في منصبه القديم، وعثمان بك حسن يتعين أميرًا للحج، وإذا عارض الجند الذين بالقاهرة ومحمد علي أوامر الباب العالي المحددة، يُعاملون كعصاة ثائرين، ويتحد البكوات مع القبطان باشا والأهالي في قوة متفوقة عليهم تخمد عصيانهم، وتطردهم خارج البلاد.»
وأهمية رسالة وكيل الألفي هذه تنحصر أولًا في اشتمالها على الأسس التي قام عليها الاتفاق مع الباب العالي، ولو أنه لم يذكر أن من جملتها إطلاق بيع المماليك وشراءهم وجلب الجلابين لهم إلى مصر كعادتهم، بعد أن كان البكوات قد مُنعوا من ذلك من ثلاث سنوات. وثانيًا فيما تضمنته من عبارات قد توحي بأن السفير الإنجليزي توسط فعلًا في المفاوضة أو أن الباب العالي قد قبل هذه الوساطة … وثالثًا في إظهار أن تمام الاتفاق كان متوقفًا على دفع المبلغ الذي ذكره محمد أغا. على أنه مما يجب ذكره أن «أربثنوت» لم يتوسط ولم يتدخل في المفاوضة، وأن غاية محمد أغا من إصراره على ضرورة أن يبلغ الباب العالي نتيجة المفاوضة للسفير الإنجليزي، لم يكن مبعثه الرغبة في الحصول على ضمان لتنفيذ الاتفاق من جانب الباب العالي كما أراد الألفي أصلًا، بقدر ما كان مرده إلى محاولة كتخداه محمد أغا أن يدفع السفير الثمن الذي تكلفه هذا الاتفاق، وعلاوة على ذلك، فإن الباب العالي لم يكن يبغي من رضاه بإبلاغ السفير نتيجة المفاوضة سوى الاطمئنان إلى وصول المبلغ الذي وعد به كتخدا الألفي إلى خزانته، بفضل ضمان الإنجليز لدفعه. وثمة ملاحظة أخرى على جانب كبير من الأهمية لتوضيح موقف «أربثنوت» نفسه من الترتيب الذي تضمنه الاتفاق، هي أن السفير الإنجليزي كان يشكُّ كثيرًا في سلامته، ولا يعتقد أن في وسع الذين أبرموه أن يضعوه موضع التنفيذ، وتتضح هذه الحقائق جميعها مما ذكره «أربثنوت» عن هذه المفاوضة وملابساتها ونتائجها، في رسالةٍ بعث بها إلى «مسيت» في ٥ يونيو، وأخرى إلى «شارلس جيمس فوكس» في ٦ يونيو ١٨٠٦.
أما في رسالته إلى «مسيت» فقد كتب يقول: «لقد أوضحت لك في رسائلي السابقة رأيي في مسألة الوساطة التي يطلبها محمد الألفي؛ لأنني كنت واثقًا تمامًا من أن الباب العالي لن يوافق على قبول هذه الوساطة. ولقد دلت الحوادث على صحة ذلك، ويبدو أن هناك ترتيبًا عُمل بين كتخدا الألفي وبين الباب العالي، وأول الأمر عندما زارني كتخدا الألفي بك وعندما زارني السيد «ستافراكي» أخبرتهما ولو أنه ليس لدي تعليمات تخولني التدخل فإني واثق بالرغم من هذا من أن رغبة جلالة الملك الشديدة هي أن يكون أداة لإرجاع الهدوء إلى مصر لدرجة أنه إذا طلب مني الباب العالي وطلب مني المماليك كذلك خدماتي من أجل الوساطة فإني لن أبخل بها، ولقد حاولت أن أبين لهما (أي محمد أغا و«ستافراكي») في وضوح وجلاء أني لن أسهم في هذه المسألة إلا إذا طلب من الباب العالي ذلك رسميًّا. وعندما جاءني كتخدا الألفي بعد أول مقابلة له مع وزراء الباب العالي يسأل نصيحتي في الطريق الذي يجب عليه أن يسلكه، أبلغته ثانية أنه إذا كان يرى في ضوء ما أصدره إليه سيده من تعليمات أن تدخُّلي في المسألة ضروري إطلاقًا ولا غنَى عنه، فعليه حينئذٍ أن يذكر للباب العالي أنه زارني كي يطلب وساطتي حسب ما لديه من أوامر من سيده توجب عليه فعل ذلك، ولكنني أعلنت إليه بوضوح تصميمي الجازم على عدم عرض وساطتي من جانبي، وحيث إن مليكي قد دلل دائمًا على رغبته القوية في مشاهدة الفوضى تزول من مصر، ولما كنت واثقًا من أن الملك لا تزال تحدوه هذه الرغبة ويوجد لديه نفس الشعور، فإني لا أجد ما يدعو لجعلي مترددًا في أن آخذ على عاتقي مساعدته من أجل إزالة الصعوبات القائمة إذا قدَّم لي الباب العالي طلبًا بالوسائل المتبعة والمعمول بها لهذا الغرض. وصفوة القول أني عُنيت بأن أجعل كتخدا الألفي يدرك، وأن أجعل مفهومًا تمامًا لدى الباب العالي عن طريقه، أنه ليست لدي أية رغبة للتوسط، وأنه لن يغريني شيء بالقيام بالوساطة سوى طلبٍ يشترك في تقديمه إليَّ الطرفان معًا يبديان فيه هذه الرغبة في عبارات قوية، وكان اعتقادي أن التظاهر بعدم الاهتمام هو الذي يزيل ما لدى الباب العالي من تعصب في موضوع التدخل الأجنبي، وأعتقد أن كتخدا الألفي قد تكلم مع رجال الباب العالي في حدود ما تقدم، أو على الأقل، هذا ما أخبرني به «ستافراكي» الذي أكد لي قطعًا أن الوزراء العثمانيين لم يُظهِروا أدنى معارضة لتوسطي، وأن هذه الوساطة سوف تُطلب مني بمجرد الانتهاء بفضل مباحثات سابقة من معرفة مدى الشروط التي يوافق عليها كتخدا الألفي.
وهكذا كان الوضع عندما سألني الباب العالي من أيام قليلة ماضية إذا كان صحيحًا — على نحو ما قيل له وصار التأكيد له به — أني أدفع أو أضمن المبلغ الذي على المماليك أن يدفعوه ثمنًا للعفو الذي ينالونه، فأجبت: إن هذا السؤال قد أدهشني جدًّا. ثم سطرت كتابة كل ما جرى بيني وبين كتخدا الألفي كي أبرهن على أنه بدلًا من أن أطلب أنا الوساطة، لن يفلح شيء في إقناعي بالتوسط إلا تأكيد من جانب الباب العالي بأنها مطلوبة من الطرفين ومرغوب فيها منهما على السواء كذلك. وبالرغم مما جرى بيني وبين الباب العالي فإن كتخدا الألفي والسيد «ستافراكي» لا يزالان مصرين على أنه سوف يحدث طلب وساطتي، بل وأن شخصًا سوف يُكلَّف حالًا بالحضور إليَّ من قِبل الوزراء العثمانيين يطلب مني ذلك. غير أنه سرعان ما اتضح أنهما إما أن يكونا قد أخطآ التقدير، وإما أن يكونا قد أرادا خديعتي وغشي؛ ذلك أن السيد «ستافراكي» لم يلبث أن جاء إليَّ أخيرًا ليبلغني أن الباب العالي يعارض بصورة لا يمكن التغلب عليها في أية وساطة، وأنه قد تم الاتفاق على المبلغ الذي يدفعه المماليك، وأنه هو وكتخدا الألفي قد قطعا شوطًا بعيدًا لإتمام هذا الاتفاق يجعل من المتعذر عليهما النكوص على أعقابهما، وأن الرجاء معقود على مساعدتي في إيجاد المال اللازم؛ لأن مواردهما «وحسابهما» غير كافية. وعندما بلَّغني «ستافراكي» هذه الرسالة، سلمني في الوقت نفسه كتاب كتخدا الألفي (وهو كتابه السالف الذكر للسفير بتاريخ ٢ يونيو ١٨٠٦)، فكان جوابي على كلام «ستافراكي» أني سعيد؛ لأنه صار هناك أمل الآن في إعادة الهدوء والسكينة والنظام إلى مصر، ولكنه ليس في مقدوري أن أدفع مالًا؛ لأنه لا يوجد شيء من المال بتاتًا تحت تصرفي.
وأما تعليقي على ذلك، فهو أنه عند حضور المماليك إلى القسطنطينية كان السيد «ستافراكي» قد أخبرني أنهم مستعدون لأن يُضحُّوا بخمسة ملايين قرش من أجل الوصول إلى تحقيق هذا الغرض؛ ولذلك فإنه يبدو مدهشًا حقًّا أن يكفي مبلغ ضئيل كهذا (٧٥٠٠٠٠ قرش) لإجابة رغبات الباب العالي، الأمر الذي جعلني أشكُّ في أن الترتيب الذي وُضع إنما قد حدث منفصلًا بين الباب العالي وبين الألفي، وأن الألفي عليه لذلك أن يدفع وحده ودون أن يسهم البكوات الآخرون فيه كل المبلغ الذي فرضه عليه الباب العالي ثمنًا لتعيينه في المستقبل رئيسًا أعلى للمماليك الذين يُعاد تأسيس سلطانهم في مصر، وكذلك فإنه مما تجب ملاحظته، مما جاء في رسالتي الألفي إليك وإليَّ ومن معلومات أخرى حصلت عليها، أننا صرنا نتخيل أن البكوات لن يستميلهم للموافقة على الدخول في مفاوضة مع الباب العالي سوى توسطنا في ذلك فقط، ولكننا نجد الآن، بالرغم من أنني لم أسهم بتاتًا بأي نصيبٍ كان في هذه المفاوضة، أنها ليس فقط قد بدأت فعلًا، بل وقد تكللت — كما يبدو لي — بالنجاح بعد أن انتهت بكل سرعة، وليس من شكٍّ في أن هذا الظرف يدعو بالضرورة للاعتقاد بأحد الأمرين؛ إما أن يكون الباب العالي قد خدع وكلاء الألفي، أو رشاهم، أو أن هؤلاء الوكلاء — ولا يبدو احتمال ذلك بعيدًا — كان لديهم تعليمات سرية تختلف اختلافًا عظيمًا عن تلك التي أُبلغت إلينا كلينا. وقد يكون وكلاء الألفي برآء من ذلك، ولا أريد أذيتهم بسبب هذه الشكوك التي تساورني في أمرهم.»
وفي كتابه إلى «شارلس جيمس فوكس» قال «أربثنوت»: «وقد بقي عليَّ أن أوضح لك الأسباب التي جعلتني مستعدًّا لتقديم وساطتي لو أن الباب العالي قد طلبها مني كما فعل البكوات … فإنه لمما يبدو مرغوبًا فيه أولًا: إقصاء الأتراك الذين لهم السلطة الآن في مصر ولا سيما الباشا محمد علي؛ لأن هؤلاء يصفهم الميجور «مسيت» بأنهم قَطعًا يؤيدون المصلحة الفرنسية، ولأن تهدئة الأمور أو الصلح بين البكوات والباب العالي يستلزم حقًّا حدوث ذلك، وثانيًا: لأنه ولو كان من الحكمة لعدم إثارة حسد الباب العالي الامتناع عن عرض وساطتنا، فمن الواضح كذلك أنه لو كنا دُعينا للتدخل وتقديم خدماتنا لكانت النتيجة الحتمية لذلك هي زيادة نفوذنا هنا في القسطنطينية وفي مصر معًا، ومع ذلك فمن المشكوك فيه، والترتيب الذي وُوفق عليه قد حدث بالصورة المعروفة، أن تكون ثمة فائدة يمكن أن نجنيها منه لو كنا من أطرافه؛ لأنه لا يزال علينا أن نرى إذا كان البكوات الآخرون يوافقون على هذا الذي تم على يد كتخدا الألفي، وإذا كانت العمارة التي هي على وشك الإبحار إلى مصر تقدر على القيام بمهمة إعادة النظام إليها، فإذا نجحت فمن المنتظر أن تجني المصلحة البريطانية للأسباب السالفة الذكر فوائد جمة بالرغم من عدم تدخلنا.» وقد اختتم «أربثنوت» رسالته هذه بإظهار رجائه في أن التفسيرات التي سوف يدلي بها «مسيت» إلى البكوات لتوضيح موقف السفير الإنجليزي أثناء المفاوضات الأخيرة يجدها هؤلاء كافية لإقناعهم بأن الإنجليز يهتمون بأمرهم ويرعون مصالحهم.
فقد كتب «مسيت» إلى «أربثنوت» في ١١–١٥ يونيو ١٨٠٦، أنه لم يُدهش لعدم رغبة الباب العالي في وساطة السفير في مسألة المماليك ورفض تدخله في صالحهم، كما استطرد يقول: وأنه إذا كان شخصيًّا قد شجَّع الألفي على طلب هذه الوساطة من السفير، فقد كان غرضه من ذلك المحافظة على المصلحة الإنجليزية، ومع أنه حقق رجاء «أربثنوت» فقام بتفسير موقف هذا الأخير أثناء مفاوضات القسطنطينية، وكتب إلى الألفي في ١٥ يونيو يخبره بما فعله الديوان العثماني في المسألة التي كان قد كلف بها محمد أغا وينبئه بقرب وصول القبطان باشا بعد أيام قلائل، فإنه من ناحية أخرى لم يلبث أن أبدى شكوكه ومخاوفه من نتيجة هذا الاتفاق، وبسط العوامل التي رأى أنها سوف تقضي عليه بالفشل، كما أنه وقد توقع حدوث الفشل، قد راح يلفت نظر المسئولين إلى ضعف تحصينات الإسكندرية وعجزها عن رد أي عدوان قد يأتيها من جانب فرنسا إذا قامت الحرب بين هذه الأخيرة وبين الإنجليز، ويطلب لذلك ولإقناع الأهلين بأن إنجلترة تهتم حقًّا بأمرهم وجود مركب حرب إنجليزي في مياه الإسكندرية.
ففي رسالته إلى «وندهام» في ١٨ يونيو ١٨٠٦، أبلغ «مسيت» الوزير إرسال الألفي لأحد رجاله إلى القسطنطينية والغرض من هذه البعثة، ثم استطرد يقول: «إنه يبدو أن عددًا من وزراء الباب العالي، إما لرغبتهم في إنهاء الكوارث التي حلت بهذه المقاطعة (مصر)، وإما بسبب تغلب وعود الألفي على ما كان لديهم من نفور وكراهية ضد استرجاع البكوات لوضعهم السابق، قد أخذوا على عاتقهم تأييد آراء الألفي ووجهات نظره، وحصلوا على تقرير إرسال القبطان باشا في أسطول كبير وجيش عديد إلى الإسكندرية، مزودًا بالأوامر والتعليمات من أجل إرغام الأرنئود على تسليم البلاد للمماليك، ومن المنتظر وصول القبطان باشا هذا في أيام قليلة، ولكنني أخشى أن يقضي غرور الألفي وزهوه وخيلاؤه على هذا المشروع، وترتمي مصر في أحضان فوضى الحرب الأهلية، فإن الألفي في الترتيب الذي عمله مع الديوان العثماني قد عُني قبل كل شيء بما يتعلق برفعة شأنه هو نفسه؛ حيث اشترط أن يُرقَّى إلى مشيخة البلد (أو حاكم البلاد) بالاشتراك مع إبراهيم بك الذي استمر محتفظًا بهذا المنصب الرفيع سنوات عديدة والذي يبدو أنه قد لا يُسلِّم في استكانة وخضوع بوجود ندٍّ له يشاركه على قدم المساواة في هذا المنصب، ولكن هذا ليس في رأيي بالعقبة الكأداء التي يتعثر الاتفاق عليها؛ ففي الفرمانات التي يقال إن الباب العالي قد أصدرها لإعادة امتيازات وحقوق البكوات القديمة إليهم لم يأتِ أي ذكر مطلقًا لعثمان بك البرديسي، وهو الذي اعتُبر أثناء غياب الألفي في إنجلترة حاكم المماليك من غير منافس، وهو رجل ذو طموح، ويضع فيه المماليك عمومًا ثقتهم، وكثيرًا ما حصل من الوكلاء الفرنسيين على وعود بمساعدته على نوال المرتبة التي كانت له مدة غياب الألفي، وليس هناك أي شك في أنه سوف لا يخضع لسطوة منافسه، وطالما كان هذا الغريم موجودًا فعلى الألفي أن يشن حربًا يشك في نجاحها من أجل انتزاع كل شبر من الأرض التي ربما يمنِّي نفسه الآن بأنه سوف يُسمح له بحكمها في هدوء وسلام.»
ثم انتقل «مسيت» من ذلك إلى لفت نظر الوزير إلى حالة الإسكندرية والشواطئ المصرية الخالية من وسائل الدفاع عنها، وإلى المنافسات والانقسامات السائدة بين المماليك، في الوقت الذي يملك فيه العدو (أي فرنسا) أكثر الشواطئ والموانئ الإيطالية، مما يُخشى معه من وقوع غزو على هذه البلاد، زدْ على ذلك المؤامرات التي يحيكها العملاء والوكلاء الفرنسيون لاستمالة أفراد معينين من بين مسيحيي الإسكندرية لخدمة المصالح الفرنسية، ثم ما يحدثه من أثر عدم اهتمام إنجلترة الظاهر بمصر على الأهلين الذين صاروا يعتقدون أنها لا تهتم بمصير هذه البلاد بدليل أنها لم ترسل مركبًا حربيًّا إلى الإسكندرية مع وجود أسطول كبير لها في البحر الأبيض.
وفي ١٩ يونيو بعث «مسيت» إلى «فوكس» بتفاصيل مفاوضة مندوبي الألفي في القسطنطينية، وأن القبطان باشا قد أبحر منها لتنفيذ الخطة التي تم الاتفاق عليها، ثم قال: «ولو كان الألفي يسعى وراء المصلحة حقًّا وإعادة السلام والهدوء إلى مصر، ولو كان غرضه الرئيسي من اتفاقه مع الحكومة العثمانية ليس خدمة مآربه الشخصية والاستئثار بالمنفعة لصالحه الخاص هو وحده فحسب، لصار نجاح هذه الحملة (حملة القبطان باشا) محققًا، ولكن الألفي لم يكن له من مسعاه سوى غرضين؛ إشباع مطامعه، وإرواء كراهيته لعثمان بك البرديسي؛ ولذلك فقد اشترط لنفسه أن يُرفع هو إلى مشيخة البلد بالاشتراك مع إبراهيم بك، ولا يُنتظر أن يقبل هذا الأخير وقد تمتع بهذا المركز سنوات عديدة أن يقبل معه في المشيخة شخصًا أقل منه منزلة، كما أن عثمان بك حسن وهو أقوى البكوات وأكثرهم احترامًا بين قومه، قد تعين أميرًا للحج، وهذه مهمة سوف تعرضه كل عام لمتاعب وأخطار الرحلة الشاقة عبر الصحراء ولا تتناسب مع سنه المتقدمة، ومع ذلك، فإن إبراهيم بك وعثمان بك حسن حكيمان ومن المرجَّح أنهما يقبلان في الوقت الحاضر هذا الترتيب، ولكن المعارضة والمقاومة الشديدتين سوف تأتيان من ناحية عثمان البرديسي الذي لم يُعطَ له أي نصيب في الحكومة، وينظر إليه المماليك كممثل لمراد بك مما يجعله صاحب سيطرة وسلطة، أضف إلى هذا حب المماليك له بسبب شجاعته وكرمه؛ وعلى ذلك، فإذا حدث أن انضم إليه الأرنئود، ولا شك في أنه سوف يحاول عقد مثل هذه المحالفة، صار من المتعذر إعادة النظام لمدة طويلة.»
وذكر «مسيت» في هذه الرسالة أن «دروفتي» حين وصول أخبار هذا الترتيب بادر بإرسال من يخبر به البرديسي ويعرض عليه مساعدة فرنسا له إذا هو تصدى لمقاومة الألفي، كما عرض ذلك أيضًا على محمد علي، وكان تعليق «مسيت» على ذلك أن تلقي هذه المقترحات من جانب فرنسا يكفي وحده ودون عوامل أخرى لإغرائهما على المقاومة، وقد وجد «مسيت» لزامًا عليه حينئذٍ أن يحذر الألفي من مساعي أعدائه، فكتب إليه في ٢٠ يونيو، يبلغه خبر المؤامرة التي تحيكها فرنسا مع محمد علي والبرديسي من أجل مقاومته، وأن الحكومة الفرنسية قد بعثت برسولين أحدهما إلى عثمان البرديسي والآخر إلى محمد علي تَعِد كليهما على لسان هذين الرسولين بتأييدها لهما إذا هما قاوما بالقوة مشيخة الألفي وتأسيس حكومته.
وقد تحققت ظنون «أربثنوت» و«مسيت» ومخاوفهما من فشل الاتفاق الذي تم دون إشراك السفارة الإنجليزية في القسطنطينية فيه أو استشارتها في الأسس التي قام عليها، ولم يكن غرض كتخدا الألفي أو ترجمانه «ستافراكي» من نقل خبره إلى السفير بعد الفراغ منه سوى جعل «أربثنوت» يدفع المبلغ المطلوب أو على الأقل حصولهما على ضمانته له؛ أي تعهده بدفع المبلغ إذا تعذر على الألفي لسبب من الأسباب دفعه، ولما كان «أربثنوت» قد رفض الدفع أو إعطاء ضمانته، فقد بقي تنفيذ الاتفاق من جانب الباب العالي (أي إعادة تأسيس سلطان البكوات في مصر وطرد محمد علي والأرنئود منها) مرتهنًا في ظاهره على الأقل بدفع السبعمائة والخمسين ألف قرش (أو اﻟ ١٥٠٠ كيس) المتفق عليها؛ لأن محمد أغا لم يدفع منها شيئًا، وصارت مهمة القبطان باشا الأولى عند حضوره بأسطوله إلى الإسكندرية تحصيل هذا المبلغ.
مهمة القبطان باشا
وكانت قد وصلت إلى الإسكندرية فرقاطتان وقرويت كمقدمة لأسطول القبطان باشا منذ ١٤ يونيو، كما وصل في الوقت نفسه ططري من قبل السفير الإنجليزي بالقسطنطينية يحمل رسائل إلى «مسيت» الذي أوفد من فوره الرسل إلى معسكر الألفي بحوش عيسى يبلغه نجاح كتخداه في إبرام الاتفاق مع الباب العالي، والبشارة بالرضا والعفو للأمراء المصرية في الدولة بشفاعة الإنجليز فأذاع الألفي هذه الأخبار، وقال «دروفتي» تعليقًا على ذلك في كتابه إلى «تاليران» من الإسكندرية في ١٦ يونيو: «إن المعتقد أنه قد وصلت الألفي تأكيدات قاطعة بأن السلطان العثماني قد اختاره لحكومة مصر بالاشتراك مع باشا يقيم في القاهرة له نفس الوظائف التي كانت للباشا في العهد السابق.» واقتنع «دروفتي» — وكان مخطئًا فيما ذهب إليه — بأن مكائد ونفوذ أعداء فرنسا كانت السبب الذي جعل الباب العالي يرضى بأن يسترجع البكوات سلطتهم، ولم يدهشه ذلك عندما توهم الباب العالي أنه سوف يسترجع هو الآخر بهذه الوسيلة سلطته المفقودة في مصر ويحصل منها على خراج سنوي كبير؛ ولذلك فمن المعتقد — كما استمر «دروفتي» يقول — إنه إذا ضمن الإنجليز — كما يقال هنا — قيام البكوات بدفع خراج قدره أربعة ملايين قرش سنويًّا (أي ثمانية آلاف كيس) فإن الباب العالي سوف يوافق على هذا الترتيب، ولكنه من المدهش حقًّا أن يرضى الباب العالي بإعطاء الألفي كل هذه السلطة العظيمة في النظام الجديد؛ لأن ذلك من شأنه وضع كل موارد البلاد في أيدي الإنجليز حماة الألفي، ولا ريب في أن هذه الخطوة إنما تتعارض مع مصالح تركيا نفسها وضدها.
وأما القبطان باشا نفسه فقد وصل إلى الإسكندرية في ٢٧ يونيو ١٨٠٦ ويتألف أسطوله الذي حضر به فعلًا من بارجة ذات أربعة وستين مدفعًا وثلاث فرقاطات ومركبين من نوع القرويت ويحمل خمسمائة جندي فحسب من النظام الجديد، وقد حضر مع القبطان باشا كذلك محمد أغا كتخدا الألفي وسليمان أغا وبعض رجال الدولة، وفي ١٩ يوليو وصل موسى باشا إلى الإسكندرية، وكانت كل القوة التي أتى بها لا تزيد على أربعمائة رجل مسلحين تسليحًا رديئًا وفي حالة سيئة عمومًا، وكان القبطان بمجرد وصوله قد بدأ ينفذ ما لديه من تعليمات، وانحصرت مهمته في أمرين: إبلاغ محمد علي أمر نقله إلى سالونيك وحمله إذا استطاع إلى ذلك سبيلًا على تلبية أوامر الباب العالي والذهاب إلى منصبه الجديد، ثم تحصيل مبلغ السبعمائة والخمسين ألف قرش التي جرى الاتفاق عليها مع مندوبي الألفي وكفلها محمد كتخداه يدفعها لقبطان باشا عند وصوله بيد سليمان أغا وكفالته أيضًا لمحمد أغا، والعمل على إقامة الوضع الجديد؛ وعلى ذلك فقد سلك في نشاطه طريقين: أحدهما مع محمد علي، والآخر مع الألفي وسائر البكوات، وتوقف نجاحه وإخفاقه في مهمته على استجابة الأول لمطلب الباب العالي، ومبادرة الآخرين بجمع صفوفهم ونبذ خلافاتهم ظهريًّا وإنهاء انقساماتهم حتى لا تضيع هذه الفرصة السانحة، كما ضاعت الفرص السابقة منهم، لاسترداد سيطرتهم البائدة، ثم المبادرة قبل كل شيء بدفع المبلغ.
ولكن مهمة القبطان باشا كان مقضيًّا عليها بالفشل، فبقي محمد علي في باشوية مصر بدلًا من الذهاب إلى سالونيك، وبقي البكوات مشتتين ومبعثرين في أنحاء القطر بدلًا من أن يستردوا نفوذهم في حكومة القاهرة، واستطاع محمد علي اجتياز أزمة النقل هذه بسلام مثلما اجتاز ما سبقها من أزمات تلاحقت عليه منذ المناداة بولايته، ثم استمرت تطارده بعد ذلك.
فقد ظهر في تصميم محمد علي البقاء في ولايته وعدم تلبية أوامر الباب العالي، منذ أن بلغه خبر الاتفاق بين مندوبي الألفي ورجال الديوان العثماني، وكان الألفي نفسه منذ أن علم بنجاح مندوبيه قد أوفد رسله مع أحد صناجقة أمين بك ومحمد كاشف تابع إبراهيم بك إلى بكوات الصعيد، كما أرسل كتبًا إلى مشايخ عربان الحويطات والعائد وغيرهم وإلى المشايخ والعلماء وأعيان الناس في القاهرة.
أما كتبه إلى القاهرة فصورتها الأخبار بحضور الدونانمة صحبة قبطان باشا والنظام الجديد، وولاية موسى باشا على مصر، وانفصال محمد علي باشا عن الولاية، وأن مولانا السلطان عفا عن الأمراء المصريين وأن يكونوا كعادتهم في إمارة مصر وأحكامها، والباشا المتولي يستقر بالقلعة كعادته، وأن محمد علي باشا يخرج من مصر ويتوجه إلى ولايته التي تقلدها وهي ولاية سالونيك، وأن حضرة قبطان باشا أرسل يستدعي إخواننا الأمراء من ناحية قبلي، فالله يسهل بحضورهم فتكونوا مطمئني الخاطر، وأعلموا إخوانكم من الأولداشات والرعية بأن يضبطوا أنفسهم ويكونوا مع العلماء في الطاعة، وما بعد ذلك إلا الرحمة والخير والسلام.
واعتقد الألفي — على ما يظهر — أن محمد علي سوف يذعن لأمر الباب العالي ويغادر مصر سلمًا وطوعًا وعن طريق السويس بدلًا من الإسكندرية هروبًا على ما يبدو — في رأي الألفي — من مواجهة القبطان وموسى باشا الوالي الجديد، فجاء في كتبه إلى مشايخ العربان: «ونعلمكم أن محمد علي باشا ربما ارتحل إلى ناحية السويس فلا تحملوا أثقاله، وإن فعلتم ذلك فلا نقبل لكم عذرًا.» ولكنه ما إن أحضر هذه الكتب بعض مشايخ العربان كابن شديد وابن شعير إلى الباشا ووقف الباشا على ما بها حتى قال عن الألفي: إنه مجنون وكذاب، وتمادى الألفي في غلوائه وتوهمه أن مجرد مجيء الأسطول العثماني وصدور أوامر الباب العالي كافٍ لتمكينه من السلطة، فبعث إلى أهل دمنهور التي كان واقفًا على حصارها نداء بمجرد أن علم بمغادرة أسطول صالح باشا مياه القسطنطينية قال فيه: «لقد علمت أن فرمانًا صدر من الباب العالي بإعطائي حكومة مصر، وسوف أذهب إلى القاهرة فور تسلمي له لتنفيذ الأوامر التي يتضمنها، وأضطلع حينئذٍ بتصريف الأمور؛ ولذلك فإني أطلب منكم أن تفتحوا لي أبواب مدينتكم، حتى ينهض هذا ريثما أتسلم مقاليد الحكم دليلًا على ولائكم لسلطانكم، وإذعانكم لقراراته مما سوف تكافئون عليه فيما بعد.» ولكن بدلًا من التسليم أسرع أهل دمنهور بإرسال هذا النداء إلى السيد عمر مكرم الذي أعطاه بدوره إلى محمد علي، واتصل الألفي ببعض رؤساء جند الدلاة، وبادر هؤلاء كذلك بإبلاغ الباشا.
