تنازع النفوذ بين «مسيت» و«دروفتي»
تمهيد
عانى محمد علي الشيء الكثير من خصومة الألفي له، حتى إن التنازع على السلطة والحكم صارًا منحصرًا — في واقع الأمر خلال عام ١٨٠٦ وحتى وفاة الألفي في يناير من العام التالي — بين محمد علي وغريمه الأكبر؛ لأن الألفي تميز عن سائر البكوات بأنه الرجل الذي حدد مقصده من نضاله مع محمد علي، وهو انتزاع الحكم منه، ولم تثنه عن عزمه إغراءات غريمه، بل وعمد إلى تمويهات المفاوضة على غرار ما فعل الباشا نفسه معه، سواء محمد علي حتى يبطل نشاطه ويتسنى له تقوية نفسه لاستئناف النضال، أو مع العلماء والمشايخ الذي آزروا خصمه حتى ينفرهم منه ويجذبهم إليه، وبينما تخاذل سائر البكوات وركنوا إلى الاستقرار بالصعيد منذ أن قضى على حكومتهم في القاهرة (١٨٠٤) ثم فرقتهم الانقسامات، تفاوض مندوبو الألفي في القسطنطينية، وكان نجاحهم مبعث تلك الأزمة الخطيرة — أزمة النقل إلى سالونيك — التي كادت تطيح بولاية محمد علي في مصر، ووثق الألفي صلاته بالوكلاء الإنجليز، وكانت هذه الصلات بينه وبين «مسيت» على وجه الخصوص مصدر خطر مستمر لحكومة محمد علي، فقد كمنت خصومة «مسيت» لمحمد علي وراء خصومة الألفي، وشجعت هذا الأخير على المضي قدمًا في مشروعاته لتأسيس حكومة مملوكية في مصر بزعامته.
ومنذ أن بدأ محمد علي كفاحه عقب المناداة بولايته من أجل البقاء في الحكم، كان لا ندحة له عن أن يدخل في حسابه خصومة «مسيت»، مع أنه ظل طوال هذا النضال المرير لا يدع فرصة تمر دون أن يظهر رغبته في كسب تأييده ولكن دون طائل، بل دأب هذا؛ أي «مسيت» على المراوغة والنفاق حتى يصرف الباشا ما قد يساوره من شكوك من ناحية، وحتى يبطل مساعي خصومه الوكلاء الفرنسيين لدى الباشا ضده، وكان مبعث خصومة «مسيت» لمحمد علي تصميمه على إعادة ما كان للبكوات من سلطات سابقة إليهم لاعتقاده أن في قدرتهم وحدهم الدفاع عن مصر ضد الغزو الفرنسي إذا تجدد بسبب تطور الحرب بين إنجلترة وفرنسا، ولما كان البكوات منقسمين إلى فريقين: أحدهما بزعامة البرديسي ويعتمد على مؤازرة فرنسا له، فقد صار طبيعيًّا أن يبذل «مسيت» قصارى جهده لمناصرة الحزب الآخر الذي أظهر ولاءه لإنجلترة بزعامة الألفي، لا سيما وقد ظل الألفي يؤكد هذا الولاء، ويعقد آماله في النصر وتسلم زمام الحكم على مؤازرة الإنجليز له، واعتمد «مسيت» من جهته على الألفي ومماليكه وأتباعه كالقوة التي في استطاعتها بما لديها من فرسان معاونة الإنجليز عند مجيء حملتهم إلى مصر، لا لدفع الغزو الفرنسي عنها فحسب، بل وكذلك — كما أراد «مسيت» — لاحتلال البلاد وامتلاكها.
ولم يكن نشاط «مسيت» مع الألفي أو مساعي رجال السفارة الإنجليزية في القسطنطينية لصالح المماليك سرًّا مكتومًا، ومع أن أحدًا من الوكلاء الإنجليز ورجال سفارتهم لم يتدخل في المفاوضات التي انتهت بتقرير إعطاء الألفي مشيخة البلد ونقل محمد علي إلى سالونيك، فقد اعتقد «دروفتي» أن أعداء فرنسا وهم الإنجليز قد نجحوا بفضل مكائدهم ونفوذهم في حمل الباب العالي على إرجاع السلطة إلى البكوات، وأدهش «دروفتي» أن يرضى الباب العالي بمقتضى النظام الجديد بإعطاء الألفي كل هذه السلطة العظيمة؛ حيث يضع ذلك موارد البلاد بأسرها في أيدي الإنجليز حماة الألفي، ويؤذي هذا العمل مصلحة الباب العالي نفسه، ولقد كان هذا الاعتقاد كافيًا لأن يبذل «دروفتي» جهده لتحطيم مشروعات الألفي، وكان «دروفتي» قد وضع نصب عينيه — نزولًا على تعليمات حكومته العامة وتوجيهاتها — مكافحة النفوذ الإنجليزي في مصر وإبطال مساعي الوكلاء الإنجليز لدى البكوات المماليك لجذبهم إلى جانبهم، فلما أن عاد الألفي من سفارته في لندن، وصار الوكلاء الإنجليز يعقدون آمالًا كبارًا في المدة التالية على استطاعته تأسيس الحكم المملوكي في مصر تحت رعايتهم ثم انبروا يؤيدونه أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، تبين ﻟ «دروفتي» قطعًا أن إحباط هذه المحاولات مرتبط من ناحية أخرى بتأييد الحكومة التي يسعى الألفي والإنجليز لهدمها؛ أي حكومة محمد علي.
وعلى ذلك فقد شهدت الفترة التي تلت المناداة بولاية محمد علي صراعًا عنيفًا بين «مسيت» و«دروفتي»، بدأ كحلقة من حلقات التنازع بين إنجلترة وفرنسا على النفوذ في مصر وفي صورته الأولى غير المتكافئة؛ بسبب إيجابية السياسة الإنجليزية وسلبية تلك الفرنسية، ثم اتخذ طريقًا جديدًا بعد ذلك بفضل ما طرأ من تبدل على السياسة الفرنسية المحلية نقلها من سلبيتها السابقة إلى محاولة التدخل تدخلًا إيجابيًّا في شئون البلاد والتأثير على مجريات الحوادث بها، فصار النزاع بين الفريقين متكافئًا، واتخذ في مرحلته الحاسمة صورة النضال من أجل تأييد الألفي كما فعل «مسيت» أو تأييد محمد علي كما فعل «دروفتي».
وأفاد محمد علي من هذا الصراع فائدة كبرى، بفضل ما كان لنصيره «دروفتي» من صفات المهارة الفائقة والنشاط الجم، والجرأة البالغة التي ميزته عن خصمه، وضمنت له التفوق عليه، وجعلته يبتدع سياسة إيجابية محلية يمضي قدمًا في تنفيذها، ويتحمل وحده مسئوليتها، بينما كان «مسيت» بطيء الحركة، لا قدرة له على ابتكار الأساليب التي تمهد له طريق الفوز، أو تنفيذ الخطط التي يعهد بها إليه تنفيذًا يكفل له النجاح، لا يتسع أفق تفكيره لإدراك ما يترتب على انقلاب مايو ١٨٠٥ الذي أوصل محمد علي إلى الولاية من آثار لا غنى له عن إدخالها في حسابه إذا شاء رعاية المصالح الإنجليزية والحيلولة دون وقوع غزو أجنبي على مصر من ناحية فرنسا، هدف سياسة حكومته المباشر من كل نشاطها منذ جلاء جيشها عن مصر في ١٨٠٣، بل فوت على نفسه وعلى حكومته الفرصة بسبب إصراره في عناد على مؤازرة المماليك والألفي، ومطالبته حكومته باحتلال الإسكندرية تمهيدًا — كما أراد — لاحتلال مصر بأسرها، وذلك بدلًا من تهيئة السبل لدعم أركان الحكومة القائمة وتقويتها بالدرجة التي تمكنها من الدفاع عن البلاد ورد الغزو الأجنبي عنها.
وقد خسر «مسيت» معركة تنازع النفوذ مع غريمه «دروفتي»؛ لأنه ألقى بثقله لترجيح الكفة الخاسرة كفة الألفي والمماليك عمومًا، وهم الذين فرقت بينهم الخلافات والأحقاد الشخصية، وسيطرت الأنانية على نشاطهم، ثم فات «مسيت» أن يدرك حقيقة على درجة عظيمة من الأهمية، هي أن الفصل في مصير هذه البلاد ارتهن في نظر الحكومة الإنجليزية بتطور النضال بينها وبين حكومة الإمبراطور الفرنسي، وعلاقة كل من هاتين الحكومتين بتركيا صاحبة السيادة الشرعية على مصر. وما كانت إنجلترة تريد احتلال مصر كجزء من خطتها العسكرية والسياسية الموضوعة وقتئذٍ، وما كانت لتؤثر بقاء قواتها في هذا البلد على استخدامها في ميادين أخرى إذا تبين لها أن مبعث الخطر الذي يتهددها ليس غزوًا فرنسيًّا يقع على مصر ولكن سيطرة نابليون في أوروبا ذاتها.
ولقد أسدى «دروفتي» خدمات جليلة لمحمد علي أعانته بدرجة كبيرة على اجتياز الأزمات التي صادفتها حكومته في دور التجربة والاختبار الذي كان عليها أن تمر به، وكانت خصومة «مسيت» مبعث صعوبات عديدة له، وبينما حدث تنازع على النفوذ بين «مسيت» و«دروفتي» عرفنا أسبابه وأصوله انفسح ميدان للنشاط الأجنبي في مصر عرف محمد علي كيف يفيد منه قبل كل شيء لزيادة التفرقة والانقسام بين المماليك وشك حركة بكوات الصعيد في الوقت الذي وجب عليه فيه أن يكرس كل جهوده لتخطي أزمة النقل إلى سالونيك بسلام أولًا، ثم التفرغ لملاقاة الإنجليز الذين جاءوا لاحتلال الإسكندرية في عام ١٨٠٧ ثانيًا.
(١) خصومة «مسيت» لمحمد علي
وينتمي «أرنست مسيت» إلى أسرة السير جون «ستيوارت» الذي حضر المكيدة المعروفة ضد البكوات في أكتوبر ١٨٠١، ثم أوفد في بعثته التي سبق الكلام عنها إلى تركيا وإلى مصر في عام ١٨٠٢ وتولى مهمة إخلاء الجيش الإنجليزي للبلاد في مارس من العام التالي، وقد عمل «مسيت» ياورًا للجنرال «ستيوارت»، وأوفده الأخير لمقابلة الألفي عند بركة غطاس قبيل معركة دمنهور (٢٠ نوفمبر ١٨٠٢) وبعدها، ثم إنه عندما وصله أمر حكومته بإبقاء ضابط مقيم بالقاهرة بعد رحيل الجيش البريطاني من مصر للاتصال مع ممثل الباب العالي بها ومع سفير بريطانيا في القسطنطينية، بشأن كل الأمور التي قد تتعلق بما نجم عن إقامة الجيش بالبلاد؛ أي فيما يتعلق بحكومة الباشا العثماني من جهة وبنشاط المماليك من جهة أخرى، وتعطيل المكائد الفرنسية من جهة ثالثة، فقد وقع اختيار «ستيوارت» على الميجور «مسيت» لملء هذا المنصب، وأبلغ الباشا العثماني وقتئذٍ، خسرو محمد نبأ هذا التعيين في ٢١ يناير ١٨٠٣، وبعث إليه بمسيت حتى يبلغه ما لدى ستيوارت من تعليمات بشأن الجلاء، ورغبة حكومته في وجود مقيم لها بالقاهرة للأغراض السالفة الذكر، وحتى يشرف «مسيت» في الوقت نفسه وبصورة مؤقتة على مصالح بريطانيا التجارية في مصر وعلى شئون رعاياها أو الأجانب الذين هم تحت حمايتها، وقد رحب خسرو باشا ٩ فبراير بوجود مقيم بريطاني في مصر له الاختصاصات التي ذكرها الجنرال «ستيوارت»، وسره أن يقع اختيار الأخير على الميجور «مسيت» للقيام بهذه المهمة؛ وعلى ذلك فقد بقي «مسيت» ضمن أعضاء البعثة التي تركها «ستيوارت» في مصر قبل مغادرته البلاد، وكانت تتألف — على نحو ما سبقت الإشارة إليه عند بسط السياسة الإنجليزية الإيجابية في مصر — من الكابتن هايز والسيد بريجز إلى جانب «مسيت» نفسه، وكانت مهمة الأخير إلى جانب ما ذكرناه حسبما جاء في تعليمات «ستيوارت» إليه في ٨ مارس الوقوف على آراء خسرو محمد الباشا العثماني، في المسائل التي هي موضع اهتمام حكومة لندن، وفي ٩ مارس أبلغ «ستيوارت» اللورد «هوبارت» نبأ تعيينه الميجور «مسيت» الذي قام بوظائف سكرتيره وكيلًا بريطانيًّا في مصر.
وقد اعتبر وجود هذه البعثة المؤلفة من «هايز» و«مسيت» و«بريجز» ذا منفعة كبيرة في وقت كان من المنتظر أن يزول فيه بعد رحيل الجيش البريطاني من مصر مبعث الخوف الذي ظل يردع العثمانيين والمماليك أثناء وجود الإنجليز عن الانغماس في خصومتهم ضد بعضهم بعضًا أو يخشى فيه أيضًا من أن يتناسى هؤلاء تلك النصائح الثمينة التي حرص على إسدائها إليهم دائمًا قواد الحملة وكبار رجالها لإنهاء نزاعاتهم والتوفر على تمكين البلاد من الدفاع عن نفسها ضد الغزو الأجنبي.
وأما «مسيت» فقد اتخذ مقره بالقاهرة إلى أن انتقل في فبراير ١٨٠٤ إلى الإسكندرية، ثم ظل يشغل منصب الوكيل البريطاني في مصر حتى أبلغه «أربثنوت» السفير الإنجليزي في القسطنطينية في ٥ يونيو ١٨٠٦، أنه قد جاءته من إنجلترة أوراق اعتماده (أي اعتماد «مسيت») قنصلًا عامًّا لحكومة جلالة الملك في مصر، وأنه (أي «أربثنوت») قد نال تثبيت هذا الاعتماد من الباب العالي.
ورسخ في ذهن «مسيت» لتأثره بآراء العسكريين والسياسيين الإنجليز الذين عنوا بموضوع الدفاع عن مصر بعد جلاء جيشهم عنها، ثم بما بذل من جهود سواء في القاهرة أو في القسطنطينية لإنهاء النزاع بين الباب العالي وبين البكوات المماليك لإمكان ترتيب هذا الدفاع، أن الأخيرين وحدهم هم الذين في استطاعتهم إذا استرجعوا سلطانهم القديم في حكم هذه البلاد رد الغزو الأجنبي الفرنسي عنها، ولم يفد تطور الحوادث شيئًا في زحزحة «مسيت» عن اعتقاده، بل على النقيض من ذك كان يتزايد عناده بدرجة توفر الأدلة على أن المماليك لن ينجحوا في إنشاء حكومة ثانية في مصر، ويبدو أن هذا العناد قد استبد به حتى إنه أفقده القدرة على وزن الأمور وزنًا صحيحًا وجعله ينخدع بظواهرها في أحايين كثيرة، وكان — علاوة على ذلك — من أهم بواعث حقده على محمد علي.
وظهر عجز «مسيت» عند أول أزمة صادفته بعد تسلمه مهام منصبه في القاهرة، عندما طرد خسرو باشا من الولاية وأعلنت قائمقامية طاهر باشا، وقد كان ما حدث عصيانًا ظاهرًا على الباب العالي الذي أقصى ممثله الشرعي عن الحكم، ومع ذلك فقد كتب «مسيت» إلى «هوبارت» في ٨ مايو ١٨٠٣ يصف مركزه بأنه صار دقيقًا؛ لأنه لا يدري هل يعتبر طاهر باشا عاصيًا على الدولة أم من رعاياها المخلصين؟
بيد أن مقتل طاهر باشا بعد قليل أغنى «مسيت» عن الفصل في هذه المسألة، ولو أن الحوادث ما لبثت أن تلاحقت بسرعة بعد ذلك إثر بعضها بعضًا حتى شهد «مسيت» تأسيس الحكومة الثلاثية في القاهرة من البرديسي وإبراهيم ومحمد علي، ومع أنه توقع أن تنفصم عرا الاتحاد بين البكوات وبين الأرنئود وزعيمهم محمد علي قبل مضي وقت طويل، فإنه لم يتخذ للأمر عدته؛ فلم يفلح في استمالة البكوات أصحاب السلطة في القاهرة، وهم الذين اعتقد «مسيت» أنهم على صلات وثيقة بالوكيل الفرنسي «ماثيو لسبس» ويؤيد عثمان البرديسي على وجه الخصوص المصلحة الفرنسية، ولم يفلح في كسب ثقة محمد علي والأرنئود وهم القوة العسكرية التي استندت عليها الحكومة المملوكية والتي دلت حوادث إخراج أحمد باشا والي المدينة وينبع من البلاد ودعوة البكوات أنفسهم لتسليم مقاليد الحكم في القاهرة على أنهم قوة ذات أثر في الموقف لا يجوز إغفالها، زد على ذلك أن البكوات بنزاعهم مع علي باشا الجزائرلي الذي تعين لباشوية القاهرة كانوا عصاة وثوارًا على الباب العالي، ولكن «مسيت» بقي بالقاهرة، واستأثر بانتباهه الموضوع الذي شغله دائمًا وهو ترتيب الدفاع عن مصر، فقد علم بأن إنجلترة أعلنت الحرب في ١٦ مايو ١٨٠٣ على فرنسا وهولندة والجمهورية الإيطالية ومملكة أتروريا، فبعث بهذا الخبر إلى حكومة الهند، وصار — كما قال في رسالته إلى «هوبارت» من القاهرة في ٨ يوليو يشير بشدة على البكوات بأن يضعوا قوات قادرة على الدفاع في كل من دمياط ورشيد، وبأن يشرعوا فورًا في إصلاح قلعة أبي قير المهدمة، مبينًا لهم ضرورة هذه الخطوات التي يتسنى عند اتخاذها دفع الغزو الفرنسي عن البلاد، وهو غزو من المحتمل وقوعه إذا أفلت الفرنسيون من مراقبة أسطول الإنجليز اليقظة.
ولما كان عثمان البرديسي يبذل جهده في هذه الآونة لإغراء «ماثيو لسبس» على ترك الإسكندرية والمجيء إلى القاهرة ويؤكد له صداقته للأمة الفرنسية، وكانت الحكومة الثلاثية علاوة على ذلك مشغولة بمطاردة خسرو وتدبر أمر علي الجزائرلي؛ فقد تلقى البكوات مشورة «مسيت» بالاحترام، ووعدوه باتباع نصائحه، ولكن «مسيت» كان يعلم أنهم لن يفعلوا شيئًا مما أشار به عليهم، واعترف بشعوره أنه لا يصح الاعتماد على أقوالهم كثيرًا، وتوقع لذلك أن العدو أو الفرنسيين سوف لا يجدون صعوبة تذكر إذا حاولوا وقتئذٍ فتح هذه البلاد، وتحير «مسيت» في أمره، كيف يكسب البكوات في القاهرة إلى جانبه؟ فهداه تفكيره — على نحو ما ذكر في رسالة أخرى للورد «هوبارت» في اليوم نفسه — أن المال ومظاهر الثراء هما اللذان يكفلان نجاح الدولة الأجنبية في بلدان الشرق فيقول: إن عملاء أو وكلاء الدول الأجنبية في مصر يمارسون التجارة مما يعود عليهم بأرباح مالية طائلة، ويجعل لهم أصدقاء من بين المتصلين برجال الحكم، فيتمتعون لذلك بنفوذ لا يمكن أن يكون لهم إذا هم اقتصروا على استخدام الوسائل الشريفة في نشاطهم فحسب، زد على ذلك أن هذا الثراء يكسبهم فخامة المظهر الذي يتزايد أيضًا بنسبة نفوذهم، وللثروة في البلاد الشرقية القدرة على إرغام الناس على احترام أصحابها، وليست لي هذه المزايا، وبدونها لا يمكن أن يصبح لي نفوذ على البكوات في تشكيل آرائهم أو لمحاولة معرفة أغراضهم، وللوصول إلى ذلك أهمية كبرى في هذه الظروف وبخاصة إذا أرسل الباب العالي ضدهم جيشًا إلى مصر.