وكان «دروفتي» المصدر الآخر الذي استقى منه الباشا معلومات أوفى، فقد أكد له «روفان» القائم بأعمال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية عند تقدم المفاوضة بين محمد أغا ورجال الديوان العثماني أن الباب العالي على وشك إنجاز الاتفاق بمساعي الإنجليز، وأن السبب في نجاح هؤلاء — كما اعتقد «روفان» خطأ ولا ريب للأسباب التي مرت بنا — هو تردد تركيا في موقفها من مشاكلها مع روسيا؛ وعلى ذلك، فقد قرر «دروفتي» إطلاع محمد علي على ذلك كله، وأصدر تعليماته إلى «مانجان» وكيل القوميسيرية الفرنسية العام في القاهرة بذلك، فقابل هذا الأخير محمد علي واستطلع رأيه، ودل جواب محمد علي على أن القوة وحدها هي التي تستطيع إخراجه من مصر.
فقد كتب «مانجان» إلى «دروفتي» في ٢٣ يونيو، وردد ذلك خلصاء الباشا وأهل بطانته أن محمد علي يقول إنه وقد استحوذ على مصر بحد السيف فهو لا يسلمها إلا بحد السيف كذلك، ولن يفلح الباب العالي مهما أصدر من فرمانات في جعلي أترك هذا المكان، وليرسل ما شاء من الجند الأتراك فإني لا أعبأ بذلك، إني أعرف الأتراك، فالأمر لا يتطلب معهم سوى رشوتهم وسوف أرشوهم، ولا أخشى إلا أمرًا واحدًا، رؤية الجند الإنجليز يحضرون لتأييد قرارات الباب العالي، ولكني حينئذٍ سوف أدعو الفرنسيين للمجيء إلى البلاد وسوف أتركها لهم، وسوف أناضل ريثما يحدث ذلك عن حوالي القاهرة شبرًا شبرًا، حتى إذا أرغمت على الارتداد اعتصمت بالقلعة ودافعت عن نفسي حتى النهاية، ومع ذلك، لقد استطعت إحداث ثورة وضعتني على رأس الحكومة ولم يكن أتباعي وقتئذٍ سوى نفر قليل، وأما الآن فلدي عدة ألوف من الجند، إني قوي وسأعمل جاهدًا لهزيمة الألفي، فأنتزع الأمل من صدور حُماته في رؤيته سيدًا في القاهرة. ثم صار الباشا يقول لخلصائه: «إن الألفي مجنون وكذاب، ويجب القضاء عليه بكل الوسائل، وتلك سوف تكون مهمتي، وإني لمعتمد على طاعتكم وولائكم جميعًا.»
أما القبطان باشا فقد أوفد رسولًا إلى القاهرة يحمل — كما قال «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في ٣٠ يونيو — فرمانات تقترح على محمد علي أن يختار بين باشوية سالونيك وباشوية كريت وتأمره بترك القاهرة، ثم طلب إلى الشيخ محمد المسيري — وهو صاحب النفوذ الشعبي المعروف في الإسكندرية — أن يكتب لزملائه المشايخ في القاهرة يدعوهم إلى التعاون مع القبطان باشا، وقال «دروفتي»: «إن الذائع أن هذا الشيخ قد طلب إعفاءه من ذلك.» وأرجع «دروفتي» امتناع الشيخ إلى ولائه لبونابرت، ولو أنه غير متأكد من امتناعه مع أن هناك من يقطعون جزمًا بأنه لم يفعل، وكان الشيخ المسيري قد وصله كتاب من الألفي يؤكد له فيه ويرجو الشيخ أن يؤكد هو على لسانه لسائر زملائه أنه لا يوجد شيء أحب إلى قلبه من توفير السعادة لكل أهل مصر، وأنه سوف يبذل قصارى جهده حتى يظفر الوضع الجديد المنتظر إقامته بثنائهم، وقال «دروفتي» في رسالة تالية في أول يوليو: «إن الشيخ المسيري لم يزر القبطان باشا منذ مقابلته الأولى على ظهر مركبه وإنه يبدو كئيبًا حزينًا من ذلك الحين.» ثم كلف القبطان باشا الشيخ إبراهيم باشا عبد الله زوج ابنة الشيخ المسيري بإرسال خطاب من قبل القبطان إلى السيد عمر مكرم، وقد حمل هذا الخطاب شيخ آخر إلى القاهرة يمر به من معسكر الألفي، وفيه فرمانات الباب العالي التي تطلب من المشايخ وأهل القاهرة حمل السلاح في وجه محمد علي والأرنئود إذا رفضوا إخلاء القاهرة بسلام، ويقول «دروفتي»: إنه عرف أن القبطان باشا يعتمد على قدرة الألفي إذا رفض بكوات الصعيد الاعتراف برئاسته أو بمشيخته على جمع مماليك البيوت الأخرى حوله، وصار ضباط القبطان ورجاله يرددون أقوال «مسيت»، ويعلنون أن الألفي قد صار حاكم مصر، وأن موسى باشا سوف يصل قريبًا من سالونيك على رأس جيش قوي وأنه سوف يحل محل محمد علي ويقيم بالقاهرة تحت رحمة البكوات كما كان حال الباشوات في الماضي، كما راحوا يعلنون أن جيشًا من الشام الآن صوب مصر، ويؤكدون أن القبطان باشا لن يغادر مصر إلا بعد أن يصبح الألفي سيد القاهرة.
وفي القاهرة كان محمد علي منذ أن بلغه حصول الاتفاق بين الألفي والباب العالي وتقرير عزله من الولاية ونقله إلى سالونيك، قد أخذ أهبته لملاقاة هذه الأزمة الجديدة فزود القلعة بالمؤن والذخائر، وشرع في إقامة بعض التحصينات حول القاهرة، وأرسل من فوره قوة من خمسمائة جندي لتعزيز حامية الرحمانية المواجهة لمعسكر الألفي الواقف على حصار دمنهور، كما صار يبذر بذور الشقاق والانقسام في معسكر الألفي نفسه، ويعمل لرشوة الأتراك الذين هم في جيشه ورشوة فرسان البدو الذين معه — على وجه الخصوص — حتى يتركوه، ثم خشي محمد علي من انضمام بكوات الصعيد إلى الألفي، واتحاد كلمة المماليك ضده في هذه الأزمة، فأرسل إلى الأمراء القبليين يستدعي منهم بعض عقلائهم مثل أحمد أغا شويكار وسليم أغا مستحفظان ليتشاور معهم الأمر، وغرضه توسيع شقة الخلاف بينهم وبين الألفي، وشل حركتهم، ولما كان هؤلاء قد زاد نفورهم من الأخير بمجرد أن علموا من كتبه لهم بحقيقة ما ينطوي عليه اتفاقه مع الباب العالي من تحكيم رئاسته عليهم، فقد بعثوا بأحمد كاشف سليم؛ لكونه ليس معدودًا من أفرادهم، وبينه وبين الباشا نسب؛ لأن ربيبته تحت حسن الشماشيرجي، وكان مكلفًا بإبرام الصلح مع الباشا على أساس إقطاع البكوات الأقاليم الممتدة من المنيا إلى إسنا، وكان البكوات وقتئذٍ يملكون فعلًا هذه الأراضي، ويحاصرون المنيا بكل همة ويسوءهم من الألفي عزلته وانفصاله عنهم، وخطورة مشروعاته التي تستند على محالفة الإنجليز له، وهم الذين ظل يؤكد دائمًا أنهم مستعدون لتوطيد سلطته وكي يبوئوه عرش مصر، فوصل مندوبهم إلى القاهرة في ٢٣ يونيو، ورحب به الباشا ترحيبًا كبيرًا واختلى به مرارًا ووضع بنفسه بعض القواعد لإبرام اتفاق نهائي مع البكوات، وأعطى أحمد كاشف سليم جوابًا حسنًا، وحتى يدلل على صدق نواياه أعد هدايا ثمينة إلى إبراهيم بك وعثمان بك حسن وعثمان بك البرديسي وغيرهم من البكوات، وأرسل يأمر حسن باشا بالاقتراب مع جيشه من القاهرة، ودل صدور هذا الأمر على اطمئنان محمد علي إلى سكون بكوات الصعيد.
وفي أول يوليو غادر أحمد كاشف سليم القاهرة يحمل معه الهدايا وهي عدد خيول وقلاعيات وثياب وأمتعة وغير ذلك، واطمأن بال الباشا من هذه الناحية، واستطاع توجيه كل عنايته ونشاطه لمعالجة الأزمة التي بدأت تستحكم حلقاتها عندما وصل رسول من الإسكندرية في اليوم الذي غادر فيه مندوب بكوات الصعيد (أي في أول يوليو) يحمل كتابًا من أمين أغا حاكمها إلى الدفتردار أحمد أفندي جديد يبلغه فيه وصول القبطان باشا إلى الثغر وفي أثره واصل باشا متولي على مصر واسمه موسى باشا، وصحبتهم مراكب بها عساكر من الصف الذي يسمى النظام الجديد، فأطلع الدفتردار السيد عمر مكرم على هذه الرسالة، وذهبا لمقابلة محمد علي، وتشاور ثلاثتهم في المسألة، وكان الباشا قد صادر قبل ذلك الرسائل التي أرسلها الألفي إلى المشايخ وغيرهم من أعيان القاهرة وأخفاها حتى لا يذيع الخبر قبل أن يتخذ للأمر عدته، ولكن كثيرين علموا به؛ لأن كتبًا غير التي صودرت كانت قد وصلت إلى أربابها على غير يد السعاة، ثم جاء كتاب أمين أغا إلى محمد علي، وعرف القاهريون أن القبطان باشا قد وصل إلى الإسكندرية يحمل أمرًا بنقل محمد علي إلى ولاية سالونيك، فكان لهذه الأنباء وقع في نفوس الأهلين غير ما كان ينتظره القبطان باشا أو الألفي أو الوكلاء الإنجليز وعلى رأسهم الميجور «مسيت»، وهو لا يقل وقتئذٍ عن الألفي نفسه في خصومته الشديدة لمحمد علي.
فقد أزعجت هذه الأخبار القاهريين، وأحدثت بلبلة كبيرة في الأفكار، ووجد أهل القاهرة أن ثورتهم التي أقصت خورشيد والبكوات المماليك من الحكم، وسلمت مقاليد الأمور إلى الرجل الذي نادوا هم أنفسهم بولايته، قد صارت نتائجها مهددة بالضياع، حقيقة أرهقهم محمد علي بفرض المغارم والإتاوات عليهم، ولكن مشايخهم وزعماءهم قد أقروه عليها، حتى يدفع إيذاء الجند عنهم، وحتى يواصل نضاله بنجاح ضد البكوات، أضف إلى هذا أن الباشا صار يتشاور مع عمر مكرم؛ ولهذا في نفوسهم منزلته الكبيرة المعروفة؛ ولذلك فإنه بدلًا من أن يذعن القاهريون لأوامر الباب العالي أظهروا تذمرهم منها، فقال المعاصرون: إن الصيحة صارت واحدة ضد الباب العالي، والأتراك والبكوات، والتف المشايخ والعلماء والأهالي والجند جميعًا حول محمد علي، واستفاد محمد علي من وجود هذا الشعور في جانبه، فعمل على تغذيته، فكان بفضل بعض الإيحاءات التي ألقيت بحكمة في أذهان طائفة من أنصاره المتحمسين أن عمد مباشرة عدد عظيم من السكان والجند إلى تأليف حرس يرابط دائمًا أمام سرايه، ويرافقه في غدوه صباحًا إلى المكان الذي يقصده، ويصحبه في رواحه مساء إلى سرايه ولا يتركه إلا عند باب الحريم (أي عند دخوله إلى أهله)، وقد شجع محمد علي ملازمة هذا الحرس الكبير له أولًا: حتى يزيد التصاق الشعب به ومؤازرته له في هذه الأزمة، وثانيًا: حتى يتخذ هو من التفاف الجند حوله وهو قسم لا يستهان به من هذا الحشد العظيم سببًا يعتمد عليه في إظهار أنهم إنما يحيطون به حتى يمنعوه من مغادرة البلاد كما حدث في ظرف سابق، أيام خورشيد باشا.
ثم تأكد لدى القاهريين عزم الباب العالي على نقله عندما ورد قاصد من طرف قبودان (أو قبطان) باشا إلى بولاق في ٤ يوليو هو سعيد أغا كتخدا البوابين لمقابلة محمد علي، فمكث بالقاهرة أيامًا ثلاثة تشوق القاهريون أثناءها لمعرفة ما أسفرت عنه هذه المقابلة، ولكن أولي الشأن تكتموا أمرها، فقال الشيخ الجبرتي: «إنه لم يظهر ما دار بين محمد علي ورسول القبطان باشا، ولم يكن في صالح محمد علي في دور الأزمة هذا أن يذاع شيء عن موقفه منها، وهو الذي لم تكمل استعداداته لمواجهتها من ناحية، وكان لا يزال يجهل مقدار القوة التي لدى القبطان باشا من ناحية أخرى، ولا يعرف ما إذا كان القبطان باشا مصممًا على استخدام ما لديه من قوات على كل حال في إرغامه على إطاعة أوامر الباب العالي إذا هو أظهر عصيانه لها من ناحية ثالثة، وأما قابجي أو رسول القبطان باشا فقد حمل إلى محمد علي الأمر بالذهاب إلى الإسكندرية حيث قد أُعِدَّ له بها مركب لنقله إلى سالونيك مقر ولايته الجديدة، ولم يسع الباشا في ظروفه الراهنة إلا إظهار القبول، فأجاب أنه مستعد لطاعة أوامر السلطان صاحب الحق عليه شرعًا وقانونًا والإذعان لإرادته، وليس أحب إليه من مغادرة بلاد كمصر تسود بها الفوضى، وأنه كان قد تهيأ فعلًا قبل ذلك لمغادرتها وأنجز كل استعداداته للذهاب، ولكنه لما كان محط أنظار الجميع، ويرى الأهلون والجند كل حركة يأتي بها، فهو لا يستطيع الإفلات أو الانسلال من العاصمة، ولا ندحة له عن البقاء بها ما دام لا يدفع العشرين ألف كيس قيمة المرتبات المتأخرة التي يطالب بها الجند، ثم أشهد رسول القبطان باشا نفسه على ذلك الحجر المضروب على حريته بسبب ملازمة الحرس له والذي لم يكن في وسع القابجي أن ينفي وجوده، وغادر القابجي القاهرة ومعه رسول من قبل الباشا، سليم أغا قابجي كتخدا المعروف بقبي لركخسي في ٧ يوليو، واستأنف محمد علي نشاطه في التو والساعة لإكمال ما يجب من استعدادات قبل أن يعلن رفضه صراحة لأمر النقل من مصر، كما صح عليه عزمه.» وقال «دروفتي» — رسالة ١٥ يوليو — إن الباشا أكد في جوابه خضوعه التام لرغبات الباب العالي، ولكنه يجب عليه قبل الإذعان لأوامره أن يدفع العشرين ألف كيس المستحقة للجند وإلا قتله هؤلاء، وعرضوا القاهرة لكوارث ونكبات مروعة، ثم استمر يقول: «والباشا لا يزال يمون القلعة، وقد طلب من حسن باشا والرؤساء الأرنئود الذين بالصعيد الحضور إلى القاهرة للعمل معه، كما أصدر أوامره للجند المبعثرين في الوجه البحري للاحتشاد وتغطية رشيد ودمنهور، ووصلت حديثًا نجدة من الشام ألف فارس من الدلاة، وقد قرر الباشا الدخول بنفسه في المعركة إذا لزم الأمر على أن يعهد بالإشراف على القلعة والقاهرة إلى أحد أقربائه، ويتخذ العدة لمنازلة الألفي.»
وعلى ذلك فقد وجب على الباشا أن ينشط بسرعة لدرء هذه الأخطار، وانحصرت خطته في إنجاز وسائل الدفاع عن القلعة والقاهرة، والوثوق من تأييد كبار الجند ورؤسائهم له في موقف المعارضة الذي وطد العزم على اتخاذه ورفض قرار النقل إلى سالونيك، وإشراك المشايخ والعلماء معه في هذا الموقف، حتى يتخذ من مناصرتهم له حجة يستند عليها في تسويغ مقاومته لأوامر الباب العالي، ولإعطاء الفرصة للباب العالي نفسه استنادًا كذلك على هذا المسوغ للإذعان للأمر الواقع إذا لم يعد هناك بد من التسليم به، وتهدئة القاهريين وجمعهم حوله والاطمئنان إلى التزامهم السكون والانصراف إلى شئونهم أثناء هذه الأزمة، ثم بذل مساعيه ليس مع القبطان باشا وبطانته فحسب، بل ومع رجال الديوان العثماني بالقسطنطينية كذلك، بالطرق التي قال إنه يعرفها (أي رشوتهم) ثم تعزيز قواته العسكرية، وأخيرًا ملاحقة الألفي ومطاردته والعمل في الوقت نفسه على تهدئة وتسكين بكوات الصعيد بأي ثمن.
وكان بسبب ما أظهره محمد علي من نشاط في تحصين القلعة والقاهرة، حيث شرع في عمل آلات حرب وجلل، وجمع الحدادين بالقلعة، وأصعد بنبات كثيرة واحتياجات ومهمات إلى القلعة أن صار واضحًا للقاهريين أنه يعتزم المقاومة الجدية، ورأى الشيخ الجبرتي فيما فعله علامات العصيان وعدم الامتثال، ثم استقدم ألفًا من فرسان الدلاة من الشام لنجدته، على أن أهم ما فعله من ناحية التهيؤ للمقاومة العسكرية إذا لزم الأمر، كان الحصول على تأكيد رؤساء الجند الأرنئود ولاءهم له، فجمع كل الرؤساء الموجودين منهم بالقاهرة وحواليها وكانوا سبعين زعيمًا أو رئيسًا، وعرض عليهم الأمر، فقال: «لقد طلب الباب العالي نفيي، وعزمي هو الامتثال لأمره، ومع ذلك فالظاهر أن الشعب يعارض في رحيلي وذهابي، فبماذا تشيرون علي أنتم الذين وافقت حتى الآن من أجلكم جميعًا على تحمل أعباء الحكم الثقيلة؟» فكان جوابهم أنهم يريدون بقاءه، وتظاهر محمد علي في هدوء وسكون بأنه مصرٌّ على عزمه، وعندئذٍ شرع الرؤساء الأرنئود يلحون عليه في البقاء ويحاولون إقناعه بأنه إذا لبى أوامر الباب العالي فقدت البلاد هدوءها وسكينتها، وضحيت مصالح الجيش بأسرها، وهو الذي أظهر في كل المناسبات إخلاصًا لا حد له لشخصه، ووضح أن الخوف من البقاء تحت رحمة الأتراك والمماليك قد بدأ يحدث أثره في نفوس الرؤساء الأرنئود، وعندئذٍ نبذ محمد علي هدوءه وسكونه، وتحدث إليهم بلهجة حازمة، فسألهم عما إذا كانوا يريدون حقًّا أن يدوسوا بأقدامهم أوامر السلطان، وهل هم أقوياء بالدرجة التي تمكنهم من مقاومة الباب العالي إذا هاجمتهم جنوده؟ وهم قد يستطيعون ذلك بكل مشقة إذا تسنى لهم ترويض أجنادهم على الطاعة بينما لا يعرف هؤلاء النظام ويعيشون من نهب الأهالي وسلبهم، ويرهقونه (أي محمد علي) ويزعجونه دائمًا بمطالبتهم بمرتباتهم، ثم قال: «وهل في مقدوركم الادعاء بأن في وسعكم القتال ضد قوات الألفي بك والقبطان باشا والانتصار عليها أو إلزام جندكم بتأدية واجبهم؟ وهل تفضلون حقًّا تعب الحرب ونصبها على ملذات حياة الدعة والراحة ومسراتها؟ لقد تركتموني وحدي ومن زمن طويل أتحمل عبء الحكم وتصريف الشئون وما يتبع ذلك من صعوبات ومشتقات بينما تتمتعون أنتم في سلام بثرواتكم التي جمعتموها، وما نوع الثقة التي تريدونها أن تكون لي في وعودكم، وأية رابطة قوية تلك التي يمكن أن تربط مصالحكم بمصالحي إذا حدث من باب الافتراض أني وافقت على استنزال غضب السلطان علي وعرضت نفسي لانتقامه مني والتضحية من جديد براحتي ومستقبلي من أجلكم، فإن كنتم تريدون بقائي معكم ولا زلتم كما كان العهد بكم في الماضي، الرفقاء الصادقين فلتقسموا إذن على القرآن الكريم أنكم لن تتخلوا عني حتى نموت سويًّا إذا لزم الأمر في سبيل قضية يجب أن نكون جميعًا مشتركين فيها.»
هذا الخطاب الذي تضمن تأنيبًا ظاهرًا لهؤلاء الرؤساء الأرنئود، وأظهر الباشا بمظهر من لا يهتم بنفعه الذاتي ويحرص بدلًا من ذلك على مصالحهم هم أنفسهم، لم يلبث أن أحدث الأثر المطلوب، فطغت على المجتمعين موجة من الحماس، جعلتهم يحلفون اليمين التي طلبها الباشا منهم، ثم إنهم عمدوا لإظهار ولائهم له باللجوء إلى إحياء عادة قديمة في بلادهم هي أن يمسك اثنان هما أكبر الموجودين سنًّا، بطرفي حسام يخطو من فوقه كل واحد من الحاضرين عند المناداة باسمه وسط سكون عميق، ومعنى ذلك أن رباطًا لا تنفصم عراه أبدًا قد صار يربط كل المشتركين في هذه العملية، وأن من يخرج على هذا العهد لحق به العار والشنار وصارت فضيحته عظيمة بين قومه.
وكان في غمرة هذا الحماس أن بسط محمد علي لهؤلاء الرؤساء ما يلاقيه من متاعب بسبب خلو الخزانة من المال، فاتفق هؤلاء على استنزال مرتبات خمسة شهور مما كان مطلوبًا للجند عن ستة أشهر، وقد سبق ذكر شيء عن نظام جعل كل زعيم أو رئيس مسئولًا مباشرًا عن دفعها للجند، وينالها هؤلاء بواسطته وعلى يده، وعلاوة على ذلك فقد تبرع الحاضرون كل على قدر طاقته بمبلغ من المال من جيبه الخاص، فاجتمع لدى الباشا بفضل ذلك ألفا كيس، خصصها لرشوة الديوان العثماني، وذاع خبر تأييد رؤساء الأرنئود لمحمد علي، وزاد ذلك من انطباع تصميم الباشا على المقاومة وعصيان أوامر السلطان، فقال الشيخ الجبرتي: «إنه جمع إليه كبار العسكر وشاورهم وتناجى معهم، فوافقوه على ذلك؛ لأنه ما من أحد منهم إلا وصار له عدة بيوت وزوجات والتزام بلاد وسيادة لم يتخيلها، ولم تخطر بذهنه ولا بفكره، ولا يسهل به الانسلاخ عنها والخروج منها ولو خرجت روحه.» وقال «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في ١٥ يوليو: «إن محمد علي صرح في الاجتماع الذي عقده مع رؤساء الجند على أن القرار الذي اتخذه الباب العالي لطردهم من مصر ولتأسيس سيطرة المماليك بها إنما كان بسبب مؤامرات الإنجليز والرشاوى التي قدموها للديوان العثماني؛ حيث دفعوا لهذه الغاية ٢٤٠٠ كيس، فجعلهم الخوف من أن يتركهم في المركز الحرج الذي شعروا بأنهم صاروا موجودين فيه الآن يقدمون على التضحيات والتبرعات التي ذكرناها.»
وكانت الخطوة التالية هي جذب المشايخ إليه وإشراكهم معه في موقف المعارضة — ثم الخصومة إذا لزم الأمر — الذي عقد العزم على وقوفه من أوامر الباب العالي، ولقد كان جذب هؤلاء إليه وإشراكهم معه في المعارضة والخصومة سهلًا ميسرًا، لأسباب لم يفت على المعاصرين إدراكها، أهمها أن الباشا منذ أن تسلم مقاليد الحكم كان قد درج على خطة توزيع القرى والدساكر التي كانت بأيدي المماليك ودخلت في حوزة الحكومة على المشايخ وكبار العلماء، فصار لهؤلاء حصص التزام كبيرة ينتفعون بفائظها (أي بإيراداتها) بعد دفع مال الميري عنها، ثم ساعدهم كرم الباشا وسخاؤه على الاستكثار من هذه الحصص.
فنشأت بسبب ذلك طبقة من أصحاب الأملاك الذين صار يقتضيهم نفعهم الخاص مناصبة المماليك العداء، ولم يعد من صالحهم أن يسترجع هؤلاء سلطانهم في الحكم، وأن تعود الأوضاع القديمة حسب أوامر الباب العالي، زد على ذلك أن هؤلاء المشايخ قد ارتبطت مصلحتهم بمصلحة الباشا نفسه ارتباطًا وثيقًا منذ أن اشتركوا في حادث طرد البكوات من القاهرة، ثم فيما تبع ذلك من حوادث أظهرها وأبعدها أثرًا انقلاب مايو ١٨٠٥ الذي ترتب عليه إغداق حصص الالتزام عليهم من جهة، وزيادة رفعة شأنهم بين سواد الشعب من جهة أخرى بسبب ما وجده الباشا نفسه من فائدة الاستمرار في مشاورتهم، وقد خيل لفريق من هؤلاء المشايخ — كما سيأتي ذكره في موضعه — أن في وسعهم آخر الأمر مشاركة الباشا في تصريف شئون الحكم، فكان معنى نقله إلى سالونيك، وتمكين البكوات في الوضع المزمع إقامته من السيطرة على الحكومة زوال المزايا التي صارت لهم، فلم يكن هناك مَعْدَى حينئذٍ عن أن يرتبط مصيرهم بمصير محمد علي، ولم يكن هناك مَعْدَى عن إقبالهم على معاضدته، ولهذه الحقيقة أهمية فذة لا لبيان ما ظهر من جانبهم من مؤازرة لمحمد علي في هذه الأزمة؛ لأن ذلك كان حقيقًا أن يحدث منذ أن درج المشايخ والسيد عمر مكرم على مساعدته وخصوصًا في تحصيل الأموال — بالموافقة على فرض المغارم والإتاوات على الشعب — لدفع مرتبات الجند، ولأنهم كانوا عنصرًا هامًّا من العناصر التي صنعت انقلاب مايو ١٨٠٥، بل كان وجه الأهمية أن المشايخ والسيد عمر مكرم خضعوا في كل كبيرة وصغيرة أثناء هذه الأزمة لتوجيه محمد علي لهم، حتى إن العرائض التي كتبت باسمهم وقتئذٍ إنما أمليت عليهم موضوعاتها إملاء وإن كان الباشا قد ترك لهم صياغتها لأسباب واضحة، ثم هي أهمية فذة كذلك إذا عرفنا أن رأي المشايخ الصحيح في هذا الأمر كله عندما اتصل بهم رسل القبطان باشا كان على نحو ما ذكر «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في ١٥ يوليو أنهم لا يحبون المماليك أكثر من حبهم للأرنئود (أي يكرهونهم جميعًا) ولا يفضلون فريقًا منهما على الآخر؛ لأن كلا الجماعتين لصوص، وأنهم لا يتعاونون مع الباب العالي على إنشاء حكومة جديدة إلا إذا شاهدوا منه اهتمامًا جديًّا بتوفير أسباب السعادة لأهل مصر، فتكون الحكومة التي يريدها لهم حكومة رشيدة ومنظمة تقوم على أسس ثابتة متينة أو على الأقل من طراز تلك الحكومات التي تتمتع بها سائر مقاطعات الإمبراطورية العثمانية.
ولما كانت الحكومة المقترح إنشاؤها الآن هي حكومة مملوكية في حقيقتها، فالواضح أنهم إنما كانوا يجدون في تأييدهم لمحمد علي والإذعان لتوجيهاته السبيل الوحيد لاحتفاظهم بما ظفروا به من منافع ومزايا لا يريدون التخلي عنها، وعلاوة على ذلك فقد ذكر «دروفتي» أن السيد عمر مكرم صاحب النفوذ الكبير على سكان القاهرة قد اشتراه محمد علي، وقال «مسيت» عند الكلام — في رسالته إلى «أربثنوت» في ١٠ سبتمبر ١٨٠٦ — عن الوسائل التي لجأ إليها محمد علي لاجتياز أزمة العزل والنقل إلى سالونيك: أنه ورط في مكر وبمهارة في نزاعه مع الباب العالي جماعة من المتصدرين في القاهرة، بأن جعلهم يظفرون بنصيب كبير من أملاك المماليك المسلوبة، فصار من صالح هؤلاء إذن عدم عود البكوات لممارسة السلطة مرة أخرى، وكان بناء على ما طلبه منهم محمد علي أن كتبوا جملة عرضحالات في صالح محمد علي بعثوا بها إلى الديوان بالقسطنطينية وإلى القبطان باشا.
أما الباشا فقد دعا صبيحة اليوم التالي لاجتماعه برؤساء الأرنئود السيد عمر مكرم والخاصة وعرفهم بصورة الأمر الوارد بعزله وولاية موسى باشا، وأن الأمراء المصريين أعرضوا للسلطنة في طلب العفو وعودهم إلى أمرياتهم وخروج العساكر التي أفسدت الإقليم من أرض مصر، وشرطوا على أنفسهم القيام بخدمة الدولة والحرمين الشريفين وإرسال غلالها ودفع الخزينة وتأمين البلاد، فحصل عنهم الرضا وأجيبوا إلى سؤالهم على هذه الشروط، وأن المشايخ والعلماء يتكفلون بهم، ويضمنون عهدهم بذلك، وطلب منهم أن يتشاوروا في الأمر فيما بينهم، وانفض المجلس.
وحرص الباشا أثناء إعمال المشايخ فكرهم ورأيهم على دعم صلته بهم من جهة، ومعرفة اتجاهات الرأي العام من جهة أخرى، فحضر في ٨ يوليو مولد المشهد الحسيني، ودعاه الشيخ السادات وهو الناظر على المشهد والمتقيد لعمل ذلك، فدخل إليه وتغدى عنده، وصار يتجول في القاهرة متزييًا بزيه العسكري تارة لإعلاء الروح المعنوية لدى الأهلين، ومتخفيًا تارة أخرى حتى يقف بنفسه على ما يدور في أذهانهم ومدى نشاطهم، فقال الشيخ الجبرتي: «إنه أكثر من الركوب والطواف بشوارع المدينة والطلوع إلى القلعة والنزول منها والذهاب إلى بولاق وهو لابس برنسًا.»
ثم كان طبيعيًّا أن يستأثر باهتمام الباشا مسألة توجيه المشايخ فيما هو مطلوب منهم إعمال فكرهم ورأيهم فيه، وتم الاتفاق في قصره على الموضوعات التي يجب أن يتضمنها جواب المشايخ، وكتبت صورة هذا الجواب — كما يقول أصحاب التاريخ العلمي والعسكري للحملة الفرنسية في مصر في قصره كذلك وتحت بصره. وفي ١٠ يوليو حضر ديوان أفندي وعبد الله أغا بكتاش الترجمان عند السيد عمر مكرم ومعهما صورة هذا الجواب، فيذكر الشيخ الجبرتي أنهما حملا معهما صورة عرض يكتب عن لسان المشايخ إلى الدولة في شأن هذه الحادثة، وتشاور ثلاثتهم — ديوان أفندي وعبد الله بكتاش والسيد عمر مكرم — حصة من النهار، وفي اليوم التالي حضر الأولان عند الشيخ عبد الله الشرقاوي، وقد سجل الشيخ الجبرتي ما حدث، بصورة لا تدع مجالًا لأي شك في أن العرضحال الذي وقع عليه المشايخ بعد ذلك لم يكن لهؤلاء يد فيه سوى صياغة المعاني التي أرادها الباشا وترقيمها، وأنهم ما كانوا يجرءون على مناقشة ما طلب منهم أن يكتبوه أو يجسرون على معارضة أوامر الباشا، فقال الجبرتي: «وأمروا المشايخ بتنظيم العرضحال وترصيعه ووضع أسمائهم وختومهم عليه، ليرسله الباشا إلى الدولة، فلم تسعهم المخالفة، ونظموا صورته ثم بيضوه في كاغد كبير.»
وعلى ذلك، فقد تضمن هذا العرضحال الحجج والدعاوى التي رآها الباشا نفسه مؤيدة من الناحية الشعبية لموقف المعارضة الذي اتخذه من قرارات الباب العالي، وأهمها إظهار استياء الأهلين من أن يسترد البكوات المماليك سيطرتهم البائدة، بسبب جرائمهم الماضية التي ارتكبوها في حقهم مما كان يكفي وحده لأن يرفض الباب العالي منحهم العفو وتمكينهم من الحكم مرة أخرى؛ لأن البكوات لم يقلعوا عن عاداتهم السيئة القديمة عندما أسسوا حكومتهم الأخيرة في القاهرة، فأوقعوا بالقاهريين المظالم وآذوهم وفتكوا بعلي باشا الجزائرلي وسدروا في غيهم، فلم تقف أذيتهم حتى بعد طردهم من القاهرة، بل حاولوا أن يكيدوا لهم وأن يبطشوا بهم في حادث ١٦ أغسطس ١٨٠٥ المعروف ولا أمل في أن يكفوا عن عدوانهم، وهم طائفة لا تعرف نظامًا ولا تحترم قانونًا، ولا يستطيع كبارها أن يفرضوا طاعتهم على صغارها، الأمر الذي يجعل متعذرًا على المشايخ أن يكفلوهم، وهو بيت القصيد من هذا العرضحال إذ استند الترتيب الجديد على كفالة المشايخ للبكوات في تعهدهم بتنفيذ الشروط التي قام عليها، ثم تصدى المشايخ للدفاع عن محمد علي في أبرز اتهام قد يوجه إليه لتبرير عزله وهو إرهاقه الشعب بالمغارم والإتاوات التي يفرضها عليه، فتضمن العرضحال ما يشعر بأن تحصيلها كان بموافقة الأهلين أنفسهم، وأن الباشا لم يلجأ إلى فرضها إلا مرغمًا لدفع مرتبات الجند حتى يخرج هؤلاء لقتال المماليك وهم المتمردون على الدولة وامتثالًا لأوامر الباب العالي.
فأمركم مطاع وواجب القبول والاتباع، غير أننا نلتمس من شيم الأخلاق المرضية والمراحم العلية بالعفو عن تعهدنا وكفالتنا لهم، فإن شرط الكفيل قدرته على المكفول، ونحن لا قدرة لنا على ذلك لما تقدم من الأمثال الشهيرة والأحوال والتطورات الكثيرة التي منها خيانة المرحوم السيد علي باشا والي مصر سابقًا بعد واقعة ميرميران طاهر باشا وقتل الحجاج القادمين من البلاد الرومية وسلب الأموال بغير أوجه شرعية، والصغير لا يسمع كلام الكبير، والكبير لا يستطيع تنفيذ الأمر على الصغير، وغير ذلك مما هو معلومنا وبمشاهدتنا، خصوصًا ما وقع في العام الماضي من إقدامهم على مصر المحمية وهجومهم عليها في وقت الفجرية، فجلاهم عنها محمد علي وقتل منهم جملة كثيرة فكانت واقعة شهيرة، فهذا شيء لا يُنكر.
فحينئذٍ لا يمكننا التكفل والتعهد؛ لأننا لا نطلع على ما في السرائر وما هو مستكن في الضمائر، فنرجو عدم المؤاخذة في الأمور التي لا قدرة لنا عليها؛ لأننا لا نقدر على دفع المفسدين والطغاة والمتمردين الذين أهلكوا الرعايا ودمروهم.
فأنتم خلفاء الله على خليقته وأمناؤه على بريته، ونحن ممتثلون لولاة أموركم في جميع ما هو موافق للشريعة المحمدية على حكم الأمر من رب البرية في قوله سبحانه وتعالي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فلا تسعنا المخالفة فيما يرضي الله ورسوله، فإن حصل منهم خلاف ذلك نكل الأمر فيهم إلى مالك الممالك؛ لأن أهل مصر قوم ضعاف، وقال عليه الصلاة والسلام: «أهل مصر الجند الضعيف، فما كادهم أحد إلا كفاهم الله مؤنته.» وقال أيضًا: «وكل راع مسئول عن رعيته يوم القيامة.»
وتفيد أيضًا حضرة المسامع العلية من خصوص القرض والسلف التي حصل منها الثقلة للأهالي من محمد علي باشا، فإنه اضطر إليها لأجل إغراء العساكر وتقويتهم على دفع الأشقياء والمفسدين والطغاة المتمردين امتثالًا لأوامر الدولة العلية في دفعهم والخروج من حقهم، واجتهد في ذلك غاية الاجتهاد رغبة في حلول أنظار الدولة العلية، فالأمر مفوض إليكم والملك أمانة الله تحت أيديكم …
وكتب المشايخ من هذا العرضحال نسختين، إحداهما بعث بها هؤلاء ومعهم محمد علي إلى الباب العالي، وحمل الرسول الذاهب بها مبلغ الألفي كيس التي جمعها الباشا من الرؤساء الأرنئود، وذلك لتوزيعها على أعضاء الديوان العثماني ممن لهم تأثير مباشر في القرارات التي يتخذها الباب العالي، وأما النسخة الأخرى فقد أرسلت إلى القبطان باشا، ثم إن محمد علي أنفذ رسولًا يحمل كتبًا منه إلى القبطان باشا قال «مسيت» في رسالته إلى «أربثنوت» في ١٤ يوليو: «إنه وصل إلى الإسكندرية في اليوم السابق، ثم نقل إلى السفير الإنجليزي ما جاء في هذه الرسائل فقال: إنها تذكر أن الجند الذين تحت قيادة محمد علي، لما كانوا قد أقاموا سنوات عديدة في مصر فهم يرفضون مغادرة بيوتهم وأسراتهم، وأظهروا عزمهم على حجزه وإبقائه معهم رهينة لضمان حصولهم على مرتباتهم المتأخرة.»
ثم استطرد «مسيت» يقول: «ولكن هذا المكر ومحاولة تفادي الموقف والتهرب من تلبية أوامر الباب العالي لم يغب على فطنة القبطان باشا ولكنه لما لم يكن لديه من الوسائل ما يمكنه بها من القيام بأية عمليات عدوانية ضد محمد علي، فقد اعتزم سؤال حكومته حتى تصدر إليه تعليمات جديدة.» وكان تعليق «مسيت» على ذلك: «ولكن محمد علي قد يستطيع قبل أن تصل هذه التعليمات إلى القبطان باشا الحصول من الديوان العثماني بطريق المال أو الرشوة على أمر تثبيته في ولايته.» واستند «مسيت» فيما ذهب إليه إلى أن القنصل الفرنسي بالإسكندرية «دروفتي» قد بعث يوصي القائم بأعمال السفارة الفرنسية في القسطنطينية برعاية وتأييد مصلحة محمد علي، وأظهر «مسيت» تشاؤمه من هذا كله فقال: إن كل أمل في إخلاء مصر من الأرنئود واسترجاع المماليك لسلطتهم قد زال وانقضى.
ولكن القبطان باشا على العكس من «مسيت» كان لا يزال متفائلًا في أن مهمته سوف تكلل بالنجاح، لنفس السبب الذي جعله يحضر إلى مصر بقوات قليلة، وهو اعتقاده — واعتقاد الديوان العثماني كذلك — أن الباشا لن يجسر على مخالفة أوامر الباب العالي، وأن المماليك سوف يكملون بفرسانهم ومقاتليهم النقص الموجود في قواته التي أحضرها هو معه، ولكنه إلى أن تأتيه تعليمات جديدة من القسطنطينية وإلى أن يحزم المماليك أمرهم فيأتي بكوات الصعيد لنجدة الألفي ونجدته — الأمر الذي لن يحدث كما سيأتي ذكره وبيان أسبابه بعد — ولا سبيل إلى إرسال جيش ينتزع القاهرة من محمد علي قوة واقتدارًا، لم يكن هناك من وسيلة لتنفيذ ما لديه من تعليمات سوى إبلاغ أوامر الباب العالي من جديد إلى المشايخ ومحمد علي وانتظار جواب هؤلاء مرة أخرى عليها، ومحاولة استنهاض همة البكوات المماليك واستحثاثهم على الإيفاء بعهودهم ودفع مبلغ السبعمائة والخمسين ألف قرش، ثم مراقبة الصراع الذي انحصر الآن بين محمد علي والألفي وانتظار نتائجه، وإلى جانب هذا كله تسلم الهدايا والرشاوى التي صار يبعث بها إليه كلا الفريقين محمد علي والألفي على السواء.
وأما محمد علي، فقد دل عرضحال المشايخ على أنه قد صح عزمه نهائيًّا على المقاومة، وأن الأعذار التي انتحلها في مبدأ الأمر لعدم تلبية رغبات الباب العالي؛ أي إرغام جنده له على عدم مبارحة البلاد قبل أن يدفع لهم مرتباتهم، وهي أعذار وإن كان يستبين منها التلكؤ والمماطلة حقًّا ولكنها لا تنفي امتثاله للأوامر الصادرة إليه، قد حلت محلها الآن حجج ودعاوى تدل في وضوح وجلاء على أنه قد صح عزمه على رفض أوامر الباب العالي ومقاومتها بالقوة إذا لزم الحال، وتستند على عامل ثابت لا تبدل فيه ولا تغير هو رفض الأهلين وزعمائهم الأوضاع الجديدة المقترحة وعودة الحكومة المملوكية وتمسكهم ببقائه واستمرار حكومته عليهم، ولقد كان مبعث هذا التحول في لهجة الباشا إنجاز استعداداته للدفاع عن القاهرة ووثوقه من ولاء رؤساء الأرنئود له، واطمئنانه إلى سكون الأهلين وهدوئهم وإشراكه لمشايخهم وزعمائهم معه في موقف المعارضة لأوامر الباب العالي، ونجاحه في شل حركة بكوات الصعيد، وأخيرًا وقوفه على حقيقة ما لدى القبطان باشا من قوات لا تمكنه من الدخول ضده في أية عمليات عسكرية إذا شاء إرغامه على تسليم باشوية مصر إرغامًا.
وقال «مسيت» بعد ذلك في رسالة إلى «وندهام» في ١٤ أغسطس ١٨٠٦: «إن محمد علي الذي لم يعرف حقيقة القوات التي لدى القبطان باشا وأراد كسب الوقت، أجاب على ما طلبه هذا منه في لهجة تنم عن الخضوع الكامل بأنه مستعد لطاعة أوامر السلطان، وحيث إنه كان مصممًا على مقاومة أي جهد أو محاولة لحرمانه من حكومة مصر، فقد أمر بإصلاح تحصينات القاهرة وإقامة التحصينات حولها وعلى جبل المقطم المشرف على القلعة، حتى إذا قطعت الاستعدادات شوطًا كبيرًا، وبلغته الأخبار أن جيش القبطان باشا أقل من ثمانمائة رجل أعلن قراره بصراحة وهو الاحتفاظ بالقلعة التي فتحها بحد سيفه، ويبدو أن الباب العالي ما كان يتوقع أن يرفض محمد علي وأنصاره طاعة أوامره وقراراته؛ لأن القبطان باشا لم يكن مزودًا بتعليمات تخوله القيام بأعمال عدوانية ضد محمد علي؛ ولذلك فقد وجد القبطان باشا ضروريًّا عندما رفض محمد علي إخلاء البلاد أن يطلب من حكومته تعليمات جديدة.»
ولقد استطال الأخذ والرد بينه وبين القبطان باشا فترة من الزمن، استطاع الباشا خلالها أن يستخدم تلك الأساليب التي قال إنه يعرفها مع الديوان العثماني ومع القبطان باشا نفسه، بإرسال الهدايا والمال إلى القسطنطينية وإلى الإسكندرية، وأن يجدد مسعاه مع بكوات الصعيد حتى يزيد شقة الخلاف اتساعًا بينهم وبين الألفي، وأن يستحث أهل دمنهور — بواسطة السيد عمر مكرم خصوصًا — على الاستمرار في مقاومة الحصار الذي ضربه الألفي على مدينتهم، وحشد العسكر لمحاولة الالتحام مع الألفي نفسه، ثم السهر على استقرار الهدوء والسكينة في القاهرة وأخيرًا إقناع القبطان باشا والباب العالي بأن من الخير الرضا ببقائه في ولايته والتسليم بالأمر الواقع، ولقد عانى الباشا صعوبات ومتاعب كثيرة أثناء ذلك كله مبعثها خصومة «مسيت» الشديدة له، ولو أن الأخير لقى في الوكيل الفرنسي «دروفتي» رجلًا لا يقل عنه صلابة وعنادًا، ويعمل على إحباط كل تدابيره ومشروعاته.
فكانت الشهور الثلاثة التالية فترة تجربة وامتحان قاسيين لمحمد علي، ولكن الباشا لم يلبث أن اجتازها بنجاح، وفشل القبطان باشا في مهمته، وأسفر هذا النضال الشديد عن تثبيت محمد علي في ولايته.
بوادر انفراجها
فما إن وصل جواب محمد علي وعرضحال المشايخ إلى القبطان باشا حتى أوفد هذا سلحداره شاكر أغا يحمل رسائل إلى المشايخ، ويطلب من محمد علي الإذعان لأوامر السلطان، فوصل إلى بولاق في ليل ١٣ يوليو، وفي اليوم التالي أرسل إلى المشايخ رسالة من القبطان باشا باسمهم عمومًا، ثم أخرى إلى الشيخ السادات، وثالثة إلى السيد عمر مكرم، وكلها على نسق واحد من قبودان باشا وعليها الختم الكبير وهي بالعربي وفرمان باللغة التركية، ومضمون الكل الإخبار بعزل محمد علي باشا عن ولاية مصر، وولاية سالونيك، وولاية السيد موسى باشا المنفصل عنها مصر، وأن يكون الجميع تحت الطاعة والامتثال للأوامر والاجتهاد في المعاونة وتشهيل محمد علي باشا فيما يحتاج إليه من السفن ولوازم السفر لتوجهه هو وحسن باشا والي جرجا من طريق دمياط بالإعزاز والإكرام وصحبتهما جميع العساكر من غير تأخير حسب الأوامر السلطانية، وكانت مهمة شاكر أغا أن يقنع المشايخ باستخدام كل ما توهم أنه لديهم من نفوذ علي الباشا في حمله على تسليم منصب الولاية للباشا الجديد الذي تعين بإرادة السلطان، ولكنه لم يحصل منهم إلا على إجابات مبهمة.
فقد اجتمع المشايخ عند عمر مكرم في نفس اليوم (١٤ يوليو) وتشاوروا في الأمر، ويقص الشيخ الجبرتي ما حدث بصورة يستبين منها أن هؤلاء لم يكن لهم صوت في هذه الأزمة أو كانوا يجرءون على توجيهها، وأنهم جعلوا من أنفسهم آلة في يد محمد علي يديرها كيفما شاء، فيقول: «وقد ركبوا (أي هؤلاء المشايخ وعمر مكرم) إلى الباشا، فلما استقروا بالمجلس قال لهم: وصلت إليكم المراسلات الواصلة صحبة السلحدار؟ فقالوا: نعم، وما رأيكم في ذلك؟ قال الشيخ الشرقاوي: ليس لنا رأي والرأي ما تراه ونحن الجميع على رأيك، فقال لهم في غد أبعث إليكم صورة تكتبونها في رد الجواب، وأرسل لهم من الغد (١٥ يوليو) صورة مضمونها، أن الأوامر الشريفة وصلت إلينا وتلقيناها بالطاعة والامتثال، إلا أن أهل مصر ورعيتها قوم ضعاف، وربما عصت العساكر عن الخروج فيحصل لأهل البلدة الضرر وخراب الدور وهتك الحرمات وأنتم أهل الشفقة والرحمة والتلطف، مما كان يعتبره الشيخ الجبرتي من التزويقات والتمويهات التي كانت لا تخفي ما صح عزم الباشا عليه من العصيان ومقاومة أوامر الباب العالي.»
ولم يكن هناك شك في تصميم الباشا على المقاومة، فذكر «مانجان» أن محمد علي قال له في هذا اليوم نفسه؛ أي في ١٥ يوليو: «لقد استوليت على القاهرة بحد السيف، ولن أتخلى عنها إلا بحد السيف! هل تظنون أن هذه المدينة حمام يدخله كل من يشاء بسهولة، لقد وعد البكوات بإعطاء أعضاء الديوان ١٥٠٠ كيس (أي السبعمائة والخمسين ألف قرش التي تعهدوا بدفعها) وتعهد الإنجليز بضمانة إيفائهم بوعودهم ودفع هذا المبلغ، وخيل إليهم أنهم يستطيعون بواسطة هذا المبلغ أن يصبحوا أسيادًا لمصر، إني أعرف الأتراك وأعرف الوسيلة التي تتبع معهم، فالرشوة أداة فعالة مع أناس من طرازهم، ثم عاد يذكر انقلاب مايو ١٨٠٥، فقال: لقد أحدثت ثورة في العام الماضي واعتليت الحكم يعاونني في ذلك ٥٠٠ جندي وحسب، وأما الآن فلدي ألف وخمسمائة من مواطنيَّ المخلصين لي، وما القاهرة إلا سلعة في سوق الدلالة! وهي من نصيب ذلك الذي يسبق منافسه وغريمه بضربة سيف واحدة، وأما شاكر أغا فقد غادر القاهرة بالأجوبة في ليل ١٥ يوليو، ولم يغفل الباشا عن إرسال الهدايا معه إلى القبطان باشا بعد أن أكرم وفادة شاكر أغا نفسه.»
وأوفد القبطان باشا مرة أخرى سليم أغا قابجي كتخدا الذي كان محمد علي قد بعث به إلى الإسكندرية صحبة سعيد أغا كتخدا البوابين، يحمل جواب القبطان ومضمونه أن القبودان لم يقبل هذه الأعذار ولا ما نمقوه من التمويهات التي لا أصل لها ولا بد من تنفيذ الأوامر وسفر الباشا ونزوله هو وحسن باشا وعساكرهما الأرنئود وخروجهم من مصر وذهابهم إلى ناحية دمياط وسفرهم إلى الجهة المأمورين بالذهاب إليها ولا شيء غير ذلك أبدًا، فوصل سليم أغا إلى القاهرة في ٢١ يوليو، ثم لم يلبث بعد ذلك بأسبوع أن ورد الخبر بوصول موسى باشا إلى الإسكندرية، وكان هذا قد حضر إليها في ١٩ يوليو، على نحو ما سبقت الإشارة إليه، ثم لم يلبث أن بعث برسول إلى القاهرة وعلى يده مرسوم خطاب لأحمد أفندي الدفتردار بأن يكون قائمًا مقامه، ويأمره بضبط الإيراد والمنصرف، فلم يقبل الدفتردار ذلك، وقال: «لم يكن بيدي قبض ولا صرف ولا علاقة لي بذلك، ومما يذكر أن المشايخ وصالح أغا قابجي باشا وسعيد أغا والسيد عمر مكرم وسائر الموجودين في الحفل الذي أقيم بديوان محمد علي بمناسبة تقليد أحمد أفندي جديد الدفتردارية في ٦ فبراير ١٨٠٦ كانوا قد شرطوا عليه ألا يحدث حوادث كثيرة فإن حصل منه شيء عزلوه وعرضوا في شأنه، وقبل أحمد أفندي ذلك على نفسه، وكان معنى هذا أن يصدع بكل ما يأمره به محمد علي، ولم يكن من المنتظر وقد شهد إجماع الرأي على مخالفة أوامر الباب العالي واللجوء إلى القوة إذا لزم الأمر من أجل استمرار الباشا في الولاية أن يقبل ما عرضه عليه موسى باشا.»
وبينما قضى القبطان باشا الوقت في رجوات أو تهديدات لا جدوى منها ولا طائل تحتها، ويرحب محمد علي برسله إليه ويبالغ في إكرامهم، ويبعث بالهدايا الثمينة إلى القبطان باشا نفسه، كانت الحوادث تسير مسرعة نحو إنهاء هذه الأزمة في صالح محمد علي.
فقد انتهز محمد علي فرصة هذا الأخذ والرد بينه وبين القبطان باشا، لإنجاز استعداداته لمنازلة الألفي خصمه العنيد الذي أدرك محمد علي أنه مبعث أكبر ما يتهدد باشويته في هذه الأزمة، طالما بقي محتفظًا بقواته، يشدد الحصار على دمنهور ويبعث، بفضل الجيش الذي لديه، الأمل في نفس القبطان باشا في إمكان عزل محمد علي من الولاية وإخراجه هو والأرنئود من مصر؛ وعلى ذلك، فقد استأنف الباشا مساعيه لإحياء المفاوضات مع بكوات الصعيد التي شابها شيء من الفتور والركود وقتئذٍ، فقال «دروفتي» منذ أول يوليو: «إنه بدأ مفاوضات جديدة معهم وأرسل عثمان البرديسي لهذا الغرض أحد كشافه إلى محمد علي، وغادر هذا الرسول القاهرة محملًا بالهدايا للبرديسي وسائر كبار البكوات، وحرص الباشا على استتباب الهدوء في القاهرة، وجمع القاهريين حول قضيته، واستند في ذلك على سلاح الدعاية، فأشاع في طول البلاد وعرضها أن الباب العالي قد ثبته في حكومة مصر، وأمر بإقامة الأفراح احتفالًا بهذا التثبيت في القاهرة ورشيد.» وعجب «مسيت» غاية العجب من أن خطوات لم تتخذ من جانب القبطان باشا لإزالة الأثر الذي قال إنه لا مفر من حدوثه حتمًا في أذهان الأهالي نتيجة لإقامة هذه الاحتفالات وذيوع الخبر، وعلل عدم مبادرة القبطان باشا بنفيه وتكذيبه بأن محمد علي قد رشاه بخمسين ألفًا من الجنيهات، وقال: فإذا كان الأمر كذلك فمسلك القبطان لا يحتاج إلى تفسير، ثم استطرد «مسيت» يقول في نفس رسالته هذه التي بعث بها إلى السفير الإنجليزي بالقسطنطينية في ٣١ يوليو: «وفي اعتقاده أن أكثرية كبيرة من أهل القاهرة سوف لا يصدقون لذلك أن القبطان باشا إنما حضر إلى مصر كي يعيد المماليك إلى الحكم، ويبذل محمد علي من جانبه نشاطًا بلغ أقصاه لمنع حدوث أي تغيير أو تبدل في آرائهم في هذه المسألة.»
وصار الباشا يحشد قواته في إمبابة للخروج ومحاربة الألفي، واستطاع أن يجمع قدرًا من المال دفع منه مرتبات الجند أو قسمًا منها، ولما كان في حاجة ملحة لخروج جميع العسكر في الحملة المزمعة ضد الألفي، فقد طلب من مشايخ الحارات بالتعريف عن كل ما كان متصفًا بالجندية ويكتبوا أسماءهم ومحل سكنهم، ثم أمر الوجاقلية جليلهم وحقيرهم بالخروج للمحاربة، وبعث يطلب العربان للتجمع، وعين لذلك حسن أغا محرم وعلي كاشف الشرقية، ووصل الكثير من طوائف عرب الحويطات ونصف حرام من ناحية شبرا إلى بولاق، ثم ركب طوائف الدلاتية وتقدموا إلى جهة بحري، وأشرف محمد علي نفسه على تجهيز العرضي في إمبابة، وقال «مسيت»: إن الباشا لما كان مقتنعًا بسبب الأجناد التي زوده بها عيونه وجواسيسه وبعث بها إليه الوكيل الفرنسي «دروفتي»، ثم بسبب ما بدا من جانب القبطان باشا من خمود الحركة تمامًا، بأنه لا موجب للخوف من هذا الأخير، فقد وضع أحد قواده على رأس أربعة آلاف رجل أكثرهم من الفرسان وأمره بغزو مديرية البحيرة والاشتباك مع الألفي، وأما هذا القائد الذي ذكره «مسيت» فكان طاهر باشا ابن أخت محمد علي، ويعاونه قائد آخر هو «طبوز أوغلي» (كتخدا بك) وتتخذ قواتهما مواقفهما بالرحمانية ومرقص، وكان على أيدي هذين القائدين أن حدث أول التحام جدِّي في معركة كبيرة بين جيش محمد علي والألفي، وكان النصر فيها حليف الألفي.
وذلك أن الجند الذين شدد الباشا في جمعهم من القاهرة، وأصر على خروجهم من معسكر إمبابة، لم يلبث أن وصل قسم منهم إلى الرحمانية ومرقص، فمكنت هذه النجدة طاهر باشا وطبوز وأوغلي من مغادرة مراكزهما واعتلاء الشاطئ الأيسر للنيل (فرع رشيد) للانضمام إلى القسم الآخر من الجيش الذي عرفا أنه لا بد حاضر لنجدتهما، من أجل الاشتباك مع الألفي وإرغامه على رفع الحصار عن دمنهور، ووجب على الألفي لذلك أن يحول دون انضمام الفريقين، فترك حصار دمنهور، وتعقب الأرنئود حتى لحق بهم في اللحظة التي دخلوا فيها إلى النجيلة، وهي بلدة تقع على الشاطئ الغربي لفرع رشيد وعلى مسافة ٣٦ كيلومترًا جنوب الرحمانية، وكان لا مفر حينئذٍ من وقوع التحام بين الجيشين، فكانت معركة النجيلة في ٣١ يوليو ١٨٠٦.
وعاود الألفي بعد هذا الانتصار ضرب الحصار على دمنهور، وشجعه القبطان باشا على ذلك، وكانت رغبة القبطان — كما ذكر «دروفتي» — أن يجعل الألفي يحتل دمنهور بكل وسيلة، واحتل شاهين بك الألفي الرحمانية، ثم أشار «مسيت» على القبطان باشا بأن ينتهز هو الآخر فرصة هزيمة جند محمد علي، فيحتل رشيد ودمياط ودمنهور.