وقد يكون هذا التفسير الذي علل به «مسيت» انعدام أي نفوذ له على بكوات القاهرة أو عدم احترام هؤلاء له صحيحًا، ولكن الثابت أن مبعث ازدراء هؤلاء له وخصوصًا عثمان البرديسي إنما كان سوء تصرف «مسيت» أثناء مهمة «فشنتزو تابرنا» الذي أوفده السير «ألكسندر بول» سكرتيرًا لبعثة الميجور «مسيت» لجس نبض البكوات فيما يتعلق بتنفيذ مشروع «بول» الخاص بالدفاع عن مصر، فقد أفهم «مسيت» البكوات أن «تابرنا» مزود بسلطات من الحكومة الإنجليزية لعقد اتفاق مع هؤلاء لمساعدتهم في تحصين الشاطئ المصري والدفاع عن البلاد وأن في وسع البكوات أن ينتظروا كل معاونة من مالطة، حتى إن هؤلاء ما لبثوا أن أوفدوا سليم أفندي مندوبًا عنهم للمفاوضة وإبرام الاتفاق مع السير «ألكسندر بول» في مطالة، ولكن فشل سليم أفندي في مهمته للأسباب التي ذكرناها في موضعها جعل البرديسي يعتقد — كما قال «لسبس» في رسالته إلى «تاليران» في أول ديسمبر ١٨٠٣ — أن «مسيت» قد خدعه فأساء البكوات معاملة «مسيت» ومنعه كبرياؤه من ذكر ذلك في رسائله إلى حكومته، ولو أنه اعترف في رسالته إلى اللورد «هوبارت» في ١١ فبراير ١٨٠٤ — وقد أشرنا إليها عند الكلام عن سوء الحكم والإدارة في عهد الحكومة الثلاثية — بأنه اضطر إلى مقاومة لغة التهديد التي خوطب بها بإظهار عزمه على إطلاق النار على كل من تحدثه نفسه باقتحام منزله عليه مهما كانت مرتبته، كما اختتم رسالته هذه بقوله إنه وجد بقاءه بالقاهرة غير مأمون العواقب، وإنه لذلك سوف يغادرها حالًا إلى الإسكندرية، وقد غادر القاهرة فعلًا في ٢٣ فبراير ١٨٠٤.
وكان مما نفر البكوات منه وزاد البرديسي اعتقادًا بأنه إنما يبغي التدليس عليه وخديعته، أن «مسيت» باعترافه هو نفسه بينما كان يؤكد للأهلين عدم احتمال مجيء الفرنسيين إلى هذه البلاد راح يؤكد للبكوات أن الغزو الفرنسي أمر مفروغ منه وواقع لا محالة، وقد حاول «مسيت» تبرير مسلكه الخاطئ هذا بقوله — في رسالته إلى «هوبارت» من الإسكندرية في ٢٧ فبراير — إنه كان يهدف إلى منع الأهلين من تشجيع الوكيل الفرنسي «ماثيو لسبس» على المضي في دسائسه ومكائده، وهو الذي يعتبر بطبيعة الحال أن صداقة شعب لحق به الأذى قد يصبح عاملًا قويًّا في إمكان تحقيق مشروعات الجمهورية الفرنسية، ومع أن الألفي منافس البرديسي وغريمه كان قد عاد من سفارته إلى لندن مؤيدًا من الإنجليز، فقد خُيِّل إلى «مسيت» أن بوسعه استخدام لغة الوعد والوعيد مع البرديسي حتى يجذبه إلى تعزيز المصالح البريطانية، فذكر في كتابه إلى «هوبارت» في ٢٢ فبراير؛ أي قبل مغادرته القاهرة بيوم واحد أنه أبلغ «تابرنا» بسبب ما فعله البرديسي مع الألفي ومطاردته له أن يذكر للبرديسي إذا تحدث هذا عن صداقته لإنجلترة أن الواجب يقتضيه إقناع العالم بأن ما فعله مع الألفي لم يكن الغرض منه مهاجمة النفوذ الإنجليزي بطريق غير مباشرة، وأن عليه أن يرفض كل علاقة مع فرنسا، وأنه لا يكفي أن يتخذ — وكما فعل حتى الآن — موقف حياد يجعله صاحبه موضع شكوك كثيرة، بل من المنتظر منه أن يؤيد بحرارة قضية الإنجليز ويبذل قصارى جهده حتى يجعل أية محاولة تأتي من جانب فرنسا لغزو مصر أمرًا متعذرًا وغير عملي.
وقال «مسيت» يفسر سياسته هذه: إن غرضه من جعل عثمان البرديسي نهبًا بين بواعث الخوف والرجاء أن يترك لحكومة صاحب الجلالة البريطانية الميدان فسيحًا إذا وجدت من المناسب اتخاذ إجراءات نشيطة ضد هذا البك دون أن يكون له وجه حق في الشكوى من ذلك، ثم منعه في الوقت نفسه من الارتماء في أحضان فرنسا. وغني عن البيان أن هذا الأسلوب لم يردع عثمان البرديسي، بل حاول الأخير أن يتخذ من تصريحات وبلاغات «تابرنا» و«مسيت» ذريعة لإقناعهما بضرورة تخلي الحكومة الإنجليزية عن مؤازرة الألفي، وكان من السهل عليه للوصول إلى هذه الغاية أن يؤكد لهما صداقته لبريطانيا، بينما ظل يناصب العداء صديق بريطانيا وحليفها الألفي، ولا يمتنع عن فرض الإتاوات على الرعايا والمحميين البريطانيين.
ثم ظهر عجز «مسيت» وقصور نظره في علاقته مع الأرنئود ومحمد علي، فقد توهم أن هؤلاء ليسوا سوى مرتزقة في خدمة البكوات، وما إن أبدى له محمد علي في نوفمبر ١٨٠٣ رغبته في العودة إلى بلاده وعلى ظهر سفينة إنجليزية — لأنه كما قال لا يطمئن على سلامته إذا نقلته سفينة عثمانية — حتى اعتقد «مسيت» أن محمد علي والأرنئود قد صاروا في متناول يده، ثم اطمأن خاطره عندما تقلد خورشيد باشا الولاية بعد طرد حكومة البكوات من القاهرة؛ لأن خورشيد كان قد قبل مساعدات مالية من «بريجز» نائب القنصل البريطاني في الإسكندرية، ولأن «مسيت» — كما اعتقد — قد ساهم بقسط كبير في التدابير التي انتهت بتنصيب خورشيد، وعقد آمالًا كبارًا على تعزيز الدفاع عن البلاد على يد خورشيد وبمعونة الإنجليز ضد الغزو الفرنسي، ولكن هذه الآمال سرعان ما انهارت، عندما تبين له أن خورشيد ليس سوى صورة مزخرفة في يد محمد علي يحركها كيفما يشاء، وتبين له علاوة على ذلك أن محمد علي والأرنئود ليسوا أدوات في يده، فصدمته هذه الحقائق، وراح يكتب إلى «هوبارت» في ١٨ مارس ١٨٠٤ أن الأرنئود قد تجاوزوا كل الحدود، وصاروا لا ضابط لهم منذ أن طرد المماليك من القاهرة، وأنهم سوف ينشرون الخراب والدمار في طول البلاد وعرضها، وأنهم وقد جمعوا ثروات طائلة قد يؤثرون مناخ مصر الطيب على العيش بين جبال ألبانيا الوعرة.
ومنذ أن بدأ يعلو نجم محمد علي رويدًا رويدًا، وصار القوة الفعالة أيام خورشيد، واتضح أن هناك صعوبات جسيمة تحول دون إنشاء حكومة مملوكية بزعامة الألفي، وأن أمن البلاد وسلامتها قد صارا مهددين في نظر «مسيت» وأن الفرنسيين لذلك كله سوف لا يلقون أية مقاومة عند غزوهم لمصر، حقد «مسيت» على محمد علي، وتزايد حقده عليه بتوالي الأيام، وبالرغم مما بذله محمد علي من محاولات لاسترضائه على أمل أن يكسب بفضل ذلك مؤازرة الحكومة الإنجليزية له، وسهل على «مسيت» تحت تأثير هذا الحقد أن يؤكد للورد «هوبارت» في ١٢ مارس ١٨٠٤ أن محمد علي قد باع نفسه لفرنسا، وأنه حتى يخدم مصالحها قد يحرض الأرنئود على طرد المماليك من القاهرة ورشيد ودمياط، وظل يؤكد له — في ٢٨ مايو — أنه وقد رشاه الوكيل الفرنسي صار من المنتظر أن يعمل على مقاومة كل إجراء يهدف إلى إنشاء حكومة مستقرة قوية في مصر، ثم أكد أن محمد علي رجل لا مبدأ له، ذكر له — كما كتب «مسيت» إلى «هوبارت» في ١٠ أغسطس — أنه إنما يخدم الدولة التي تدفع ثمنًا أعلى لخدماته، ولما كان محمد علي يبذل قصارى جهده ليصبح سيدًا على مصر وحاكمًا لها، فقد رجا «مسيت» اللورد «هوبارت» في رسالته هذه أن تتدخل الحكومة الإنجليزية لدى الديوان العثماني حتى يرفض هذا عروض محمد علي الخادعة.
على أن موقف «مسيت» العدائي من محمد علي لا يلبث أن يتضح إذا عرفنا أن الفكرة المسيطرة على ذهنه ظلت دائمًا — وكما أوضحنا سابقًا — أن يحتل الإنجليز هذه البلاد، الأمر الذي لا يمكن أن يتم في نظره إلا إذا تأسست حكومة مملوكية في مصر، وعلاوة على ذلك فقد أعوزت «مسيت» الصفات التي تمكنه من إدراك مغزى الانقلابات التي حدثت، وصفه «ماثيو لسبس» في خطاب له إلى «جوبير» في ١٤ نوفمبر ١٨٠٤ بأن له من المزايا ما يجعله رجل مجتمع من أعلى طراز، ولكنه سياسي من الصنف المتوسط قليل الذكاء، لا يعرف كيف يدبر خطة ذات هدف معين، أو ينفذ ما يعهد إليه من خطط، فلم يتعد نشاطه إرسال عرائض الألفي إلى القسطنطينية أو النصح لخورشيد بأن يطلب من الديوان العثماني نقل محمد علي من مصر، واعتقد أنه نال ظفرًا عظيمًا عندما كتب إلى «هوبارت» في ١٣ أغسطس ١٨٠٤ يبلغه نجاح مساعيه في هذه المسألة مع خورشيد وتعيين محمد علي لباشوية سالونيك بناء على توصية خورشيد، وكان «مسيت» سباقًا للحوادث وقت إعلان ارتياحه لنيل مأربه وتهنئة نفسه على ما أحرزه من نجاح موهوم؛ لأن محمد علي بقي في مصر ولم يبرحها.
ومع أن «مسيت» عاد فأكد لهوبارت في ٢٨ أبريل ١٨٠٥ أن محمد علي صار الآن لا يخفي مطامعه في الولاية، وذلك بمناسبة عودته من الصعيد عقب استقدام خورشيد للدلاة لتعزيز حكومته وللتخلص من الأرنئود، ثم كتب أنه كان لدعوى محمد علي أنه إنما يبغي المطالبة بمرتبات الجند المتأخرة من القوة الجارفة ما جعل هؤلاء الدلاة الذين كان الغرض استخدامهم كمعول لهدم محمد علي ينقلبون الآن لتأييد قضيته، وعلم بتدخل أو وساطة المشايخ في هذه الأزمة، فقد فاته إدراك جسامة الخطر المحيق بولاية خورشيد، وظل يتحدث تارة عن الغزو الفرنسي وسهولة استيلاء الفرنسيين على البلاد بسبب ضعفها، وعن وجود أو عدم وجود معاهدة بين محمد علي والألفي تارة أخرى، وعن مسعى خسرو باشا وهو بكريت من أجل العودة إلى مصر تارة ثالثة، وعن عزم الألفي على إرسال مندوب من قبله إلى السفير الروسي في القسطنطينية يطلب وساطته لدى الباب العالي، ومر انقلاب مايو ١٨٠٥ دون أن يبعث إلى حكومته بشيء عن أسباب هذا الانقلاب أو تفاصيله حتى يوم ٢٨ مايو، ورأى عندئذٍ أن ينهي القول في هذا الحادث الهام بأن يعزو ببساطة كل ما وقع إلى تأثير الوكلاء الفرنسيين على محمد علي وتشجيعهم له على المضي في أطماعه التي راح «مسيت» يتغنى بما كان له من فضل كشفها من مدة طويلة سابقة، فقال في رسالته إلى «هوبارت» في ٢٨ مايو: إنه يظن أن واجبه يقتضيه أن يذكر للورد «هوبارت» أن محمد علي كان قد طرد في العام الماضي بتحريض من الوكيل الفرنسي المماليك من القاهرة؛ لأن المفروض أنهم كانوا منحازين إلى جانب المصلحة البريطانية — وتلك مغالطة ظاهرة — وأن محمد علي قد استمر من ذلك الحين يتراسل مع وكلاء فرنسا في هذه البلاد وفي القسطنطينية، وأنه لو حدث أن ثبت محمد علي في الولاية التي اغتصبها لنفسه اغتصابًا فسوف يعزو ذلك بدرجة ما إلى وساطة فرنسا إلى أن قال: ولما كنت من زمن طويل مضى قد اكتشفت نوايا محمد علي وأطماعه في ولاية مصر، فقد وجدت لزامًا علي بالرغم من علاقاته مع فرنسا أن أظل على صلات طيبة في ظاهرها معه، ولقد تلقيت منه منذ تقلده منصب الولاية عدة رسائل مليئة بالملق والمداهنة؛ ولذلك فإذا تسنى له (أي لمحمد علي) النجاح في نضاله مع خورشيد، فقد لا يكون مستحيلًا إقناعه بأنه ولو كانت قد ساعدته حتى هذه اللحظة دسائس الفرنسيين والفوضى التي أوجدها هؤلاء على تحقيق مآربه، فقد صار من صالحه وقد ملك الآن السلطة العليا في البلاد أن يقاوم مشاريع الفرنسيين المعروفة ضد مصر؛ أي غزوها.
ذلك كان تفسير «مسيت» لانقلاب ١٣ مايو ١٨٠٥ وموقفه منه، وإن دلت رسالته هذه إلى «هوبارت» على شيء فإنها تدل على عجز «مسيت» عن تدبير خطة ذات هدف معين أو تنفيذ ما يعهد إليه به من خطط على نحو ما ذكره «ماثيو لسبس»، ثم على أنه سياسي من الصنف المتوسط قليل الذكاء، آية ذلك أنه ظل راسخ الاعتقاد بأن وجود محمد علي ونشاطه هما مصدر الفوضى المنتشرة في البلاد وأسباب عجزها عن الدفاع عن نفسها، وأن هذا الانقلاب الخطير إنما حدث بتحريض من الوكلاء الفرنسيين، وقد جعله عناده في خصومته لمحمد علي يرى في محاولات هذا الأخير لاستمالته ملقًا ومداهنة فحسب، ولعل هذا الاعتقاد الذي رسخ في ذهنه إلى جانب ما استقر في ذهنه من اعتقادات أخرى تدور حول ضرورة إبعاد محمد علي والأرنئود وتأسيس حكومة مملوكية تمهد للاحتلال البريطاني في مصر هو ما حدا بمسيت إلى أن يسلك في علاقاته مع محمد علي طريق المراوغة والنفاق بعد ذلك.
وهكذا فإنه بينما كان يقع بالقاهرة انقلاب ١٣ مايو وما صحبه من اعتصام خورشيد بالقلعة وانتشار الاضطرابات والقلاقل نتيجة لذلك، كان «مسيت» في الإسكندرية يسعى لإشعال الفتنة بها ولزيادة الفوضى حدة على حدتها بترويج الإشاعات عن قرب مجيء حملة إنجليزية إلى مصر، وتوزيع الأموال لتدبير المظاهرات الصاخبة، غرضه من ذلك تهيئة الرأي الإسكندري لقبول فكرة احتلال الثغر بجند بريطانيين، ثم إنه صار يبذل قصارى جهده كي ينفر السلطات العثمانية والبكوات المماليك من الفرنسيين، ويصرف الأهلين ورؤساءهم عن تأييد المصلحة الفرنسية، وكان في هذه الفترة أن بدأ «مسيت» محاولاته لكسب الشيخ محمد المسيري إلى جانبه؛ ولهذا الشيخ نفوذ كبير على الأهلين، وهو معروف بميوله الفرنسية، وقد فصل «دروفتي» كل هذا النشاط في رسالة بعث بها إلى «باراندييه» في ٦ يونيو ١٨٠٥، جاء بها أنه قد تعالت الهتافات في الإسكندرية يوم ٤ يونيو بحياة السلطان جورج، يهتف بها — كما قال — العربان الذين يوزع الوكلاء الإنجليز عليهم المال من أجل تحريك الشعب وحضه على الهتاف بحياة ملك بريطانيا، وأكد «دروفتي» علاوة على ذلك، أن ابن الشيخ المسيري قد حضر مأدبة غذاء عند «مسيت» وقال: إن الوكلاء الإنجليز يريدون كسب هذا الشيخ الذي أظهر حتى هذا الوقت ميلًا نحو الفرنسيين وحكومتهم إلى جانب الإنجليز، ولقد نال هذا الشيخ صاحب السيطرة التامة على الرأي العام بالإسكندرية هدايا كثيرة من الإنجليز، ثم استطرد «دروفتي» يقول: وقد لا يرسل الإنجليز حملة إلى مصر، ولكن وكلاءهم هنا مكلفون — على ما يبدو — بإعداد الرأي العام لقبول مثل هذا الحادث إذا دعت ظروف الحرب إلى جعل احتلال البريطانيين لهذه البلاد أمرًا لا مفر منه. ومن حيث الدعاية التي روجها «مسيت» ضد الفرنسيين، عمد الوكلاء الإنجليز إلى جلب طائفة من الصحف الأوروبية التي ظهرت حديثًا واشتملت على مقالات مأخوذة من كتيب نُشر في باريس لا تتحدث حديثًا طيبًا عن الضباط الأتراك، ثم صاروا يرسلونها إلى معسكر البكوات ويضعونها تحت أنظار العثمانيين بالإسكندرية، الأمر الذي لم يشك «دروفتي» لحظة في أنه يبعث على تذمر هؤلاء جميعًا ويسيء إلى المصالح الفرنسية في هذه البلاد.
وأفصح «مسيت» عن آرائه في محمد علي في كتاب مطول بعث به إلى اللورد «كامدن» من الإسكندرية في ١٨ سبتمبر، ذكر فيه — الحوادث التي ذكرناها — إظهار محمد علي لميوله الودية نحو الفرنسيين واستثناءهم من المعاملة السيئة التي يلقاها على يده سائر الأوروبيين، وتعيينه للفرنسي «روير» طبيبًا له، وهي أمور قال «مسيت»: إن محمد علي قد استرشد فيها جميعها بآراء وتوجيهات الوكيل الفرنسي، ثم تحدث «مسيت» عن الإجراءات التي اتخذها لمقاومة حكومة محمد علي، ومقاومة النفوذ الفرنسي تبعًا لذلك، فقال: ولما كان (أي «مسيت») يخشى من أن يرى الإسكندرية تقع في يد محمد علي وهو رجل يؤيد — كما هو ظاهر — المصالح الفرنسية، فقد تحدث في هذه المسألة مع القبطان باشا الذي لا يزال موجودًا بالإسكندرية ومع حاكم المدينة أمين أغا أو أمين قبطان الكريتلي، وقد جعلهما يعترفان بأن هذه المدينة سوف تتحول إلى صحراء قاحلة إذا وقعت في قبضة الأرنئود، ثم أخذ يشرح لهما بعد ذلك بإيجاز الخطوات الإجرامية التي رفع محمد علي بفضلها نفسه إلى منصب الولاية في مصر، وطفق يقيم لهما الأدلة والبراهين على أنه منذ أن استولى على هذا المنصب، قد أظهر نواياه في الاستقلال عن الباب العالي، ثم اختتم حديثه معهما بأن أوضح لهما أن واجب الولاء لحكومتهما يقتضيهما أن يمنعا الإسكندرية من محمد علي؛ حيث إنه طالما بقيت هذه خارجة عن سلطانه فإنه لا يكون متهورًا بالدرجة التي تجعله يرفع راية العصيان ضد الباب العالي، وأما إذا سقطت الإسكندرية في يده فهو على العكس من ذلك سوف يتمكن من تحدي كل قوات الإمبراطورية العثمانية، ثم راح «مسيت» يقول: وقد اعترف قومندان الإسكندرية الذي هو في الوقت ذاته قومندان السفن التركية في هذا الموقع بصحة ما أبداه من ملاحظات، وأظهر استعداده لقبول أية خطة تعرض عليه تكون ذات نفع لتحقيق هذه الغاية، ولم يكتفِ «مسيت» بمسعاه لدى القبطان باشا وحاكم الإسكندرية، بل استمال إليه الشيخ محمد المسيري كبير العلماء في الثغر والذي يثق فيه الأهلون — كما قال «مسيت» — ثقة كبيرة لا حد لها، فأعلن الشيخ للقبطان باشا أنه إذا خوله هذا الأخير مقاومة الأرنئود استنفر الأهلين، وتزعمهم بنفسه لمنع الأرنئود من دخول الإسكندرية، ولكن القبطان باشا رفض إعطاء الشيخ المسيري التفويض المطلوب، وعزا «مسيت» ذلك إلى ما يناله القبطان من هدايا ثمينة من محمد علي وتوقعه الظفر بهدايا أخرى قبل رحيله من الإسكندرية، حتى صار لا يريد تكدير محمد علي بمنع جنده من الدخول إلى المدينة، مع اعترافه بأنهم لو دخلوها لترتب على ذلك نتائج سيئة تلحق الأذى بمصالح الباب العالي؛ وعلى ذلك، فقد اكتفى القبطان باشا بأن أكد للشيخ المسيري أنه قد كتب إلى القسطنطينية ليحصل منها على فرمان يعلن بقاء الإسكندرية تحت إشراف البحرية السلطانية المباشر؛ حيث إنها قاعدة بحرية، وأن تتألف حاميتها من الجنود والبحارة دون جنود الجيش، واعتقد «مسيت» أن هذا الحل الذي ذكره القبطان لا يعدو أن يكون وسيلة للمراوغة والتهرب؛ لأن القبطان يعرف جيدًا أنه بمجرد مغادرته الإسكندرية سوف يستولي الأرنئود عليها، زد على ذلك أن «مسيت» يعرف أن القبطان باشا ينوي مبارحة الإسكندرية في بداية الشهر المقبل أي في وقت يستحيل فيه أن يكون قد وصله جواب الديوان العثماني على رسالته التي قال إنه بعث بها إلى القسطنطينية في ١٤ سبتمبر، وقد خلص «مسيت» من ذلك كله إلى النتيجة التي يخشاها، وهي أنه سوف يكون بالإسكندرية في أقل من أسبوعين حامية من الأرنئود، لا شك في أن التعليمات التي سوف يكون رئيسها مزودًا بها هي أن يتبع إرشادات الوكيل الفرنسي في كل مناسبة، ثم بنى «مسيت» على هذه النتيجة المطلب الذي استحوذ على لبه دائمًا وهو إرسال فرقاطة إنجليزية إلى الإسكندرية لحمايتها، وهي قوة وإن كانت لا تسد الحاجة إلا أنها تكفي لتخويف الحامية وتعزيز النفوذ البريطاني في مصر.