وأحدث انتشار خبر هزيمة النجيلة في القاهرة ذعرًا في النفوس وبلبلة في الأفكار كبيرة، ولم يعرف الباشا نفسه أو القاهريون بالكارثة إلا من الجند الهاربين الذين ظلوا يحضرون إلى القاهرة جملة أيام بعد ذلك، فكانت مفاجأة سيئة للباشا، ولم ينقذ «طبوز أوغلي» من غضبه وانتقامه سوى شجاعته أثناء المعركة، وأما طاهر باشا فقد لجأ إلى المنوفية هاربًا من غضب الباشا الذي عظم حنقه عليه، وتوسط كثيرون في الشفاعة له، فأمره بالذهاب إلى رشيد، فتقدم حتى فوة، ولكن الباشا عندما علم بضياع الرحمانية كذلك لم يلبث أن طلب منه التوجه إليها واستخلاصها من يد شاهين بك الألفي فهاجمها بنشاط كبير واستولى عليها، وعاد إلى القاهرة، وحضر إليها من بعده الكثير من العسكر، فأمرهم الباشا بالعودة، وكان إسماعيل أغا الطوبجي كاشف المنوفية من بين الذين جاءوا إلى القاهرة وقد داخل الجميع الخوف من الألفي.
وخشي محمد علي من عواقب هذه الهزيمة السيئة، وبخاصة عندما وجد المماليك والعرب بعدها الميدان حرًّا طليقًا للانتشار في مديرية الجيزة، وقربوا من القاهرة حتى كادوا يكونون على أبوابها، واستطاع جواسيس القبطان باشا والألفي بك أن يندسوا بين القاهريين ويبذرون بذور الفتنة بين الجند وبينهم، وتزايد هياج الخواطر، ومنع الباشا الجند المهزومين وكبراءهم الذين حضروا في المراكب إلى بولاق وهم في أسوأ حال وفيهم مجاريح كثيرة من النزول إلى البر وردهم إلى إمبابة، فبقوا بها حتى إذا رخى الليل سدوله أذن لهم بدخول القاهرة، وكان قد انضم إليهم كثيرون ممن كان من الجند ببر المنوفية ولم يحضر المعركة لما داخلهم من الخوف، وشدد الباشا الحراسة في القاهرة، وأنشأ لذلك دوريات كثيرة، وصار يتجول بنفسه متخفيًا في أحايين كثيرة في أكثر أحياء القاهرة ازدحامًا بالسكان لمراقبة نشاط وكلاء العدو السريين، ومعرفة اتجاهات الرأي العام عمومًا، فأكثر من الركوب والذهاب والمجيء والطواف حول المدينة والشوارع، ويذهب إلى بولاق ومصر القديمة، ويرجع ليلًا ونهارًا وهو راكب رهوانًا تارة أو فرسًا أو بغلة ومرتدٍ ببرنس أبيض مثل المغاربة، والعسكر أمامه وخلفه، وقد برهن له ما لاحظه من هياج الخواطر على أن القبطان باشا والألفي قد نجحا في غرضهما لدرجة هددت باحتمال إشعال الثورة في القاهرة، ولما كان القاهريون قد اعتادوا التجمهر كلما أرادوا إعلان سخطهم وتذمرهم في شارع الخليج المنخفض، في غير أوقات الفيضان، وكان هذا الشارع أو المجرى يشق قلب القاهرة، وقد اقترب علاوة على ذلك موعد فتحه بسبب فيضان النهر، وتوقع أن ينتهز المهيجون فرصة الاحتفال بوفاء النيل وتجمهر الناس عند فتح الخليج، فقد رأى الباشا أن يحتاط للأمر بكسر الجسر قبل موعده، فقال الشيخ الجبرتي: «وركب في ١٤ أغسطس إلى قنطرة السد، وحضر القاضي والسيد عمر النقيب وكسر الجسر بحضرتهم، وجرى الماء في الخليج جريانًا ضعيفًا بسبب علو أرضه وعدم تنظيفه من الأتربة المتراكمة فيه.»
ثم استطرد الشيخ يقول: «ويقال إنهم فتحوه قبل الوفاء لاشتغال بال الباشا وتطيره وخوفه من حادثة تحدث في مثل يوم هذا الجمع وخصوصًا وقد وصل إلى بر الجيزة الكثير من أجناد الألفي، فاطمأن الباشا حينئذٍ إلى استحالة حدوث اجتماعات شعبية أو تجمهر يخشى خطره، وكان من أسباب زيادة هياج الخواطر ما وقع من مخاصمات بين عرب الحويطات والعيايدة، وتجمع الفريقين حول القاهرة ونشوب القتال بينهما مرات كثيرة، مما أدى إلى انقطاع السبل فتدخل الباشا وانتصر للحويطات، وتوسط عمر مكرم في الصلح، وانتهت الفتنة.»
ولا جدال في أن الألفي والقبطان باشا كان بوسعهما الاستفادة من النصر الذي أحرزه الأول في معركة النجيلة، لو أن الألفي بادر عقبه مباشرة بالزحف على القاهرة ولو أن القبطان باشا أخذ بنصيحة «مسيت» وحاول الاستيلاء على رشيد ودمياط ودمنهور، أو أنه أقبل على معاونة الألفي في حصار دمنهور محاصرة جدية فعالة، فقد كان الخوف من الألفي مستوليًا على جند محمد علي، وغادر أكثرهم مراكزهم — كما شاهدنا — فرارًا من الالتحام مع الألفي في معركة أخرى كبيرة، وساد هياج الخواطر في القاهرة حتى إن الباشا صار يخشى من وقوع اضطرابات خطيرة أو اشتعال الثورة بها، ولكن الألفي والقبطان باشا فوتا على نفسيهما الفرصة.
ذلك أن الألفي بدلًا من الزحف على القاهرة — كما أذيع عقب انتصاره في النجيلة — وذكره «دروفتي» وقتئذٍ في رسالته إلى حكومته — على نحو ما سبق ذكره — آثر استئناف ضرب الحصار على دمنهور، فقصد إليهما، ثم استقدم إليه من الجيزة عددًا من بكوات المماليك الذين أمرهم هو حديثًا (وكانوا ستة) لتعزيز قواته، وكان عظيم الأمل في استطاعته إخضاع دمنهور بسهولة، لا سيما بعد انتصاره الأخير في النجيلة، وبسبب ما كان لديه من مدفعية قوية يستخدمها يونانيون وإيطاليون أتى بهم إليهم الوكلاء الإنجليز، ولكن أهل دمنهور أثناء انشغال الألفي بمعركة النجيلة وابتعاده عن مدينتهم، كانوا قد جلبوا إليها المؤن، واستعدوا لمقاومة الحصار إذا ضرب عليهم من جديد، وعقدوا العزم على الاعتماد على أنفسهم إلى النهاية عندما وجدوا أنه من المتعذر على الباشا في ظروفه الراهنة إرسال أية نجدات إليهم بالرغم من تكرر طلبهم لها، وكان نفر من أعيانها قد ذهبوا لمقابلة القبطان باشا قبل أن يستأنف الألفي حصار مدينتهم يرجونه التدخل لصرف الألفي عن عزمه، فأمنهم صالح باشا، ولكن فريقًا منهم لم يطمئن لوعده، فبعثوا إلى عمر مكرم ومحمد علي يطلبون النجدة، فوعدوا بها ولكنهم أمروا في الوقت نفسه بالاستمرار على الممانعة وعدم تسليم مدينتهم ومحاربة من يأتي لحربهم، فاستعدوا لذلك، وقال الشيخ الجبرتي: «إن القبطان باشا عندما رفض أعيان دمنهور الذين ذهبوا لمقابلته الإذعان لأوامره وتسليم المدينة إلى الألفي، لم يلبث أن استفتى العلماء في جواز حربهم حتى يذعنوا للطاعة فأفتوه بذلك، فعند ذلك أرسل إلى الألفي يأمره بحربهم فحاصرهم وحاربهم، ولقي الألفي عند استئناف الحصار مقاومة شديدة على يد حاميتها المؤلفة من أربعمائة من الأرنئود والعثمانلي، والتي تعاون معها جميع السكان، واشترك النساء كذلك في المقاومة، وتمكن الدمنهوريون مرات عديدة من رد هجوم الألفي، وصاروا يقومون بخروج مسلح جريء كلما لاح شبح المجاعة في مدينتهم حتى يجلبوا لها المؤن والأغذية، بل واشترك النساء في الالتحامات التي وقعت، وكثيرًا ما كن يعتلين أسوار المدينة وتحصيناتها ينشدن الأناشيد في هجاء الألفي ووصفه بالجبن والتهكم من عاداته الشخصية التي تدل على التخنث وعدم الرجولة، وسمع جنده هذه الأناشيد، وضجر الألفي من امتناع المدينة عليه، وأدرك أنه سوف يتعذر عليه إخضاعها قبل حدوث الفيضان (أي حوالي آخر شهر أغسطس) وعندئذٍ تتوقف العمليات العسكرية بسبب الفيضان ويضطر إلى رفع الحصار عنها.»
وعلى ذلك، فقد أرسل الألفي بعض قواته إلى الرحمانية لسد ترعة الأشرفية وهو المكان الذي تأخذه هذه الترعة عنده مياهها من فرع رشيد، فتمر بسنهور ودمنهور والكريون حيث تبدأ عند النشو البحري تسميتها بترعة الإسكندرية وتمد بالمياه صهاريج الإسكندرية، كما يستقي أهل دمنهور والقرى المنتشرة حولها من ترعة الأشرقية، فأرسل الباشا من فوره بربر باشا الخازندار ومعه عثمان أغا ومعهما عدة كثيرة من العساكر في المراكب فوصلوا إلى خليج الأشرفية من ناحية الرحمانية، واشتبكوا مع قوات الألفي وأجلوهم عنها وفتحوا فم الخليج فجرى فيه الماء، ودخلوا فيه بمراكبهم، ولكن الألفية سدوا الخليج من أعلى عليهم، وحضر شاهين بك الألفي فتمكن من سد فم الخليج بأعدال القطن والمشاق، ثم فتحه الألفية من أسفل فسال الماء في السبخ، ونضب الماء من الخليج، ووقفت السفن على الأرض، وأوقع الألفية بجيش بربر باشا هزيمة كبيرة عند قرية منية القران فانسحبوا مدحورين إلى سنهور، وتحصنوا بها، واستمر القتال بين الفريقين مدة دون الوصول إلى نتيجة حاسمة، وتمكن الألفي من تحويل المياه إلى بحيرة إدكو، وقال «دروفتي» وهو يذكر هذه الحوادث في رسالته إلى «تاليران» من الإسكندرية في ٢٠ أغسطس ١٨٠٦: «إن تحويل المياه إلى بحيرة إدكو — ومن شأنه أن يجعل من إقليم البحيرة صحراء مجدبة على الأقل خلال العام التالي — قد أثار خوف أهل الإسكندرية الذين ما لبثوا أن احتجوا لدى القبطان باشا على هذا العمل الذي منع وصول الماء إلى مدينتهم.» ويقول «دروفتي»: «إن صالح باشا عزا ما يشكون منه ويحتجون عليه إلى عناد أهل دمنهور وعدم طاعتهم، وطلب من الشيخ المسيري الذهاب إليهم لإقناعهم بالتسليم، ولكن هذا رفض القيام بهذه المهمة، فتعين لها ثلاثة من المشايخ كان نصيبهم الفشل.»
ذلك أن الدمنهوريين رفضوا التسليم وأساءوا معاملة هؤلاء المشايخ واحتجزوهم، ثم أفرجوا عن أحدهم على شريطة أن يبذل قصارى جهده لإقناع القبطان باشا بأن يعمل لرد الألفي وحمله على رفع الحصار عن دمنهور في نظير أن يعيد الدمنهوريون إصلاح ترعة الأشرفية وإطلاق المياه لملء صهاريج الإسكندرية على نفقتهم الخاصة، وأبقى الدمنهوريون الشيخين الآخرين كرهائن لديهم، وقال الشيخ: إن كاشف دمنهور قد توفي، وتروج الإشاعة بأن الألفي قد سمه، وقد تعين بدلًا منه حسن أغا، والأهالي مصممون على الدفاع عن مدينتهم إلى النهاية، ونصح صالح باشا بإحضار الماء إلى الإسكندرية بوسائل أخرى، ولكنه كان من الواضح — على حد قول «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في ١٢ سبتمبر ١٨٠٦ — أنه لا يمكن ملء صهاريج الإسكندرية بالماء إلا إذا أبعد الألفي عن دمنهور ورفع حصاره عنها، وأعتقد أن القبطان باشا سوف يضطر إلى إبعاد الألفي حتى لا يقال عنه إنه جاء إلى مصر ليزيد من فداحة الكوارث المنصبة على رءوس أهلها.
ولم يثنِ دفاع دمنهور المجيد الألفي عن عزمه، فاستمر على حصارها، ولكن تحرك الأرنئود والعثمانلي بالرحمانية للزحف على دمنهور وتخليصها لم يلبث أن جعل الألفي ينقل مقره من باب الاحتياط إلى حوش عيسى، ولو أن ما قام به جند الرحمانية من هجمات على قواته كان نصيبه الفشل لإخفاقهم في قطع السد الذي أقامه الألفي على الترعة لتحويل المياه إلى بحيرة إدكو، فبقيت قواته مرابطة حول دمنهور تضيق الحصار عليها، ولكن «دروفتي» الذي نقل هذه الأخبار — في رسالته إلى حكومته من الإسكندرية في ٢٠ سبتمبر قال كذلك: إن القبطان باشا سواء بسبب أوامر معينة قد وصلته من الباب العالي أو لأنه رأى استحالة تنفيذ الخطة التي كلف بها، قد دخل في مفاوضات مع محمد علي، ومن المنتظر أن يصل غدًا إلى الإسكندرية ابن محمد علي إبراهيم محملًا بالهدايا للقبطان باشا، وكل شيء هادئ بالصعيد، والقاهرة على حالها ولو أن مرضًا وبائيًّا منتشر بها.
وكان هذا الشطر الثاني من الأخبار التي بعث بها «دروفتي» على جانب عظيم من الأهمية؛ ذلك أنها تدل على أن القبطان باشا قد أخفق في مهمته التي أوفد من أجلها إلى مصر وهي تنحية محمد علي من الولاية، وإرجاع سلطة البكوات القديمة إليهم، وتأسيس مشيخة الألفي، ولقد أخفق صالح باشا في مهمته لأسباب كثيرة، منها أنه لم يكن الرجل الذي يصلح لتنفيذ المهمة التي عُهد بها إليه، وأن موسى باشا المعيَّن للولاية لم يكن هو الآخر ذلك الرجل الذي يستطيع انتزاع الباشوية من يد محمد، كما أنه عجز بالرغم من وقاره واتزانه عن التأثير على القبطان باشا وعلى الألفي، وأن الألفي وهو أكبر المنتفعين من الاتفاق الذي أبرمه كتخداه من رجال الباب العالي لم يشأ أن يتحمل وحده دفع السبعمائة والخمسين ألف قرش التي تعهد بها محمد كتخداه بكفالة سليمان أغا صالح أو الوكيل نسبة إلى سيده صالح بك الوكيل، وأن الانقسام الذي فرق صفوف البكوات وكان مبعثه الحسد والغيرة والمنافسة القوية بينهم جميعًا قد حال دون تلبية بكوات الصعيد لنداءات القبطان باشا أو الاستماع لرجوات سليمان أغا الملحة، فرفضوا المساهمة في دفع المبلغ المطلوب، ورفضوا — كعادتهم — أن يضحوا بشيء من أموالهم التي سلبوها واغتصبوها من أهل البلاد، حتى ولو كان في ذلك استرجاعهم لسيطرتهم المفقودة، وأن الألفي لم ينتفع من انتصاره في النجيلة، وانهمك في حصار دمنهور، ولم ينصرف عن حصارها مع ما ظهر من استماتة أهلها في الدفاع عنها، كأنما قد توقف تقرير مصيره على إخضاع هذه المدينة، فلم يبذل أي جهد لإقناع بكوات الصعيد بصدق نواياه وأنه يسعى لصالح المماليك جميعًا، أو يسعى لاستلال سخيمة البرديسي منافسه العنيد، وأضاع ثلاثة شهور أثناء حصار دمنهور ينتظر النجدة التي وعد بكوات الصعيد بإرسالها إليه، بينما كان من الواضح أن نصرًا حاسمًا يظفر به على جيش محمد علي إذا تعذر إخضاع دمنهور بكل سرعة من شأنه تقرير مصيره، وأن محمد علي انتفع من استطالة الحصار الذي شل يد الألفي وأخمد نشاطه في ميادين أخرى، فعرف كيف يستميل رجال الديوان العثماني في القسطنطينية وكذلك القبطان باشا إلى تأييد قضيته، وأن «مسيت» وقد عجز كل العجز عن استنهاض همة صالح باشا للقيام بأية عمليات عسكرية، بينما بذل «دروفتي» قصارى جهده لإحباط مساعيه من ناحيته، وتأييد قضية محمد علي للقضاء على الألفي الأداة الطيعة للإنجليز في نظره والرجل الذي سوف يعمل على تمكين نفوذ هؤلاء إذا دانت له السلطة من ناحية أخرى.
البقاء في الولاية
أما القبطان صالح باشا فقد كان رجلًا عرف بالبخل وحب المال واكتنازه وجمعه بأية وسيلة سواء بطريق الرشوة أو بطريق الهدايا والعطايا، عرف فيه هذه الخصلة محمد علي كما عرفها الألفي، فأغدق عليه كلاهما الهدايا، ورشاه محمد علي بقدر كبير من المال، وبذ الألفي في استخدام هذا السلاح عندما تعذر على الأخير مجاراة خصمه أو المباراة معه في هذا السبيل بسبب موارده المحدودة حينما كان عليه أن يدفع مرتبات أتباعه وجنده وعربانه إلى جانب الاستعداد لدفع ما صار يسميه نصيبه من المبلغ الذي تعهد كتخداه بدفعه ثم كان من أثر انغراس هذه الخصلة في طبع القبطان باشا أنه جعل ديدنه المطالبة بالسبعمائة والخمسين ألف قرش عدًّا ونقدًا بتمامها دون أن تنقص بارة واحدة، فتنوسيت في طيات ذلك سائر تعليمات الباب العالي، وأهمها طرد محمد علي من الولاية، الغرض الرئيسي الذي أوفد من أجله، فاستحالت سياسة الدولة في يديه إلى مجرد مساومة على الولاية، وأضحت هذه كما قال محمد علي نفسه سلعة في سوق الدلالة، ومما يدل على نهمه وجشعه أنه في الوقت الذي تم فيه اتفاقه مع محمد علي وبقاء هذا الأخير في الولاية استمر يلح على الألفي في طلب المال والهدايا، كما أراد أن يدفع له أهل دمنهور مبلغًا من المال، وانتهى الأمر به بأن صار يطلب كذلك إتاوة من أهل الإسكندرية، قدرها مائة وخمسون كيسًا، وهم الذين — كما ذكر «مسيت» في رسالته إلى «أربثنوت» في أول أكتوبر ١٨٠٦ — لم تفرض عليهم أية إتاوات منذ أن أخلى الفرنسيون مصر وجلوا عنها، أضف إلى ذلك أنه كان رجلًا من شيمته التطير والتشاؤم، يعتقد في السحر والشعوذة، حدث وهو بعرض البحر قبل وصوله إلى الإسكندرية أن هاج البحر هياجًا شديدًا، فاستبد به الخوف، وخشي أن يكون ذلك فألًا نحسًا لمهمته فأمضى اليوم في العبادة، وأمر بإقامة الصلاة في سائر السفن، وأعتق عددًا من العبيد وذلك حتى تهدأ العاصفة ويزول غضب السماء عنه، وما إن علم عند وصوله إلى الإسكندرية أن فلكيًّا يدعى علي بك العباسي — سوف يأتي ذكره ثانية — موجود بها حتى استدعاه وأعطاه طلسمًا كان يحمله معه لفحصه والاستعانة به على التنبؤ بما سوف يحدث له في مصر، وهل ينجح في مهمته أو يفشل، واضطر علي بك العباسي إلى قراءة طالع القبطان بالصورة التي ترضيه، وكان لهذا التطير أثره كذلك على مسلكه فجعله يتشاءم من طول امتناع دمنهور على الألفي، ويعدل عن بذل أي نشاط إيجابي أو القيام بأية عمليات عسكرية، وأغضبه أن البرديسي لم يوفد إليه رسولًا من قبله، ولو أن إبراهيم بك كان قد بادر بإرسال كخياه الذي وصل إلى الإسكندرية في ٩ يوليو محملًا بالهدايا له، كما جعله استقرار محمد علي الظاهر في القاهرة متشائمًا من الدخول في نضال سافر معه، فلما تبين له تمسك محمد علي بالولاية عمد إلى الدسيسة، فقال «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في ٢٩ يوليو: إنه أرسل أحد كبار ضباطه إلى معسكر الألفي، وآخر إلى البرديسي، وظهر ﻟ «دروفتي» ما حمله على الاعتقاد بأن القبطان يبغي من نشاطه هذا اغتيال محمد علي فقال: ويبدو أنه وقد فشلت القوة (والأصح التهديد والوعيد؛ لأن إجراءات عنيفة لم تتخذ ضد محمد علي) صار الالتجاء الآن إلى الكيد والدسيسة، وسوف لا يكون موضع اندهاش إذا عرفنا يومًا أن محمد علي قد مات مقتولًا أو مسمومًا، وكان من أساليب القبطان باشا تحريض القاهريين على الثورة بعد هزيمة النجيلة — على نحو ما سبق ذكره — ولكن فشل الألفي أمام دمنهور وطول امتناعها عليه وما صادفه من صعوبات مع محمد علي ومع البكوات أثناء مفاوضاته معهم من أجل دفع المبلغ المطلوب، كل ذلك ما لبث أن جدد تشاؤمه، وزاد من تطيره، حتى فقد الثقة في نجاح مهمته، وصار يضيق ذرعًا باستطالة إقامته بالإسكندرية، وبدأ يشعر بأنه بات شبه سجين بها فبدأ يتحول عن مناصرة الألفي، ثم انتهى به الأمر بالتسليم ببقاء محمد علي في ولايته.
وأما موسى باشا، فقد حضر إلى الإسكندرية وهو عاقد العزم على الاعتماد كلية على القبطان باشا في تسلمه منصبه، فجاء خاوي الوفاض ولا جند معه، زاره «دروفتي» ولقى منه ترحيبًا كبيرًا، فخرج من مقابلته وهو يقول في رسالته من الإسكندرية في ٢٤ يوليو: إن مسلكه وكلامه يدلان على أنه رجل سياسة أكثر مما يمكن أن يوصف بهذا مواطنوه عمومًا، عقد عدة اجتماعات مع القبطان باشا، يقولون: إنه قد اشتكى في الأخير منها من بعض الوسائل التي اتخذت لتنفيذ الخطة المكلف بها القبطان باشا، ولكن هذا ما لبث أن ألقى تبعة ذلك على محمد كتخدا الألفي، الذي قال عنه: إنه تغالى كثيرًا في وصف قوات سيده ودرجة الاعتماد على مؤازرة الحزب الذي يمكن إيجاده من بين السكان لتعزيز قضيته.
وعندما جاء جواب محمد علي الأول منذرًا بأن زحزحته من الولاية دونها مصاعب جسيمة، لم يرَ موسى باشا بالاشتراك مع القبطان مناصًا من إرسال الططر في طلب النجدة من القسطنطينية، ولقد خيل إليه عندما لم يستمع القبطان لآرائه أن في وسعه الاعتماد على الألفي في تكوين جيش يمكنه من الولاية وإغراء الجند على ترك جيش محمد علي، فقال «مسيت» في رسالته من الإسكندرية في ٣١ يوليو وهو يتحدث عن موسى باشا: إن هذا الأخير قد وصل إلى الإسكندرية من أيام قليلة مضت ولا مال ولا جند معه ومعتمدًا الاعتماد كله على القبطان باشا، ويجد موسى باشا أن مركزه في شدة الحروجة ولا رجاء فيه، ولما كان يعتقد تمامًا أنه لن يلقى مساعدة من القبطان باشا، فقد صار يبغي أن يوفر له الألفي الوسائل التي تمكنه من جمع جيش يرجو بواسطته وبالاتحاد مع المماليك أن يطرد من مصر منافسه محمد علي باستخدام القوة ضده، ومع ذلك فلا ينتظر أن يوافق الألفي الذي أنفق إلى الآن مالًا كثيرًا على تحمل نفقات أخرى في مسألة صارت اليوم غير أكيدة، ويرجو موسى باشا كذلك أن يستطيع التأثير على قسم عظيم من جند محمد علي ليفروا من صفوف جيشه بسبب أن هؤلاء كانوا في الماضي في خدمته وتحت أوامره.
على أنه لما كان موسى باشا لا دانق واحد عنده، فلا وسيلة لديه لإغراء هؤلاء على ترك جيش محمد علي، وهكذا قضى موسى باشا الوقت يعلل النفس بالأماني الباطلة تارة، ويقبل الرشوة من محمد علي تارة أخرى شأنه في ذلك شأن سائر عملاء الباب العالي والقبطان باشا نفسه، ومع أن هذا الأخير كان ذا شخصية تافهة فقد تركه موسى باشا برغم صفات السياسة التي لاحظها فيه «دروفتي» يسيطر على توجيه الأمور، واكتفى هو بالإصغاء إلى نصائح «دروفتي» الذي حاول إقناعه بعدم وجود ارتباط بين مصلحته ومصلحة الألفي، ثم صار يبدي ميولًا واضحة نحو فرنسا، لما كان ظاهرًا من القبطان باشا أنه صاحب ميول إنجليزية، ولعل استكانة موسى باشا هذه وقبوله لنصح «دروفتي» له — ولم يكن في وسعه للأسباب التي ذكرناها إلا أن يفعل ذلك — هي التي جعلت الوكيل الفرنسي يحكم عليه أنه رجل سياسة يفوق في هذه الناحية أكثر مواطنيه عمومًا؛ وعلى ذلك فقد سارت الأمور منذ وصول القبطان باشا إلى الإسكندرية دون أن يظهر ذكر لاسم موسى باشا ودون أن تكون له يد فيها.
ومنذ أن بدأ القبطان صالح باشا يعمل لتنفيذ مهمته انحصر جهده وتفكيره في الحصول على المبلغ المطلوب من المماليك، فأوفد عقب وصوله إلى الإسكندرية سليمان أغا صالح أو الوكيل ومحمد كتخدا الألفي وشاكر أغا سلحدار القبطان باشا لمقابلة الألفي كي يخبروه بما تم الاتفاق عليه في القسطنطينية وحضور القبطان لتنصيبه في المشيخة وتمكين المماليك من السلطة، ومطالبته بدفع مبلغ السبعمائة والخمسين ألف قرش أو الألف والخمسمائة كيس فامتلأ الألفي فرحًا وسرورًا، ولكنه رفض أن يتحمل هو وحده ودون سائر البكوات دفع المبلغ بدعوى أنه لم يكن المنتفع وحده بالترتيب الذي وضع، وأن هناك ثلاثة بيوت أو فرق للماليك؛ جماعة إبراهيم بك، والمرادية برئاسة عثمان البرديسي، والألفية برئاسة الألفي نفسه، وأشار بأن يدفع بكوات الصعيد الذين يؤلفون فرقتين من هذه الفرق الثلاث ألف كيس بواقع خمسمائة كيس لكل منهما، حتى إذا حصل شاكر أغا هذا المبلغ منهم وهو ثلثا المطلوب، دفع الألفي خمسمائة كيس وهي الثلث الباقي، فبدا أن هناك صعوبات يجب تذليلها وأن مهمة القبطان — كما تصورها — لم تكن بتلك السهولة التي رسمها في ذهنه — ولو أنه كان يبدو من ناحية أخرى أن إبراهيم والبرديسي سوف لا يمتنعان عن دفع حصتهما من المبلغ — لأنه كان يترتب على نجاح الاتفاق ترك الباب العالي حكومة مصر الفعلية في أيدي المماليك وتمكنهم من استرجاع القاهرة وكل المواقع الهامة التي يحتلها الأرنئود، فقرر القبطان باشا إرسال سليمان أغا إلى بكوات الصعيد، ولم يفقد أمله في نجاح مسعى رسوله لديهم، وتنفيذ المهمة التي جاء من أجلها؛ لأنه سوف يتعذر على محمد علي حينئذٍ أن يتصدى لمقاومة أوامر الباب العالي، والقبطان باشا وقوات الألفي المتحدة مع بكوات الصعيد.