وفي ٢٢ سبتمبر شكا «مسيت» مرة أخرى للسفير الإنجليزي بالقسطنطينية «أربثنوت» من محاولة محمد علي حمل القناصل على دعوة رعاياهم للاكتتاب بسلفة من تسعمائة كيس بضمانة الجمارك، وهو قرض امتنع عن المساهمة فيه بيت بريجز التجاري، كما قال «مسيت» إنه جعل محمد علي يشعر بعجزه عن إرغامه — بوصفه أحد القناصل — على دعوة الرعايا أو المحميين البريطانيين إلى الاكتتاب في هذا القرض، وتوقع أن يحذو سائر القناصل حذوه ما دام القبطان باشا لا يزال موجودًا بالإسكندرية، ثم استطرد يقول: ولكنه من المنتظر إذا دخلت الإسكندرية في حوزة محمد علي أن يعمد هذا إلى معاملة الأوروبيين كما يشاء ويهوى، وعندئذٍ سوف يجد الفرنجة أن لا مَعْدَى لهم عن ترك مصر والرحيل عنها.
ثم إن «مسيت» لم يكتفِ بمقاومة حكومة محمد علي وتعطيل نشاطها، بل صار يشوه سمعته بكل ما لديه من وسائل، فكتب إلى السير «ألكسندر بول» في مالطة في ٢٢ سبتمبر: أن الوجه البحري قد دان الآن لسلطان رجل يخلص الإخلاص كله لفرنسا ويدعوه أن يقتنع بضرورة إرسال فرقاطة إلى الإسكندرية، وأن يستخدم كل نفوذ له لدى إمارة البحر الإنجليزية للموافقة على ذلك، وشرع «مسيت» يبرر مطلبه هذا بما يفعله محمد علي مع الأوروبيين فقال: وسوف لا أحاول وصف الفظائع جميعها التي وقعت في هذه البلاد منذ أن تسلم محمد علي زمام الحكم، فقد صار السجن مثوى عديدين من كل الطبقات، ومن غير استثناء أولئك الذين تشملهم الحماية الأوروبية، وقد ضرب هؤلاء بالهراوات الغليظة (النبابيت) وعذبوا عذابًا أليمًا لحملهم على كشف المخابئ التي أخفوا فيها أموالهم، حتى إن آباء كثيرين اضطروا تحت هذا الضغط إلى بيع أولادهم.
وقد يكون بسبب حاجته الملحة إلى المال، وعناد هؤلاء المحميين من بريطانيين وغيرهم وإصرارهم على الامتناع عن الدفع أن ألقى محمد علي بهؤلاء في السجون، ولكن أحدًا من المعاصرين لم يذكر أن المحميين قد ضربوا بالنبابيت أو أنهم اضطروا إلى بيع أولادهم لتأدية مطالب الحكومة أو لدفع الإتاوات التي فرضها عليهم، ولو أن هذا لا ينفي وقوع اعتداءات معينة على هؤلاء في وقت كان لا يزال الباشا فيه عاجزًا عن ردع الجند وكبح جماحهم، وتعرض أهل القاهرة حينذاك لأذاهم، ولا جدال في أن ما يكون قد لحق بالمحميين من أذى إنما حدث دون علم الباشا، بل إن «مسيت» عندما كتب إليه من الإسكندرية في ٢٧ سبتمبر يحتج في غضب شديد على سوء المعاملة التي يلقاها المحميون، لم يذكر من صنوف التعذيب الذي تعرضوا له سوى الحبس والإهانة، والإجراءات أو الوسائل الشديدة التي اتخذت ضدهم، وقد استند في احتجاجه هذا على ما هنالك من قوانين وامتيازات مبرمة بين الباب العالي وإنجلترة، وما يسود من صداقة بين الدولتين، وأن الرعايا الإنجليز والمحميين البريطانيين في مصر ليسوا من أغنياء القوم، ثم إنه لم يفت «مسيت» وهو بمعرض هذا الاحتجاج بعد أن حمل الباشا مسئولية كل هذا أن يؤكد له أن أولئك الذين ينصحونه باتخاذ هذه الإجراءات الشديدة (ويعني بذلك الوكلاء الفرنسيين) ضد الأوروبيين لا يبغون سوى استمرار القلاقل والاضطرابات في مصر حتى يسهل عليهم تنفيذ مشروعاتهم العدوانية ضد هذه المقاطعة.
وعندما أصدر الباب العالي أمرًا بتثبيت أمين أغا حاكمًا على الإسكندرية المستقلة في شئونها عن باشوية مصر، وبمنع دخول أي جند إليها عدا أولئك الملتحقين بخدمته، أبدى «مسيت» مخاوفه من أن محمد علي سوف لا يرضى بحرمانه من هذا الميناء الهام، حيث يتعذر عليه بدونه تحقيق استقلاله عن الباب العالي، ثم أخذ يقيم الدليل على صحة ما ذهب إليه بقوله في كتابه إلى «كامدن» في ٢٠ أكتوبر ١٨٠٥ أن محمد علي قد استقدم من المورة عددًا كبيرًا من الأرنئود مع أن موارد هذه البلاد لا تكفي للإنفاق على حشد عظيم من الجند، وقد وصل كثيرون من هؤلاء الأرنئود إلى القاهرة متخفين في صور مختلفة، ثم إنه أنشًا حرسًا خاصًّا لنفسه يتألف برمته من الفرنسيين، ومع أنه لا وجود لما قد يجعله يخشى شيئًا من المماليك على الأقل لمدة خمسة شهور مقبلة فقد شرع يبني مخازن السلاح والذخيرة في قلب القاهرة، وذلك احتياط لم يسبق أن لجأ إليه أحد من أسلافه الباشوات، ويكاد يكون غير معروف للأتراك عمومًا.
ولكن «مسيت» لم يفز ببغيته من حيث إقصاء محمد علي من الولاية، أو إنشاء الحكومة المملوكية في مصر، فقد أبحر القبطان باشا إلى القسطنطينية (١٢ أكتوبر)، وبقي الباشا في حكومة القاهرة، وصار لزامًا على «مسيت» أن يستأنف مسعاه من جديد لتنحيته عن الولاية إذا استطاع إلى ذلك سبيلًا، ولاستمالة حكومته إلى إرسال قطع من أسطولها إلى مياه الإسكندرية وإقناعها إذا أمكنه بالموافقة على احتلال الإسكندرية تمهيدًا لاحتلال مصر بأسرها؟ ثم إنه كان على «مسيت» أن يسدي كل عون لحزب المماليك الذي يترأسه الألفي حليف الإنجليز، واعتمد «مسيت» في مسعاه هذا على نفس الوسائل التي اعتمد عليها سابقًا وهي تشويه سمعة محمد علي والطعن على حكومته، ومحاولة إقامة الأدلة والبراهين على أن هذه الحكومة العلوية هي مصدر الفوضى المنتشرة في البلاد والتي تعرض هذه لخطر الغزو الفرنسي، وتجعل احتلال الفرنسيين لها أمرًا ميسرًا، فضلًا عن أن هذه الحكومة إذا بقيت سواء حدث الغزو الفرنسي — وهو ما قطع به «مسيت» — أو لم يحدث — وهو ما لم يأخذ به — فسوف ينهي بقاؤها كل نفوذ للإنجليز، ويقضي على مصالحهم في مصر؛ لأن الباشا مبيع للفرنسيين ويعمل دائبًا على رعاية مصالحهم وتمكين نفوذهم.
ذلك إذا كان غرض «مسيت» الجوهري من كل نشاطه: إقصاء محمد علي من الولاية، وإخراج الأرنئود من مصر، وحمل حكومته على تقرير احتلال الإسكندرية تمهيدًا لاحتلال البلاد بأسرها، وكانت مناصرته للألفي من الخطوات التي اعتقد «مسيت» ضرورتها لتنفيذ هذه الغاية، فزكاه في تقريره المسهب هذا بأنه قد أعلن وضع نفسه تحت حماية ملك إنجلترة المباشرة، وأنه يلجأ إلى «مسيت» يطلب النصح منه في كل حادث هام أو شان من الشئون يعرض له، ويبدي احترامًا للباب العالي، ويسلك في علاقاته معه طريقًا يتميز بالحكمة والاعتدال، ويظهر خضوعًا تامًّا لإرادة السلطان سليم وأوامره، ويعزو — كما يفعل «مسيت» نفسه — الحروب الأهلية السائدة في مصر إلى خيانة الأرنئود وطيشهم ورعونتهم.
ولكنه حدث من ناحية أخرى في الشهور الأولى من عام ١٨٠٦ ما أدخل تعديلًا ملحوظًا على مظهر العلاقات السائدة بين محمد علي و«مسيت»، ولم يكن مبعث هذا التعديل تحول طرأ على سياسة محمد علي وهو الذي اهتم دائمًا — وكما أوضحنا سابقًا عند الكلام عن إدارته — باستمالة قناصل الدول الأوروبية ووكلائها في مصر إلى جانبه، واهتم على الخصوص بالقنصل الإنجليزي نفسه، حتى يصرفه على الأقل عن مؤازرة المماليك وخصمه العنيد الألفي، بل جاء هذا التعديل من جانب «مسيت» الذي رأى ضرورته بسبب ما جدَّ من حوادث في أوائل هذا العام وما وقع منها بعد ذلك، ولم ينشأ هذا التعديل من تغيير طرأ على البواعث التي شكلت سياسة القنصل الإنجليزي؛ فقد بقيت هذه كما كانت، وكما أوضحناها، وإنما كان مبعثها ما شعر به «مسيت» من ضرورة التظاهر بالود والصداقة لمحمد علي استبقاء لتلك الميول الودية التي أبداها الباشا نحو، وذلك للتمويه عليه وتضليله وتغطية مساعيه في صالح الألفي وضد حكومة محمد علي، فاتسم مسلك «مسيت» أثناء عام ١٨٠٦ وهو عام الأزمات المريرة التي كادت تطوح بولاية محمد علي، بطابع النفاق والمخاتلة، وكان «مسيت» قد بدأ هذه السياسة ذات الوجهين عقب رحيل القبطان باشا في أكتوبر ١٨٠٥، فأوضحنا في الفصل السابق كيف أن «مسيت» أمر عزيزًا ترجمانه بالقاهرة بألا يضيع دقيقة واحدة في إخطار الباشا بأن هناك مؤامرة تدبر في القاهرة ضد حكومته، وكيف أنه كتب بذلك في ١٥ نوفمبر يأمر «البطروشي» بأن يكف عن مراسلة البكوات المماليك ويرجو — كما قال — من الآن فصاعدًا ألا يحدث ما يورطنا بهذه الصورة.
وأما محمد علي فقد بادر منذ أن وصلته شكاوى «مسيت» بشأن السلف أو الإتاوات التي فرضها على الرعايا والمحميين البريطانيين بتسوية هذه المسألة بشكل يرضي «مسيت»، حتى إن هذا الأخير لم يلبث أن كتب إلى «أربثنوت» في ١٣ فبراير ١٨٠٦ أنه يشعر بارتياح عظيم؛ إذ يعلمه أنه قد حصل من الباشا على أمر محول على جمرك الإسكندرية بسداد المبالغ التي أخذها أخيرًا من هؤلاء الرعايا والمحميين المقيمين بالقاهرة، وذلك من حصة الباشا في إيرادات هذا الجمرك، بل إنه ما لبث أن كتب إلى «أربثنوت» أيضًا في أول مارس أن الباشا قد أجاب جميع مطالبه، وأعطاه أمرًا محولًا على الجمارك في نظير الأموال التي أخذها، حتى إن هذه الشكوى قد أزيلت نهائيًّا تقريبًا.
فكتب «دروفتي» إلى «تاليران» في ١١ يونيو أن «مسيت» يعلن قرب وصول القبطان صالح باشا إلى دمياط مكلفًا بإعطاء حكومة مصر للبكوات المماليك، وأن الإنجليز يبذلون قصارى جهدهم للتأثير على الرأي العام هنا، فاحتفلوا بميلاد مليكهم جورج، ثم إنه عند وصول اللورد «فالنتيا» رحبوا به ترحيبًا عظيمًا، ولقد أفلحوا في إقناع الناس بأن مصر سوف تكون لهم يومًا من الأيام، حتى إن أحد التجار المغاربة وهو إبراهيم بسه عبد الله زوج كريمة الشيخ محمد المسيري، وممن لهم نفوذ وسلطان بالإسكندرية قد بعث مع اللورد «فالنتيا» الذاهب إلى مالطة بهدايا كثيرة برسم القومندور «سدني سميث» الذي يقال عنه: إنه موجود في «مسينا»، ويعتمد الإنجليز في تأييد دعاواهم على واقعة احتلال إمبراطور فرنسا للصقليتين نابولي واحتمال قطع العلاقات مع تركيا.
هذا وقد أبحر «فالنتيا» إلى مالطة في ١٢ يونيو، ويبدو وأن بعض الجنود الأرنئود قد أهانوا اللورد في رشيد قبل مبارحته البلاد، وعاقبهم محمد علي، على أن «مسيت» بعد انتهاء هذا الحادث ببضعة شهور رأى إثارته مرة أخرى في وقت كان قد خلع فيه النقاب عندما انتهت بسلام أزمة النقل إلى سالونيك، وفشلت الجهود التي بذلت لتنصيب الألفي شيخًا للبلد ووضع الحكومة الفعلية في يده، فطلب «مسيت» من ترجمانه عزيز بالقاهرة أن يحتج لدى محمد علي على مسلك حاكم رشيد علي بك السنانكلي مع نائب القنصل البريطاني في رشيد «البطروشي» وتراجمته، وعلى موقفه من الجنود الذين أهانوا اللورد «فالنتيا» عند وجوده بها، وكتب إلى الباشا في ١١ أكتوبر ١٨٠٦ يطلب العدالة باسم الحكومة التي يمثلها، والاقتصاص من علي بك، ويقول: وإن شكواه هذه هي الأولى التي أزمع تقديمها ضد هذا الحاكم الذي تغاضى عن الأرنئود الذين أهانوا اللورد «فالنتيا» والذين أراد الباشا نفسه عقابهم.
على أنه في الوقت الذي جرت فيه هذه الحوادث منذ وصول «فالنتيا» إلى مصر ومغادرته لها، كان الألفي قد بعث بمندوبيه محمد كتخدا و«ستافراكي» إلى القسطنطينية للمفاوضة، وانحصرت جهود «مسيت» في إنجاح هذه المفاوضات، ويدخل في ذلك محاولة خديعة محمد علي إزالة ما قد يساوره من شكوك من ناحية «مسيت» نفسه ومسئوليته في هذه المفاوضة التي لم يكن الغرض منها سوى التمهيد لهدم حكومته وطرده من الولاية وإعادة تأسيس الحكم المملوكي في البلاد، كما حرص «مسيت» على مراقبة نشاط الوكلاء الفرنسيين ومكافحة النفوذ الفرنسي لدى الباشا، ثم في الإسكندرية خصوصًا وتهيئة الأفكار في الثغر لقبول الأوضاع الجديدة إذا نجحت مفاوضات مندوبي الألفي، أو اعتزم الإنجليز إرسال جيش لاحتلالها.
أما عن محاولة خديعة محمد علي فتتضح هذه الحقيقة من مراجعة كتب «مسيت» إلى «أربثنوت» في القسطنطينية لتوصيته بمندوبي الألفي، ثم ما صار يكتبه في الوقت نفسه لمحمد علي، فقد حمَّل «مسيت» ترجمان الألفي «ستافراكي» — على نحو ما عرفنا عند الكلام عن أزمة النقل إلى سالونيك — رسالة إلى «أربثنوت» في ٢٢ مارس جاء بها أن الألفي وكل رجل محايد يعلن أن مصر لن تحظى بالهدوء والاستقرار إلا إذا أعيد تأسيس الحكومة المملوكية بها، وأن الباب العالي إذا سلك مسلك الحكمة والرشاد في سياسته وجد من صالحه أن يطلب من الإنجليز وضع شطر من قواتهم بالإسكندرية، وأن الحكومة الإنجليزية إذا لبت هذا الطلب تخلصت من أولئك الذين استبدوا بها، ويعني «مسيت» بذلك الأرنئود ومحمد علي، ثم يقترح عند عدم إمكان احتلال الإسكندرية بقوات بريطانية — الأمر الذي انعدم كل أمل لديه في تحقيقه كما قال — أن يعترف الباب العالي بالمماليك حكامًا شرعيين في مصر، وأن يأمر في الوقت نفسه برحيل الأرنئود منها فورًا وإلا صاروا عصاة خارجين على طاعته، ثم إن «مسيت» عندما أبلغه «أربثنوت» بأن الباب العالي لا يريد وساطته في المفاوضات الجارية بين الديوان العثماني ومندوبي الألفي، لم يلبث أن اعترف في رسالته إلى السفير من الإسكندرية في ١١–١٥ يونيو ١٨٠٦ بأنه هو شخصيًّا الذي شجع الألفي على أن يطلب من السفير وساطته محافظة على المصلحة الإنجليزية، وهذه كانت في نظر «مسيت» طرد محمد علي من الولاية كخطوة لا غنى عنها لإمكان تأسيس الحكم المملوكي في مصر، وإفساح الطريق — نتيجة لذلك — للاحتلال البريطاني لها.
ومع هذا فقد بادر «مسيت» ينفي لمحمد علي أن له يدًا في مسألة ذهاب مندوبي الألفي إلى القسطنطينية، ويحاول أن يوحي إلى محمد علي أن من سياسة حكومته أن تستقر حكومة الباشا في مصر، بل ويبذل له النصح والإرشاد بصدد الوسائل التي قد تمكنه من دفع الغزو الأجنبي عن البلاد، ولم يكن غرض «مسيت» من هذا النصح والإرشاد سوى إظهار أن فرنسا والوكلاء الفرنسيين هم مصدر الخطر المنتظر على ولاية محمد علي؛ وعلى ذلك فقد كتب إليه في ١٤ أبريل رسالة مسهبة استهلها بقوله: لقد علمت بكل أسف أنكم تستمعون لوشايات الأعداء في حقي، فاعتقدتم أني قابلت بمنزلي كخيا الألفي بك وأرسلته إلى القسطنطينية، إن من أبلغكم هذا رجل كاذب. ومن الواضح أن هذا الإنكار لواقعتي المقابلة في بيت «مسيت» وإرسال محمد أغا كخيا الألفي صحيح، ولكن «مسيت» بنفي هاتين الواقعتين أراد التنصل من المسئولية من هذه المسألة والتمويه على محمد علي بأنه لا يعمل ضد حكومته: بيت القصيد من هذا الإنكار، وهذا لم يكن صحيحًا.
ثم راح «مسيت» يسوغ ما عرف أن الباشا واقف عليه حتمًا وهو علاقاته مع المماليك والألفي، فقال: وإن واجبي كمعتمد أو مقيم يمثل صاحب الجلالة الملك في هذه البلاد هو معرفة مجريات الأمور في مصر، وعدم إغفال الوقوف على أغراض ومشاعر المماليك، ثم كذب كذبته الكبرى عندما قال: ولكن هذا لا يعني أني أشجع المماليك، بل إني لأتحدى كل إنسان مهما كان شأنه ليثبت أني قمت بأقل تشجيع للبكوات أو أني أعطيتهم أية بارقة أمل في انتظار المساعدة مني؛ ولذلك فإذا أخبرتني سموك عن ذلك الذي ذكر لكم أني ساعدت كخيا الألفي على الذهاب إلى القسطنطينية فإني سوف أدعوه لإقامة الدليل على صحة ادعائه أمام أية محكمة تختارونها، إن رغبة الحكومة البريطانية هي أن تتمتع حكومة مصر بسلطة كاملة مطلقة حتى يتسنى لها الدفاع عن البلاد؛ لأنه إذا استولى الفرنسيون عليها استطاع هؤلاء في سنوات قليلة إعداد الحملات وإرسالها ضد ممتلكات الإنجليز في الهند، مثال ذلك إذا كان جند سموكم مشغولين بالنضال ضد المماليك في الصعيد والوجه البحري وظهر العدو فعلًا أمام الإسكندرية فإنه ليتعذر على سموكم أن تتخذوا فورًا الإجراءات التي تمنع نزول العدو، ولكنه على العكس من ذلك إذا لم يكن هناك جند عصاة ومتمردون على سلطانكم أمكنكم دون خوف أو وجل ودون حاجة إلى إمهال أو تأجيل أن توجهوا كل قواتكم ضد العدو الذي لا يستطيع حينئذٍ الاستيلاء على مصر وتنفيذ مشاريعه العدوانية على الهند؛ لهذا كله ترون أنه ليس من مصلحة الإنجليز في شيء حماية العصاة الثائرين، وأن ما بلغ محمد علي لا يعدو كونه أكاذيب لفقها وأذاعها أعداء بريطانيا، ويقصد «مسيت» بهؤلاء الأعداء الوكلاء الفرنسيين.
على أن «مسيت» لم يقصر نشاطه على تشجيع المماليك، أو بالأحرى الألفي بك في هذا الحين — بالرغم من إنكاره ذلك — بل تعدى نشاطه إلى محاولة جذب المشايخ ورؤساء الأهلين بالإسكندرية لتأييد المصلحة البريطانية وإبطال مساعي الوكلاء الفرنسية، وعلى رأسهم «دروفتي» الذي كان مقره وقتئذٍ بالإسكندرية، ولما كان الشيخ محمد المسيري — كما أوضحنا — صاحب مكانة ملحوظة في الثغر وله تأثير شعبي كبير، فقد ظل «مسيت» يهتم بأمر هذا الشيخ ذي الميول الفرنسية المعروفة؛ لأن مساعيه الأولى معه منذ ١٨٠٥ لم تفلح في استمالته نهائيًّا إلى تأييد المصلحة الإنجليزية، بل يبدو أن الشيخ أراد أن يختط لنفسه طريقًا يحفظ له علاقاته مع فرنسا ويرضي في الوقت نفسه الوكلاء الإنجليز في الإسكندرية، آية ذلك مصادقة ولده وصهره للإنجليز وعجز «مسيت» في هذه المرحلة عن جذبه إلى جانبه، فلم يلبث أن كتب إلى «أربثنوت» في ٢٢ أبريل ١٨٠٦ أن لديه من الأسباب القوية ما يحمله على الاعتقاد بأن الشيخ المسيري يتراسل مع الحكومة الفرنسية؛ لأن بونابرت أثناء وجوده في مصر كان يستشير هذا الشيخ بينما قد أغفل أمره وأهمل الآن، وصار الشيخ اليوم لا يخفي ميوله نحو فرنسا، ولما كان صاحب نفوذ كبير على الأهلين فإن خطرًا يكمن وراء صلاته بفرنسا؛ ولذلك فقد حاولت أن أشعره بأن نزول جيش فرنسي في البلاد من شأنه زيادة المصائب والمتاعب التي تشكو منها مصر بدلًا من إنهائها؛ وذلك لأن الأسطول الإنجليزي عند محاصرته مصر سوف يصادر كل ما قد يأتيها من إمدادات أجنبية، فلا يجد الغزاة مناصًا من الاعتماد على موارد البلاد فحسب من حيث المأكل والملبس وكل المال اللازم للإنفاق منه على جندهم ولسداد مطالب الإدارة، وقد اعترف «مسيت» بأن محاولته هذه لم تنجح في استمالة الشيخ؛ لأنه يشعر بمظالم الأتراك، ويرى في فتح الفرنسيين لهذه البلاد مرة ثانية ما يرضي كبرياءه وخيلاءه بسبب ما يتوقعه من ارتفاع مكانته عند حدوث هذا الفتح، وقد انتهز «مسيت» هذه الفرصة ليذكر الموضوع الذي سيطر على تفكيره دائمًا، فقال — مخاطبًا «أربثنوت»: واسمح لي يا سيدي أن أختم رسالتي هذه إليك بتكرار القول أني سوف أعتبر دوامًا سلامة مصر وفي النهاية سلامة أملاكنا في الهند مهددة بالخطر الجسيم ما دامت الإسكندرية لا تحتلها قوات بريطانية.
على أنه كان من بواعث إخفاق «مسيت» مع الشيخ المسيري ولا شك، ذيوع خبر انتصارات الفرنسيين في أوروبا، ولم يقلل من تأثير هذه في أذهان أهل الإسكندرية انتصار «نلسن» في موقعة الطرف الأغر البحرية في ٢١ أكتوبر ١٨٠٥؛ لأن الجيوش الفرنسية ظلت تحرز في القارة نصرًا بعد نصر، فكتب «مسيت» إلى «أربثنوت» منذ ١٣ فبراير ١٨٠٦ يصف وقع هذه الحوادث: إن انتصارات الفرنسيين المدهشة في ألمانيا وإيطاليا قد أحدثت تغييرًا في مسلك العثمانيين الموجودين بالإسكندرية حتى إن بعض الموظفين منهم راحوا يصرحون بانحيازهم إلى الفرنسيين وانضمامهم لهم، ويعلنون كراهيتهم للروس واحتقارهم لهؤلاء.
ولكن «مسيت» لم يفقد كل أمل في استمالة الشيخ المسيري إلى تأييد المصلحة الإنجليزية، وبذل قصارى جهده لإدراك هذه الغاية عندما علم بأنه قد وصله كتاب من بونابرت، فقال في رسالته إلى «أربثنوت» في ١٠ مايو: إن الغرض من إرساله إلى الشيخ لا محالة هو تسهيل غزو فرنسا لمصر. وقد سجل «مسيت» في كتابه هذا نتيجة مساعيه مع المسيري الذي أقسم مصرحًا، بعد أن أكد أنه لن يحذو حذو العثمانيين الذين تحت قناع الصداقة للإنجليز وللفرنسيين قد خدعوا كلا الفريقين، بأنه سوف يضع نفسه على رأس أهل الإسكندرية، ويتولى الدفاع عنها إلى النهاية إذا جاءها جيش فرنسي، ولكن «مسيت» ما عتم أن قال تعليقًا على تصريح الشيخ: ولا يكاد يكون ضروريًّا أن أذكر لكم تعذر الاعتماد على تصريحات مثل هذه؛ لأن الشيخ المسيري ينقم على الأتراك مظالمهم، وقد سمع عنه وهو بين خاصته يردد مرارًا وتكرارًا ميله إلى الحكومة الفرنسية، زد على ذلك أنه تعوزه الوسائل والسلاح اللذان يقدر بهما على الدفاع عن الإسكندرية حتى إذا كان صادق الرغبة في ذلك، وعلاوة على هذا فالأهلون جهلة ولا يدرون من وسائل هذا الدفاع شيئًا، ثم إن «مسيت» ما لبث أن عاد يكرر القول بضرورة احتلال البريطانيين للإسكندرية.
فراح يبسط لأربثنوت في كتابه هذا البواعث التي تدعو — في نظره — إلى ضرورة احتلالها، فقال: إن ممتلكات العدو أي الفرنسيين التي حازها أخيرًا في البحر الأبيض المتوسط وفي خليج الأدرياتيك تجعل من السهل عليهم بدرجة عظيمة تنفيذ مشروعاتهم العدوانية ضد مصر، فالساحل المصري طويل وتصعب لذلك حراسته على السفن الإنجليزية المتجولة في البحر الأبيض، ومع أنه قد يتعذر على عمارة كبيرة الوصول إلى الشاطئ المصري، ففي وسع قوة صغيرة الإفلات من يقظة الأسطول الإنجليزي والاستيلاء على الإسكندرية في وقت قصير، وسوف يكون طبيعيًّا أن يعمد الفرنسيون إلى خطب ود المماليك ثم محالفتهم وعندئذٍ يسيطرون على مصر بأسرها، ولا سبيل لمنع ذلك قطعًا غير أن يحتل جند بريطانيون الإسكندرية، وأما إذا كانت الحكومة الإنجليزية لا تريد اتخاذ هذه الخطوة، فإني أوصي بكل تواضع بأن يكون لمجموعة صغيرة من السفن الحربية المتنقلة مواقع في هذه البحار مع صدور الأوامر إليها بالإكثار من زيارة الميناء (الإسكندرية) وسواحل مصر والشام؛ وذلك لأن الأهلين بسبب عدم ظهور مركب حربي إنجليزي أمام الإسكندرية صاروا يعتقدون — على الرغم من تأكيدي لهم عكس ذلك — أن بريطانيا لا تعبأ بأمر مصر، وقد ترتب على الاعتقاد بأنه لا أمل في تدخلنا في شئون هذه المقاطعة أن كثيرين منهم صاروا ينظرون إلى فرنسا كالدولة التي يرجون خلاصهم على يدها من مظالم الأتراك، ويقبلون — دون تبصر في عواقب الأمور — على مساعدة وكلائها في مؤامراتهم التي لا يبغون منها سوى استمرار الفوضى في مصر.
ومع أن «مسيت» أخفق في محاولته هذه مع الشيخ المسيري، فقد أصاب نجاحًا في مساعيه مع الشوربجي رئيس قضاة الإسكندرية (سيدي قاسم غرياني) الذي ما إن جاءت الأخبار من أزمير في أوائل شهر يونيو ١٨٠٦ بتوقع قطع العلاقات بين تركيا وروسيا واحتمال دخول إنجلترة الحرب ضد الدولة العثمانية حتى انتقل إلى سفينة إنجليزية بالميناء مزمعة الإبحار إلى مالطة تجنبًا للمخاطر التي أعتقد أنه لا محالة سوف يتعرض لها إذا نشبت الحرب فعلًا بين تركيا وإنجلترة، وفي ١١ يونيو كتب «مسيت» إلى السير «ألكسندر بول» حاكم مالطة يوصيه خيرًا بالشوربجي الذي قال عنه: إنه رجل يخلص كل الإخلاص لحكومة صاحب الجلالة البريطانية. وقد ظل الشوربجي من أنصار المصلحة الإنجليزية وحضر بعد ذلك نزول جيش الجنرال «فريزر» بها واستيلاءه عليها، ثم هاجر مع من هاجروا من الإسكندرية عند تسليمها إلى محمد علي — كما سيأتي ذكره — وعلاوة على ذلك فقد نصب «مسيت» شباكه لاستمالة السلطات الحاكمة في الثغر وعلى رأسها أمين أغا حاكم الإسكندرية، وسوف نرى فيما بعد أنه نجح نجاحًا أخيرًا في استمالة الشيخ محمد المسيري إلى جانبه.
واسترعى انتباه «مسيت» وهو في غمرة هذا الانشغال بكسب صداقة الشيخ المسيري — الأمر الذي ثابر عليه فظفر بمبتغاه في النهاية على نحو ما سيأتي ذكره — أو باستمالة الشوربجي أو أمين أغا أو غير هؤلاء خصوصًا من بين الأسرات اللبنانية في الصغر، ثم توضيح الأسباب التي بنى عليها دعوته لاحتلال الإسكندرية، وذلك إلى جانب سعيه لإبطال نشاط الوكلاء الفرنسيين من جهة وتأسيس الحكم المملوكي في مصر على أنقاض حكومة محمد علي التي يبغي هدمها وتفويضها من جهة أخرى، نقول: إنه قد استرعى انتباهه وصول علي بك العباسي إلى الإسكندرية في أوائل يونيو ١٨٠٦، وقد سبق أن أوضحنا كيف أراد القبطان صالح باشا الاستعانة بدرايته في علم الفلك لمعرفة مصير مهمته عندما حضر بفرمان نقل محمد علي إلى ولاية سالونيك ولتنفيذ الاتفاق الذي أبرمه مندوبو الألفي مع الباب العالي في القسطنطينية، فقد ساورت «مسيت» الشكوك الكبيرة في هوية علي بك العباسي وكتب في ١١–١٥ يوليو إلى «أربثنوت» ينبئه بوصول «رجل من المستحيل على المرء أن يعده إلا وكيلًا سريًّا فرنسيًّا، يتخذ لنفسه اسم علي بك ويقول إن موطنه حلب، وقد أمضى هناك على كل الأحوال سنوات قليلة؛ لأنه انتقل وهو في سن مبكرة إلى جامعة قرطبة بإسبانيا لإتمام دراسته بها، وهذا الرجل الذي يدَّعي أنه من سلالة الرسول محمد ﷺ قد تلقى علومه في مدرسة أكليريكية مسيحية، وجال في كل أنحاء أوروبا تقريبًا، ويتكلم الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية ولكنه يجهل التركية، ويعرف قليلًا العربية، والغرض الظاهر من رحلته الذهاب إلى مكة وزيارة قبر الرسول ﷺ، ولكن ما أغراضه؟ لقد دلت أحاديثه حتى في رأي العثمانيين والمصريين على أنه وكيل سري للحكومة الفرنسية.» ولكنه ما إن مضت أيام قلائل حتى استحالت شكوك «مسيت» هذه إلى عقيدة ثابتة، فكتب إلى «شارلس جيمس فوكس» في ١٩ يونيو أن «علي بك العباسي من وكلاء العدو السريين (أو جواسيسهم) في مصر، وهو يحاول جاهدًا في أحاديثه مع الأهالي أن يلقي في روعهم ويطبع في أذهانهم أن فرنسا قوة ضخمة عظيمة، ويصرح كثيرًا بأنه يستحيل على إنسان مقاومة جيش بونابرت.» ثم استطرد «مسيت» يقول: «ولذا فقد أوضحت لحاكم الإسكندرية ما ينطوي عليه السماح ببقاء مثل هذا الرجل بالإسكندرية من أخطار.» فوعد بإبعاده لأنه مقتنع شخصيًّا بأنه وكيل سري فرنسي، غير أن تردد الأتراك وما يقال عن قرب عقد محالفة بين الباب العالي وفرنسا منعَا أمين أغا من الوفاء بوعده.
على أن ما أبداه «مسيت» من نشاط أثناء أزمة النقل إلى سالونيك لإخراج محمد علي من الولاية كان يفوق كثيرًا ما بذله من جهود سابقة سواء فيما انطوى عليه من ختل ومخادعة من حيث علاقات «مسيت» نفسه مع محمد علي، أو ما اقترن به من جهود مضنية من حيث محاولته تأييد قضية الألفي لدى القبطان باشا واستنهاض همة المماليك على الاتحاد عمومًا، ثم تقوية الألفي وحثه على الصمود في نضاله ضد محمد علي، ولو أن الفشل كان نصيب هذه الجهود جميعها.
ويؤخذ من موقف «مسيت» في هذه الأزمة أن تغييرًا ما لم يطرأ على الدوافع التي جعلته يناصب محمد علي العداء قبل مجيء القبطان صالح باشا، فهو لا يزال يريد إنشاء حكومة مملوكية تمهد لاحتلال الإنجليز لهذه البلاد، وهو لا يزال يلفت نظر حكومته إلى ضعف التحصينات بالإسكندرية وبالمواقع الأخرى على الشاطئ الشمالي، ويستحثها على إرسال جيشها إلى الثغر كخير وسيلة لدفع الغزوة الفرنسية المنتظرة عنها، وهو لا يزال يريد أن يجمع البكوات كلمتهم حتى يفيدوا من الاتفاق الذي حدث مع مندوبي الألفي بالقسطنطينية والذي يسترجعون بفضله سلطانهم السابق في حكومة هذه الولاية، وهو لا يزال يريد طرد محمد علي والأرنئود.
ولذلك فإنه ما إن ذاع خبر قرب وصول القبطان باشا بعمارته إلى المياه المصرية حتى راح يلفت نظر «وندهام» وزير الحربية وقتئذٍ — في ١٨ يونيو ١٨٠٦ — إلى خلو الإسكندرية والشواطئ المصرية من وسائل الدفاع، وإلى الانقسامات السائدة بين طوائف المماليك، وإلى ما يبعثه امتلاك العدو أو الفرنسيين لمعظم الشواطئ الإيطالية وموانئها من خوف وقوع الغزو على مصر لا سيما وأن الوكلاء الفرنسيين في مصر يحيكون المؤامرات لجذب جماعات من المسيحيين المقيمين بالإسكندرية لخدمة مآربهم، بينما لا يبدو من جانب إنجلترة أي اهتمام بمصر، الأمر الذي جعل الأهالي يعتقدون أن هذه الدولة لا تعبأ بمصير البلاد بدليل أنها ممتنعة عن إرسال سفينة حربية إنجليزية إلى الإسكندرية مع وجود أسطول كبير لها في البحر الأبيض.
وبعد أيام قلائل من وصول القبطان باشا إلى الإسكندرية، بعث «مسيت» في ٩ يوليو بتهانيه إلى إبراهيم بك على التغيير الذي سوف يحدث في مركزه ويقول: إن استعادة المماليك لوضعهم السابق سوف يحقق النفع للجميع ولا يريد حدوث ذلك إنسان أكثر مما يريده «مسيت» نفسه، ويوصيه بالاتحاد مع سائر زملائه لإمكان طرد محمد علي من الولاية، ويعتذر عن عدم قدرة السفير الإنجليزي بالقسطنطينية على التوسط بين مندوبي الألفي والديوان العثماني لرفض هذا الأخير لوساطته، وأرسل كذلك تهانيه للبرديسي وعثمان حسن، ولكنه لما كانت قد قامت مفاوضات طويلة بين بكوات الصعيد الذين لم يرضهم الاتفاق الذي أعطى كل السلطة الفعلية إلى الألفي وبين هذا الأخير، وظهرت مراوغة محمد علي ثم تصميمه على التمسك بولايته، فقد بعث «مسيت» إلى «أربثنوت» في ١٤ يوليو يحذره من مساعي الباشا في القسطنطينية ويقول: «إن أغراض العدو (الفرنسيين) العدوانية ضد مصر، وهي أغراض معروفة جيدًا، لا تدع مجالًا للشك في أن كل الجهود التي سوف يبذلها وكلاء العدو من أجل الإبقاء على أوضاع يترتب عليها إحياء روح النزاع الذي حرك مكامن الاضطراب في هذه البلاد من مدة طويلة بعنف وقسوة، من شأنها أن تجعل غزو مصر سهلًا ميسرًا.»
ثم أزعج «مسيت» ما لاحظه من بوادر إخفاق القبطان باشا في مهمته بسبب ما ترامى إليه على وجه الخصوص من حصول هذا الأخير على خمسين ألفًا من الجنيهات من محمد علي، فكتب إلى «أربثنوت» في ٣١ يوليو، يعزو نجاح محمد علي إلى ما يلقاه من نصح وإرشاد من جانب الوكيل الفرنسي «دروفتي» الذي قال عنه: «إنه أبدى أخيرًا نشاطًا عظيمًا في مساعدة محمد علي ونصحه.» يبغي من ذلك تعزيز قضية فرنسا، وهي الدولة التي كما استطرد يقول: «سوف تظفر بنفوذ كبير في مصر لو أن محمد علي تثبت في حكومته هذه البلاد.» وأراد «مسيت» في الوقت نفسه أن يجس نبض محمد علي ليقف على مدى تمسكه بالولاية، كما أراد التمويه عليه بالتظاهر بصداقته له، فأبلغه سرًّا أن الباب العالي ولو أنه يريد إعطاءه باشوية سالونيك بدلًا من باشوية القاهرة ولكنه لن يستخدم القوة في تنفيذ هذا النقل، فلم يلبث محمد علي أن أجاب بصوت عالٍ — على حد ما ذكر «دروفتي» لتاليران في ٣٠ يوليو — إنه لا يخشى أحدًا ولا القبطان باشا نفسه، بل إنه على استعداد كامل لمقاومة الأوروبيين أنفسهم إذا أرادوا المجيء لنجدة البكوات، وقد كان عندئذٍ أن سأل الباشا «دروفتي» إذا كان في مقدور فرنسا تزويده بحوالي الخمسمائة جندي من جيشها في بلادها أو في إيطاليا، ووعد «دروفتي» بإحالة هذه المسألة على الوزير «تاليران».
وعندما ترك الألفي الفرصة تفلت من يده باستئناف ضرب الحصار على دمنهور بعد انتصاره في معركة النجيلة، وظهر امتناع دمنهور عليه بالرغم من مدفعيته الكبيرة التي جلب الوكلاء الإنجليز لخدمتها كثيرين من الطليان واليونانيين، أبلغ «مسيت» الوزير «وندهام» في ١٤ أغسطس أن محمد علي قد تتكلل مساعيه بالنجاح في القسطنطينية، وقد يتمكن من الحصول على فرمان يثبته في الولاية بفضل المساعدة التي يلقاها من الوزير الفرنسي الذي أوصى القائم بأعمال السفارة الفرنسية في القسطنطينية بتأييد مصالح الباشا، ثم قال: «إن الفوضى التي ستنجم عن تثبيت محمد علي سوف تعرض البلاد لخطر الغزو الفرنسي، وفضلًا عن ذلك، فسوف يترتب على هذا التثبيت أن يظفر الفرنسيون بنفوذ عظيم في مصر مما يعود بأسوأ النتائج على بريطانيا العظمى في المستقبل.» ثم اختتم رسالته بقوله: «والخوف من ذلك كله هو الذي يجبرني جبرًا على أن أعرض عليكم ملامة توجيه سفير حكومة جلالة الملك بالقسطنطينية بأن يسعى جهد طاقته لنيل إبعاد محمد علي.» ثم تزايد غضب «مسيت» عند إخفاق المحاولات التي بُذلت للتوفيق بين بكوات الصعيد وبين الألفي، حتى يسهم الأولون في المبلغ الذي نص على دفعه ثمنًا للاتفاق بين مندوبي الألفي وبين الديوان العثماني، ثم بسبب ما شاهده من تدفق الجنود الذين جلبهم محمد علي من الخارج لتعزيز قواته، وامتناع القبطان باشا ورجاله عن مقاومة نزول هؤلاء في الموانئ المصرية، سواء كان مبعث هذا الامتناع الإهمال أو الارتشاء، فقال «مسيت»: «إن مسلك القبطان باشا يهزم أغراض سلطانه النافعة.» وبعث يطلب من «وندهام» في ٨ سبتمبر مركبًا حربيًّا للتجول في المياه المصرية وزيارة الإسكندرية والشواطئ المصرية والشامية.