ولكن سليمان أغا لم يلبث أن فوجئ بمفاجأة سيئة عند مقابلته للبكوات بالصعيد، فقد استمع إبراهيم بك في هدوء لكل ما عرض عليه، ولكنه لكراهيته للإنجليز والأتراك أو لانعدام ثقته فيهم جميعًا اشترط قبل أن يدفع شيئًا معرفة آمال الألفي ومدى طموحه وأطماعه من فم الألفي نفسه، وأما البرديسي فكان أكثر صراحة في معارضته لاتفاق يقضي بسيادة الألفي على البكوات وسائر المماليك، فتساءل عما يريده منه الألفي وهو الذي صار سيدًا لجميع المماليك وصار «أبوا» المماليك إبراهيم بك الكبير وعثمان حسن وهما موضع احترام عظيم من رعايا الألفي الخاضعين الخاشعين، مثلهم في ذلك مثل البرديسي نفسه، ثم أظهر دهشته من أمر واحد فقط هو أن يعمد الباب العالي إلى إبلاغ البكوات مطالبه منهم على يد آخر عبد من عبيده بدلًا من أن يبعث بها إليهم على ضابط من ضباطه، ويقصد البرديسي بذلك أنه كان يجدر بالباب أن يبلغ رغبته في تقرير الوضع الجديد الذي يبتغيه إلى البكوات مباشرة بدلًا من الاتفاق على حدة مع الألفي، ويدون الشيخ الجبرتي ما دار من أحاديث بين سليمان أغا وبين البرديسي وإبراهيم بك فيذكر أن البرديسي أجاب سليمان أغا بقوله: حيث إن الألفي بلغ من قدره أنه يخاطب الدول والقرانات (أي والعظيمة منها)، ويراسلهم ويتمم أغراضه منهم، ويولي الوزراء ويعزلهم بمراده (إشارة إلى عزل محمد علي وتولية موسى باشا)، ويتعين قبودان باشا في حاجته، فهو يقوم بدفع المبلغ بتمامه؛ لأنه صار الآن هو الكبير ونحن الجميع أتباع له وطوائف خلفه بما فيه والدنا وكبيرنا إبراهيم بك وعثمان بك حسن وخلافه، فقال سليمان أغا: إن الألفي على كل حال واحد منهم وأخوهم، ثم اختلى مع إبراهيم بك، وتكلم معه فكان جوابه: أنا أرضى بدخولي أي بيت كان، وأعيش ما بقي من عمري مع عيالي وأولادي تحت إمارة أي من كان من عشيرتنا أولى من هذا الشتات الذي نحن فيه، ولكن كيف أفعل في الرفيق المخالف (ويقصد بذلك البرديسي)، وهذا الذي يحصل لنا كله لسوء تدبيره ونحسه، وعشت أنا ومراد بك المدة الطويلة بعد موت أستاذنا محمد بك أبي الذهب وأنا أتغاضى عن أفعاله وأفعال أتباعه وأسامحهم في زلاتهم، كل ذلك حذرًا وخوفًا من وقوع الشر والقتل والعداوة إلى أن مات مراد بك وخلفه هؤلاء الجماعة المجانين، وترأس البرديسي عليهم مع غياب أخيه الألفي، وداخله الغرور، وركن إلى غير أبناء جنسه (يقصد محمد علي والأرنئود) وصادقهم، واغتر بهم، وقطع رحمه، وفعل بالألفي الذي هو خشداشه وأخوه ما فعل، ولا يستمع لنصح ناصح أولًا وآخرًا.
ولما كان ذلك هو رأي إبراهيم في البرديسي، فقد استطاع سليمان أغا بعد مفاوضة مع البكوات استطالت أيامًا أن يتفق مع إبراهيم بك على دفع نصف المصلحة ويقوم الألفي بالنصف الآخر، ولكن البكوات رفضوا أن يدفعوا شيئًا قبل أن يرجع سليمان أغا إلى الألفي ويطيب خاطره على ذلك؛ لئلا يقبضه ثم يطالبهم بغيره، فعاد أدراجه، وقابل الألفي مرة أخرى، ولكن هذا أصر هو أيضًا على عدم دفع شيء حتى يدفع بكوات الصعيد ثلثي المبلغ أو نصفه الذي سمح به — كما قال — والدنا إبراهيم بك، ثم انبرى يدحض حجج البكوات ودعاواهم أنه يريد السيطرة عليهم، ويدلل على تغاضيه هو عن فعالهم معه ومحاولة البرديسي الفتك به عقب عودته من سفارته في لندن، ويبين أن الأولى ببكوات الصعيد الاتحاد معه لاستخلاص البلاد من قبضة محمد علي والأرنئود، فجاء في كلامه: «أما قولهم: إني أكون أميرًا عليهم فهذا لا يتصور، ولا يصح أن أتعاظم على مثل والدي إبراهيم بك وعثمان بك حسن ولا على من هو في طبقتي من خشداشين، على أن هذا لا يعيبهم ولا ينقص مقدارهم بأن يكون المتأمر عليهم واحدًا منهم ومن جنسهم، وذلك أمر لا يخطر لي ببال، وأرضى بأدنى من ذلك: ويأخذوا عليَّ عهدًا بما أشترطه على نفسي أننا إذا عدنا إلى أوطاننا أن لا أداخلهم في شيء ولا أقارشهم في أمر، وأن يكون كبيرنا والدنا إبراهيم بك على عادته، ويسمحوا ليس بإقامتي بالجيزة، ولا أعارضهم في شيء، وأقنع بإيرادي الذي كان بيدي سابقًا (ومن المعروف أن الألفي قبل مجيء الحملة الفرنسية كان ملتزمًا بإقطاع فرشوط وغيرها من البلاد القبلية ومن البلاد البحرية محلة دمنة ومليج وزوبر وغيرها ومتقلد الكشوفية شرقية بلبيس) فإنه يكفيني.
وإن اعتقدوا غدري لهم في المستقبل بسبب ما فعلوه معي من قتلهم حسين بك الوشاش تابعي وتعصبهم وحرصهم على قتلي وإعدامي أنا وأتباعي، فبعض ما نحن فيه الآن أنساني ذلك كله، فإن حسين بك المذكور مملوكي وليس هو أبي ولا ابني من صلبي، وإنما هو مملوكي اشتريته بالدراهم وأشتري غيره، ومملوكي مملوكهم، وقد قُتل لي عدة أمراء ومماليك في الحروب فأفرضه من جملتهم، ولا يصيبني ويصيبهم إلا ما قدره الله علينا وعليَّ.
إن الذي فعلوه بي لم يكن لسابق ذنب ولا جرم حصل مني في حقهم، بل كنا جميعًا إخوانًا، وتذكروا إشارتي عليهم السابقة في الالتجاء إلى الإنجليز، وندموا على مخالفتي بعد الذي وقع عليهم (ويشير الألفي هنا إلى مكيدة الصدر الأعظم والقبطان باشا في أكتوبر ١٨٠١) ورجعوا إليَّ ثم أجمع رأيهم على سفري إلى بلاد الإنجليز فامتثلت ذلك، وتجشمت المشاق، وخاطرت بنفسي، وسافرت إلى بلاد الإنجلترة، وقاسيت أهوال البحار سنة وأشهرًا، كل ذلك لأجل راحتي وراحتهم، وحصل ما حصل في غيابي، ودخلوا مصر (أي القاهرة) من غير قياس، وبنوا قصورهم على غير أساس، واطمأنوا إلى عدوهم (أي محمد علي)، وتعاونوا معه على هلاك صديقهم، وبعد أن قضى غرضه منهم غدرهم وأحاط بهم وأخرجهم وأهانهم وشردهم، واحتال عليهم ثانيًا يوم قطع الخليج (ويقصد الألفي هنا مكيدة ١٦ أغسطس ١٨٠٥) فراجت حيلته عليهم أيضًا، وأرسلت إليهم ونصحتهم فاستغشوني وخالفوني، ودخل الكثير منهم البلد، وانحصروا في أزقتها، وجرى عليهم ما جرى من القتل الشنيع والأمر الفظيع، ولم ينجُ منهم إلا من تخلف منهم أو ذهب من غير الطريق، ثم إنه الآن أيضًا يراسلهم ويداهنهم ويهاديهم ويصافحهم ويثبطهم عما فيه النجاح لهم، وما أظن أن الغفلة استحكمت فيهم إلى هذا الحد.
وطلب الألفي من سليمان أغا أن يعيد الكَرَّة عليهم، وأن يذكرهم بما سبق لهم من الوقائع، فلعلهم — كما قال — ينتبهوا من سكرتهم، ويرسلوا مع سليمان أغا الثلثين أو النصف الذي سمح به والدنا إبراهيم بك.» وكان في رأي الألفي أن هذا القدر ليس فيه كبير مشقة؛ فإنهم إذا وزعوا على كل أمير عشرة أكياس وعلى كل كاشف خمسة أكياس، وكل جندي أو مملوك كيسًا واحدًا اجتمع المبلغ وزيادة، وقال: إنه سوف يفعل ذلك مع قومه، وإنه والحمد لله ليسوا هم ولا نحن مفاليس، وثمرة المال قضاء مصالح الدنيا، وما نحن فيه الآن من أهم المصالح، وقل لهم مخاطبًا سليمان أغا البدار قبل فوات الفرصة، والخصم ليس بغافل ولا مهمل، والعثمانيون عبيد الدرهم والدينار.
وذلك مقال طيب، يلاحظ فيه قوة السبك وصفاء التفكير، ويدل على ما كان يتمتع به الألفي من دهاء وحنكة في أساليب المراوغة والسياسة، ولكنه كان من المتعذر على بكوات الصعيد لا سيما عثمان البرديسي تصديق دعواه أن الاستئثار بالسلطة أمر لم يخطر له على بال أو تعهده بأن لا يداخلهم في شيء ولا يقارشهم وتنازله عن كل تلك الميزات التي ضمنها له الاتفاق بين كتخداه والديوان العثماني، وكانوا لا يثقون في أية وعود يقطعها على نفسه، وقد ظهر مصداق ذلك كله عندما رجع سليمان أغا إلى البكوات بجواب الألفي.
فقد كان البرديسي في هذه المرة أكثر هدوءًا وصبرًا مما مضى، ولكنه في الوقت نفسه كان لا يزال على رأيه السابق، يزيده تمسكًا به ما كان قد وصله من رسائل من الوكيل الفرنسي «دروفتي» يؤكد له فيها عدم تخلي فرنسا عن مؤازرته، وكان «دروفتي» قد بدأ يبعث برسائله إلى البرديسي منذ ذيوع خبر عفو الباب العالي عن البكوات وموافقته على إرجاع سيطرتهم القديمة إليهم، ثم مجيء القبطان باشا لتأسيس الوضع الجديد، وكانت قد وصلت البرديسي رسائل جديدة من «دروفتي» قبل رجوع سليمان أغا، فزادته وعود الوكيل الفرنسي تمسكًا بموقفه في عناد وصلابة، أضف إلى هذا أن محمد علي الذي ظل يرقب هذه المفاوضات بيقظة وانتباه كبيرين، حرص على بقاء علاقاته مع بكوات الصعيد، يمنيهم بالوعود الكاذبة، ويرسل إليهم الهدايا وخيولًا وسروجًا وأقمشة، فغرهم الخصم — على حد قول الشيخ الجبرتي — بتمويهاته، واستطاع البرديسي جذب إبراهيم بك إلى رأيه.
وعلى ذلك، فقد كان جواب البرديسي على كلام الألفي أنه لا يثق في وعوده؛ لأنه لا يبغي سوى رعاية صالح نفسه وخدمة مصالح الإنجليز، ويطمع في فرض سلطانه على البكوات، ولن يخضع له هؤلاء بحال من الأحوال، ورفض البرديسي وسائر زملائه دفع شيء من المبلغ، وفي ذلك يقول الشيخ الجبرتي: «إن سليمان أغا عند رجوعه إلى الصعيد وجد الجماعة أصروا على عدو دفع شيء، ورجع إبراهيم أيضًا إلى قولهم ورأيهم، وما إن ردد سليمان أغا على أسماعهم كلام الألفي أنه يكون تحت أمرهم ونهيهم، ويرضى بأدنى المعاش معهم، ويسكن الجيزة إلى آخر ما قال، قالوا: هذا والله كله كلام لا أصل له، ولا ينسى الألفي ثأره وما فعلناه في حقه وحق أتباعه، وقد كنا في غيبته لا نطيق عفريتًا من عفاريته، فكيف يكون هو وعفاريته الجميع ومن ينشئه خلافهم، وداخلهم الحقد، وزاد في وساوسهم الشيطان، وأمام هذا العناء والإصرار على دفع شيء من المبلغ لا ثلثاه ولا نصفه، وفشل سليمان أغا في مهمته تبعًا لذلك، وهو الذي كان قد كفل محمد أغا كتخدا الألفي في القسطنطينية، وأخذ على عاقته مسئولية تحصيل المبلغ، لم يجد مناصًا من أن يرمي بآخر سهم في جعبته تفتق عنه ذهنه، فأشار على البكوات أن يقضوا شغلهم في هذا الحين حتى تنجلي عنهم الأعداء الأغراب ثم يقتلوا الألفي بعد ذلك ويستريحوا منه، ولكن حتى هذه النصيحة لم تلقَ قبولًا لدى البكوات الذين قالوا: هيهات! بعد أن يظهر علينا فإنه يقتلنا واحدًا بعد واحد، ويخرجنا إلى البلاد، ثم يرسل يقتلنا، وهو بعيد المكر فلا نأمن إليه مطلقًا. ولم يفقد سليمان أغا كل أمل في الخروج من هذا المأزق، فجدد مسعاه لدى إبراهيم بك وعثمان بك حسن، وكان بعد لأْي وعناء أن ظفر منهما بوعد بدفع نصيبهما من المبلغ، ولكنهما حددا لذلك أجلًا بعيدًا، واكتفيا بالموافقة على إرسال ستة من بكواتهم من مائتي مملوك لنجدة الألفي، وتيقن سليمان أغا من فشل مهمته ورجوعه بخفي حنين، فغادر البكوات محزونًا مهمومًا متحيرًا فيما وقع فيه من الورطة لكسوف البال مع القبودان ووزير الدولة (أي محمد باشا السلحدار الصدر الأعظم) وكيف يكون جوابه للمذكور.
وفي ٩ سبتمبر مر سليمان أغا في طريق عودته إلى الإسكندرية من ناحية الجيزة … وصحبته هدايا من طرف البكوات إلى القبودان وفيها خيول وعبيد وطواشية وسكر، وذاع الخبر في القاهرة أن البكوات لم يجيبوا إلى الحضور لممانعة عثمان بك البرديسي وحقده الكامن للألفي، ولكون هذه الحركة وهي مجيء القبودان وموسى باشا باجتهاده وسفارته وتدبيره، وحنق القبطان باشا على البكوات وعلى سليمان أغا عندما أبلغه هذا الأخير نتيجة مسعاه معهم، وأنهم لا راحة عندهم، وامتنعوا من الدفع ومن الحضور وأن الألفي يقوم بدفع القدر الذي يقدر عليه والذي يبقى ويتجمع عليه يقوم سليمان أغا بدفعه، فكان جواب القبطان على هذا الحل الذي رأى فيه سليمان أغا إبراء لذمته، ووسيلة يتفادى بها نقمة صالح باشا عليه، أنت تضحك على ذقني وذقن وزير الدولة، وقد تحركنا هذه الحركة على ظن أن الجماعة على قلب واحد، وإذا حصل من المالك للبلدة (أي محمد علي) عصيان ومخالفة، ولم يكن فيهم مكافأة لمقاومته ساعدناهم بجيش من النظام الجديد وغيره، وحيث إنهم متنافرون ومتحاسدون ومتباغضون فلا خير فيهم، وصاحبك هذا (أي الألفي) لا يكفي في المقاومة وحده ويحتاج إلى كثير المعاونة وهي لا تكون إلا بكثرة المصاريف، ومن العبث والجنون تأييد قضية قد تخلى عنها أصحابها، ولما كان سليمان أغا قد صار يخشى من أن يفتك به القبطان باشا فقد غادر الإسكندرية، ولجأ إلى الألفي.
بيد أنه في الوقت الذي كان فيه سليمان أغا يجري مفاوضاته الفاشلة مع الألفي والبكوات، كان القبطان بسبيل الاتفاق مع محمد علي وإنهاء النزاع القائم في مصلحة هذا الأخير، والتخلي عن قضية الألفي والبكوات تمامًا، ومردُّ ذلك إلى الجهود الموفقة التي بذلها محمد علي في القسطنطينية، ومع القبطان باشا نفسه، ثم تضجر هذا وتململه من مماطلة الألفي وزملائه ونفاد صبره، وحرصه على الانحياز إلى الكفة التي اقتنع بأنها الراجحة، وبخاصة عندما ألقى «دروفتي» في روعه أنه من المتعذر الاعتماد على الألفي في اجتياز هذه الأزمة بسبب ضعف خلقه وعجزه، وعظم تشاؤم القبطان من قضيته.»
فقد تقدم كيف أرسل محمد علي إلى القسطنطينية مبلغ الألفي كيس الذي جمعه من رؤساء الأرنئود مع العريضة التي كتبها المشايخ (١١ يوليو ١٨٠٦) وأرسلت منها صورة إلى الديوان العثماني وأخرى إلى القبطان باشا، وحرص على تكريم مندوبي هذا الأخير كلما حضروا إلى القاهرة، وحملهم بالهدايا الثمينة إليه كلما غادروها، وقد دأب على فعل ذلك دون انقطاع خلال الأزمة حتى كسب الأنصار في القسطنطينية والإسكندرية، واستند إلى جانب ذلك على رغبة الشعب في بقائه في الولاية، وهي الرغبة التي أفصحوا عنها في عرائض مشايخهم ورؤسائهم، ولم تفتر مساعي وكلائه لدى الديوان العثماني لحظة واحدة، فذكر «مسيت» للوزير «وندهام» في ٨ سبتمبر أن الباشا أرسل أخيرًا مبلغًا كبيرًا من المال إلى القسطنطينية لكسب أنصار له في الديوان العثماني، ثم عاد يقول في ١٠ سبتمبر: إنه إذا أحدثت الأموال التي بعث بها محمد علي إلى القسطنطينية تغييرًا هناك في صالحه، فإن العرائض التي كتبها المشايخ سوف تتخذ سندًا لتبريره، وقد استطرد «مسيت» يقول: وفي الحقيقة ينتظر محمد علي أن يصله قريبًا فرمان بتثبيت ولايته، حتى إني طلبت من وكيلي بالقاهرة من أيام قليلة مضت إبلاغي بذلك عند حدوثه.
وكان «مسيت» وقت كتابته رسالته هذه على حق في توقيع مجيء فرمان بتثبيت محمد علي في ولايته؛ ذلك أنه لما كان القبطان باشا قد جعل في الإبرة خيطين — على حد تعبير الشيخ الجبرتي — ليتبع الأروج وعرض الباشا استعداده لشراء موافقة السلطان بدفع إعانات مالية جسيمة والمداومة على إرسال الهدايا إلى القبطان باشا، ورجع سليمان أغا من الصعيد بخفي حنين — كما سبق ذكره — وظهر عجز الألفي في حصار دمنهور، وشاهد النجدات من الجند الذين أغراهم — كما قال «مسيت» — توقع الظفر بأسلاب وغنائم كثيرة تتدفق على مصر في خدمة محمد علي، فإن القبطان باشا لم يلبث أن بعث يطلب تعليمات جديدة من القسطنطينية، وكان معنى ذلك أنه قد تحول نهائيًّا في صالح محمد علي، ولقد تضافرت عوامل عدة لضمان نجاح مسعى وكلاء الباشا في القسطنطينية إلى جانب سلاح الرشوة، الوسيلة التي عرف محمد علي دائمًا أنها كفيلة بجذب وزراء الباب العالي وشراء تأييدهم لقضيته، فكان من أهم هذه العوامل تأزم الموقف في القسطنطينية ذاتها خلال شهري أغسطس وسبتمبر ١٨٠٦ — على نحو ما سبق توضيحه — وذلك عندما تكدرت العلاقات بين تركيا وروسيا، ولم تفلح جهود «أربثنوت» السفير الإنجليزي في إزالة أسباب الجفاء بينهما، وبدأت تتفاقم الأزمة تدريجًا حتى إن الصدر الأعظم — كما ذكر «مسيت» في ١٨ سبتمبر — بعث يدعو القبطان باشا بالعودة إلى العاصمة لضرورة وجوده بها، أضف إلى هذا أن نفوذ فرنسا قد أخذ يعلو وقتئذٍ في القسطنطينية، منذ أن وصل إليها السفير الفرنسي الجديد «سباستياني» في ١٠ أغسطس.
وكان واضحًا أن ترتيبًا أو اتفاقًا يضع السلطة الفعلية في يد الألفي صديق الإنجليز وحليفهم إنما يخدم مصالح هؤلاء وحدهم، ويتنافى مع صالح الدولة العثمانية ذاتها في الظروف القائمة، زد على ذلك أن امتناع البكوات عن تنفيذ ما التزموا به في هذا الاتفاق قد أعطى الباب العالي مسوغًا لتخليه هو أيضًا عن الالتزامات التي ارتبط بها، وحيث إنه قد تبين عجز القبطان باشا عن تنحية محمد علي عن الولاية بالطرق السلمية، وانتفى أي أمل في قيام عمليات عسكرية بالاتحاد بين القبطان والمماليك ضده لتفرق كلمة البكوات وتنافرهم وتحاسدهم وتباغضهم، وصار لذلك لا مَعْدَى عن اللجوء إلى القوة وإرسال النجدات الكبيرة إلى القبطان باشا إذا شاء الباب العالي أن يخرج محمد علي والأرنئود من مصر، وهو ما لا يستطيع في ظروفه الراهنة فعله، فقد قر رأي الديوان العثماني لذلك كله على اتباع مألوف عادته والتسليم بالأمر الواقع، وقد وجد الباب العالي في العرائض التي بعث بها المشايخ يبدون فيها تمسكهم بحكومة محمد علي وتفضيلها على حكومة المماليك المزمعة وسيلة يستطيع بها تغطية موقفه وذريعة لرجوعه في قراره السابق وسندًا يستند إليه في فسخ اتفاقه مع البكوات المماليك.
وعلى ذلك، فقد أصدر الباب العالي تعليماته إلى القبطان باشا أنه وقد صار الباب الآن أكثر تنورًا عن ذي قبل بشأن حقيقة الموقف في مصر، فقد ترك للقبطان مطلق الحرية في تعديل تعليماته الأولى بالصورة التي تكفل في رأيه إنهاء الخلافات التي أنهكت البلاد، واستنفدت قواها، ومعنى هذا أن الباب العالي قد خوله الاتفاق مع محمد علي على أساس تقريره في الولاية، فبدأت من ثم المفاوضات جديًّا بين محمد علي والقبطان باشا، واشترط الأخير لبقاء محمد علي في الولاية مؤقتًا وحتى يأتيه قرار التثبيت من القسطنطينية شروطًا ثلاثة: أولها أن يكتب المشايخ عريضة جديدة يؤيدون فيها مطلبهم الذي ذكروه في عريضتيهم السابقتين في ١١، ١٤ يوليو ١٨٠٦ وهو بقاء محمد علي في الحكم، حتى يبعث بها إلى الديوان العثماني، وكان الغرض من هذا الاشتراط أن يكون قرار تثبيت محمد علي في ولايته منبعثًا في ظاهر الأمر عن استجابة السلطان العثماني لرغبات رعاياه فيبدو التسليم حينئذٍ عملًا إراديًّا هدفه توفير السعادة والرفاهية للشعب بتحقيق مطلبه الذي أفصح عنه أعيانه ومشايخه، وأما ثاني الشروط فهو أن يدفع محمد علي أربعة آلاف كيس نظير تثبيت السلطان له في الولاية، وثالثها أن يبقى ولده إبراهيم رهينة في القسطنطينية حتى يتم دفع المبلغ.
وفي ٣ سبتمبر وصل الأفندي المكتوبجي من طرف القبودان إلى بولاق، وفي اليوم التالي اجتمع بالباشا، وحضر الاجتماع أحمد أفندي الدفتردار وسعيد أغا كتخدا البوابين ممثلا الباب العالي في القاهرة، ووافق الباشا على شروط القبطان، وكتب الشيخ الجبرتي تعليقًا على الاتفاق الذي تم عندما ذاع خبره في ٩ سبتمبر يقول: «وفيه ظهرت فحوى النتيجة القياسية وانعكاس القضية على الألفي والبكوات، وهو أن القبودان ما لم يجد في المصرلية الإسعاف وتحقق ما هم عليه من التنافر والخلاف، وتكررت بينه وبين الفريقين المراسلات والمكاتبات، فعند ذلك استأنف مع محمد علي باشا المصادقة، وعلم أن الأروج له معه الموافقة، فأرسل إليه المكتوبجي، واستوثق منه، والتزم له محمد علي بأضعاف ما وعد به القبطان من الكذابين (أي الألفي والبكوات) معجلًا ومؤجلًا على ممر السنين، والالتزام بجميع المأموريات والعدول عن المخالفات، فوقع الاتفاق على قدر معلوم، وأرسل القبودان إلى محمد علي باشا يأمره بكتابة عرضحال خلاف الأولين، ويرسله صحبة ولده إلى القسطنطينية على يد القبودان.» ثم استطرد الشيخ يقول: «فعند ذلك لخصوا عرضحال، وختم عليه الأشياخ والاختيارية والوجاقلية، وأرسله صحبة ابنه إبراهيم بك، وأصحب معه هدية حافلة وخيولًا وأقمشة هندية وغير ذلك.»
ولقد كان كافيًا أن يبدي الباشا رغبته في كتابة هذا العرضحال حتى يستجيب لها المشايخ والاختيارية والوجاقلية، ونقل الشيخ الجبرتي مضمون العرضحال وملخصه على النحو الآتي:
«إن محمد علي باشا كافل الإقليم وحافظ ثغوره ومؤمِّن سبله وقامع المعتدين، وإن الكافة من الخاصة والعامة والرعية راضية بولايته وأحكامه وعدله، والشريعة مقامة في أيامه، ولا يرتضون خلافه لما رأوا فيه من عدم الظلم والرفق بالضعفاء، وأهل القرى والأرياف وعمارها بأهلها ورجوع الشاردين منها في أيام المماليك المصرية المعتدين الذين كانوا يعتدون عليهم ويسلبون أموالهم ومزارعهم ويكلفونهم بأخذ الفرض والكلف الخارجة عن الحد، وأما الآن فجميع أهل القطر المصري آمنون مطمئنون بولاية هذا الوزير، ويرجون من مراحم الدولة العلية أن يبقيه واليًا عليهم، ولا يعزله عنهم، لما تحققوه فيه من العدل وإنصاف المظلومين وإيصال الحقوق لأربابها وقمع المفسدين من العربان الذين كانوا يقطعون الطرقات على المسافرين، ويتعدون على أهل القرى، ويأخذون مواشيهم وزرعهم، ويقتلون من يعصي عليهم منهم، وأما الآن فلم يكن شيء من ذلك، وجميع أهل البلاد في غاية من الراحة والأمن برًّا وبحرًا بحسن سياسته وعدله، وامتثاله للأحكام الشرعية، ومحبته للعلماء وأهل الفضائل والإذعان لقولهم ونصحهم.»
ويسترعي النظر في هذا المضمون والملخص ورود عبارات معينة كالقول بأن جميع أهل البلاد في غاية من الراحة والأمن، أو ذكر محبته للعلماء وأهل الفضائل والإذعان لقولهم ونصحهم، مما قد يوحي بأن القاهريين قد تدخلوا في أزمة النقل إلى سالونيك، على غرار ما فعلوا في أزمة انقلاب مايو ١٨٠٥ السابقة، أو أن مشايخهم ورؤساءهم كان لهم رأي وقول فيها كما كان الحال عند المناداة بولاية محمد علي، ومما قد يوحي بأن الباشا ملتزم بذلك العهد الذي قطعه على نفسه في العام الماضي من حيث استشارة المشايخ والرؤساء القاهريين، أو أنه صار يذعن حقًّا لقولهم ونصحهم، فقد دلت الحوادث في الفترة القصيرة التي انقضت من وقت اعتلائه الحكم إلى حين بدء هذه الأزمة وخلالها، على أن المشايخ وعمر مكرم وغيره من سائر المتصدرين كانوا أدوات طيعة في يد محمد علي؛ للأسباب التي سبق ذكرها في موضعها، فكانوا هم الذين أذعنوا دائمًا لقوله هو ونصحه، ولقد كان كذلك من المغالاة وصف أهل القطر المصري ومن بينهم القاهريون بأنهم آمنوا جميعًا بولاية محمد علي، أو القول بأن جميع أهل البلاد في غاية من الراحة والأمن، فقد اشترك القاهريون في انقلاب مايو ١٨٠٥ على أمل أن يتحرروا من المظالم والمغارم والفرض والإتاوات، ورجاء أن ينقطع إيذاء الأجناد لهم، وتقف اعتداءاتهم عليهم، ولكن شيئًا من هذين الأمرين لم يحدث، زد على ذلك أن هياج الخواطر في القاهرة كان عظيمًا أثناء هذه الأزمة بسب اندساس عملاء الألفي والقبطان وجواسيسهما خصوصًا بين القاهريين، حتى إن الباشا خشي من وقوع الثورة، فكان هناك معارضون لحكمه، وظل لفيف من القاهريين لا سيما التجار وأهل الحرف الذين شكوا من كساد التجارة وتعذر عليهم التعامل مع البكوات ومماليكهم بسبب الرقابة الصارمة التي فرضها الباشا على هذا النوع من النشاط، ثم أنُّوا من السلف والإتاوات المحصلة منهم، ظلوا يعطفون على البكوات بالرغم من سوء حكومة هؤلاء لهم، أو يتوقون لعود حكم الفرنسيين، أو يطلبون حكم إحدى الدول الأجنبية الكبيرة الأخرى (إنجلترة) ثم إن ذلك لم يقتصر على القاهريين وحدهم بل شمل غيرهم في رشيد ودسوق وفوة وغيرها.