واستهول «مسيت» نتائج ما حاق من فشل بكل مساعيه لإقصاء محمد علي عن الولاية فراح يعزو — في رسالته إلى «أربثنوت» في ٢٥ سبتمبر — هذا الفشل إلى نشاط «دروفتي» فقال: «إنه لما كان غرض الحكومة الفرنسية تقوية روح الخلاف والشقاق والحيلولة دون تنفيذ أية خطة تعيد السلام والهدوء إلى مصر، فقد أظهر الوكيل الفرنسي نفسه منذ وصول القبطان باشا صديقًا لمحمد علي ومناصرًا لقضيته، وحصل منه الأخير على معلومات صحيحة عن قوة القبطان باشا، ولم يمتنع ضباط القبطان باشا عن الإفضاء إليه بمعلومات خاصة عن نوايا سيدهم السليمة، وتسنى للوكيل الفرنسي أن ينصح محمد علي بأن في وسعه أن يضرب صفحًا عن تهديدات القبطان العالية والتي في الحقيقة لا قيمة لها في حالة ما إذا كان قد صح عزمه على إخلاء مصر وتركها.» ثم استطرد يقول: «ولما كان المفهوم عمومًا أن محمد علي سوف يتثبت في الولاية، فقد صار الحزب الفرنسي يدعي الفضل لنفسه في ذلك، ومن المحتمل أن يستطيع هذا الحزب التأثير عليه بأنه من غير تأييدهم له لن يجديه نفعًا ما بذله من مال بسخاء لرجال الديوان العثماني.» ولانبثاث هذه الفكرة في ذهن محمد علي آثار سوف تصعب إزالتها في المستقبل، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن البريطانيين لأسباب وظروف منوعة يعدون حماة المماليك عمومًا والألفي بك خصوصًا، ووجه الغرابة في هذه الأقوال أن «مسيت» نسي أنه هو نفسه كان كذلك من بين الذين أبلغوا سرًّا محمد علي أن الباب العالي لا ينوي تنفيذ النقل إلى سالونيك بالقوة الجبرية.
وأما آثار هذه الحملة الشديدة التي حملها «مسيت» على الباشا بسبب استعلاء نفوذ الوكلاء الفرنسيين لديه وتوهم القنصل الإنجليزي أنه صار مبيعًا لهم، فقد ظهرت بوضوح عندما صار رجال السفارة الإنجليزية بالقسطنطينية يعتقدون هم كذلك أن بقاء محمد علي في باشويته لا نتيجة له سوى تعزيز النفوذ الفرنسي في مصر وتمهيد الطريق للفرنسيين لغزوها، فكتب «أربثنوت» إلى «فوكس» في ٨ سبتمبر يرسل إليه خطابي «مسيت» له بتاريخ ٣١ يوليو و٣ أغسطس عن حوادث إذاعة محمد علي نبأ تثبيته في ولاية مصر، وانتصار الألفي عليه في معركة النجيلة وموقف موسى باشا، وتعليق «مسيت» بشأن الأخطار التي تنجم عن تثبيت محمد علي في الولاية ثم يقول: «وأما فيما يتعلق بالإجراءات التي يريد الباب العالي اتخاذها بالنسبة لمصر فليس لديَّ أية فكرة عنها، ولكن في ظني أن أي إجراء سوف يتخذ لا يكون من أثره إعادة تأسيس سلطان الباب العالي في هذه البلاد»، وعندما أبلغ «أربثنوت» في ٢٩ سبتمبر أن الباب العالي قد قرر تثبيت محمد علي في منصبه، كتب في اليوم التالي إلى وزير خارجيته: «إن هذا الترتيب الجديد سوف يعود بنفع عظيم للغاية على الحزب الفرنسي، بينما ذهاب محمد علي لو أنه حدث لكان قد أفضى على نحو ما أعرف من الميجور «مسيت» إلى تحطيم نفوذهم (أي الفرنسيين) في مصر.»
ولقد ظهر عجز «مسيت» والتواء أساليبه؛ عندما ترك هو الآخر الفرصة تفلت من يده للوصول إلى اتفاق بين الألفي ومحمد علي، يكفل لحليفه الاستقرار والهدوء في وقت كان الألفي أشد ما يكون فيه حاجة إلى هذين بعد أن استنفد قوته حصار دمنهور، واتضح بسبب امتناع بكوات الصعيد عن الاتحاد معه أن عليه وحده تقع تبعة مواصلة النضال ضد محمد علي، فقد أوضحنا فيما سبق كيف أن الألفي عندما أدرك أن القبطان باشا قد تخلى نهائيًّا عن قضيته صار يريد الاتفاق مع محمد علي حتى يكسب فسحة من الوقت تمكنه من تقوية نفسه، وطلب وساطة «مسيت» في هذه المسألة، فإن «مسيت» بدلًا من السعي جديًّا لعقد هذا الاتفاق بين الطرفين، عمل على تعطيله متعللًا بأن هذا الاتفاق يبعد الألفي عن ميدان العمليات العسكرية المقبلة ويحرم الإنجليز عند مجيء جيشهم إلى الإسكندرية من معاونة فرسان الألفي لهم، ونظر إلى وساطته في هذه المفاوضة التي طلبها كل من الألفي ومحمد علي كوسيلة معطلة لنفوذ الوكلاء الفرنسيين لدى البكوات ولدى محمد علي معًا، ونافعة من ناحية أخرى في زيادة سمعة بريطانيا، ثم إنه حتى يبرر هذه السياسة التي لا شك في أنها كانت خاطئة، راح يقول — في رسالته إلى «أربثنوت» في ٢٩ سبتمبر — ما معناه أنه لا يثق في وعود الألفي، ويرفض لذلك أن يكون على عاتقه ضمان أي اتفاق يحصل بينه وبين محمد علي، ولقد كان هذا كشفًا غريبًا من جانب رجل سياسة يبني كل مشاريعه على مؤازرة حليف لم ينجرف لحظة عن الطريق الذي رسمه لنفسه وهو الصداقة لبريطانيا.
ويزيد من هذه الغرابة أن «مسيت» كان يعلم تمامًا أن لا أمل ولا رجاء في انحياز أحد البكوات غير الألفي إلى تأييد مصلحة بريطانيا؛ فمسيت نفسه هو الذي كتب إلى «وندهام» منذ ٨ سبتمبر أن خطابات من الحكومة الفرنسية قد وصلت عن طريق «تريستا» إلى عثمان بك البرديسي ردًّا على كتاب هذا الأخير إلى بونابرت من جملة شهور مضت، وأن الغرض من هذه المراسلات إنما هو طلب المساعدة من الحكومة الفرنسية ووعد هذه بإعطائها للبكوات؛ لأن هؤلاء يدركون تمامًا أن عودة سلطتهم السابقة إليهم أمر لا يمكن أن يحدث من غير تدخل دول أوروبية، وزد على ذلك أن «مسيت» لم يبذل أي جهد لكسب بكوات الصعيد إلى جانبه، واكتفى باعتبارهم مبيعين لفرنسا مثلهم في ذلك مثل محمد علي، فهو يذكر لوندهام أن عثمان البرديسي — وهو منافس خطر للألفي ويهمه أن يجرده من تأييد «مسيت» له — قد بعث إليه برسائل تفيض مودة، بل ويستفسر عما إذا كان الجنرال «ستيوارت» سوف يأتي إلى مصر ثانية، ثم يطرح «مسيت» هذا الموضوع جانبًا واصفًا مساعي البرديسي هذه بأنها من أساليب الخداع التي يلجأ إليها جريًا على عادته معه! وهكذا اضطر «مسيت» بعد أسابيع من هذا الحادث إلى الشكوى لوندهام (في ٢٩ سبتمبر) من أن إبراهيم بك وعثمان البرديسي قد أوفدا من مدة مملوكًا اسمه أحمد كاشف إلى مرسيليا، وقال «مسيت»: «إن هذا المملوك قد غادر مصر من حوالي ستة شهور مضت بدعوى الذهاب إلى القسطنطينية لإنجاز بعض الأعمال الخاصة به.»
بل ويبدو أن الغرور وقصر النظر السياسي قد أعميا بصيرة «مسيت» في مسألة الوساطة بين الألفي ومحمد علي حتى إنه راح يزعم لأربثنوت أن من مزايا وساطته هذه المضللة لحليفه الألفي ولخصمه محمد علي معًا، إذا اتضح أنه كان أداة سلام، ونجحت المفاوضة بطبيعة الحال بفعل خارج عن إرادته، نال شكر محمد علي وعرفانه لجميله، وبطل انحياز هذا الأخير إلى فرنسا؛ لما لديه الآن من خوف طبيعي من أن يحرض «مسيت» البكوات على الثورة ضده فيتسبب في خلق المتاعب والمصاعب له، تلك التي قال «مسيت»: إن مهمته هي إقناعه بأنه لا يستطيع الخلاص منها من غير مساعدته.
أما وقد جاء الططر بعد ذلك يحملون نبأ تثبيت محمد علي في ولايته نهائيًّا، وانهارت كل آمال «مسيت» فقد صار لا يجد وسيلة عندئذٍ لتفادي هذه الكارثة في نظره سوى تكرار تحذيراته لوزير الحربية من تعرض البلاد بسبب ذلك لخطر الغزو الفرنسي، ثم وجد في رفض البكوات لعروض الباب العالي عليهم إقطاعهم بعض أقاليم الصعيد التي يملكونها فعلًا، معززًا لما ذهب إليه وأفصح عنه لوندهام في ٧ أكتوبر من بقاء مصر في تلك الحال الدقيقة وغير المستقرة التي تجعلها معرضة لهذا الغزو، وقد ظهر نفاق «مسيت» في هذه الأزمة عندما تأكد لديه أن الباب العالي قد ثبت محمد علي في ولايته، فكتب إلى يوسف عزيز في أكتوبر ١٨٠٦ يكلفه بانتقاء مجوهرات هدية لمحمد علي وإبلاغه تهنئته، على نحو ما سبق ذكره في موضعه.
ولعل أقسى هزيمة مُني بها «مسيت» نتيجة تضليله لحليفه الألفي في مسألة الاتفاق الذي وسطه فيه بينه وبين محمد علي، أن الألفي اضطر إلى رفع الحصار عن دمنهور والانسحاب من البحيرة في طريقه إلى الصعيد؛ أي الابتعاد عن ميدان العمليات العسكرية المنتظرة عند نزول الحملة الإنجليزية، ثم دخول بكواته في المفاوضة مع «روشتي» لطلب وساطة روسيا في صالحهم لدى الباب العالي — وهي مفاوضات تقدم ذكرها — أطلعه «البطروشي» عليها في رسالته إليه منذ ٢٣ نوفمبر ١٨٠٦، وراح «مسيت» يخفي انهزامه تحت وابل من المطاعن على «روشتي»، ويبدي تشككه بل اعتقاده بأن هذا الأخير إنما أقدم على مفاتحة بكوات الألفي في هذه المسألة من تلقاء نفسه ودون أن تكون لديه تعليمات بذلك من حكومته، ثم صار يؤكد — كما رأينا في رسالته إلى «أربثنوت» في ٢٦ نوفمبر — أن الألفي نفسه يجهل نشاط شاهين بك في موضوع هذه الوساطة، مع العلم بأن شاهين عضد الألفي وساعده الأيمن، وقد تولى زعامة الألفية بعد وفاة كبيرهم، ومع أن وفاة الألفي كانت قمينة بأن تصدم «مسيت» الذي أدخل في حسابه دائمًا الاعتماد على الألفي وفرسانه في إنجاح حملة الإنجليز المنتظرة، فقد كان كل تعليقه على هذا الحادث أنه لا يدري سبب الوفاة الحقيقي، وأنه يبغي معرفة آراء شاهين بك خليفة الألفي من حيث تمسكه بالمسلك الذي سلكه سلفه مع الإنجليز والعمل منفردًا عن سائر البكوات أو الاتحاد معهم، وكانت نتيجة حتمية ولا شك تلك التي أسفرت عنها مساعي «مسيت» مع شاهين بك، عندما كتب إليه هذا الأخير كتابًا وصله في ١٣ فبراير ١٨٠٧ جعل «مسيت» يعلق عليه بقوله في رسالته إلى «أربثنوت» في ٨–١٤ فبراير ١٨٠٧: «ومع أنه لا يوجد أدنى شك في أن شاهين بناء على تحريض «روشتي» له قد طلب مساعدة روسيا، فإنه لمما لا يزال يدعو إلى الارتياح (!) أن نراه يريد الإبقاء على علاقات المودة والصداقة التي كانت بيننا وبين الألفي، ويعقد آمالًا كبيرة على ثقته في حماية بريطانيا له.» ثم يذكر في رسالة أخرى، في هذه المرة إلى حاكم مالطة السير «ألكسندر بول» أما في ١٤-١٥ أو ١٦ فبراير أنه قد وصله كتاب من شاهين بك يقول فيه إنه يريد الآن الانضمام إلى سائر البكوات في الصعيد، وأن يعود بعد ذلك لحصار القاهرة! وأما شاهين فقد كتب إلى «مسيت» في ٢ فبراير ١٨٠٧ يبلغه خبر وفاة محمد بك الألفي الذي قال عنه إنه لما وصل إلى دهشور كان في صحة جيدة وروح عالية؛ حيث إنه كان قد انتصر على محمد علي وجيشه انتصارًا باهرًا في المنصورية لم يلبث هذا بعده أن انسحب إلى قرية كفر حكيم، وانتظر الألفي عبثًا خمسة أيام بتمامها أن يخرج العدو منها حتى يلتحم معه ثانية، ثم استأنف سيره إلى دهشور حيث توفي بها فجأة، واختير شاهين رئيسًا للألفية، وتحدث شاهين عن أغراض جماعته فقال: «إن غرضنا الآن هو الذهاب إلى والدنا إبراهيم بك وسائر البكوات بالصعيد، وسوف نعمل جادين بالاتحاد معهم من أجل استرجاع أملاكنا وانتزاعها من أيدي الأرنئود، تبعًا لتعليمات سلطاننا المعظم أبقاه الله ورعاه — وبمشيئته تعالى سوف نتمكن في خلال هذا الشهر من تحقيق غرضنا ونيل مأربنا.» ثم رجاه أن يبلغ السفير الإنجليزي بالقسطنطينية ألا يصدق ما يترامى إليه من أنباء كاذبة قد يروجها أعداء شاهين ويعد أنه بمجرد وصوله إلى الصعيد وانضمامه إلى البكوات القبالي، سوف يجري إعداد عريضة من جانب البكوات إلى الباب العالي، ويرسلها هؤلاء إلى «مسيت» حتى يبعث هذا بها إلى السفير، واختتم شاهين كتابه برجاء «مسيت» الاستمرار على إسداء العون لهم كما كان يفعل مع الألفي وأن يكتب إليهم، ويؤكد له أنه سوف يسعدهم دائمًا أن يؤدوا له كل ما يمكنهم من خدمة.
وهكذا كانت الحقيقة الواضحة — بالرغم مما احتواه خطاب شاهين من عبارات الود والصداقة للوكيل البريطاني، والوعد بإسداء الخدمة التي قد يريدها «مسيت» من البكوات أن جماعة الألفي آثرت الانسحاب إلى الصعيد، بدلًا من انتظار مجيء الحملة الإنجليزية؛ وعلى ذلك لم تجد هذه الحملة عند حضورها بعد شهر واحد من تاريخ وصول هذه الرسالة إلى «مسيت» أحدًا من مماليك الألفي أو أجناد شاهين لاستقبالها.
حقيقة أثمرت جهود «مسيت» في الإسكندرية لأسباب سوف نذكرها في موضعها أفضت إلى تسليم هذه دون مقاومة، ولكن محمد علي باشا مصر وصاحب الحكم فيها كان قد صح عزمه على رد هذا العدوان بالقاهرة، ولم يجد «مسيت» بالرغم من نشاطه ونشاط وكلائه سوى أفراد قلائل معدودين رغبوا فعلًا في مناصرة الإنجليز أو رضوا عن غزوهم.
تلك إذن كانت آثار السياسة الخاطئة والملتوية التي مضى فيها «مسيت» بإصرار وعناد لتحطيم حكومة محمد علي، حتى يتحطم بذلك نفوذ فرنسا في مصر، ولتأسيس الحكم المملوكي حتى يتمهد بذلك احتلال البريطانيين لهذه البلاد؛ وعلى ذلك فإنه بدلًا من أن تتهدم المصالح الفرنسية أو يُقْضَى على النفوذ الفرنسي في مصر في هذه الفترة أحرز هذا النفوذ تفوقًا كبيرًا أخذ يقوى تدريجًا حتى بلغ ذروته أيام الغزو البريطاني في عام ١٨٠٧، وكان سبب هذا إنما هو السياسة الحكيمة التي سار عليها «دروفتي» ثم نائبه «مانجان» في القاهرة.
(٢) سياسة «دروفتي»
والرأي السائد عند جمهرة المؤرخين الفرنسيين أن «دروفتي» صار يسترشد في نشاطه السياسي في السنوات التالية ومنذ أن عُيِّن في مكان «ماثيو لسبس» بالمبادئ والقواعد التي تركها هذا عند مغادرته مصر للوكلاء الفرنسيين حتى يسترشدوا بها ويسيروا عليها من بعده، وأهم هذه المبادئ الإقبال على تأييد محمد علي ومناصرته، والعمل على تعطيل مشاريع الإنجليز للقضاء على كل نفوذ لهم في البلاد، على أن الحقيقة فيما يتعلق بتأييد محمد علي خصوصًا كانت على خلاف ذلك؛ لسببين هامين؛ أولهما: أن «ماثيو لسبس» كان لا يرى في محمد علي — وكما سبق ذكره — ذلك الرجل القادر على انتشال البلاد من الفوضى وتأسيس الحكومة الموطدة بها حتى يوصي خلفاءه بتأييده، وثانيها: أن «دروفتي» نفسه كان يشك كثيرًا وقت المناداة بولاية محمد علي مايو ١٨٠٥ في قدرة هذا الباشا الجديد على تذليل الصعوبات التي اعترضت حكومته حتى يُقبل هكذا وعلى أثر المناداة به مباشرة على تأييده، بل إن «دروفتي» لم يعمد إلى مناصرة محمد علي إلا بعد أن تدخلت عوامل عدة جعلت «دروفتي» يقبل شيئًا فشيئًا على مؤازرة الباشا لاعتقاده بأن بقاء محمد علي في الحكم هو الوسيلة الفعالة لإبطال مساعي الإنجليز الذين يريدون إعادة الحكم المملوكي إلى مصر برئاسة حليفهم الألفي، وأما من حيث تلك التعليمات المزعومة التي تركها «ماثيو لسبس» لخلفائه فقد وصفها «دروفتي» نفسه في رسالة له إلى حكومته في ٣١ أغسطس ١٨٠٥ بأنها إنما تدور حول شيء واحد، وواحد فقط هو إفساد خطط الإنجليز ومشاريعهم في مصر، ولم يكن «دروفتي» في حاجة إلى هذا النصح والإرشاد؛ لأنه يعتقد اعتقادًا راسخًا ومن مبدأ الأمر — وكما اعتقد نائبه «مانجان» أيضًا — أن مهمته الكبرى والمباشرة إنما هي إفساد خطط الإنجليز ومشاريعهم بكل وسيلة.
والواقع أن «دروفتي» اختط لنفسه سياسة كانت مستقلة في تفاصيلها عن تلك التي سار عليها سلفه من قبل، أو أرادت حكومة القنصل الأول والإمبراطور في باريس إلزام مندوبيها في مصر باتباعها، وإن اتفقت هذه السياسة في هدفها الأعلى وما كانت تريده فرنسا من حيث القضاء على كل نفوذ للإنجليز في مصر والحيلولة دون احتلال هؤلاء للبلاد مرة ثانية، وكان بفضل استقلال «دروفتي» بالعمل وعلى مسئوليته هو وحده أن انتقلت تدريجًا السياسة الفرنسية المحلية من سلبيتها السابقة إلى سياسة إيجابية ترمي إلى التأثير على الوقائع ذاتها بدلًا من الاكتفاء بالأمر الواقع والتسليم به أو محاولة تعديل ما ترتب على حدوثه من نتائج بعد حدوثه.