ولقد نقم كذلك على حكومة محمد علي كثيرون من المشايخ وأهل الفضائل الذين لم يكونوا من بين المتصدرين، وخير من يمثل هؤلاء الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الذي لم يؤمن مطمئنًّا بولاية هذا الوزير، وأحزنه أن البكوات الذين اعتبرهم مصريين ومن أهل البلاد وأصحاب حق لذلك في تولي الحكم بدلًا من الأرنئود وزعيمهم لم ينتفعوا من التجارب القاسية التي مرت بهم، بل ظلوا سادرين في غيهم وعاجزين عن توحيد صفوفهم وجمع كلمتهم حتى خسروا الملك، ونقم على زملائه المشايخ المتصدرين (مشايخ الوقت) — كما قال عنهم — الذين سلموا قيادهم لمحمد علي، ولم يصدق شيئًا مما وعد به هذا، وقطعه مرات كثيرة على نفسه، من حيث طلب الرأي والمشورة من المشايخ، وحاسب هؤلاء بينه وبين نفسه، كما حاسب محمد علي حسابًا عسيرًا على فعالهم وتمويهاتهم ولم يسعه وهو يسجل مضمون العرضحال الأخير إلا أن يكتب ونحو ذلك من الكلمات التي عنها يسألون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون.
على أن الشيخ الجبرتي وغيره من المتذمرين المتضجرين لم يجرءوا على إعلان سخطهم على حكومة محمد علي عندما جذب الباشا إليه المتصدرين من المشايخ ورؤساء الشعب، فبقيت معارضتهم — إذا اعتبر مجرد الشعور بالسخط وعدم إظهاره وإعلانه معارضة — صامتة ومكبوتة، وقد كان عرفان الباشا بوجودها من أسباب إحكام الرقابة على القاهرة وخروجه للطواف في أنحائها متنكرًا تارة وتحيط به مظاهر القوة وسط عساكره تارة أخرى طوال أزمة النقل إلى سالونيك.
ومما يؤيد أن الباشا كان يخشى من هذه المعارضة الصامتة والمكبوتة أنه أجاز لبعض الأفراد المتصدرين فحسب الاطلاع على العرضحال الأخير وقراءته عند مطالبتهم بالتوقيع عليه، وسمح لهؤلاء القلائل بأن يوقعوا هم أنفسهم بأسمائهم، وأما سائر المشايخ والأعيان فكان يطلب من كل منهم خاتمه للختم به تحت اسمه الذي سبق تدوينه ودون أن يسمح له بقراءة العرضحال، ولم يجرؤ واحد من هؤلاء على الامتناع، اللهم إلا حفنة قليلة من المتمسكين بالورع والتقوى، وعندئذٍ يعمد المشرفون على جمع التوقيعات — وهم من المشايخ المتصدرين كذلك — إلى استخدام خاتم من عندهم يختمون به، ويبدو أن الشيخ الجبرتي نفسه كان أحد هؤلاء، وقد سجل الشيخ ما حدث فقال: «ولما كتبوا ذلك (أي العرضحال) لم يطلع عليه إلا بعض الأفراد المتصدرين، ويكتب كاتبه جميع الأسماء تحته بخطه، ولا يملكون البواقي الذين يضعون إمضاءهم وأسماءهم من قراءته، بل يطلب منهم الخاتم فيختمون به تحت اسمه، إذ لا يمكنه الشذوذ والمخالفة لحرصه على دوام ناموسه وقبوله عند سلطانه ودائرة أهل دولته، وإن كان متورعًا وليس كبير صورة فيهم ولا صدارة مثلهم وأبى أن يسلم خاتمه ليفعل به كغيره ختموه بخاتم موافق لاسمه تحت إمضائه، وهذا هو السبب في عدم نقلي هذه الصورة، بل فهمت المضمون فقط، وبالله التوفيق.»
وعلى كل حال فقد أدى هذا العرضحال الغاية المقصودة منه، سافر به يوم ١٩ سبتمبر إبراهيم بن محمد علي إلى الإسكندرية ومعه الهدايا الثمينة من حرائر الهند والخيول المسرجة وما إلى ذلك، وسافر صحبته محمد أغا لاظ، وأوفد القبطان باشا كتخداه إلى القاهرة يحمل قراره وهو كما سجل المعاصرون والشيخ الجبرتي مضمونه بقاء محمد علي باشا واستمراره على ولاية مصر؛ حيث إن الخاصة والعامة راضية بأحكامه وعدله بشهادة العلماء وأشراف الناس، وقبلنا رجاءهم وشهادتهم، وأنه يقوم بالشروط التي منها طلوع الحج ولوازم الحرمين وإيصال العلائف والغلال لأربابها على النمط القديم، وليس له تعلق بثغر رشيد ولا دمياط ولا الإسكندرية، فإنه يكون إيرادها من الجمارك يضبط إلى الترسخانة السلطانية بإسلامبول، ومن الشروط أيضًا أن يرضي خواطر الأمراء المصريين، ويمتنع من محاربتهم، ويعطيهم جهات يعيشون بها. وكان تعليق الشيخ الجبرتي على هذه الشروط أنها من قبيل تحليل البضاعة.
وفي ٣٠ سبتمبر كتب «أربثنوت» إلى حكومته من القسطنطينية أنه قد بلغه في اليوم السابق أن الباب العالي أعاد تعيين محمد علي واليًا على مصر ثم علق على ذلك بقوله: إن البكوات يعتبرون لذلك من الآن فصاعدًا عصاة وثوارًا على الباب العالي، ولا يعتقد أن البكوات سوف يستردون الأموال التي دفعوها من شهور مضت إلى الباب العالي وأنه كان من حسن الحظ أن السفير لم يقم بالوساطة بينه وبين البكوات.
وهكذا اجتاز محمد علي بنجاح هذه الأزمة التي هددت بزوال باشويته، وتلفت طبخة الألفي والتدابير ولم تسعفه المقادير.
(٤) خصومة الألفي
بيد أن الترتيب الأخير الذي أقر محمد علي على الولاية، كان يتضمن أمرين يستلفتان النظر: استمرار الإسكندرية منفصلة في شئونها عن باشوية محمد علي، وخضوعها في إدارتها لإشراف الباب العالي رأسًا، ثم ضبط إيرادات جمركها وجمركي رشيد ودمياط لحساب القسطنطينية؛ أي بقاء الإشراف على أهم شئون الإدارة بهذين الميناءين الأخيرين كذلك في يد الباب العالي، ومعنى ذلك أن الديوان العثماني يريد الاحتفاظ بالمواقع ولا سيما أن الإسكندرية التي ذكرنا أنها كانت بمثابة الحلقات التي تشد الباشوية المصرية بمقر السلطنة، كما كان معناه أن الباب العالي كان مكرهًا على التسليم بالأمر الواقع ولا يثق في محمد علي، ومن المتوقع إذا سنحت الفرصة مرة أخرى أن يحاول نقله من ولايته، وأما الأمر الثاني فهو مطالبة محمد علي بعدم التعرض للبكوات المماليك، وعدم محاربتهم والعمل على توفير أسباب الراحة لهم، ومردُّ ذلك إلى شيئين: أولهما رغبة الباب العالي في وقف المنازعات الداخلية في مصر حتى تتفرغ البلاد لمواجهة خطر الغزو الأجنبي إذا حدث، وذلك في وقت كان يشتد فيه تأزم العلاقات بين تركيا وروسيا، ومن المتوقع إذا أعلنت الحرب بينهما أن تنضم إنجلترة إلى جانب الأخيرة، وهي حليفتها ضد تركيا، وثانيهما أن الباب العالي الذي أكره على التسليم بالأمر الواقع، وكان لا يزال يمني النفس بإخراج محمد علي من الولاية ما كان يريد في ظرفه الراهن أن يقضي على كل أمل لدى البكوات في إمكان استرجاع سيطرتهم المفقودة.
وقد أوضح «مسيت» ما فهمه من التوصية بهم التي وردت في فرمان تثبيت الولاية لمحمد علي بما يؤيد هذا المعنى، فكتب إلى «وندهام» في ٧ أكتوبر سنة ١٨٠٦ أن الططر قد وصلوا يوم ٥ أكتوبر يحملون إخطارًا رسميًّا بتثبيت محمد علي باشا في حكومة مصر، ومع ذلك فإن المماليك ليسوا معتبرين عصاة في نظر الديوان العثماني (وفي هذا الرأي يخالف «مسيت» ما ذهب إليه «أربثنوت» السفير الإنجليزي في القسطنطينية)، فقد أعطيت وخصصت لإقامتهم أقاليم معينة في الوجه القبلي، وقد ذكر «مسيت» في رسالة أخرى إلى «أربثنوت» في ١٣ أكتوبر أن هذه الأقاليم تشمل جزء الصعيد الواقع بين جرجا والشلالات (أي أسوان)، ثم إنه كان في رأي «مسيت» كما ذكره في رسالتيه السالفتي الذكر أن هذه الأقاليم كانت دائمًا في حوزة البكوات ولم يغزها بتاتًا جند محمد علي؛ ولذلك فهو يشك كثيرًا في أن يقبل المماليك هذا الترتيب وهم الذين يملكون ملكًا لا ينازعهم فيه أحد ليس هذه الأراضي التي يمنحها الباب العالي لهم فحسب، بل وكذلك جهات واسعة من الوجه البحري، ثم إنهم لما كانوا في عداء مستمر مع حكومة محمد علي فقد استطاعوا أن يعيشوا من النهب والسلب، ويحتفظوا بعدد كبير من العربان معهم، ومن المحتمل في هذه الظروف أن أقوامًا يعيشون لأنفسهم فقط ودون تفكير في المستقبل، لن يستطيعوا قصر آمالهم على إدارة هذه الأملاك المحدودة في هدوء، ويعتقد أن البكوات لن يرضخوا لهذا إلا إذا رأوا أن الخضوع يعطيهم الوقت الذي يمكنهم من تقوية أنفسهم بالدرجة التي تمكنهم من استعادة سيطرتهم السابقة.
وكان «مسيت» محقًّا فيما ذهب إليه على الأقل فيما يتعلق بالألفي، فمع أنه كان في وسع محمد علي أن يبطل نشاط بكوات الصعيد أثناء أزمته بفضل ما صار يلوح به أمام أعينهم من آمال في صلح قريب يسوي خلافاتهم معه ويأذن لهم بامتلاك ذلك الجزء من الصعيد الذي احتلت جنوده مراكزه الهامة في نواحي منفلوط وملوي والمنيا وغيرها، فقد كان الألفي أقوى شكيمة وأشد مراسًا منهم، ولا يزال واقفًا على حصار دمنهور ويغير أتباعه وعربانه على سائر جهات البحيرة والمنوفية والجيزة يسلبون وينهبون ويأخذون الكلف من الأهالي قسرًا وعنوة.
ولقد كانت خصومة الألفي دون خصومة سائر البكوات أخشى ما يخشاه محمد علي، ولم يكن إبحار القبطان صالح باشا إلى القسطنطينية معناه أن متاعب محمد علي قد انتهت أو أن الخطر الذي يهدد حكومته قد أزل كلية طالما بقيت خصومة الألفي له، وما دام الأخير قادرًا على قياس قوته بقوة الباشا وامتشاق الحسام ضده.
وكان مبعث الخطر من استمرار خصومة الألفي أن هذا كان أعظم البكوات إطلاقًا نشاطًا ومضاء عزيمة وقوة تدبير، وأكثرهم معرفة بمرامي السياسة وإدراك معنى ذلك الصراع الذي قام بين إنجلترة وفرنسا خصوصًا للاستئثار بالنفوذ الأعلى في مصر، فكان خير من عرف من البكوات كيف يفيد منه لمحاولة الاستعانة بآثاره على تمكين المماليك من إعادة تأسيس سلطانهم في مصر، وقد تضافرت عوامل عدة على أن يكون للألفي هذه القدرة، أهمها ما مر به من تجارب منذ أن جلبه بعض تجار الرقيق إلى مصر في عام ١٧٧٥، فقد طلب من أول سيد اشتراه أحمد جاويش — كان معروفًا بالمجنون أن يبيعه لاستيائه من عيشة المجون والسفه التي كان يعيشها هذا، فباعه لآخر سليم أغا الغزاوي الذي ما لبث أن أهداه إلى مراد بك نظير ألف إردب من الغلال كانت سببًا في تسميته بالألفي ثم أعتقه مراد بك وولاه كاشفًا بالشرقية، ثم رفع إلى الصنجقية عام ١٧٧٨ والتزم بإقطاع بلاد كثيرة في الوجهين: البحري والقبلي، وشهد في هذا العهد الفتن التي أثارها التنازع على السلطة بين إسماعيل بك رئيس البكوات وقتئذٍ وبين إبراهيم ومراد وتآمر هذين على الفتك بالأول، وانسحابهما إلى الصعيد بعد فشلهما، ثم انتصارهما أخيرًا عليه واضطرار إسماعيل إلى الخروج إلى الشام، وإقرار مشيخة البلد لإبراهيم بك (ديسمبر ١٧٨٨) كما شهد غدر مراد بك أستاذه بأحد البكوات من منافسيه (عبد الرحمن بك) وقتله، واشتداد الخصومة بين بكوات الصعيد: حسن بك ورضوان بك من ناحية، وبين إبراهيم ومراد (١٧٨٠–١٧٨٣) من ناحية أخرى، وقيام الأزهر بثورة أغلقت بسببها الجوامع وصار المجاورون يخطفون ما يجدونه في الأسواق بسبب قطع رواتبهم يوليو ١٧٨٤، ثم شهد حضور حسن باشا الجزائرلي في دوننما عثمانية وجيش عثماني لردع البكوات وإلزامهم حدهم بعد أن سلبوا الباشوات الذين ولوا الحكم على مصر كل سلطة، وقد ذهب الألفي وقتئذٍ مع عشيرته إلى الصعيد مع مراد وإبراهيم (١٧٨٦) ثم عاد إلى مصر بعد أربع سنوات (١٧٩٠)، وقد استمر عزل الباشوات وتعيينهم من قبل الباب العالي في السنوات التي تلت حملة القبطان حسن باشا، وبعد محمد باشا يكن الذي انفصل عن الولاية في أبريل ١٧٨٧ تولى كل من عابدين باشا الشريف، وإسماعيل باشا التونسي، ومحمد عزت باشا وصالح باشا القيصرلي وأبو بكر باشا الطرابلسي (يوليو ١٧٩٦) واستمر البكوات أصحاب السيطرة في حكومة مصر.
وعندما حضر الفرنسيون إلى مصر اشترك الألفي في واقعة الأهرام أو إمبابة وأبلى وجنده، في تلك الواقعة بلاء حسنًا (٢١ يوليو ١٧٩٨)، ثم استمر يتنقل بعدها في جهات الوجه البحري والصعيد يعمل مع الفرنسيين مكايد ويصطاد منهم بالمصايد، ولما وصل عرضي الوزير يوسف ضيا إلى ناحية الشام، ذهب إليه وقابله، وأنعم عليه الوزير وأقام بعرضيه أيامًا، وعاد إلى مصر، وذهب إلى الصعيد، ثم رجع إلى الشام مرة أخرى (١٧٩٩)، وكان الألفي بمصر وقت نقض اتفاق العريش بين الجنرال كليبر والعثمانيين (١٨٠٠) فأبدى نشاطًا كبيرًا في مقاومة الفرنسيين مع حسن بك الجداوي، فلما عقد كليبر معاهدته المعروفة مع مراد بك في ٥ أبريل ١٨٠٠ لم يوافق الألفي على ما فعله أستاذه واعتزله، ولكنه ما لبث بعد فشل ثورة القاهرة الثانية أن صار يسعى للصلح بين الفرنسيين والعثمانيين، حتى إذا تم إبرامه في ٢١ أبريل ١٨٠٠ وانسحب الأخيرون إلى نواحي الشام خرج معهم الألفي، ثم رجع إلى الشرقية، واستمر يناوش الفرنسيين وفي كر وفر معهم حتى حضرت الحملة الإنجليزية العثمانية لطرد الفرنسيين، وسلم هؤلاء القاهرة في يونيو والإسكندرية في أغسطس ١٨٠١، ودخل العثمانيون القاهرة، ودخلت البلاد من جديد في حظيرة الدولة العثمانية، وأخذ العثمانيون منذ تسلموا زمام الأمور في القاهرة يتوددون إلى البكوات، ويتظاهرون بإعادة السلطة إليهم، ونصبوا إبراهيم بك شيخًا للبلد، ولكن الألفي لم تخدعه أساليب الصدر الأعظم يوسف ضيا والقبطان حسين باشا فنصح زملاءه خصوصًا إبراهيم والبرديسي وعثمان وحسن بعدم الاغترار بها، وحذرهم من أن العثمانيين لن يتركوا السلطة في أيدي المماليك بعد أن ملكوا البلاد ثانية، ثم عرض عليهم الاحتماء بالإنجليز الذين كانوا لا يزالون معسكرين بالجيزة وتوسيطهم لدى الصدر الأعظم والقبطان باشا للوصول إلى شروط في صالح البكوات بضمانتهم تعيد الأوضاع السابقة، فلا يبقى من العثمانيين سوى متقلدي المناصب القديمة أي الباشا والدفتردار ومن إليهما، ولكنهم لم يستمعوا لنصحه ورأيه، فصمم الألفي على النجاة بنفسه، واستطاع بحيلته ودهائه أن يظفر من الصدر الأعظم بتقلد إمارة الصعيد نظير تحصيله الأموال والغلال الميرية منها ودفعها لخزانة الدولة، وقصد من فوره إلى الصعيد، وعبثًا حاول الصدر الأعظم تدارك خطئه، وأرسل وراءه يطلب عودته، ولكن الألفي كان قد جد في السير، وقطع مسافة بعيدة، فلم يلحق به الرسل، ثم إنه اتخذ أسيوط مقرًّا له، وأرسل للصدر دفعة من المال وأغنامًا وعبيدًا لمواشيه وغلالًا، ثم لم يمضِ على ذلك ثلاثة شهور حتى أوقع القبطان باشا والصدر الأعظم بالبكوات في مكيدتيهما المعروفتين في أكتوبر ١٨٠١، وعاد الألفي بعدئذٍ من الصعيد، وصار مقره في الجيزة تارة وفي البحيرة تارة أخرى، ثم كانت سفارته إلى لندن وما تلا ذلك من حوادث سبق الكلام عنها، أهمها محاولة البرديسي الفتك به، وطرد حكومة البكوات من القاهرة، ومكيدة ١٦ أغسطس ١٨٠٥، ثم مفاوضات القسطنطينية وحضور القبطان باشا في مهمته المعروفة.
واستخلص الألفي من التجارب التي مرت به جملة أمور: منها أنه يصعب اجتماع كلمة البكوات على أمر، وأن كلًّا منهم يؤثر نفعه الخاص على صالح الطائفة عمومًا، وأن أحدًا منهم في سبيل الفوز بالسلطة لا يحجم عن التآمر على أخيه وخشداشه الذي هو من طبقته أو على أستاذه الذي يدين له بكل ما هو فيه من جاه وسؤدد ويفتك به، وأن العثمانيين أعداء المماليك ولا يمكن الاطمئنان إليهم أو الوثوق بعهودهم، وأن المماليك وحدهم ودون مساعدة دولة أجنبية كبيرة لهم لن يتمكنوا من استرجاع سيطرتهم القديمة، وأن عليه أن يعتمد على نشاطه هو وحده ومعاونة الإنجليز له إذا شاء استخلاص الحكم لنفسه، وأنه لا مندوحة عن بذل قصارى جهده لطرد الأرنئود ومحمد علي من مصر لتحقيق هذه الغاية، وأن القاهريين والمشايخ لم يكونوا جميعًا راضين عن حكم محمد علي، وأن هناك طائفة منهم لا يرون بأسًا في عودة حكم البكوات إذا ظهر من هؤلاء أنهم يبغون حقًّا توفير أسباب الحياة الهادئة المطمئنة لهم ورفع المظالم عنهم، وأن حكومة محمد علي كانت تصادف من الصعوبات والمتاعب منذ تأسيسها ما جعلها متأرجحة وغير مستقرة على دعائم ثابتة، وأفاد الألفي فائدة كبيرة من سفارته إلى لندن، وقد تحدث الشيخ الجبرتي عن الآثار التي تركتها هذه الرحلة إلى بلاد الإنجليز في نفسه من حيث توسيع أفق تفكيره فيما يجب أن تكون عليه أساليب الحكم والأغراض المتوخاة منه، وقد دلت محاولات الألفي لاستمالة المشايخ وما جاء في كتبه إليهم أثناء مفاوضاته مع محمد علي، ثم أحاديثه مع سليمان أغا أثناء مسعى هذا الأخير لحمل البكوات على دفع المبلغ المتفق عليه، على إدراكه الصحيح للموقف الداخلي.
وثمة ميزة أخرى جعلته متفوقًا على سائر إخوانه هي أن الألفي لم يكن رجل قتال وحرب أو دسائس ومؤامرات فحسب، بل كان إلى جانب ذلك محبًّا للعلم والعلماء، وله من بين المشايخ أصدقاء كالشيخ الجبرتي والشيخ حسن العطار، وقد سجل الأول أن الألفي خلال السنوات الأربع التي قضاها في الصعيد (١٧٨٦–١٧٩٠) بسبب واقعة حسن باشا الجزائرلي ومجيئه لتأديب البكوات «قد ترزن عقله، وانهضمت نفسه، وتعلق قلبه بمطالعة الكتب والنظر في جزئيات العلوم والفلكيات والهندسيات وأشكال الرمل والزايرجات والأحكام النجومية والتقاويم ومنازل القمر وأنوائها، ويسأل عمن له إلمام بذلك فيطلبه ليستفيد منه واقتنى كتبًا في أنواع العلوم والتواريخ واعتكف بداره، ثم إنه رغب في الانفراد وترك الحالة التي كان عليها قبل ذلك، واستمر على ذلك مدة تجاسر عليه خشداشيته فاضطر حينئذٍ إلى ترك اعتكافه.» وقال عنه في موضع آخر: «إنه كان له ولوع ورغبة في مطالعة الكتب خصوصًا العلوم الغريبة مثل الجغرافيات والجغرافيا والإسطرنوميا والأحكام النجومية والمناظرات الفلكية وما تدل عليه من الحوادث الكونية، ويعرف أيضًا مواضع المنازل وأسماءها وطبائعها والخمسة المتحيرة وحركات الثوابت ومواقعها، كل ذلك بالنظر والمشاهدة والتلقي على طريقة العرب من غير مطالعة في كتاب ولا حضور درس، وإذا طالع أحد بحضرته في كتاب أو أسمعه ناضله مناضلة متضلع، وناقشه مناقشة متطلع.» وله أيضًا معرفة بالأشكال الرملية واستخراجات الضمائر بالقواعد الحرفية، وكان له في ذلك إصابات، ومن صفاته أنه إذا سمع بإنسان فيه معرفة بمثل هذه الأشياء أحضره ومارسه فيها فإن رأى فيه فائدة ومزية أكرمه وواساه وصاحبه وقربه إليه وأدناه، وكان له مع جلسائه مباسطة مع الحشمة والترفع عن الهذيان والمجون، وكان فيه تواضع، إذا خرج من داره بخطة الشيخ ضلام أو بناحية قيصون حيث سكن بها بعض الوقت، وقصد إلى أحد القصور التي عمرها خارج القاهرة وهي القصر الكبير بمصر القديمة تجاه المقياس بشاطئ النيل، والقصر الكائن بالقرب من زاوية الدمرداش والقصر الذي بجانب قنطرة المغربي على الخليج الناصري لا يمر من وسط المدينة وإذا رجع كذلك، فلما سئل عن سبب ذلك قال إنه يستحي أن يمر من وسط الأسواق وأهل الحوانيت والمارة ينظرون إليه ويفرجهم على نفسه.
ولقد قال الشيخ الجبرتي: «إنه كان أميرًا جليلًا مهيبًا محتشمًا مدبرًا بعيد الفكر في عواقب الأمور صحيح الفراسة، إذا نظر في سحنة إنسان عرف حاله وأخلاقه بمجرد النظر إليه، قوي الشكيمة، صعب المراس، عظيم البأس، ذا غيرة حتى على من ينتمي إليه أو ينسب إلى طرفه، يحب علو الهمة في كل شيء، حتى إن التجار الذين يعاملهم في المشتريات لا يساومهم ولا يفاصلهم في أثمانها؛ ولذلك راج حال العاملين له رواجًا عظيمًا، وكان ينتصر لأتباعه ولمن انتمى إليه، ويحب لهم رفعة القدر عن غيرهم، مع أنه إذا حصل من أحد منهم هفوة تخلُّ بالمروءة عنفه وزجره، فترى كشافه ومماليكه مع شدة مراسهم وقوة نفوسهم وصعوبتهم يخافونه خوفًا شديدًا ويهابون خطابه.» وبالجملة — كما قال الشيخ: «كان الألفي آخر من أدركه من الأمراء المصريين شهامة وصرامة ونظرًا في عواقب الأمور، وكان وحيدًا في نفسه، فريدًا في أبناء جنسه.»
ثم إنه كان للألفي ميزة هامة أخرى هي قدرته على السيطرة على العربان وامتثال جميع قبائل هؤلاء الكائنين بالقطر المصري لأمره، وذلك لمعرفته التامة بطبائعهم وأحوالهم، وتوثيق صلاته بهم عن طريق الزواج من بناتهم، ومع أنه كان يبطش بهم، ويصادر أموالهم، ويسومهم سوء العذاب فقد عرف كيف يمنعهم من التسلط على فلاحي البلاد … ويتعاون على البعض منهم بالبعض الآخر، واجتمع منهم الألوف في معسكره، ولم يجد مأوى يلجأ إليه حين هروبه من جند البرديسي الذين أرادوا الفتك به عند عودته من سفارته في لندن إلا عند هؤلاء العربان، حتى إن كثيرًا من الناس صاروا يقولون: إنه يسحرهم أو معه سر يسخرهم به.
ولكن الألفي لم يستطع الانتفاع بهذه المزايا التي جعلت من خصومته لمحمد علي مصدر خطر كبير على ولايته، ظل ماثلًا حتى انطوت صفحة الألفي نفسه ووافاه أجله، وكان مرد ذلك، وبالرغم من الصفات العظيمة التي اتصف بها وذكرها الشيخ الجبرتي إلى ما انطبع في نفسه من خصال الأنانية والأثرة وحب جمع المال، وتفضيل صالحه الشخصي على كل ما عداه، وقد تقدم في مواضع عدة كيف أن جنده ومماليكه وعربانه كانوا يغيرون على القرى والدساكر في الجيزة والبحيرة والمنوفية يسلبون الأهالي ويفتكون بهم ويفضحون نساءهم، ولقد حاول الألفي أن يعتذر عن مسلكهم وعن مسلكه هو في إطلاقهم هكذا يعيثون في البلاد فسادًا بحاجته إلى المال والمؤن لسد مطالب جنده وعربانه، ولكن هذه الفعال غيرت عليه أهل القاهرة والريف عمومًا، وكانت مبعث عناد أهل دمنهور على وجه الخصوص ورفضهم تسليم مدينتهم إليه والإصرار على مقاومته.
وكان إخفاق الألفي أمام دمنهور من أهم العوامل الفاصلة في تحطيم كل آماله وضياع فرصة استرجاع السلطة وتأسيس حكمه نهائيًّا من يده.
وكان الألفي يعتمد في نجاح عمليات الحصار الذي ضربه على دمنهور على معاونة القبطان باشا له وقيامه ببعض العمليات العسكرية التي تساعده على إخضاع البلدة قبل مجيء الفيضان، ولما كان صالح باشا عند وصوله إلى الإسكندرية متحمسًا لتنفيذ الاتفاق الذي يقضي بطرد محمد علي والأرنئود وتولية موسى باشا وتنصيب الألفي شيخًا للبلد، فقد شجع هذا الأخير على استمراره على حصار دمنهور، فأرسل في يوليو مدافع وذخائر إلى معسكر الألفي، وسلح السفن الصغيرة في أسطوله ثم نقلها من ميناء الإسكندرية القديمة إلى مينائها الجديدة استعدادًا لمهاجمة رشيد، وكان الخطة بعد انتصار الألفي في معركة النجيلة (٣١ يوليو ١٨٠٦) أن يستولي هذا سريعًا على دمنهور توطئة للزحف على رشيد، وأيد القبطان هذه الخطة عندما فقد كل أمل في إمكانه إخضاع محمد علي بطريق المفاوضة وإقناعه بترك البلاد سلمًا إذعانًا لأوامر الباب العالي، ولكنه بدلًا من إنفاذ النجدات القوية إلى الألفي، كان كل ما أحدثه انتصار النجيلة هو إغراء القبطان باشا بإرسال بعض الذخائر إلى معسكر الألفي سرًّا وبطرق هي أشبه بالتهريب منها بأي شيء آخر، ثم تباطأ من ناحية أخرى في إرسال الحملة المزمعة ضد رشيد، وعبثًا صار الألفي الذي توقع أن يطول أمد الحصار المضروب على دمنهور أن يقنعه بضرورة الإسراع في الاستيلاء على رشيد لضمان بقاء المواصلات مفتوحة بينها وبين معسكر الألفي من جهة، ثم بينها وبين الإسكندرية خصوصًا من جهة أخرى، لا سيما وأن هذه الأخيرة كانت تعتمد في تموينها على رشيد ذاتها، ولكن القبطان باشا — كما ذكر «مسيت» في رسالته إلى «وندهام» في ١٤ أغسطس — أصم أذنيه تمامًا عن سماع كل هذا الذي طلبه منه الألفي، وراح رجاله يقولون: إنه إنما يريد تنفيذ المهمة التي أتى من أجلها، من غير أن تراق قطرة دم واحدة، وكان «مسيت» قد علل قبل ذلك بأسبوعين عندما كتب للسفير الإنجليزي بالقسطنطينية في ٣١ يوليو ما لاحظه من تباطؤ في حركة القبطان بأنه من المحتمل أن يكون قد وصلته فعلًا من القسطنطينية تعليمات معينة حتى لا يعجل بعمل اتفاق أو ترتيب مع المماليك، وقد استند فيما ذهب إليه على ما ذكره «أربثنوت» نفسه في رسالته إليه بتاريخ ١٤ يونيو من أن تعليمات مثل هذه قد صدرت للقبطان باشا، واستمر «مسيت» يلح على صالح باشا في ضرورة المبادرة بالاستيلاء لا على رشيد فحسب، بل وكذلك على دمياط، ثم على دمنهور بالتعاون مع الألفي، ولكن دون طائل.