ولقد تضافرت عوامل عدة لإدخال هذا التعديل الجوهري على السياسة الفرنسية المحلية في مصر، منها ما ظهر وقتئذٍ من أن حكومة باريس لم تشأ — على ما يبدو — أن تخط لنفسها سياسة مصرية مرسومة، طالما أنها قنعت بذلك الهدف العام الذي ظل مسيطرًا على تفكيرها حتى عام ١٨٠٤؛ أي منع الإنجليز من احتلال مصر ثانية بعد أن تم إجلاؤهم عنها في مارس ١٨٠٣، وطالما أنها بقيت راضية بما يظهره عثمان البرديسي (خصم الألفي حليف الإنجليز) من آيات الولاء والصداقة وضروب الاحترام لشخص بونابرت العظيم في مراسلاته معها، ولو أن الولاء لفرنسا والاحترام لعاهلها لم يمنعاه عندما تأسست الحكومة المملوكية أو الحكومة الثلاثية في القاهرة من إساءة معاملة «ماثيو لسبس»، حتى إن هذا الأخير طلب من حكومته أن تبعث في استدعائه من مصر، وكان السبب في عدم وجود أي سياسة مصرية مرسومة لدى حكومة باريس أن مشاغل الإمبراطور نابليون وحروبه في القارة الأوروبية ثم نضاله العنيف مع إنجلترة قد استغرقا كل وقته، واستأثرا بكل نشاطه وتفكيره، حتى إنه صار ينظر إلى مصر والفصل في مصيرها كمسألة ذات أهمية ثانوية تأتي في ترتيبها بعد إحرازه النصر في أوروبا وانهزام إنجلترة، فكانت التعليمات التي وصلت إلى «دروفتي» قليلة ومفرغة في قالب عام تركت له في حقيقة الأمر بين عامي ١٨٠٥، ١٨٠٧ حرية العمل وعلى مسئوليته هو وحده وما دام لا يفوت على فرنسا تعزيز مصالحها.
ولعل أهم ما يلاحظ في هذا التغيير الذي طرأ على السياسة الفرنسية المحلية — وهي التي وجب بحق تسميتها بسياسة «دروفتي» — أنه حدث لصالح محمد علي، ولم ينتفع منه البكوات الذين عرفوا بصداقتهم لفرنسا، وينسب الفضل في ذلك إلى «دروفتي» الذي لم تلبث الحوادث أن أقنعته رويدًا رويدًا بأن المناداة بمحمد علي في مايو ١٨٠٥ إنما هي بمثابة حد يفصل بين عهدين، ولا ندحة عن إدخاله في حساب الديبلوماسية الفرنسية إذا شاءت فرنسا الوصول إلى غايتها التي هدفت إليها منذ استئناف نشاطها في مصر: تعزيز نفوذها في البلاد ورعاية مصالحها التجارية خصوصًا، ثم منع عودة الاحتلال البريطاني إليها، ويتضح عجز حكومة باريس عن إدراك هذه الحقيقة من تلك التعليمات التي بعثت بها إلى «دروفتي» في ٢٢ يوليو ١٨٠٥ — كما سيأتي ذكره — وهي تعليمات لو أن «دروفتي» لم يكن صاحب همة ونشاط وذا حصافة وبعد نظر سياسي لعطلت المصالح الفرنسية في مصر وألحقت الأذى بها.
وقد رفض «دروفتي» أن يظل مكتوف اليدين بينما يتدخل غريمه «مسيت» تدخلًا إيجابيًّا وينشئ حزبًا مملوكيًّا مواليًا للإنجليز، يتزعمه الألفي أعلى البكوات همة وأشدهم مراسًا، وكان على «دروفتي» وقد اعتزم نبذ السلبية التي هددت بزوال كل نفوذ لفرنسا أن يختار بين أمرين: إما مؤازرة الحزب الفرنسي ورئيسه العامل عثمان البرديسي، ثم سائر البكوات كعثمان بك حسن وغيره من الذين يغضبهم استعلاء الألفي ولا يرضون برئاسته عليهم، وإما مؤازرة محمد علي. ولقد أوحت الحوادث إلى «دروفتي» وبعد تجربة، بأن من الخير له الإقبال على مناصرة محمد علي لا ضد الألفي فحسب، بل وضد البرديسي وجماعته كذلك، على أن هذا التحول الذي شكل سياسة «دروفتي» لم يحدث فجأة، بل مر في أدوار وعلى مراحل، وحدث بعد إمعان وتروٍّ، وتقليب لوجوه النظر فيما صار يجد من وقائع، لا سيما بعد حادث انقلاب ١٣ مايو ١٨٠٥، واتخذ أول ما اتخذ مظهر المحاولة لمنع أي اتفاق بين الألفي ومحمد علي، خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى انتصار السياسة الإيجابية الإنجليزية في مصر، حتى إذا استبان «دروفتي» أن محمد علي يعتزم التحرر من كل نفوذ أجنبي ويرفض أن يشاركه الحكم أحد من البكوات لا الألفي ولا غيره، وأن القوة وحدها هي التي تستطيع زحزحته من الولاية وإخراجه من مصر، ثم شهد تخاذل المماليك بسبب خلافاتهم وانقساماتهم وتعذر تكوين جبهة متحدة منهم سواء بزعامة الألفي أو بزعامة البرديسي، وانتفاء كل رجاء لذلك في قيام حكومة مملوكية في مصر، ثم انهيار مثل هذه الحكومة إذا تسنى إنشاؤها لظروف طارئة كتلك التي حدثت في ١٨٠٣-١٨٠٤ فضلًا عن إيثار بكوات الصعيد العيش في تلك الأقاليم النائية ينهبون ويسلبون، على البقاء بالقرب من مراكز النشاط السياسي ثم العسكري المنتظر في الوجه البحري، وتركهم الميدان فسيحًا للألفي حليف الإنجليز، نقول: إن «دروفتي» حينما اتضح له ذلك كله لم يجد مناصًا من مؤازرة حكومة محمد علي، ثم إنه ما إن وصل إلى تقرير هذه الخطة حتى أقبل على تنفيذها دون تردد في جرأة وشجاعة حققتا لها الانتصار لا من حيث المساعدة على إنقاذ ولاية محمد علي من الأخطار التي تهددتها وكادت تطيح بها بين عامي ١٨٠٥، ١٨٠٧ فحسب، بل ومن حيث إرساء قواعد ذلك التفاهم الذي قرب بين محمد علي وفرنسا، وأوجد تلك الصداقة التي جعلت باشا مصر يعتمد على ما صار يتوقعه من مناصرة هذه الدولة حتى آخر أيام حياته.
ويبدأ هذا التحول في السياسة الفرنسية المحلية في مصر عند المناداة بولاية محمد علي، ويتم أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، ثم لا تلبث أن تظهر ثماره المباشرة عند مجيء حملة «فريزر» إلى مصر، ويرتبط باعتبارات معينة منها ضرورة الاطمئنان إلى موقف الباب العالي من فرنسا في النضال الأوروبي القائم حتى لا ينحاز إلى عدوتيها: إنجلترة وروسيا، ثم اتخاذ الحيطة من ناحية نشاط الوكلاء الإنجليز مع حلفائهم من المماليك الذين تزعمهم الألفي، وذلك حتى يتسنى تدبير الوسائل التي تكفل دفع الغزو الإنجليزي عند وقوعه، وقد كان الفرنسيون يتوقعون نزول حملة إنجليزية في هذه البلاد، كما كان غرماؤهم يتوقعون غزوة فرنسية عليها، وأخيرًا التأكد من أن محمد علي هو القوة الداخلية في مصر ذاتها، وزوال أي اشتباه في قدرته على تذليل ما يصادفه من صعوبات، ورسوخ الاعتقاد بأن أسباب الدفاع عن البلاد ضد الغزو الإنجليزي المنتظر إنما تتركز في حكومته وتتوقف على بقاء ولايته.
المرحلة الأولى: بوادر التحول إلى الإيجابية
وقد بدأ «دروفتي» عمله في منصبه الجديد — مكان «ماثيو لسبس» — بتسجيل ما صار يلاحظه بيقظة وانتباه من حوادث لا مَعْدَى عن تأثيرها على المصالح الفرنسية من جهة، وعلى الوضع القائم في مصر من جهة أخرى، أبرزها نشاط القنصل الإنجليزي «مسيت» في الثغر، والنضال القائم بين حكومة خورشيد وبين البكوات سواء في الفيوم أو في الصعيد، ثم استقدام خورشيد لجنوده الدلاة، فقد زار الإسكندرية أسطول إنجليزي بقيادة «نلسن» في فبراير ١٨٠٥، كما زارت الميناء فرقاطة إنجليزية بعد ذهاب الأسطول، وأكد الإنجليز، ولا سيما «مسيت» أن أسطولًا فرنسيًّا قد غادر طولون من المتوقع أن يغزو مصر، فنشطت السلطات الحاكمة في الثغر لتحصين الإسكندرية تحت إشراف القنصل البريطاني الذي يعمل كل يوم على تمرين الجنود وبعض العربان، ويجري مناورات تشترك فيها المدفعية، وبعث خورشيد باشا لذلك بأحد ضباطه يحمل نداء إلى الإسكندريين يدعوهم فيه للتسلح من أجل الدفاع عن البلاد، ثم لاحظ «دروفتي» بعد أن سجل وقائع القتال الدائر بين جند خورشيد بقيادة محمد علي وبين البكوات، ثم سقوط المنيا في يد الأول في أبريل ١٨٠٥ أن لا وجود لأي تفاهم أو سلام بين البكوات المماليك، وأن الباب العالي إذا أولى الأمر قليلًا من عنايته استطاع في وقت قريب أن يصبح سيد البلاد تمامًا، ومنذ ٤ أبريل كشف «دروفتي» لحكومته عن الآثار المتوقعة من استقدام الدلاة إلى مصر، وهم الذين قال عنهم: إنهم وصلوا إلى القاهرة في ٢٩ مارس، فأوضح كيف أنه من الطبيعي أن يزعج وجودهم الأرنئود الذين صاروا يرون اليوم أنفسهم مهددين بفقد ذلك التفوق الذي أحرزوه بسبب أعدادهم الكثيرة عندما وجدت في الميدان قوات جديدة تعادلهم، وقال «دروفتي»: إن خورشيد يبغي من استقدامهم تأليف حزب من الدلاة يعاونه على التحرر من سيطرة الأرنئود، ثم نقل إلى حكومته ما يذيعه المتشائمون من أن وجود هاتين القوتين: الدلاة والأرنئود، سوف يفضي إلى وقوع الاصطدام بين رئيس الدلاة وبين محمد علي لتنازعهما المنتظر على القيادة العليا، ولما كان الدلاة قد صاروا يشيعون أنهم حضروا إلى مصر لقمع البكوات وطرد الأرنئود، ومن المنتظر بسبب هذه الأقوال غير الحكيمة أن يتغير الأرنئود على حكومة خورشيد، فقد أنذر «دروفتي» منذ ١١ أبريل بتوقع حدوث الاصطدام بين خورشيد ومحمد علي، فقال: ولن يكون مثار دهشة إذا أعلن محمد علي في هذه الظروف تذمره وغضبه وهو الذي ليس هناك ما يدعوه لانتظار رضا الباب العالي وثنائه عليه، وأما خورشيد فإن مركزه سوف يتحرج حتمًا إذا لم ينشط في حكمة واعتدال لتهدئة الدلاة والأرنئود وفرض النظام والطاعة على الجماعتين. وفي ١٦ أبريل كتب «دروفتي» إلى «تاليران» أن سحب الثورة تتجمع في سماء القاهرة، وأن أحدًا لا يعرف مشروعات محمد علي الطموح والجريء، وأن موقف الأهلين من هذه الأزمة لا يزال مجهولًا، ثم انتقد «دروفتي» تصرف خورشيد؛ لأنه أعطى قيادة القلعة إلى صالح أغا قوش أحد الأرنئود وجمع حوله بالقلعة طائفة منهم، فكان من رأي «دروفتي» إذا اتضح أن لمحمد علي أطماعًا تجعله يريد الاستيلاء على القاهرة، فإن خورشيد سوف يلقى نفسه في مركز على غاية من الحروجة للأسباب المتقدمة، وبالرغم مما يبدو من اعتقاد خورشيد وهو نفسه من الأرنئود بأن في وسعه التأثير على صالح قوش وسائر الأرنئود الذين معه بالقلعة، والصعوبة الكبرى التي يصادفها خورشيد وسط هذه الأحداث هي حاجته الملحة إلى المال، وعجزه الظاهر عن دفع مرتبات الجند.
ومع أن الاصطدام الذي خشي «دروفتي» وقوعه بين الدلاة وبين محمد علي لم يحدث؛ لنجاح الأخير في كسبهم إلى جانبه، ودخل محمد علي القاهرة ووافق خورشيد على أن يدفع بعد مهلة قصيرة جدًّا مبلغًا من المال لدفع مرتبات الجند، فقد توقع «دروفتي» في ٢٣ أبريل أن يظل الموقف في مصر متحرجًا، وكان من رأيه أن الاتفاق الأخير بين خورشيد وبين محمد علي لا يبعث على الاطمئنان؛ لأن محمد علي إنما يريد الاستحواذ على باشوية القاهرة، وقد زود «مانجان» في الأيام التالية بمعلومات كثيرة عن حقيقة الحالة في القاهرة، وعن ازدياد نفوذ محمد علي على الجند والأهلين، وأوضح «دروفتي» لتاليران في ٢٨ أبريل أن الأمور سوف تتأزم لا محالة بسبب خلو الخزانة من المال، وتوقع أن يحدث في مصر نفس ما حدث أيام خسرو باشا، ثم إنه لم تفته ملاحظة نشاط «مسيت» الذي لم يعنه شيء من أمر الأزمة التي كانت على وشك الانفجار في القاهرة، فراح يشيع الخوف بين أهل الإسكندرية وحكامها من الغزو الفرنسي المنتظر، فقد دخل إبريق إنجليزي إلى الميناء في ٢٧ أبريل، حضر من مالطة، فذهب أحد الضباط الإنجليز بصحبة «مسيت» لمقابلة أمين أغا حاكم الإسكندرية والقبطان بك متولي قيادة السفن العثمانية في الميناء ليعلنا إليهما خروج أسطول فرنسي من طولون حتى يحتاطا للأمر، وخرجت فرقاطة عثمانية على الأثر من الميناء القديم للقيام بجولة أمام الإسكندرية، وفي ٣ مايو كتب «دروفتي» إلى «باراندييه»: أن الإنجليز الذين تذرعوا دائمًا بحجة الدفاع عن هذه البلاد ضد الفرنسيين يحاولون وضع حامية بالإسكندرية تتألف من الفرقة العاشرة وجنود آخرين من المشاة الذين هم على ظهر سفينتين إنجليزيتين موجودتين بهذا الميناء، وأرادوا أن يتعاون معهم في إنجاز هذه العملية غير الحكيمة ضباط الباب العالي من غير أن ينال هؤلاء الأخيرون موافقة حكومتهم على ذلك، واعتقد «دروفتي» لذلك أن الإنجليز إنما يريدون الاستيلاء على الإسكندرية منتهزين فرصة عدم الاستقرار السائد في مصر لتنفيذ مآربهم، بينما قد بلغ اليأس بأهل البلاد كلهم تقريبًا بسبب استمرار الثورات التي تكاد تقع يوميًّا والتي أتعبتهم وأنهكت قواهم حدًّا جعلهم يطلبون الفرج على يد نجدة تأتي لإنقاذهم من المظالم التي يقاسونها، سواء جاءت هذه النجدة من فرنسا أو من إنجلترة.
ثم ظل «دروفتي» يرقب بيقظة وانتباه ما يجري من حوادث في القاهرة، فسجل تدخل الدفتردار جانم أفندي والمشايخ بين خورشيد ومحمد علي لإنهاء الأزمة، وتوصل هؤلاء لاتفاق بين هذين، حصل في منزل جانم أفندي، قد يفضي إلى تمتع القاهرة بالهدوء إذا أمكن تنفيذه، وهذا ما لم يكن «دروفتي» يتوقعه، فقد كتب إلى «تاليران» في ٦ مايو يطلب تعليمات جديدة، فقال: إنه بالرغم من الأخبار التي بلغته عن إجراء الصلح نهائيًّا بين خورشيد ومحمد علي على أساس أن يدفع الأول مرتبات ستة شهور للأرنئود، وأن يبعث الأخير بالقسم الأكبر من جنده إلى الصعيد لمواصلة القتال ضد البكوات هناك، فهو يعتقد أن الموقف يتطلب منه أن يسأل «تاليران» إرسال تعليمات جديدة إليه بشأن ما يجب أن يكون عليه مسلكه إذا استولى محمد علي على زمام الحكم، أو إذا ترتب على حدوث ثورة أخرى أن سلبت السلطة من ممثلي الباب العالي الشرعيين في هذه البلاد.
ولقد كان لدى «دروفتي» ما يحمله على الاعتقاد — ومنذ ٦ مايو — أن الأمور في القاهرة سوف تجري في غير صالح خورشيد باشا، حتى إنه وجد من الضروري عدم انتظار وصول تعليمات «تاليران» إليه، ورأى أن الواجب يقتضيه سؤال «باراندييه» القائم بأعمال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية أن يبعث إليه بتعليمات مؤقتة يعمل بها حتى تأتيه توجيهات حكومة باريس، وقد صح تقدير «دروفتي»؛ لأن الحوادث سرعان ما وقعت متلاحقة في أثر بعضها بعضًا بالصورة التي عرفناها والتي انتهت بالمناداة بولاية محمد علي في ١٣ مايو ١٨٠٥، وقد سجل «دروفتي» و«مانجان» وقائع هذه الحوادث بين يومي ٤، ١٣ مايو، وأصدر الوكيل الفرنسي إلى نائبه في القاهرة تعليماته بضرورة زيارة محمد علي واستطلاع آرائه من حيث رعاية المصالح الفرنسية عند استيلائه على حكومة القاهرة، فكتب «مانجان»: إن هذا القائد الأرنئودي (أي محمد علي) قد أبدى له ما يكنه من مشاعر المحبة العظيمة للأمة الفرنسية وحكومتها.
وقد عُنِيَ «دروفتي» بدراسة الموقف في القاهرة عقب انقلاب ١٣ مايو واعتصام خورشيد بالقلعة، واستخلص من دراسته هذه حقائق معينة جعلته يصدر تعليمات إلى «مانجان» فيما يجب أن يكون عليه مسلكه مع محمد علي، وقد بسط «دروفتي» ذلك كله في رسالة هامة بعث بها إلى «باراندييه» من الإسكندرية في ١٦ مايو ١٨٠٥، فقال: «ولو أن خورشيد قد نجح في طلب النجاة بالاعتصام بالقلعة، فليس هناك ما يدل على أنه سيبقى في حكومة مصر، فعليه أن يناضل ضد تدابير رجل صاحب أطماع ونشاط كبيرين — يعني محمد علي — ويحذق فن التآمر، ويناصره الرأي العام كما أن لديه القوة والسلاح، وهذا الرجل اللبق قد عرف كيف يسترضي المشايخ وأهل القاهرة، وأن يجعلهم يصدقون أن السبب الفرد في سوء الحالة المالية مرده إلى سوء الإدارة والحكم الذي هو مبعث كل الاضطرابات التي أزعجت القاهرة وحرَّكتها على الثورة؛ وعلى ذلك؛ فقد أشاع بينهم روح السخط والتذمر، واستطاع أن يشق لنفسه طريقًا إلى الولاية دون أن يبدو منه ما يشعر أنه يريد الحكم، فهو مسيطر في هذه اللحظة تمامًا على رؤساء الأهلين الظاهرين، وما عليه إلا أن يبدي إرادته حتى يظفر بنيل مأربه، ولكن هذا الرجل صاحب الأساليب المكيافيلية دائمًا إنما يبغي ما يظهر أن يكون وصوله إلى السلطة عن طريق الشعب، وبهذه الوسيلة لا يفوز بتأييد المشايخ والأهلين لكل مشاريعه فحسب، بل ويجعل نفسه كذلك وبصورة من الصور رجلًا أو حاكمًا لا مَعْدَى عن حاجة الحكومة العثمانية إليه، ومع أن أنصار المماليك قد أعلنوا منذ انسحابه من الصعيد ومجيئه إلى القاهرة أن محمد علي إنما يعمل بالاتفاق مع البكوات، إلا أن مسلك هؤلاء الأخيرين لا يدل في الحقيقة على وجود خطة مثل هذه، فمحمد علي يستخدم كل الوسائل الممكنة التي تجذب إليه قلوب أهل القاهرة، بينما يعمل المماليك على تخريب الوجه البحري والجهات المجاورة للقاهرة ذاتها، ويقطعون المواصلات ولا يدعون الإمدادات والمؤن تأتي العاصمة من الصعيد، بل ويجوعون القاهرة وينشرون بها المجاعة مما أثار الأهلين عليهم، وقد يكون تصرفهم مخالفًا لما يفعلونه لو أنهم سلكوا نفس الطريق الذي اتبعه محمد علي، والحقائق المتصلة بالموقف هي ما يأتي: الانقسام التام يفرق بين حزبي البرديسي والألفي، والأخير قد يرى فيما لحق بعثمان البرديسي من هزيمة انتقامًا له منه وقع على أيدي الأرنئود، بينما قد طرد الأرنئود البرديسي من القاهرة، وقد توصل الإنجليز سابقًا في عقد صلح بين خورشيد والألفي، وقد سعوا لدى الباب العالي في صالح الألفي، ويهمهم أن يروا حزب البرديسي وقد تحطم بينما يلازم النجاح والانتصار الألفي وحزبه، وأخيرًا، فإن الألفي رابض بالقرب من القاهرة في انتظار ما تسفر عنه الحوادث، وعلى كل حال، فمن المتعذر أن يرضى محمد علي بمشاركة الألفي له في ممارسة شئون السلطة العليا، وقد وجدت من واجبي مهما يكن الأمر أن أبعث بتعليمات إلى «مانجان» بالقاهرة حتى يبذل قصارى جهده لإحباط كل مشروع يضع في الحكم صنيعة الإنجليز (أي الألفي)، وعندما أوضحت لمانجان المهمة التي عليه القيام بها لدى محمد علي، أوصيته باجتناب كل إجراء يستثير عمال أو ضباط الباب العالي ويغضبهم، وهم الذين يجب علينا علاوة على ذلك في علاقاتنا معهم المحافظة على مصالحنا بأن نحول دون أن يكون للإنجليز أي نوع من النفوذ في حكومة مصر.»
وعلى ذلك، فقد أصدر «دروفتي» تعليماته إلى «مانجان» في اليوم نفسه (١٦ مايو)، يوصيه بأن يثابر على جهوده لكسب صداقة محمد علي مع مراعاة الحكمة؛ نظرًا لما كان متوقعًا من استئناف العلاقات الودية القديمة بين فرنسا والباب العالي نتيجة للتغيير الوزاري الذي حدث وقتئذٍ في تركيا، ثم ذكر لمانجان رأيه في أغراض محمد علي وذلك بما لا يخرج عما ذكره في رسالته السابقة إلى «باراندييه»، ولما كان «دروفتي» قد جزم بأن الاستئثار بالحكم عن طريق الشعب، وجعل الباب العالي في حاجة ملحة إلى بقائه في هذا الحكم، هما غرضا محمد علي، فقد عدد «دروفتي» الصعوبات التي تعترض سبيله، ومنها جعل الجند يطيعون أوامره؛ لأن هؤلاء — كما قال — يصرون على عدم الخروج لقتال المماليك الذين يتجولون في مديريات الوجهين البحري والقبلي كغزاة فاتحين، ينهبون القرى ويجوعون القاهرة، مما من شأنه إذا استمر الحال على ذلك إثارة تذمر الشعب من الحاكم الجديد وكذلك سوف يثور التجار — وهم طبقة من الناس ينبغي رعاية جانبهم — إذا وجدوا المماليك والعربان المسيطرين على شواطئ النيل يقطعون المواصلات، ثم تساءل «دروفتي» وماذا يحدث للدلاة؟ لا شك في أن هذه كذلك مسألة شائكة عويصة؛ وعلى ذلك، فقد أوصى «مانجان» بأن يجتمع بمحمد علي وأن يتحدث معه في هذه الشئون جميعها، ولكن دون أن يبدو منه ما يدل على أنه يريد التحدث إليه في مشاريعه، ثم استطرد «دروفتي» يقول: وأما إذا لاحت الفرصة، فعلى «مانجان» أن يذكر لمحمد علي أن «دروفتي» قد خلف مؤقتًا «ماثيو لسبس»، وأن هذا قد عهد إليه بأسرار بعثته أو مهمته في مصر، وأن «دروفتي» قد وقف على سر محمد علي من زمن طويل — قل له: إننا نحبه؛ لأننا نعلم أنه يحب أمتنا وحكومتنا، ولكن قبل كل شيء تأكد من ولاء تراجمتنا قبل أن تصل إلى المرحلة التي تدلي فيها بهذه التصريحات، وإنه لمما يهمنا أن نعرف بالتمام آراء محمد علي وغاياته، ولكن الواجب يقتضينا عدم المجازفة بالتورط بأية صورة من الصور، فاعمل إذن بمنتهى ما يمكن من الحكمة، وأنت تعرف أن الإطراء والمداهنة ضروريان قبل أي شيء آخر إذا أريد عرفان أسرار الترك، والزم عند حديثك مع محمد علي أسلوب الأسئلة غير المحددة والمفرغة في صيغ شرطية، واجتهد حتى تعرف ما إذا كانت له علاقات مع البكوات.
وفي ٢٠ مايو بعث «دروفتي» بتعليمات جديدة على ضوء ما بلغه عن حوادث القاهرة: استمرار النضال بين خورشيد ومحمد علي، وقوف الألفي قريبًا من القاهرة يستعد لدخولها، وتجري المفاوضات بينه وبين محمد علي بشأن ذلك، ويحاول الأخير بمساعدة عمر مكرم خديعة الألفي وشل حركته، بقاء البرديسي وإبراهيم وسائر البكوات القبالي بالصعيد إلى غير ذلك من المسائل التي عرف «دروفتي» بعضًا منها، لا سيما محاولة الألفي الاتفاق مع محمد علي: الأمر الذي استأثر بكل اهتمام «دروفتي» في هذه الأزمة، فقال «دروفتي»: إن الموقف يتطلب من «مانجان» إظهار مهارة فائقة، وحكمة بالغة حتى لا يستثير ضده أية جماعة من الجماعات المتناضلة، ثم تحدث طويلًا عن مسألة الألفي، فقال: إن الإشاعات رائجة في الإسكندرية بأن الألفي متفق مع محمد علي وأنه على وشك دخول القاهرة إن لم يكن قد دخلها فعلًا؛ ولذلك فواجب «مانجان» أن يسعى لمقابلة محمد علي وأن يطلب منه تصريحًا في هذه المسألة، فإذا وجد «مانجان» أن محمد علي قد قرر مراعاة خاطر الألفي ومحاباته؛ فعليه حينئذٍ أن يبذل قصارى جهده لمنعه من ذلك، بأن يبين له أن هذا العطف على الألفي يجلب عليه غضب الباب العالي، بينما هو في استطاعته أن ينشئ علاقات طيبة مع الباب العالي، حيث قد تسلم الحكم بفضل تأييد الشعب له. ثم عمد «دروفتي» إلى لهجة الوعيد الخفي والتهديد المستتر فطلب من «مانجان» أن يجعل محمد علي يشعر بأنه من الممكن أن يأتي جيش فرنسي إلى مصر، وأن البكوات الموالين للإنجليز والذين هم تحت حماية هؤلاء سوف ينالون جزاءهم، ثم استطرد يقول: «وأخبره (يعني محمد علي) أن الإمبراطور نابليون يعلم إخلاصه وولاءه للأمة الفرنسية، وأنه لمن الأوفق له (أي لمحمد علي) تحت كل الأحوال والظروف أن يسلك طريقًا لا يتعارض مع تلك التصريحات التي أدلى بها على عهد القومسيير العام «لسبس».
وقد لفت «دروفتي» نظر «مانجان» إلى النتيجة المنتظرة من اقتسام الألفي السلطة العليا مع محمد علي، وهي انتصار الإنجليز؛ ولذلك فقد صار واجب الوكلاء الفرنسيين أن يبطلوا مثل هذا المشروع إذا كان له وجود، وأما إذا وجد «مانجان» أن محمد علي قد أبرم فعلًا اتفاقًا مع البكوات، وهذا أمر استبعده «دروفتي» — كما قال — كشيء مستحيل، فالواجب على «مانجان» عندئذٍ أن يغير أسلوبه وأن يتناول هذه المسألة بالعناية الكبيرة، وعليه قبل أن يطرق هذا الموضوع مع محمد علي أن يبلغ ما وقف عليه إلى «دروفتي» حتى يبعث إليه هذا بنصائحه فيما يجب أن يكون عليه مسلكه من محادثاته مع الباشا، وكان مما أقض مضجع «دروفتي» ما وصله من أنباء من رشيد تفيد بأن الألفي قد تناول الطعام عند محمد علي يوم العيد الكبير، وأن محادثات دارت بين هذين حول تسمية الألفي شيخًا للبلد وبقاء محمد علي في منصب الولاية، وأن الوكلاء الإنجليز يعتبرون هذا الحادث دليلًا على نجاح مساعيهم، وطلب «دروفتي» من «مانجان» أن يبذل قصارى جهده حتى يعرف ما إذا كان لهؤلاء الوكلاء الإنجليز مراسلات مع محمد علي ثم نوعها.
وفي ١٥ مايو بعث «مانجان» إلى «دروفتي» يخبره بزيارته لمحمد علي بعد وصوله إلى الولاية ويشكو من مسلك «كارلو روشتي»، وكيل النمسا في مصر، وقد اهتم «دروفتي» بهذه المسألة، واعتبر أن نشاط «روشتي» يعدل في أذاه للمصالح الفرنسية في هذه البلاد ما يلحقه الوكلاء الإنجليز أنفسهم بنشاطهم من أذى بها؛ لأن «روشتي» — كما قال «دروفتي» — معروف بعدائه لفرنسا؛ ولذلك فالواجب الحذر منه ومن جماعته أكثر من الحذر من الإنجليز، ويرجو أن يسفر ما يحمله «ماثيو لسبس» من شكايات ضده إلى الإمبراطور، وتدخل هذا الأخير لدى حكومة فينا في وضع حد لجهود «روشتي» هذه وقصر نشاطه على تأدية واجباته السياسية؛ أي عدم التآمر ضد مصلحة فرنسا، ولما كان «دروفتي» حريصًا على عدم إغضاب الباب العالي، فقد أبلغ «مانجان» في ٢٢ مايو موافقته على زيارته لمحمد علي (الباشا الجديد) ولكنه يكرر عليه ضرورة اتخاذ الحيطة في اتصالاته معه حتى يتضح موقف الباب العالي من هذه الثورة أي انقلاب ١٣ مايو، وحتى تأتي «دروفتي» تعليمات من الجهات العليا. ومع ذلك، فقد وجد «دروفتي» من واجبه أن يذكر لمانجان أن مقابلة الأخير لمحمد علي وتردده عليه ضروريان لكسبه إلى جانب المصلحة الفرنسية ولإبطال مشاريع أعداء فرنسا، ثم أوصاه بأن تظل علاقاته به محاطة بالكتمان وغير علنية بقدر الإمكان؛ حتى لا تثير غضب ضباط أو رجال الباب العالي، وهم ممثلوه الشرعيون في هذه البلاد ضد الوكلاء الفرنسيين.
وفي اليوم نفسه الذي بعث فيه «دروفتي» بهذه التعليمات إلى «مانجان» في القاهرة، كتب الوكيل الفرنسي في ٢٢ مايو إلى «باراندييه» بالقسطنطينية: أن أحدًا لا يعرف عواقب الثورة التي حدثت، وأنه من المشكوك فيه أن يستطيع محمد علي تحقيق الشروط التي عرضها العلماء على خورشيد ورفضها هذا وتسلم محمد علي زمام الحكم على أساسها، إذ كيف يتسنى لمحمد علي إعادة فتح المواصلات مع الصعيد وطرد المماليك ما دام خورشيد موجودًا بالقلعة وحوله جماعة من الأرنئود الموالين له، والاحتمال ضعيف في أن حامية المنيا التي منها قسم عظيم من العثمانلي وتحت قيادة سلحدار خورشيد باشا تضمر ولاء لمحمد علي، وفضلًا عن ذلك، فمما يثير الاهتمام حقًّا معرفة نوايا الجند الدلاة ومدى تأثير نفوذ خورشيد عليهم، وكل هذه ظروف صعبة تتطلب إبداء همة ومهارة كبيرتين من جانب محمد علي لمواجهتها، أضف إلى هذا ضرورة استمالة جانم أفندي الدفتردار وهو صادق الولاء للباب العالي ولا يريد انتشار الحروب الأهلية في مصر ويبغض ما يقترن بها من فظائع، ولا يريد فقد البلاد، ويبغي المحافظة على سيادة الباب العالي عليها، تلك كانت الصعوبات التي رأى «دروفتي» أنها تعترض سبيل محمد علي، وأما فيما يتعلق بالمصالح الفرنسية فقد كان من رأي «دروفتي» بناء على ما سمعه من «ماثيو لسبس» ثم من «مانجان»: «إن هذه المصالح سوف تنال من الرعاية على يد محمد علي مثلما تناله على يد خورشيد باشا، ولم يجد الوكلاء الفرنسيون أبدًا ما يقولونه عن هذا الأخير سوى الثناء على مسلكه، وإذا كان هناك ما أبطل ميوله الطيبة نحونا في بعض الظروف المعينة، فإن مبعث ذلك تحريض أعدائنا له ضدنا وخديعته، ولقد كان في استطاعتي شخصيًّا أن أحصل منه (أي من خورشيد) دائمًا على ممارسة حقوقنا وامتيازاتنا، ومع ذلك، فإني أعتقد — إذا أجيز لي إبداء رأيي — أن مصالح حكومتنا في هذه البلاد تغدو أكثر استقلالًا وتحررًا من تأثير النفوذ الإنجليز عليها إذا ثبت أن التصريحات التي أدلى بها محمد علي وأبان فيها محبته وولاءه لنا قد صدرت عن إخلاص حقيقي ويمكن الوثوق بها، فإن هذا الرجل الأرنئودي لعلى خلق كبير، وسوف يكون أقل تأثرًا بوسائل الإغراء التي يلجأ إليها أعداؤنا، بل ومما يبدو لي أكثر استرعاء من غيره للانتباه، ما هنالك من قرائن عظيمة تشير إلى أن محمد علي بفضل القوات التي لديه سوف يتولى تنظيم مقدرات هذا البلد بالصورة التي تتفق ورغبات الحكومة التي تريد أن يكون لها شيء من النفوذ به عن طريق محمد علي.»
وأزعج «دروفتي» استمرار نشاط «روشتي» قنصل روسيا العام، وهو أيضًا وكيل النمسا — الذي قال عنه: إنه يتراسل علانية مع البكوات في الوجه البحري في الوقت الذي يذيع فيه هؤلاء أنهم يعدون هجومًا في القريب على رشيد والإسكندرية، ويحصلون الميري من بلدان الوجه البحري، كأنهم أصحاب الحكم الشرعيون في البلاد، كما أن «دروفتي» صار يشكو من «البطروشي» الوكيل الإنجليزي في رشيد، والذي أمد البكوات بالمؤن والذخائر والأسلحة، ومعنى هذا كله أن الوكلاء الإنجليز انتهزوا فرصة النضال القائم بين خورشيد ومحمد علي؛ ليساعدوا الألفي وجماعته على تمكين سلطان المماليك في الوجه البحري تمهيدًا لتأسيس الحكومة المملوكية تحت رعايتهم، وتزايد قلق «دروفتي» عندما علم من «مانجان» أن الألفي قد بعث بأحد كشافه لمقابلة محمد علي يعرض عليه الاتفاق معه، ولو أن محمد علي قد رفض ذلك، ثم إن «دروفتي» لم يلبث أن وقف مما بعث به إليه «مانجان» من معلومات في ١٩، ٢٠ مايو على التطورات التي حدثت بالقاهرة من حيث ذهاب الططر بعرائض المشايخ وعلماء القاهرة إلى القسطنطينية وهي العرائض التي يطلبون فيها عزل خورشيد وتثبيت محمد علي في باشوية مصر، ومن حيث وقوف الألفي بالقرب من الطرانة ينتظر دعوته لدخول القاهرة.
وعلى ذلك، فقد بعث «دروفتي» إلى «مانجان» في أول يونيو بتعليمات تدل على أنه لا يزال يقلب وجوه الرأي في إحدى الخطط الواجب اتباعها لمنع دخول الألفي حليف الإنجليز القاهرة، ولإضعاف حزبه، ولمنع أي اتفاق بينه وبين محمد علي، ولرعاية المصالح الفرنسية قبل أي شيء آخر، سواء تحقق هذا على يد محمد علي أو البكوات الموالين لفرنسا، فقال إنه يبدو له بناء على ما كتبه «مانجان» له: «إن حزبي خورشيد باشا ومحمد علي سوف لا يؤثران على مقدرات هذا البلد الذي يتوقف مصيره على إرادة المشايخ؛ ولذلك فالواجب الاتجاه نحو المشايخ إذا شئنا منع حزب الألفي من السيطرة، أما إذا لم يكن هناك مناص من وجود البكوات في القاهرة (أي دخولهم إليها)، فالأفضل أن يوجد بها عثمان البرديسي وليس الألفي عدو فرنسا، ومن الخير الحيلولة دون وجود الاثنين بالقاهرة إذا كان ذلك ممكنًا.» ثم إن «ماثيو لسبس» كان قد ذكر له (أي ﻟ «دروفتي») أنه كان اتفق مع محمد علي على طرد البرديسي من القاهرة؛ ولذلك فقد وعد البرديسي بالانتقام من شخص «لسبس» نفسه ومواطنيه إذا دخل القاهرة مرة ثانية، ومن هذا كان في وسع «مانجان» أن يدرك أن مصالح فرنسا السياسية والتجارية سوف تلقى عنتًا كبيرًا إذا دانت السلطة في القاهرة لأحد هذين: الألفي والبرديسي، وقد يكون سليمان بك أحد البكوات الآخرين أكثر ميلًا من زميليه لخدمة المصالح الفرنسية، ولكن «دروفتي» لا يعرف الكفاية عن هذا البك، ويسأل «مانجان» أن يزوده بما يعرفه عنه، ثم خلص «دروفتي» من هذا كله إلى بيت القصيد من تعليماته هذه، وهو الاستعانة بالمشايخ الذين يتوقف في رأيه مصير هذا البلد على إرادتهم، فكتب: «وصفوة القول إذا استطاع المشايخ حقيقة أن يعطوا السلطة العليا لمن يروق لهم واستقر رأيهم على دعوة البكوات فمن صالحنا أن يقع اختيارهم على الرجل الذي يسعنا الاعتماد على صداقته فيما يعود بالنفع على المصالح الفرنسية.» ولذلك فهو يرجوه أن يبذل كل ما وسعه من جهد وحيلة لخدمة دولته، بالعمل من أجل استمالة المشايخ المعروف أنهم موالون لفرنسا، وبعد أن كرر له تعليماته السابقة بشأن منع أي اتفاق بين الألفي ومحمد علي، وذكر أن استئثار الألفي أو البرديسي بالحكم في القاهرة معناه انضمام محمد علي إلى الجانب الذي يحرم من هذه الحكومة، ثم وقوع الحرب الأهلية.
عاد «دروفتي» إلى مسألة المشايخ فقال: «ولا تنسَ — مخاطبًا «مانجان» — أن تجعل أولئك المشايخ الذين يحفظون الود والاحترام للإمبراطور (نابليون) يشعرون أنهم بحمايتهم لذلك البك الذي يؤثره أعداؤنا على غيره إنما يحرمون أنفسهم من عطف وحماية الإمبراطور لهم، وعليك أن تجعلهم يرجون دائمًا أن الإمبراطور لن يحول أنظاره عن هذه البلاد.» وعلى «مانجان» أن يكون حكيمًا في مسلكه مع المشايخ وأن لا يتقيد بشيء معهم قبل استشارة «دروفتي» إلا عند الضرورة القصوى، وذلك إذا وجد المشايخ ينحازون إلى الألفي، فعليه عندئذٍ أن يعمل بحزم وبسرعة ودون أن يفقد لحظة واحدة، وأوضح «دروفتي» الموقف لمانجان في البحر الأبيض والأسباب التي تبعث القلق في نفسه من ناحية الإنجليز والألفي، فقال: «إن الرأي السائد بالإسكندرية أن الإنجليز إذا جاءوا إلى مصر، فسيكون ذلك بدعوى أنهم يريدون تجنيبها أخطار الغزو الفرنسي، وأنهم حصلوا من السلطان العثماني على فرمانات تخولهم إرسال حاميات إلى الأساكل وبخاصة إلى الإسكندرية، ومع ذلك، فإنه لا مسوغ — كما استمر «دروفتي» يقول — للخوف من الأسطول الفرنسي الذي غادر طولون؛ لأن هذا قد ذهب إلى المحيط الأطلسي، ولا وجه للخوف كذلك على جزيرة مالطة، بل من المستطاع إنقاص حاميتها، فإذا انضم حوالي الثلاثة أو الأربعة آلاف أوروبي إلى أعداد مساوية لهم من القوات التي يأتي بها الإنجليز من الهند، ثم انحاز إليهم الألفي وسائر البكوات الصغار الذين سوف ينضمون إليه ولا شك عندما يرونه وقد تزايدت قوته، فإن هذه الجموع تكفل للإنجليز الاستيلاء على مصر في هدوء وتولي إدارتها وحكومتها باسم الباب العالي.» وتوقع «دروفتي» انفصام العلاقات قريبًا بين الباب العالي وفرنسا بسبب ما بلغه عن امتناع السلطان سليم من مقابلة «جوبير» رسول الإمبراطور الشخصي إليه؛ وعلى ذلك، «فسواء حضر الإنجليز إلى مصر وسواء قامت الحرب بين فرنسا والباب العالي، فمن الصالح لنا أن نعمل بكل وسيلة لإنشاء حزب في مصر يجعل احتلال أعدائنا لها أمرًا متعذرًا، ويضع العراقيل في طريق الإنجليز حتى لا يستطيعوا أثناء الحرب أن يظفروا بأي نفوذ سياسي وتجاري من شأنه أن يخلق مصاعب لا حصر لها وذات آثار ضارة مؤذية عندما يحين عقد السلام وللمستقبل»، وهكذا راح «دروفتي» يؤكد مرة أخرى ضرورة تأليف حزب وصف مهمته بأنها حمل حكومة القاهرة على تعيين قسم من قواتها البرية والبحرية للعمل من أجل دعم سلطانها في مصر في حالة انفصام العلاقات بين تركيا وفرنسا؛ أي تأليف حزب — كما قال — مهمته الإبقاء على الفوضى وركود التجارة وضمان استمرار ميدان الاقتصاد في مصر مجدبًا حتى إذا عقد الصلح تسنى لفرنسا أن تعمر هذا الحقل المجدب بمنتجات مصانعها.