ومنذ ٩ أغسطس كتب «أربثنوت» إلى حكومته معلقًا على فشل محاولات «مسيت» هذه: أنه لما كان متعذرًا على القبطان باشا حصوله على نجدات من تركيا وتحول صعوبات عديدة دون حصوله على مؤن من مصر ذاتها فالمتوقع أن يرتد عائدًا إلى القسطنطينية دون أن يفعل شيئًا من أجل تحقيق الغرض من حملته إلى مصر.
على أن صالح باشا كان قد بدأ يفقد تفاؤله منذ أن اتضح له أن لا سبيل بغير القوة لإخراج محمد علي والأرنئود من مصر، وأن الألفي قد استعصى عليه إخضاع دمنهور، وأن مساعي سليمان أغا لدى بكوات الصعيد ولدى الألفي نفسه لدفع المبلغ المطلوب قد اصطدمت بصعوبات عديدة، وأن من الخير له لذلك كله أن يجعل في الإبرة خيطين ليتبع الأروج على حد تعبير الشيخ الجبرتي، فذكر «دروفتي» — في رسالته إلى حكومته في ٢ سبتمبر أنه قد أوقف استعداداته ضد رشيد، وصارت جهوده منحصرة في مفاوضات لا قيمة لها، ثم إعطاء الألفي بعض ذخائر الحرب وتشجيعه على أخذ دمنهور بإخضاعها حتى يتسنى وصول الماء إلى صهاريج الإسكندرية، ويمتنع بذلك تذمر أهلها، ولكن هذه الذخائر التي أرسلها القبطان باشا لم تكن كافية، وظل الألفي في حاجة إلى نجدات أكثر نفعًا إذا شاء التغلب على مقاومة أهل دمنهور له، فكان من رأي «مسيت» منذ ١٤ أغسطس أنه قد يضطر إلى الانسحاب ورفع الحصار عن هذه المدينة بالرغم من أنها مسورة بسور من الطوب؛ وذلك بسبب استطاعتها رد الهجوم المتكرر عليها ودفعه عنها، ومع ذلك، فإن القبطان ما لبث أن أوقف أيضًا إرسال الذخائر إلى الألفي لما وجد أن مساعي سليما أغا لم تسفر عن نتيجة، ثم إنه صار إلى جانب ذلك يلح على الألفي أن يدفع هو المبلغ المطلوب، حتى إن الألفي كتب في ١٥ سبتمبر يشكو إلى «مسيت» من مسلك القبطان باشا الذي امتنع وقتئذٍ عن إمداده بذخائر الحرب والمدافع على غرار ما كان يفعل في الماضي، وذلك بالرغم من إلحاف الألفي في رجائه، وصار يطلب منه زيادة على ذلك إرسال مبلغ من المال يعجز الألفي عن دفعه بسبب ظروفه الحرجة الراهنة، ويرجو لذلك من «مسيت» أن يبلغ السفير الإنجليزي بالقسطنطينية هذا الأمر حتى يرى رأيه فيه.
وقد بعث «مسيت» بهذه الرسالة إلى السفير في ١٨ سبتمبر وقال: إن رفع الحصار عن دمنهور لا يجب أن يكون مبعث دهشة؛ لأن القبطان باشا رفض إمداد الألفي بالذخائر، ومرد مسلك القبطان هذا إلى الهدايا الثمينة التي نالها من محمد علي، فقد حضر إلى الإسكندرية أحد ضباطه يحمل هذه الهدايا له، وكان من أثر جشع القبطان الذي جعله مجردًا من كل خجل أو حياء أنه صار يطلب مالًا من الألفي وأهل دمنهور على السواء وعلى يد الرسول نفسه وفي اللحظة التي يبيع فيها علنًا حياده لمحمد علي، ثم استطرد «مسيت» يذكر وقوع معركتين إحداهما في الصعيد والأخرى في الوجه البحري انهزم فيهما الأرنئود على يد المماليك، ولكنه كان من رأيه أنه ما دامت النجدات تأتي محمد علي، وما دام البكوات يجهلون فنون الحصار وليس لديهم الوسيلة التي تمكنهم من الاستمرار فيه، فإن شجاعة المماليك لا نفع منها ولا طائل تحتها.
وما إن ذاع خبر القبطان باشا مع محمد علي ووصول إبراهيم بك إلى الإسكندرية يحمل الهدايا للقبطان، وتأكد لدى الألفي انحياز هذا الأخير إلى جانب خصمه نهائيًّا، حتى صار هذا يبغي الدخول في مفاوضة جديدة مع الصدر الأعظم والاتصال لهذا الغرض بأحد رجال الصدر الموجودين بالإسكندرية.
ويقول «مسيت» — في رسالته إلى «أربثنوت» في ٢٥ سبتمبر — إن الألفي يريد أن يعرض على الديوان العثماني ألفي كيس يدفع نصفها عند خروج محمد علي من مصر وما يتبع ذلك من تأسيس حكومة البكوات، والنصف الثاني عندما يتم فعلًا هذا الأمر الأخير، ويريد من السفير الإنجليزي أن يضمنه في هذا المبلغ لدى الباب العالي، ولكن «مسيت» الذي رأى أن الفرصة قد أفلتت من يد الألفي سرعان ما أوضح له أنه من المتعذر على السفير أن يشترك في أية مفاوضات قد تقوم بين الباب العالي والمماليك، كما كتب لأربثنوت يقول إنه يميل للاعتقاد بأن محمد علي قد نجح بفضل هداياه التي لا ينقطع عن إرسالها للقبطان باشا وللوزراء العثمانيين في استمالة هؤلاء إليه بحيث قد صار مقضيًّا بالفشل على جهود الألفي في هذا السبيل.
وحاول الألفي في الوقت نفسه أن يدخل في مفاوضات أخرى مع محمد علي، من أجل الصلح والاتفاق معه، وأوقف القبطان باشا بطريق غير مباشرة على رغبته هذه، كما أبلغ «مسيت» أنه يميل لعمل اتفاق مع محمد علي يقوم على أسس مشرفة، وبضمانة «مسيت» نفسه قبل أن يرضى بها، وكان من الواضح أن تأكد الألفي من استحالة الاعتماد على القبطان باشا في تأسيس مشيخته بعد اتفاقه مع محمد علي وتعذر امتلاك القاهرة تبعًا لذلك ثم بسبب استطالة الحرب التي أنهكت قواه والتي هددت بحرمانه شيئًا فشيئًا من مماليكه، وبسبب حاجته الملحة إلى الأسلحة والذخائر وعتاد الحرب وأدواتها عمومًا، قد جعله يبغي الظفر باتفاق مع محمد علي يعطيه فسحة من الوقت لتجديد قواه من جهة، ويتيح له الفرصة لرفع الحصار عن دمنهور والانسحاب عنها بكرامة.
وأدرك «مسيت» أن الألفي لهذه الأسباب جميعها سوف يقبل بسهولة أية شروط يعرضها محمد علي ويرضى بأي إقليم قد يقطعه إياه للعيش فيه في سلام، على الأقل حتى يسترد قوته إذا رفض «مسيت» التوسط في هذه المفاوضة وإعطائه الضمانة المطلوبة، ولقد كان أخشى ما يخشاه «مسيت» أن يفلح الألفي في مفاوضته مع محمد علي ويحصل منه على اتفاق ينجم عنه خمود حركة الألفي وابتعاده عن ميدان العمليات العسكرية المقبلة عندما كان «مسيت» يتوقع انفصام العلاقات بين تركيا وإنجلترة واضطرار الإنجليز في آخر الأمر إلى إرسال حملة لاحتلال الإسكندرية على نحو ما ظل «مسيت» نفسه يكرر المطالبة به من مدة طويلة، فلا يجد الإنجليز عند حضورهم جيش الألفي وفرسانه لتعزيز نشاطهم العسكري، وعلى ذلك فإن «مسيت» لم يكتفِ بإظهار استعداده لضمان أي اتفاق يحصل بين الألفي ومحمد علي، بل عرض على الألفي أن يأخذ هو على عاتقه مسألة هذه المفاوضات المزمعة برمتها على أساس أنه إذا تقدم الألفي بمقترحات معينة من أجل الوصول إلى تسوية مع محمد علي، فمن المحتمل أن يرى الأخير في ذلك دليلًا على أن الألفي أصبح ضعيفًا، وبدلًا من الصلح معه يقوى عزمه عندئذٍ على متابعة النضال معه بنشاط أكبر وأعظم، وقبل الألفي وساطة «مسيت».
وقد أوضح «مسيت» الأسباب التي حدت به إلى الهيمنة على هذه المفاوضة وتوجيهها إلى الغاية التي يريدها هو منها أي إحباطها، في رسالة له إلى «أربثنوت» من الإسكندرية في ٢٩ سبتمبر ١٨٠٦ قال فيها: وأما الأغراض التي توخيتها من هذه الوساطة فهي منوعة أرجو أن تحظى منك بالقبول، أولها — أنه إذا أخذنا بعين الاعتبار الأخبار التي بعثت بها إليَّ عن الخلافات القائمة بين بريطانيا وروسيا من جانب، والباب العالي من جانب آخر، وأنه لا مَعْدَى عن وصول هذه الخلافات إلى مرحلة فاصلة تحسمها، فقد صار من الحكمة كما هو في رأيي أن أحول دون عقد أية معاهدة بين محمد علي والألفي، وأن أبذل كل ما وسعني من جهد وحيلة لاحتجاز جيش الألفي في الوجه البحري حتى تهدأ كل المخاوف من وقوع انفصام العلاقات بين الدول المذكورة؛ وذلك لأنه في حالة إذا ما رغبت الحكومة الإنجليزية في احتلال هذه البلاد، صار في وسعها أن تجد فرسان الألفي على قدم الاستعداد أو لاستقبال جيشها وأمكنها أن تنتفع نفعًا كبيرًا بهم، وثانيًا — أن هذه المفاوضة من شأنها تزويدنا بالوسيلة الفعالة التي بها يتعطل ذلك النفوذ العظيم الذي حازه أخيرًا الوكيل الفرنسي «دروفتي» لدى محمد علي بفضل ما أظهره من ضروب التأييد له عندما حضر القبطان باشا إلى الإسكندرية يحمل أمر الباب العالي بعزل محمد علي، فإذا تسنى لي أن أكون أداة سلام بين الألفي ومحمد علي فاعتقادي أني سوف أحظى بشكر هذا الأخير وممنونيته؛ لأني أعرف أنه يريد حقًّا السلام، وفضلًا عن ذلك فإن هذه الوساطة سوف تكون بمثابة ضابط لسلوك محمد علي يمنعه من إظهار ميله للفرنسيين أو انحيازه العظيم لهم؛ لأن خوفه الطبيعي — وهو خوف قائم اليوم — من أن أحرض البكوات على الثورة عليه وأثير بسبب ذلك في وجهه متاعب ومصاعب مشابهة لتلك التي سوف تكون مهمتي الآن إقناعه بأنه لا يستطيع الخلاص منها إلا بمساعدتي سوف يجعل ممكنًا الضغط عليه وصرفه عن انحيازه الظاهر للفرنسيين، وثالثًا — فهناك إلى جانب المزايا السابقة، ذلك النفع الذي سوف يعود على سمعة بريطانيا وزيادة تعلق الناس بها بسبب الدور الذي أقوم به من أجل إعادة الهدوء والسكينة إلى هذه المقاطعة المنكوبة، وسوف تجني الحكومة الإنجليزية في المستقبل فوائد عديدة من حيث تأييد آرائها ووجهات نظرها الخاصة بمصر، ورابعًا — أما فيما يتعلق بالضمان الذي يريد الألفي أن آخذه على عاتقي، فإن ما هو معروف عن خلقه وخلق إخوانه يجعل من الحكمة عدم قبوله وبالرغم مما يظهره في رغبة ملحة في أن أفعل ذلك، فإني متأكد من أنه لن يصر على هذا الضمان عند إتمام معاهدته نهائيًّا مع محمد علي، وقد اختتم «مسيت» رسالته هذه بقوله: وعلى كل حال فحيث إني أقوم بدور الوسيط بين الطرفين ففي وسعي تعطيل أو وقف المفاوضة حتى تصلني تعليماتك.
ولكنه ما إن أتم «مسيت» كتابة تعليماته هذه حتى بلغه نبأ وصول الططر من القسطنطينية يحملون البشارة والتهاني لمحمد علي لتثبيته في الولاية، كما بلغه أن الباب العالي قد أعطى للبكوات بعض الأقاليم لإقامتهم من جرجا إلى الشلالات؛ وعلى ذلك، فقد أضاف «مسيت» في ذيل تعليماته السابقة ملاحظة فحواها أنه لم تعد هناك بسبب هذا الترتيب الأخير ضرورة — كما قال — لأن يبذل الآن أي مسعى من أجل عقد السلام بين البكوات ومحمد علي، ولو أن الأخير في وسعه الاعتماد عليه بأنه لا يدع فرصة تمر دون النصح للألفي بالرضا بما يعطيه له السلطان العثماني، وفي ٧ أكتوبر كتب «مسيت» إلى «وندهام» يبلغه أن الباب العالي حسب ما وصل إليه قد أعطى البكوات أقاليم معينة في الصعيد، وأن هذا الترتيب من شأنه أن ينهي مفاوضته لعقد السلام بين الألفي ومحمد علي، ولكنه يشعر بسعادة كبيرة؛ إذ يبلغه أن محمد علي لم يرحب بواسطته فحسب، بل وطلب إليه كذلك أن يبذل جهده لإقناع البكوات الآخرين بأن يحذوا هم أيضًا حذو زميلهم وأن يعقدوا بالاشتراك معه تسوية وسلامًا عامًّا مع الباشا، وكانت الأقاليم التي أعطاها الباب العالي للبكوات تمتد من جرجا إلى أسوان الشلالات — كما سبق ذكره، وكما عاد فذكره «مسيت» في رسالة أخرى إلى «وندهام» في ١٣ أكتوبر، وقد ذكر «مسيت» في رسالته هذه أنه يشك كثيرًا في أن يقبل البكوات هذه التسوية التي تضع حدًّا لمفاوضاته بينهم وبين الألفي، ولكن «مسيت» وقد قبل محمد علي وساطته لم يرَ بدًّا من استئناف مفاوضته، وكان من رأيته الذي نصح به الألفي في ٢١ أكتوبر أن يقبل هو وسائر البكوات هذه الشروط أو ما أعطاهم إياه الباب العالي ولكن دون طائل، فأبلغ «مسيت» السفير الإنجليزي بالقسطنطينية في ٢٦ أكتوبر أن بكوات الصعيد قد رفضوا الأقاليم التي عرضها عليهم الباب العالي في الصعيد وأنهم يعتزمون الإغارة على البلاد وتخريبها — على حد قولهم — بمجرد أن تنحسر مياه الفيضان ويتسنى لهم استئناف عملياتهم العسكرية ضد جند الباشا، ولما كان محمد علي يدرك تمامًا خطورة النتائج المترتبة على رفض البكوات لمقترحات الحكومة العثمانية، فهو يريد بإلحاح عقد معاهدة معهم، ولكنه يبغي أن ينضم إلى هذه المعاهدة كل فرد من البكوات؛ لأنه يخشى إذا هو عقد صلحًا منفصلًا مع الألفي وحده أن ينحاز جنده إلى بكوات الصعيد لتوقعهم استغناء الباشا عندئذٍ عن خدماتهم، فيحاربون ضده، غير أن انقسامات البكوات تجعل متعذرًا تنفيذ خطط محمد علي ورغباته من أجل عمل صلح وتسوية عامة، فمع أنه يريد إعطاء البكوات أرضًا أوسع من تلك التي أعطاها لهم الباب العالي فإنه لا يجد من الحكمة السماح لهم بامتلاك الوجه البحري، زد على ذلك أن الألفي والبرديسي لن يوافقا على احتلال إقليم أو جهة واحدة بالاشتراك فيما بينهما؛ لأن كبرياءهما وتحاسدهما وخوفهما من بعضهما بعضًا كل ذلك يقتضي كلًّا منهما أن يقيم في مديرية بعيدة عن مديرية الآخر ينفرد فيها بالسلطة الكاملة مستقلًّا عن زميله، ثم استطرد «مسيت» يقول إنه يعرف أن الألفي يعتبر الفيوم ملكًا له ويريد امتلاك بني سويف والجيزة علاوة على ذلك مما لا ينتظر أني يرضى به محمد علي وهو الذي لا يمكن أن يوافق على وجود أي مملوك من المماليك على أبواب عاصمته.
وواصل «مسيت» وساطته بين محمد علي والألفي، فكتب إلى الأخير في ٣٠ أكتوبر أن الباشا قد فوضه إبلاغه رغبته في عقد معاهدة سلام معه أي الألفي ويريد معرفة الشروط التي يتم عليها الصلح، كما أنه ينبغي عقد معاهدة مع البكوات بأجمعهم، وقال «مسيت» إنه ذكر لمحمد علي أن في استطاعته (أي محمد علي) أن يعقد أولًا الصلح مع الألفي، على أن يستخدم هذا نفوذه من أجل إبرام المعاهدة المنشودة بين محمد علي وسائر البكوات، ثم إنه ما لبث أن كتب في ٢ نوفمبر إلى يوسف عزيز أنه استطاع بعد لأي وعناء أن يحمل الألفي على بيان الشروط أو الثمن الذي يرضاه لعقد السلام بينه وبين محمد علي، ولكنه يرى مطالبه غير معقولة لدرجة أن صار يخشى من عدم جدوى الاستمرار في مساعيه؛ لأن الألفي يقول: إن هناك طريقين للوصول إلى الصلح، فإما أن يقبل الباشا دخول الألفي إلى القاهرة وعندئذٍ لا يطلب هذا الأخير لعيشه هو وأهله سوى قراه التي يمتلكها، وإما أن يرفض الباشا دخوله القاهرة وفي هذه الحالة يطلب الألفي مديرية البحيرة، وجزيرة السبكية ورشيد، وأن يسمح له بهذه السنة فقط بتحصيل إتاوات معتدلة من الشرقية والمنوفية، وهو إنما يتقدم بهذا المطلب الأخير مرغمًا لحاجته إلى المال الذي يدفع منه مرتبات رجاله وجنده المستحقة عليه عن جملة شهور، وفضلًا عن ذلك، فإن الألفي يتعهد بملاحظة ارتباطاته مع محمد علي بإخلاص، ويقترح إرسال مندوب من قبل محمد علي وآخر من قبله هو إلى القسطنطينية بمجرد عقد الصلح لإبلاغ الباب العالي بهذا الترتيب الجديد، كما أنه يتعهد إلى جانب هذا ببذل قصارى جهده لإقناع سائر البكوات في الصعيد بعقد الصلح مع محمد علي باشا، وأن يستخدم كل ما لديه من نفوذ وسمعة عند الباب العالي حتى يمكِّن محمد علي من الاحتفاظ دائمًا بولايته في مصر، وقال «مسيت»: إن هذه كانت المقترحات التي خوله الألفي تقديمها باسمه إلى الباشا، ثم استطرد يقول: وقد أبديت ملاحظتي لترجمان الألفي على هذه الشروط بأنها صعبة، ويخشى أن لا يقبلها محمد علي، ومع ذلك فمن المحتمل إقناع الألفي بتخفيف هذه المطالب شيئًا إذا وجد عزيز أن الباشا مصمم على قراره، ثم اختتم رسالته بقوله إنه يجب عليه إبلاغ محمد علي باشا بأن الألفي يبغي الذهاب إلى الشرقية بعد عيد الفطر أوائل يناير ١٨٠٧ إذا لم يعقد الصلح مع محمد علي قبل هذا التاريخ.
بيد أنه وقت كتابة هذه التعليمات ٢ نوفمبر ١٨٠٦ كانت أزمة النقل إلى سالونيك قد انتهت بسلام، وكان الباشا منذ أن اطمأن خاطره من قضية القبودان والعزل قد شرع منذ أواخر سبتمبر في تجهيز الجند واتخاذ العدة لإرسالهم إلى الدلتا ضد الألفي، وإلى الصعيد ضد البكوات الآخرين، وكان هؤلاء منذ أن رفضوا عروض سليمان أغا عليهم، وامتنعوا عن دفع شيء من المبلغ المطلوب، ثم رفضوا عروض الباب العالي الأخيرة وهي إقطاعهم الأقاليم الممتدة من جرجا إلى الشلالات قد انسحبوا من مراكزهم الأولى فأخلوا في سبتمبر منفلوط وملوي، وتحصنوا في أسيوط وجزيرة منقباط، وكان في عزمهم أن ينتظروا ريثما ينتهي فصل الفيضان ثم يستأنفوا عملياتهم العسكرية ضد جند الباشا، فانتهز هؤلاء الفرصة واحتلوا الأماكن التي أخليت، وعندئذٍ رفض محمد علي باحتقار عروض الألفي، فكتب «مسيت» إلى «أربثنوت» في ١٧ نوفمبر أنه وصله في صبيحة هذا اليوم فقط جواب الباشا على مطالب الألفي الغير معقولة، وقد جاء فيه أن الباشا يرى منها ما يدل على أن الألفي إنما يبغي مواصلة الحرب، وكان من رأي «مسيت» أن الألفي عندما يبلغه هذا الرفض سوف يجد نفسه ملزمًا على إنقاص مطالبه التي اشتط فيها كثيرًا، وكان الذي جعل «مسيت» يتوقع حدوث ذلك أن الألفي كان قد صار عاجزًا تمامًا عن إخضاع دمنهور ومن المنتظر لذلك أن يرفع عنها الحصار قبل مضي وقت طويل.
على أن سفر القبطان باشا في ١٨ أكتوبر، ثم فشل المفاوضة التي دارت أخيرًا على يد «مسيت» أو بواسطته مع محمد علي، لم ييئسا الألفي الذي نقل كل قواته حول دمنهور ثم شرع يضيق عليها الحصار بقسوة بالغة، حتى إن الوكلاء الفرنسيين صاروا يتوقعون — كما ذكروا في ١٢ نوفمبر — أن المدينة سوف تسقط لا محالة هذه المرة إذا لم يرسل الباشا النجدات إليها بكل سرعة، وانفتح باب أمل جديد أمام الألفي عندما بدأ معه «روشتي» بوصفه ممثلًا لروسيا ووكيلًا لها في مصر مفاوضات من أجل توسيط روسيا في إنهاء النزاع بين البكوات والباب العالي، واستئناف المساعي من أجل عقد اتفاق جديد بين الألفي والديوان العثماني.
ولكن جهود الألفي في هذه الناحية لم تسفر عن شيء؛ لأنه لم يلبث أن اضطر إلى رفع الحصار عن دمنهور، ثم وافاه أجله بعد ذلك في يناير ١٨٠٧ وهو في طريقه إلى الفيوم والصعيد بعد الانسحاب من دمنهور يبغي الانضمام إلى البكوات القبالي والترؤس عليهم.
ولقد تضافرت أسباب عدة على إرغامه على رفع الحصار عن دمنهور، أهمها استماتة أهلها في الدفاع عنها، ثم وقف الذخائر التي كان يمد بها القبطان باشا معسكر الألفي، وامتناع القبطان عن محاولة الاستيلاء على رشيد بالرغم من إلحاح الألفي عليه في ذلك، أو الاستيلاء على غيرها من المواقع كدمياط ذاتها كما كان ينصح به «مسيت»، ثم انتهاز محمد علي فرصة استطالة الحصار لبذر بذور التفرقة والشقاق في معسكره وتحريض العصاة من الأرنئود والعثمانلي الذين كانوا قد انضموا إلى الألفي، ثم تحريض العربان على ترك خدمته، وقد ساعد على نجاح محمد علي في مساعيه هذه مسلك الألفي نفسه المنطوي على الغطرسة والكبرياء في علاقاته مع رؤساء الجند والعربان وسوء معاملته لهم، فقال «مسيت» في رسالته السالفة الذكر في ٢٧ ديسمبر: إنه قد تفشى أخيرًا بين جند الألفي روح العصيان والرغبة في مغادرة جيشه، وإن عددًا من رؤساء العرب صاروا غير راضين عنه لما يلحقه بهم من إهانات بالغة ومخاطبتهم بالشتم دائمًا، بل إن «مسيت» يعرف كذلك أنه قد أرغم عددًا من هؤلاء الرؤساء العرب على تسليم زوجاتهم له، كما أنه منعهم من جمع أية إتاوات من القرى المجاورة، ثم إنه علاوة على ذلك لا ينفك يطلب منهم علائف لفرسانه ومؤنًا لأهل بيته، فالغضب منه في ازدياد، حتى إنه لو وقع عليه هجوم شديد الآن لصار تحطيمه أمرًا مفروغًا منه بسبب الروح المنتشرة بين جنده.
ثم كان من أسباب غضب الجند والعربان منه أنه عجز عن دفع مرتباتهم، زد على ذلك أن البكوات الستة والمماليك الذين كانوا قد حضروا من الصعيد لنجدته لم يلبثوا أن تركوه لعجرفته واستعلائه عليهم، وذلك منذ أوائل شهر أكتوبر، كما تركه على أثر مبارحة القبطان باشا للإسكندرية عدد من الأرنئوديين الذين كانوا في خدمته والذين تبين لهم فشل قضيته، ولم يلبث ترجمانه «ستافراكي» أن تركه هو الآخر في ديسمبر بعد أن اشتط الألفي في إساءة معاملته، وكتب الوكلاء الفرنسيون في ١٤–٢٧ ديسمبر أن خازندار شاهين بك الألفي مع خمسة عشر مملوكًا قد ذهبوا إلى القاهرة تاركين معسكر الألفي، ولم يشأ بكوات الصعيد إرسال أية نجدات إليه، وصار لذلك كله من المتوقع أن يرفع الألفي الحصار عن دمنهور؛ أي الإقرار بالعجز والفشل وانهيار كل آماله التي عقدها على امتلاك دمنهور التي أراد أن يتخذها مقرًّا لنشاطه يستطيع منه بفضل السيطرة على الأقاليم المجاورة لدمنهور والقريبة منها تزويد جنده وعربانه بالمؤن والأغذية وإمداد فرسانه بالعلائف اللازمة لخيولهم، وجمع الإتاوات لدفع المرتبات لقوات كانت تتألف من ستمائة من المماليك الفرسان، ومائتي جندي ثم ثمانمائة من المشاة الأرنئود والعثمانلي إلى جانب عدد من المدفعيين الأوروبيين لخدمة ستة مدافع، وذلك كله عدا ست قبائل من البدو يبلغ عدد رجالها حوالي الستة آلاف فارس، زد على ذلك أن وجوده حوالي دمنهور يجعله قريبًا من المكان المنتظر أن تنزل فيه الحملة الإنجليزية على الشاطئ المصري، وهي الحملة التي استمر «مسيت» يؤكد له أنها سوف تأتي قريبًا.
غير أنه حدث في أواخر نوفمبر ما أنعش آمال الألفي، وحمله على الاعتقاد بأنه إذا ما عجز نهائيًّا عن إخضاع دمنهور وأرغم مكرها على مغادرة البحيرة فسوف يكون في وسعه العودة بعد قليل لحصارها، واستقبال الإنجليز عند مجيء حملتهم، ثم الاستعانة بهم على تأسيس حكمه وطرد الأرنئود ومحمد علي من مصر نهائيًّا، هذا الحادث كان وفاة منافسه الأول عثمان البرديسي.
فقد كان عثمان البرديسي يشكو من أمد طويل من مرض المرة (أو الصفراء) وهو داء يتطلب العلاج والراحة وهما ما لم يتوافرا له منذ خروج البكوات إلى الصعيد، فأنهك التعب قواه، وزادت جراحه القديمة من آلامه، فاشتدت عليه العلة، ولم يجد طبيبًا قادرًا بالصعيد، فأشار عليه أحد أدعياء الطب بتناول شراب ممزوج بحامض كبريتي عجل بموته في منفلوط في ١٩ نوفمبر ١٨٠٦ (٨ رمضان ١٢٢١) في سن الثانية والأربعين، وفي الوقت الذي كان يتهيأ فيه لإرسال أحد رجاله إلى باريس بعد أن تكررت تأكيدات «دروفتي» له في الأيام الأخيرة باهتمام «بونابرت العظيم» بقضية البكوات، وأراد استعجال نجدته.
وقد حمل خبر وفاة البرديسي إلى محمد علي أحد المغاربة، وصل إلى القاهرة في ٤ ديسمبر وكان معفرًا منهوك القوى بعد أن جد في السير طوال خمسة عشر يومًا منذ أن غادر منفلوط التي قال إنه لم يتركها إلا بعد أن حضر تشييع جنازة سليم بك أبو دياب الذي توفي في بني عدي وعثمان بك البرديسي في منفلوط، ثم ما لبثت أن جاءت الأخبار من وكلاء الباشا في المنيا وبني سويف تؤكد وفاتهما، وقال «دروفتي» وهو ينقل هذا الخبر إلى حكومته من الإسكندرية في ١٠ ديسمبر: إن الاعتقاد السائد هو أن وفاة البرديسي كانت نتيجة لفعل سم بطيء سرى في جسمه، ويشتبه أن الألفي نفسه كانت له يد في ذلك.
ونجم عن وفاة البرديسي آثار معينة في صالح محمد علي، ثم في صالح الألفي؛ ففيما يتعلق بصالح الأول، أن وفاة البرديسي قد أزالت خصمًا من الميدان يخشى بأسه بفضل ما كان له من سيطرة على إبراهيم بك وسائر زملائه من البكوات القبالي، ولأن وفاته حدثت في وقت كانت قد اشتدت فيه حروجة مركز محمد علي بسبب استئناف البكوات لحصار المنيا، بينما لا يزال الألفي يحاصر دمنهور، ولأن حامية المنيا كانت متمردة ويطلب جندها مرتباتهم المتأخرة، وصاروا في عصيانهم هذا شبه مستقلين بها عن سلطته، فأوقفوا السفن في النيل، وصادروا ما وجدوه بها من غلال وحبوب، وصاروا يجبون الضرائب من البلاد القريبة منهم، واستولوا على الميري، وهددوا كلما أنذرهم محمد علي بوجوب الطاعة بتسليم المنيا للبكوات، وأوفد الباشا منذ أواخر أكتوبر أحد كبار ضباطه إليهم لتهدئتهم ولكن دون طائل، وغادر حسن باشا مع جنده ملوي إلى بني سويف ينوون الذهاب إلى القاهرة لتمضية شهر رمضان بها — كما قالوا — أضف إلى هذا امتناع خورشيد عن الذهاب إلى الرحمانية في نوفمبر وتعالي صيحات الجند في كل مكان يطالبون بمرتباتهم، وبلغ من تأزم الموقف أن صار محمد علي يطلب من «دروفتي» نجدة من حوالي الخمسمائة أو الستمائة من الجند الفرنسيين من حاميات فرنسا الجنوبية أو من جيشها الموجود بمملكة نابولي، وكان الباشا منذ أن انتهت مسألة النقل إلى سالونيك بسلام قد بذل قصارى جهده لوضع حد لعصيان حامية المنيا خصوصًا، فانتهز الآن فرصة ما وقع من ارتباك في صفوف البكوات بسبب وفاة البرديسي، وأرسل مبلغًا من المال ٣٠٠ كيس إلى رؤساء الحامية، ووجد هؤلاء أن من صالحهم الإذعان للطاعة، حينما كان كثيرون من الأجناد الذين انضموا إلى صفوف البكوات قد بدءوا ينفضون عنهم بعد وفاة البرديسي، أضف إلى هذا أن ياسين بك الذي كان قد شق عصا الطاعة على محمد علي وانحاز إلى بكوات الصعيد (سليمان بك المرادي) بعد هزيمته على يد جماعة الألفي، ثم امتلك مدينة الفيوم عنوة بعد ذلك منذ سبتمبر، وخرج كاشف الفيوم نفسه على الباشا، قد بعث مع هذا الكاشف بعد وفاة البرديسي يطلبان الصفح من محمد علي، وعفا عنهما الباشا، وعادا إلى العمل تحت رايته من جديد ومعهما حوالي الستة آلاف رجل.
وأما فيما يتعلق بالألفي، فقد أذنت وفاة البرديسي بظفره بما كان يمنِّي نفسه به من زمن بعيد وهو الرئاسة على البكوات جميعهم، وكان بكوات الصعيد قبل وفاة البرديسي في خلافات مستمرة: سليمان بك البواب منسحب مع مماليكه في ناحية قنا، ولا يرضى عن مسلكه زملاؤه الذين أنفذوا جندًا لإخضاعه، وعثمان بك حسن معسكر على الضفة اليمنى للنيل أمام المنيا، والبرديسي نفسه قبل وفاته مع إبراهيم بك بمنفلوط، وبكوات آخرون بالقرب من بني سويف وبعضهم الآخر بأسيوط، ويسعى سليم كاشف المحرمجي في إنشاء حزب مناوئ لإخوانه، أضف إلى هذا أنه كان يعوزهم المال، ومنعتهم الأثرة من التضحية بمبلغ زهيد لا يزيد على المائة كيس لو أنهم ضحوا به لاستطاعوا — في رأي الوكلاء الفرنسيين — أن يأخذوا المنيا، ولساعد ذلك على جمع شملهم، وقد زادت وفاة البرديسي من حدة هذه الانقسامات والخلافات السائدة بينهم والتي مهدت للألفي طريق الانتفاع منها.
ذلك أن مماليك البرديسي اختاروا رئيسًا لهم من بعده شاهين بك المرادي، وكان رجلًا شجاعًا، ولكنه لا ذكاء ولا رأي له، ثم إنه كان عدوًّا للألفي، وتسبب في قتل حسين بك الوشاش أحد أتباعه، ورفض إبراهيم وعثمان حسن الاعتراف به، ووجدا الفرصة سانحة لجمع كلمة المماليك، وقد أزالت وفاة البرديسي العقبة الكأداء التي حالت دائمًا دون الاتفاق مع الألفي، فبعثا إليه يبلغانه استعدادهما لقبول أي ترتيب أو تنظيم يطلبه، وسألاه الحضور إلى الصعيد ليبحث معهما الوسائل التي بها يستعيد المماليك سلطانهم السابق، وبادر هذا الأخير بإبلاغ النبأ إلى «مسيت» ووجد في وفاة خصمه وتقوية مركزه بين البكوات تبعًا لذلك فرصة مواتية لتجديد مسعاه في القسطنطينية، واستنهاض همة السفير الإنجليزي بها للتوسط بينه وبين الباب العالي، فكتب إلى «مسيت» في ٣٠ نوفمبر أنه جاءه خطاب من والده العزيز إبراهيم بك شيخ البلد يبلغه نبأ وفاة أخيه عثمان بك البرديسي الذي وإن أسف على فقده كأحد إخوانه، فإنه يعتقد كذلك أن الله سبحانه وتعالى قد انتقم منه لعداواته ضده، ثم استطرد يقول إنه يرجو أن يكون في هذا الحادث ما يجعل سهلًا دخوله إلى القاهرة سريعًا؛ حيث إن إبراهيم بك يرجوه أن يبذل قصارى جهده لتحقيق ذلك، ولما كان سائر البكوات قد انحازوا إليه الآن فقد قوي أمله في امتلاك القاهرة وإعادة الهدوء والسكينة إلى البلاد؛ وعلى ذلك فهو يبعث إلى «مسيت» — كما قال — خطابًا باسم الوزراء العثمانيين يرجوه أن يرسله إلى صديقه (أي صديق الألفي) السفير الإنجليزي في القسطنطينية حتى يسلمه هو شخصيًّا إلى هؤلاء الوزراء، ثم أخذ الألفي يؤكد أن محمد علي لا يلقى نجاحًا في إدارته وحكمه، وأن ظفره بالولاية من الباب العالي أو القبطان باشا إنما كان بفضل المال الذي نهبه من سكان القاهرة وأهل الريف على السواء، بل أن هذه المظالم التي ارتكبها قد جعلت الناس جميعًا يستمطرون عليه اللعنات، وطلب الألفي من «مسيت» إبلاغ ذلك كله إلى السفير حتى ينقله إلى وزراء الدولة، ثم اختتم رسالته بقوله: ولما كنت أعرف أنك ترغب كذلك في رؤية الهدوء والسكينة يعودان سريعًا إلى هذه البلاد، فرجائي ألا يحول فصل الشتاء أو أي سبب تافه قد تتذرع به الحكومة العثمانية دون العمل السريع.
ووصل هذا الخطاب إلى «مسيت» يوم أول ديسمبر ١٨٠٦، ثم بادر هذا بإرساله إلى «أربثنوت» في ٢ ديسمبر، ولكنه قال تعليقًا عليه إنه لا يؤمن بما ذهب إليه الألفي من أن وفاة البرديسي من شأنها انضمام جماعته إلى الألفي، زدْ على ذلك أنه لا ينتظر أن يرضى خليفة البرديسي بوضع يضعه في مرتبة ثانوية بالنسبة للألفي، ووزراء الباب العالي سوف يعتبرون وفاة البرديسي حادثًا سعيدًا؛ لأنه كان عدوًّا ذا مقدرة، ومن المتوقع أن ينظر الباب العالي لهذا الحادث بغير العين التي ينظر بها الألفي له، وفي ٢٧ ديسمبر، كتب «مسيت» إلى «وندهام» يوضح الأسباب التي جعلت الألفي يريد السعي من جديد لدى الباب العالي فقال: إنه يبني آمالًا عريضة على وفاة منافسه البرديسي من حيث إن هذا الحادث سوف ينهي العداوة التي استحكمت من مدة طويلة بين جماعته وجماعة البرديسي؛ ولذلك فهو قد قدم عريضة إلى وزراء الباب العالي يذكر فيها حيث إن سبب الخلافات السائدة بين البكوات قد زال الآن فمن السهل على الحكومة العثمانية أن تعيد للمماليك تلك السلطة التي تمتعوا بها سابقًا.
على أن هذه المحاولة وقد كانت آخر سهم تبقى للألفي في جعبته لم تأتِ بأية نتيجة؛ فقد أجاب «أربثنوت» من القسطنطينية في ١٥ يناير ١٨٠٧ على رسائل «مسيت» تلك التي بعث بها هذا الأخير إليه بأن وكيل الألفي قد زاره وأخبره بانتصار الألفي على محمد علي، وراح يطلب منه وساطته لدى الباب العالي، ثم استطرد يقول إنه يرفض القيام بهذه الوساطة بسبب الظروف الراهنة (إعلان الحرب بين تركيا وروسيا حليفة إنجلترة وتهيؤ هذه لإرسال الأميرال «داكويرث» إلى مياه القسطنطينية والجنرال «فريزر» إلى الإسكندرية)، ولا سيما بعد كل ما حدث في المفاوضات السابقة بين كتخدا الألفي وبين الباب العالي، وينصح «مسيت» لذلك بعدم التدخل إلا إذا رأت الحكومة الإنجليزية غير ذلك، وفضلًا عن ذلك فإنه يجب أن يكون أمرًا مقررًا ومفروغًا منه أنه من المتعذر كلية وضع أية ثقة في الألفي أو غيره من البكوات؛ لأن هؤلاء جميعًا سوف يطلبون دائمًا ودون أي تمييز مساعدة كل دولة قد يتراءى لهم أن بوسعها خدمتهم وتحقيق مآربهم، وكذلك فمن الواجب أن يعتبر أمرًا مقررًا ومفروغًا منه أن الباب العالي لن يوافق بحال من الأحوال على وساطتنا، وقد يطلب هذا مساعدتنا إذا فقد مصر مرة ثانية، وقد يبحث عنها بنفسه وقتئذٍ، وحتى نجاحنا ذاته سوف يكون مبعث حسدنا؛ لأنه بالرغم من المزايا التي قد تجنيها الإمبراطورية العثمانية من انتصاراتنا فإن الذعر الذي سوف ينشأ من بروز قوتنا بهذه الصورة لن تمكن إزالته من النفوس، فقد لا يريد الباب العالي أن يرى الفرنسيين يبقون في مصر، ولكن طردهم منها على يد الإنجليز سوف يكون بالنسبة للباب العالي بمثابة اختبار بين أحد شرين.
ولكنه قبل وصول هذه التعليمات إلى «مسيت» كان الألفي قد رفع الحصار عن دمنهور وبدأ انسحابه صوب الصعيد.
حقيقة كانت عروض إبراهيم وعثمان حسن له مغرية، وتؤذن بتوليه رئاسة البكوات، لا سيما وأنه كان قد اشترط قبل الدخول في أي اتفاق مع بكوات الصعيد إبعاد شاهين بك المرادي وبعض البكوات الآخرين من بيت البرديسي ونفيهم إلى إبريم كضمان — في رأيه — لقبول سائر البكوات لرئاسته بعد أن عارض إبراهيم وعثمان وحسن في تعيين شاهين المرادي خليفة للبرديسي، ثم كان من المتعذر عليه البقاء في البحيرة بعد أن استنفد كل ما بها من زرع وضرع حتى كادت تكون بلقعًا يبابًا، ولا سبيل إلى جلب المؤن منها لجيشه، وذلك علاوة على ما تقدم من أسباب جعلت متابعة الحصار مهمة شاقة عسيرة، إلا أنه كان من ناحية أخرى يشعر في قرارة نفسه أنه لا يستطيع الاعتماد على البكوات القبالي في مؤازرته ومعاضدته، أضف إلى هذا أن ذهابه إلى الصعيد سوف يجعله بعيدًا من المكان المترقب نزول الحملة الإنجليزية به، ولكن الوكلاء الإنجليز — على نحو ما ذكر «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في ١٠ ديسمبر — لم يلبثوا أن أشاروا عليه بتلبية دعوة وكلاء الصعيد حتى يفيد من الاضطرابات الواقعة في صفوفهم بعد وفاة البرديسي، فقرر الألفي أن يبذل مجهودًا أخيرًا لإخضاع دمنهور، حتى إذا دانت له بقي بها أو فك الحصار عنها مكرهًا، وانسحب من البحيرة.
وكان الضيق قد أخذ كل مأخذ بأهل دمنهور لعدم وصول أية نجدات إليهم، حتى إنهم بدءوا من أوائل ديسمبر يفكرون جديًّا في التسليم، وبعثوا بمندوبيهم إلى الألفي للمفاوضة معه في ذلك، وكادت تنفرج أزمته، ولكنه سرعان ما أضاع الفرصة بسبب جوره وعسفه عندما قتل ثمانية وعشرين من الفلاحين كان العربان قد فاجئوهم في أوقات مختلفة يتسللون من دمنهور ينقلون بعض المؤن إليها، أو قبضوا عليهم وهم يحاولون الخروج منها خفية، فقتلهم الألفي أيام العيد الصغير (١٢–١٥ ديسمبر)، ونفر منه بهذه الفعلة الشنيعة أهل دمنهور، فأبطلوا مفاوضاتهم معه، ووطدوا النفس على الدفاع إلى النهاية وحتى آخر رمق فيهم؛ وعلى ذلك، فقد صدوا هجومًا عنيفًا قام به الألفي في ١٦ ديسمبر، وخسر في هذا الهجوم الفاشل اثنين من كشافه وسبعة أو ثمانية من مماليكه عدا العشرين من مشاته تقريبًا، وهكذا أخفق آخر جهد له في إخضاع دمنهور عنوة، ثم بدأ يحدق به الخطر من كل جانب عندما استولى اليأس على جنده، وشحت الأقوات في معسكره، وخشي الجند والعربان أن تفتك بهم المجاعة، وصاروا يهددون بتركه إذا هو أصر على البقاء أمام دمنهور، ثم خرجت أخيرًا حامية رشيد لتعزيز حامية الرحمانية وهي التي في وسعها منع مماليك الألفي وجنده من الخروج إلى الدلتا، وبدأت قوات الباشا تتجمع في إمبابة للزحف على دمنهور وتخليصها من الحصار المضروب عليها، وعندئذٍ لم يجد الألفي مناصًّا من رفع الحصار عنها والانسحاب صوب الفيوم والصعيد في ٢٨ ديسمبر ١٨٠٦.
وكان انسحاب الألفي على هذه الصورة هزيمة شنيعة له، فقال «مسيت» في رسالته إلى «أربثنوت» في ٣١ ديسمبر يعلل هذا الانسحاب بقوله: إن محمد علي يستعد استعدادًا عظيمًا لشن هجوم على الألفي، فعبر جزء من جيشه النيل معسكرًا عند إمبابة على الشاطئ الأيسر للنهر، ولا يلبث أن يلحق به بقية الجيش، وأعلن الباشا أنه سيتولى بنفسه قيادة الحملة، وهذا بينما لا يعتبر الألفي نفسه قويًّا بالدرجة التي تمكنه من مقاومة محمد علي وجيشه، فقرر مغادرة البحيرة والانسحاب إلى الفيوم حيث تتاح له الفرصة أن يتلقى وهو بها عند الضرورة الإمدادات من إخوانه بالصعيد، وقد اضطر الألفي اضطرارًا لاتخاذ هذه الخطوة، ويشعر بالخجل لتركه حصار دمنهور، ومع أنه كان بوسعه فيما مضى اقتحامها عنوة واقتدارًا فقد آثر أن يحاصرها وأن يضطرها إلى التسليم بتجويعها، ولكن الاستياء منه يسود اليوم جنده، وبخاصة العربان الذين معه، حتى إنه صار يخشى إذا هو واجه العدو أن يتركه رجاله، ذلك هو السبب الحقيقي لانسحابه إلى الفيوم ولو أنه يرفض الاعتراف به ويعزو انسحابه إليها إلى قلة المؤن في البحيرة.
وأما الشيخ الجبرتي فقد عزا اندحار الألفي وانصرافه عن دمنهور إلى أسباب أربعة، فقال: ولما تنحت عشيرته ولم يلبوا دعوته وأتلفوا الطبخة وسافر القبودان وموسى باشا من ثغر إسكندرية، استأنف أمرًا آخر وراسل الإنجليز يلتمس منهم المساعدة وأن يرسلوا له طائفة من جنوده؛ ليقوى بهم على محاربة الخصم كما التمس منهم في العام الماضي، فاعتذروا له بأنهم في صلح مع العثماني، وليس في قانون الممالك إذا كانوا صلحًا أن يتعدوا على المتصادقين معهم، ولا يوجهون نحوها عساكر إلا بإذن منهم أو بالتماس المساعدة في أمر مهم، فغاية ما يكون المكالمة والترجي، ففعلوا وحصل ما تقدم ذكره ولم يتم الأمر، فلما خاطبهم بعد الذي جرى صادف ذلك وقوع النفرة بينهم وبين العثماني فأرسلوا إليه يوعدونه بإنفاذ ستة آلاف لمساعدته، فأقام بالبحيرة ينتظر حضورهم نحو ثلاثة شهور، وكان ذلك أوان القيظ وليس ثم زرع ولا نبات، فضاقت على جيوشهم الناحية، وقد طال انتظاره للإنجليز، فتشكى العربان المجتمعون عليه وغيرهم لشدة ما هم فيه من الجهد، وفي كل حين يوعدهم بالفرج ويقول لهم: اصبروا لم يبقَ إلا القليل، فلما اشتد بهم الجهد اجتمعوا إليه وقالوا له: إما أن تنتقل معنا إلى ناحية قبلي فإن أرض الله واسعة، وإما أن تأذن لنا في الرحيل نطلب القوت، فما وسعه إلا الرحيل مكظومًا مقهورًا من معاندة الدهر في بلوغ المآرب، الأول مجيء القبودان وموسى باشا على هذه الهيئة والصورة ورجوعهما على غير طائل، الثاني عدم ملكه دمنهور، وكان قصده أن يجعلها معقلًا ويقيم فيها حتى تأتيه النجدة، الثالث تأخر مجيء النجدة حتى قحطوا واضطروا إلى الرحيل، الرابع وهو أعظمها مجانبة إخوانه وعشيرته وخذلانهم له وامتناعهم عن الانضمام إليه.
وسار الألفي في انسحابه بخطوات بطيئة، يتقدم جيشه شاهين بك الألفي، ويعيث هذا الحشد من أجناد ومماليك وعربان حوالي السبعة أو الثمانية آلاف بعتادهم وحيوانهم فسادًا في كل مكان مروا به، وأحرق شاهين الألفي قريتين بالقرب من طرانة، واقترب هذا الحشد العظيم من وردان (٧ يناير ١٨٠٧)، وبدأت تصله الأنباء عن فشل محاولاته لإبعاد شاهين بك المرادي وزملائه من أنصار البرديسي؛ ذلك أن هذا الشرط الذي اشترطه الألفي للذهاب إلى الصعيد لم يلبث أن أثار تذمر البكوات، فانحاز سليمان بك الجرجاوي إلى شاهين المرادي وضما كل المشاة في بيت البرديسي، وصار لهما حزب قوي، وأبدى محمد علي نشاطًا عظيمًا لمواجهة جيش الألفي، فحشد هو الآخر حوالي الأربعة آلاف من جنده منذ ١٢ يناير ذهب بهم إلى شبرا الخيمة ثم احتل إمبابة وجعلها مركزه العام، وكان شاهين الألفي قد احتل قبل ذلك بيوم واحد الكوم الأسود وهي قرية تقع إلى الجنوب الغربي من إمبابة وفي سفح الأهرام تقريبًا، فدارت بين الفريقين معركة في ١٣ يناير، وارتد شاهين الألفي بعد أن جرح إلى الكوم الأسود، وبدلًا من أن تتعقبه الأرنئود وبالرغم من إلحاح محمد علي عليهم في ذلك آثروا العودة إلى القاهرة ورفعوا عقيرتهم من جديد يطالبون بمرتباتهم المتأخرة، فاستطاع الألفي أن يواصل سيره بسلام، فبلغ كفر حكيم في ٢٧ يناير، وانتشر جيشه بالبر الغربي ناحية إمبابة والجيزة، وغادر الألفي كفر حكيم في اليوم نفسه، ورتب محمد علي وأصناف العساكر ووقفوا على ظهر خيولهم، واصطفت الرجالة ببنادقهم وأسلحتهم، ومر الألفي في هيئة عظيمة هائلة وجيوش تسد الفضاء وهم مرتبون طوابير على هيئة عسكر الفرنسيين ومعهم طبول بكيفية قرعت عقولهم، وصحبته قبائل العرب من أولاد علي والهنادي وعربان الشرق في كبكبة زائدة، والباشا والعساكر وقوف ينظرون إليهم من بعيد، والباشا ينظر إليه تارة بعينه وتارة بالنظارة وهو يتعجب ويقول: هذا طهماز الزمان وإلا إيش يكون؟ ثم قال للدلاة والخيالة: تقدموا وحاربوا وأنا أعطيكم كذا وكذا من المال … فلم يتجاسروا على الإقدام، وصاروا باهتين ويتناجون فيما بينهم ويتشاورون في تقدمهم وتأخرهم، وقد أصابوه بأعينهم.
وكان الألفي قد تأكد لديه قبل ذلك في ٢٦ يناير خبر إخفاق مشروعه الذي أراد منه السيطرة على البكوات في الصعيد، فقد استطاع شاهين المرادي تقوية حزبه، واتخذ من اشتراط الألفي نفي أنصار البرديسي إلى إبريم وسيلة لجمع المؤيدين حوله لمعارضة إبراهيم بك وعثمان حسن بالقوة إذا اقتضى الأمر، وتسلم الشاهين المرادي رئاسة جماعة البرديسي من جديد، بينما انسحب عثمان حسن إلى أبنوب وإبراهيم بك إلى أسيوط، وأدرك الألفي أنه صار من المتعذر عليه جمع بكوات الصعيد حوله، أو انتظار اتحاده معهم في أي مجهود حربي مشترك ضد محمد علي، فأحزنه هذا الفشل، واستبد به الغيظ والغضب، وفي ٢٨ يناير وصل جيشه إلى قرب قناطر شبرامنت.
وخرج يتريض على حصانه وخلفه بعض المشاة خارج المعسكر، وكان ذلك بناحية المحرقة بالقرب من دهشور، فشاهد بعض جمال للبدو في حقل مزروع قمحًا، فأحنقه ذلك وقتل بيده في سورة غضبه أربعة من البدو الذين صادفهم في الحقل، وكان من بينهم شيخ قبيلة، فلما عاد إلى خيمته انتابته تشنجات عصبية صحبها قيء من الدم والصفار الكثير، وشعر بدنو أجله فجمع فورًا كل بكوات بيته، ورأس عليهم شاهين بك الألفي، وأوصاهم بالاتحاد فيما بينهم، والاستمرار قبل كل شيء على مقاومة محمد علي، والذهاب إلى الصعيد للانضمام إلى سائر البكوات هناك، كما أوصاهم أن يحملوه إذا مات إلى وادي البهنسا، وأن يدفنوه بجوار قبور الشهداء، ثم مات في تلك الليلة وهي ليلة الأربعاء ١٩ ذي القعدة ١٢٢١ (٢٧-٢٨ يناير ١٨٠٧)، وكان عمره عند وفاته خمسًا وخمسين سنة، وقال بعض من حضروا وفاته: إنه سرعان ما صار لون جثته داكنًا، واستنتجوا من ذلك أنه مات مسمومًا، واتهموا بسمه إحدى نسائه ابنة شيخ القبيلة العربي الذي قتله الألفي، فانتقمت لأبيها بإعطائه السم، واختلفت الروايات في سبب وفاته، فقال الجبرتي: «إن خلطًا دمويًّا تحرك به وفي الحال تقيأ دمًا»، وقال آخرون: إنه قضى نحبه من جراء إصابته بالكوليرا، وفي رأي «مسيت» أنه أصيب بالتهاب في الرئة قضى عليه، وقد نجحت هذه الإصابة — على حد قول «مسيت» في رسالته إلى «أربثنوت» في ٧ فبراير ١٨٠٧ عن المجهود العظيم الذي بذله الألفي في قتاله الأخير مع جند الباشا، وقال «دروفتي» وهو ينقل هذا الخبر إلى حكومته في ٢ فبراير: إن الألفي قد مات في ٢٧ يناير، وهناك رأيان في سبب وفاته الفجائية: أولهما استبداد سورة الغضب به بعد أن قتل بيده أربعة من البدو، أحدهم شيخ قبيلة، وثانيهما أن ابنة هذا الشيخ المقتول وكانت من نساء الألفي قد دست له السم.
وقال الشيخ الجبرتي: «إن الألفي عند وصوله إلى قرب قناطر شبرامنت نزل على علوة هناك، وجلس عليها، وزاد به الهاجس والقهر، ونظر إلى جهة مصر القاهرة، وقال: يا مصر انظري إلى أولادك وهم حولك مشتتين متباعدين مشردين، واستوطنك أجلاف الأتراك واليهود وأرذال الأرنئود، وصاروا يقبضون خراجك، ويحاربون أولادك، ويقاتلون أبطالك، ويقاومون فرسانك، ويهدمون دورك، ويسكنون قصورك، ويفسقون بولدانك وحورك، ويطمسون بهجتك ونورك، ولم يزل يردد هذا الكلام وأمثاله حتى إذا حدث له ما حدث، وشعر بقرب منيته قال: قضي الأمر، وخلصت مصر لمحمد علي، وما ثم من ينازعه ويغالبه، وجرى حكمه على المماليك المصرية، فما أظن أن تقوم لهم راية بعد اليوم.»
وأما محمد علي فكان نائمًا في خيمته على الضفة اليسرى للنهر بالقرب من الجيزة عندما دخل عليه أحد عربان الهنادي في ٢٩ يناير يطيِّر إليه خبر وفاة الألفي، فلم يصدقه الباشا؛ لأن أتباع الألفي كانوا قد تكتموا الخبر ولم يشيعوه في العرضى، والذي أشاع الخبر وأتى بالبشارة رقيق البدوي الذي حمل جثمان الألفي على بعيره إلى البهنسا حيث دفن بها بجوار الشهداء، فلما تأكد الباشا بعد ذلك من وفاة الألفي أغدق على المبشر بذلك العطايا وألبسه فروة سمور ثم أمره أن يركب بتلك الخلعة، ويشق بها من وسط المدينة ليراه أهل البلدة (القاهرة)، وشاع ذلك الخبر في الناس الذين لم يصدقوه، وراحوا يقولون: إن هذا من جملة تحيلات الألفي، فإنه لما سافر إلى بلاد الإنجليز لم يعلم بسفره أحد، ولم يظهر سفره إلا بعد أشهر؛ فلذلك أمر الباشا ذلك المبشر أن يركب بالخلعة ويمر بها من وسط المدينة، ومع ذلك استمروا في شكهم نحو شهرين حتى قويت عندهم القرائن بما حصل بعد ذلك، فإنه لما تفرقت قبائل العربان التي كانت متجمعة حوله، وبعضهم أرسل يطلب أمانًا من الباشا وغير ذلك ثبت لديهم موت الألفي.
وكان من أثر تحقق وفاة الألفي أن عددًا كبيرًا من سكان وأعيان القاهرة الذين كانوا قد انضموا إليه، ما لبثوا أن تركوا شاهين بك خليفته، وحذا حذوهم أحد كشافه وجماعة من فرسان المماليك، وآخرون من مشاة الأتراك والأرنئود والنوبيين الذين كانوا في خدمته وانضموا إلى محمد علي، كما انفصل أولاد علي عن شاهين بك ورجعوا إلى بلادهم، وأما شاهين بك ومماليك الألفي وأجناده الباقون وسائر البكوات فقد ارتحلوا إلى الصعيد.
وبوفاة الألفي تخلص محمد علي من أشد خصومه عداوة له، وأعظمهم خطرًا على ولايته، ولقد كان محمد علي نفسه يقول: ما دام هذا الألفي موجودًا لا يهنأ لي عيش، ومثالي أنا وهو مثال بهلوانين يلعبان على الحبل لكن هو في رجليه قبقاب، فلما أتاه المبشر بموته قال بعد أن تحقق ذلك: الآن طابت لي مصر — أو الآن ملكت مصر — وما عدت أحسب لغيره حسابًا. وقد عد موت الألفي — على حد ما ذكره الجبرتي — «من تمام سعد محمد علي باشا الدنيوي.»