وواضح من هذه التعليمات ومما سبقها أن «دروفتي» حتى أول يونيو ١٨٠٥ كان يرى أن هناك صعوبات كثيرة سوف يتعذر على محمد علي اجتيازها وأن ولايته لذلك غير مستقرة، ومن عوامل عدم هذا الاستقرار أيضًا تحصن خورشيد بالقلعة، وتصميم الألفي على دخول القاهرة وإعادة تأسيس الحكومة المملوكية بها، منفردًا أو بالاشتراك مع محمد علي، واعتقد «دروفتي» أن نجاح الألفي في أي الحالين سوف يلحق الأذى بالمصالح الفرنسية، ويترتب عليه تفوق النفوذ الإنجليزي في مصر، واحتلال الإنجليز للبلاد في آخر الأمر، وكان في هذه المرحلة إذن التي كانت بالنسبة ﻟ «دروفتي» فترة دراسة وبحث للموقف من كل جوانبه، أن استقر رأيه على استخدام المشايخ على اعتبار أنهم القوة ذات الوزن في تقرير مصير هذه البلاد فأراد أن يؤلف منهم حزبًا مستقلًّا في نشاطه عن جماعات خورشيد ومحمد علي والألفي، ولما كان محمد علي هو المسئول فعلًا عن حكومة القاهرة، وكان الألفي صاحب قوات كبيرة في الوجه البحري ويربض بالقرب من القاهرة، وينال مؤازرة الوكلاء الإنجليز الذين يمدونه بالعتاد والأسلحة، فقد صار أخشى ما يخشاه أن يتفق الألفي ومحمد علي، على أساس مشاركة الأول كشيخ للبلد للثاني كباشا للقاهرة في الحكم، فيكفل هذا الاتفاق النصر للإنجليز ووكلائهم في مصر.
على أنه مما تجدر ملاحظته إلى جانب هذا كله أن الاعتماد على حزب المماليك الذي يرأسه البرديسي، والذي تظاهر بالولاء دائمًا لفرنسا، لم يدخل في هذه الأزمة في حساب «دروفتي» كوسيلة جدية ونافعة لتعطيل مساعي الوكلاء الإنجليز وإحباط مشروعاتهم، للأسباب التي أوضحها «دروفتي» نفسه؛ ولذلك فقد دار تفكير «دروفتي» في هذه المرحلة حول مواضيع ثلاثة: الألفي ومؤازرة الإنجليز له وفي نجاحه الفشل كل الفشل للسياسة الفرنسية في مصر مع ما يترتب على ذلك من آثار على تطور النضال القائم بين الإمبراطور وأعدائه في القارة الأوروبية ولا سيما الإنجليز، لن تكون في صالح فرنسا، ثم المشايخ، وقد صار واجبًا أن تمر فترة من الزمن حتى يتأكد لدى «دروفتي» أنهم يناصرون محمد علي قطعًا وأنهم قد تخلوا عن خورشيد نهائيًّا، حتى إذا استقر محمد علي في الحكم انتهى دورهم في الفصل في مصير البلاد حسبما تمليه إرادتهم، واستطاع «دروفتي» أن يقطع برأي حاسم في مصير الحكم في هذه البلاد، ثم محمد علي وقد رأى «دروفتي» أن يخاطبه بلغة الوعد والوعيد، حتى يستوثق من موقفه من فرنسا، فهو يذكره على لسان «مانجان» بتصريحاته الودية نحو فرنسا من جهة، ويذكره كذلك بأنه يعرف سره الذي أفضى به إلى «ماثيو لسبس»، ولا شك في أن «دروفتي» يعني بذلك رغبة محمد علي من مدة سابقة في الوصول إلى الحكم والولاية سواء رغب الباب العالي في ذلك أو لم يرغب.
وقد تبين ﻟ «دروفتي» بعد أيام قلائل، أنه لم يكن في حاجة — في واقع الأمر — إلى اللجوء لهذا التهديد المستتر معه، فقد أكد «مانجان» أن الباشا متمسك بصداقته للفرنسيين، كما أكد له أنه يرفض الاتفاق مع الألفي، ومع ذلك فلم يكن هناك مَعْدَى عن تضافر عوامل عدة في الأسابيع القليلة التالية لإقناع «دروفتي» رويدًا رويدًا بأنه إذا شاء حقًّا إحباط مساعي الوكلاء الإنجليز، ومنع الألفي صنيعتهم وحليفهم من الاستئثار بالحكم، وجب عليه أن يبذل قصارى جهده لتأييد محمد علي حتى يضمن بقاءه في ولايته، وقد بدأ يظهر هذا التحول في صالح محمد علي بصورة محددة بعد التعليمات الأخيرة التي بعث بها «دروفتي» إلى «مانجان» في أول يونيو.
فقد كتب «دروفتي» إلى «باراندييه» في ٦ يونيو أن معلومات قد جاءته من «مانجان» تفيد بأن الباشا لا يميل قطعًا للاستماع إلى مقترحات الألفي، وذلك بناء على ما استقاه «مانجان» من أحد المقربين من محمد علي وخلصائه، بل وإنه ليس للإنجليز أية مراسلات معه، ويغضبهم أن يستمر محمد علي في منصبه واليًا لمصر، وفضلًا عن ذلك، فقد أكد «مانجان» أن خورشيد لن يستطيع البقاء طويلًا في القلعة والدفاع عن نفسه في معقله هذا، ومع أن «دروفتي» اطمأن لتأكيدات «مانجان» الأولى، فإنه كان لا يزال يساوره الشك في عجز خورشيد عن الدفاع، فكان من رأيه أن هذا سوف يظل ممتنعًا بالقلعة حتى يعود الططر الذين أرسلوا إلى القسطنطينية بقرار الباب العالي في النزاع القائم بينه وبين محمد علي، وبنى «دروفتي» رأيه هذا على جملة اعتبارات: منها مناصرة بعض الزعماء الأرنئود لخورشيد، ومن هؤلاء حسن باشا الذي قال عنه: إنه يمكن اعتباره منافسًا لمحمد علي، ولأن محمد علي الذي يتمسك في ظاهر أعماله بالخضوع لمشيئة الباب العالي؛ بدليل أنه بعث مع المشايخ يطلب تعليمات جديدة من القسطنطينية، لا يمكن أن يلجأ إلى استخدام القوة مع خورشيد وهو ممثل السلطان الشرعي في مصر، ولأن «مانجان» نفسه يذكر وجود حزبين من العامة أو الشعب بزعامة المشايخ أحدهما مع خورشيد والآخر مع محمد علي، ومن صالح هؤلاء جميعًا أن يسود الهدوء وأن تنتعش التجارة ويستقر الأمن والنظام؛ ولذلك فهم سوف ينتظرون أوامر الباب العالي، ولن يحمل المشايخ الشعب على اتخاذ أية إجراءات متطرفة، ثم إن «مانجان» لا يذكر شيئًا عن الدلاة وهم عامل لا يجب في رأي «دروفتي» إغفال أثره.
وكان عندما قرر الباب العالي إرسال القبطان عبد الله رامز باشا بأسطوله إلى الإسكندرية، ثم القابجي باشا مفوضًا بتقليد الولاية لمن يراه صاحب النفوذ الأعلى أو السلطة في مصر بين محمد علي وخورشيد باشا، أن وجد «باراندييه» لزامًا عليه أن يبسط حقيقة الموقف لوزير الخارجية الفرنسية «تاليران» وأن يطلب على ضوء ما أفضى إليه من معلومات تعليمات قد طلبها «دروفتي» منه، في وسع «باراندييه» إذا ما جاءته أن يبعث بها إليه حتى يسترشد بها، ويبغي بارنداييه من ذلك ولا شك إخراج السياسة الفرنسية من سلبيتها السابقة، وإدخالها في دور جديد من الإيجابية، فكتب إليه في ٢٤ يونيو أن هناك ثلاثة أحزاب في مصر: الحزب الإنجليزي وهو حزب قوي جدًّا، والحزب العثماني وهو ضعيف جدًّا، ثم الحزب الفرنسي وهذا لا يكون له ثبات وصلابة إلا بقدر شعور أنصار فرنسا بعزمها على تأييدها لهم، والإنجليز ينثرون الذهب ويعضدهم الألفي، وتناضل الحكومة العثمانية ضدهم بوسائلها القاصرة وغير المجدية، ولم يستطع الفرنسيون حتى هذه اللحظة عرقلة شيء من نشاط الإنجليز، وقد استفاد هؤلاء من ذلك فأخذوا يثيرون مخاوف محمد علي من ناحية فرنسا بأن صاروا يدَّعون أن حملة فرنسية سوف تأتي إلى مصر لغزوها، ثم استطرد «باراندييه» يقول: «ولكني لا أظن أن محمد علي ينقصه التنور لدرجة تصديق مزاعمهم، وذلك خصوصًا — على الأقل — إذا لم يجد نفسه مرغمًا بسبب مركزه على استخدام الإنجليز، بل إني أعلم أنه موالٍ لنا نبدو له أقل خطرًا الآن (من الإنجليز على حكومته)؛ ولذلك فمن الواضح أنه سوف يكون في وسعنا إذا قضى نهائيًّا على خورشيد باشا، أن نجعله بسهولة يعمل في صورة ملائمة تنال موافقة الإمبراطور عليها، ومهما تكن نوايا بونابرت نحو مصر فمن الواجب أن يكون له وكيل صاحب حكمة ومهارة يعرف كيف يحسن التصرف فيما يوضع تحت يده من أموال لهذه الغاية، وتمنع الظروف من اتخاذ خطوات حاسمة الآن، وقد يكون مفيدًا ترك الإنجليز يتورطون في علاقاتهم ضد الباب العالي، وذلك حتى يرى الأخير كيف يتآمرون مع الروس لضياع الإمبراطورية العثمانية وكيف أنهم أعداؤه الطبيعيون.» واختتم «باراندييه» رسالته بقوله إن «دروفتي» قد طلب منه تعليمات فيما يجب أن يكون عليه مسلكه، وإن «باراندييه» يطلب بدوره هذه التعليمات حتى يبعث بها إليه.
ولكنه قبل وصول أية تعليمات من تاليران، كان قد وصل القبطان باشا والقابجي باشا صالح أغا إلى مصر، ليجد قوات الألفي محتشدة في البحيرة، والألفي نفسه يحاصر دمنهور ويدعو أهلها للتسليم، ويحاول الاتصال بالألفي الصغير بشتك بك، والدلاة رابضين عند فوة، ومن المتوقع التحامهم مع قوات الألفي، وخورشيد لا يزال ممتنعًا في القلعة، والأهلين والمشايخ يناصرون محمد علي، وقد خفوا لاستقباله، والبكوات القبالي: البرديسي وإبراهيم لا يزالان في منفلوط، والاضطراب يسود القاهرة، ويتدخل محمد علي والمشايخ لإنهاء العداء بين القاهريين والجند بسبب اعتداءات هؤلاء الأخيرين على سكان القاهرة حتى استمر تبادل إطلاق الرصاص بين الفريقين يومين، ويستمع الأهلون لنصح محمد علي والمشايخ لهم بفتح الدكاكين والوكائل والانصراف إلى أعمالهم، وسلحدار خورشيد علي باشا يتراسل مع الألفي، وخورشيد يسعى للاتفاق مع البكوات مما يهدد بدخول هؤلاء العاصمة، وذيوع الاعتقاد بأن مؤامرة القلعة ذات جذور ممتدة في طول البلاد وعرضها بدرجة سببت خوف المشايخ من أن تؤدي هذه العاصفة إلى استرجاع البكوات لسلطانهم في القاهرة، واقتنع صالح أغا بأن محمد علي الأحق بالولاية. ومنذ ٢٥ يوليو قرئ الأمر بإبقاء محمد علي في القائمقامية، وطلب إلى خورشيد النزول من القلعة، ثم اضطر هذا الأخير في الظروف التي سبق أن ذكرناها إلى تسليم القلعة في ٦ أغسطس، وفاتت الفرصة على الألفي، وكان هذا قد رفع الحصار عن دمنهور، وسار صوب القاهرة ومعه «البطروشي» ملازمًا معسكره، ويأمل الألفي أن يسفر اتفاقه مع خورشيد عن دخوله القاهرة.
وكان أثناء هذه الأزمة أن راح «مسيت» — على نحو ما عرفنا — يؤيد كخيا الألفي وسلحدار خورشيد في مفاوضتهما مع القبطان باشا بالإسكندرية، فقد وصل هذان إلى الثغر في ٣١ يوليو ونزلا عند «مسيت»، وبدأت مفاوضتهما مع القبطان باشا في أول أغسطس، وانبرى «دروفتي» يبذل قصارى جهده لإحباط هذه المفاوضات، فعلم أن مندوبي الألفي وسلحدار خورشيد قد سلموا إليه رسائل تعلن اتحاد جميع البكوات وتأييدهم لخورشيد باشا، وتدعوه للذهاب إلى القاهرة بمن معه من جند للعمل بالاتحاد مع البكوات وحزب خورشيد من أجل طرد الأرنئود واتخاذ الوسائل الكفيلة باستتباب الهدوء واستقرار النظام في مصر، وعقد الوكلاء الإنجليز آمالًا عظيمة على نجاح مساعيهم، الأمر الذي جعل «دروفتي» يرى من واجبه — كما ذكر لتاليران في ٣ أغسطس — أن يعمل حالًا لإحباط مكائد الإنجليز وإلحاق الفشل بمشروعاتهم إذا كان ذلك ممكنًا، فقابل في ٢ أغسطس ترجمان القبطان باشا الأول، وأوضح له ضرورة أن يبلغ القبطان أن الألفي عدو الحكومة الفرنسية، ثم راح يفسر له رأيه في مكائد الإنجليز ودسائسهم، وأكد له أن اتحاد بكوات الصعيد مع الألفي أمر لا يمكن عمليًّا تحقيقه لأسباب عدة: منها عداء الألفي لسليمان بك البواب مخلوق البرديسي وصنيعته، ولأن اتحاد الألفي وخورشيد خطوة مؤقتة وانتهازية أملتها الظروف الراهنة فحسب، ولأن الإنجليز لا يأبهون لحقوق السيادة التي للباب العالي على مصر، وآية ذلك أنهم يمدون الألفي عدو السلطان العثماني بالذخائر والأسلحة، ويقيم أحد وكلائهم «البطروشي» في معسكره، ثم إنهم يذيعون من مدة طويلة أن جيشًا إنجليزيًّا سوف يحضر إلى مصر؛ ليضع الألفي على عرشها، ولاحظ «دروفتي» أن هذه الحجج التي ساقها لكشف مكائد الإنجليز وحليفهم قد تركت أثرًا سيئًا من جهة هؤلاء في ذهن ترجمان القبطان باشا.
ومع أن مندوبي الألفي وسلحدار خورشيد (علي باشا) والوكيلين الإنجليزيين «مسيت» و«بريجز» قد زاروا القبطان مرة ثانية يوم ٣ أغسطس وتولى «مسيت» نفسه عرض مقترحات الألفي عليه، وبذل جميعهم قصارى لجهدهم لحمل القبطان باشا على ضم قواته إلى قوات الألفي لطرد محمد علي والأرنئود من مصر بدعوى أن هذه هي الوسيلة الوحيدة لإعادة السلام والهدوء إليها وبدونها يتحقق تدمير القاهرة حتى تصبح أطلالًا، ثم حاولوا إقناعه بأن من واجب الباب العالي أن يخشى دائمًا من وقوع غزو فرنسي على مصر، وأن إنجلترة قد تجد نفسها ملزمة باتخاذ ما تراه من وسائل لمنع سقوط هذه البلاد التي يهمها أمرها في قبضة أعدائها الفرنسيين حيث إن تركيا ليس لديها من القوات ما يكفي لدفع الغزو الفرنسي عنها، فقد استطاع «دروفتي» أن يكتب إلى «تاليران» في ٤ أغسطس: أن القبطان باشا قد أجاب على ذلك كله بأن لديه أوامر قاطعة لا يحيد عنها وأن الباب العالي قد سمى محمد علي واليًا على القاهرة، وخورشيد باشا حاكمًا لجدة، وأن من واجب هذا الأخير أن يذهب إلى مقر عمله مصطحبًا معه سلحداره علي باشا، وأنه بمجرد استتباب الهدوء في مصر بفضل هذه الخطوات، سوف يكون مصير البكوات أنفسهم موضع النظر، ثم استطرد «دروفتي» يقول: والقبطان باشا مرتاح للمعلومات التي زوده بها «دروفتي» عن الموقف في مصر، وقد بعث «دروفتي» إلى «تاليران» في ٢٣ أغسطس يبرر نشاطه لإحباط مكائد الإنجليز بعد انقضاء الأزمة، وحادث يوم ١٩ أغسطس — وهي المكيدة التي فتك بها محمد علي بعدد من البكوات يوم فتح الخليج — فقال: إن الإنجليز يشاركون الأتراك في الإسكندرية استياءهم من وقوع هذه المكيدة، مما ينهض دليلًا على أن خورشيد باشا كان قد نجح في خططه، وأن القبطان باشا كان قد وافق على إعادة تأسيس حكم البكوات في القاهرة وطرد الأرنئود منها؛ لأن الخوف من تأسيس أسرة أرنئودية في الحكم يفوق كثيرًا الخوف من تأسيس أسرة مملوكية، فالأولى ذات قوة أكبر ويسود الاعتقاد بأنه صديقة لفرنسا، ويدهش العثمانيون في الإسكندرية من عدم اشتراك علي باشا سلحدار خورشيد والمقيم بالجيزة، ثم عمر بك الأرنئودي الذي كان موجودًا بالقاهرة.
ثم عاد «دروفتي» فكتب إلى «تاليران» في ٢٩ أغسطس يفسر له حادث ١٩ أغسطس، ومما يسترعي النظر أنه لم يلبث عند التعليق عليه أن جزم بناء على ما وصله من أخبار من القاهرة بأن البكوات جميعهم ولا سيما عثمان بك البرديسي منحازون قطعًا ونهائيًّا إلى جانب الإنجليز، وأن خورشيد باشا — على نحو ما اتضح ﻟ «دروفتي» عند زيارته لهذا الباشا بعد وصوله إلى الإسكندرية — إنما يعتمد الاعتماد كله على الإنجليز الذين يرجون بدورهم عند إرسال حملتهم على مصر أن لا يدعوه يذهب، ثم كتب في ٣٠ أغسطس يبين مدى ما هو واقع من انقسام في صفوف البكوات بعد كارثتهم الأخيرة في القاهرة، فقال: إن الفتنة قد بذرت بذورها من جديد بين رؤسائهم البرديسي وإبراهيم بك والألفي وسليمان بك البواب، وأما القاهرة فيسود فيها اليوم الهدوء التام، ثم إنه لم يلبث أن بعث بمندوب عنه إلى معسكر المماليك؛ ليقف — كما قال — على مدى اتحاد المماليك، ذلك الاتحاد الذي أكده مندوبو الألفي وعلي باشا سلحدار خورشيد للقبطان باشا، ووثق الإنجليز من وجوده، ثم لمعرفة مشاريع المماليك، فحصل على معلومات بشأن ذلك كله بعث بها إلى «تاليران» في ٣١ أغسطس، فحواها أن الألفي يعوِّل دائمًا على نجدة الإنجليز له، ويتراسل مع بكوات الصعيد حتى يستميلهم للاتفاق في العمل مع حزب خورشيد، ويقيم في معسكره «البطروشي» الذي هو دائمًا مصدر كل هذه التدابير، ويقول أحد البكوات إنهم قد جمعوا فيما بينهم ألف كيس لتوزيعها على جند علي باشا نظير أن يأتي هؤلاء لهم بشخص محمد علي حيًّا أو ميتًا، وفضلًا عن ذلك، فبكوات الصعيد أنفسهم يتراسلون مع الألفي وللبطروشي وكيل مقيم مع عثمان البرديسي لرعاية المصالح الإنجليزية، ويؤكد له قرب وصول جيش إنجليزي، ويبدي البرديسي ازدراءه بالوعود التي وعده بها «ماثيو لسبس» عن نجدة فرنسا له، ويحاول الإنجليز إعطاء محميهم الألفي مكانًا في حكومة مصر، وقد بذلوا قصارى جهدهم لضم البكوات إلى خورشيد لهزيمة محمد علي الذي يكرهونه؛ لأنهم يرونه محاطًا بالفرنسيين، وقد استمالوا خورشيد للتوسط لدى القبطان باشا في صالح الألفي، ولإقناعه بالتأثير على حكومته حتى ترجع البكوات إلى القاهرة كالسبيل الوحيد لتهدئة البلاد، ثم انتهى «دروفتي» بعد بيان ذلك كله إلى ذكر أن الواجب يقتضيه إحباط كل هذه المحاولات، وراح يشكو من أنه ليس لديه تعليمات باستثناء الاسترشاد في كل ما يفعله بتعليمات «ماثيو لسبس» وهي التي توصي دائمًا بإبطال مشاريع الإنجليز.
وهكذا يكون «دروفتي» قد بدأ يخطو تلك الخطوات التي نقلت السياسة الفرنسية من سلبيتها المعروفة إلى الإيجابية التي تبغي التدخل والتأثير على مجريات الحوادث بدلًا من انتظار ما قد تسفر هذه عنه من نتائج مؤذية للمصالح الفرنسية والتسليم بالأمر الواقع، على أنه مما يجدر ذكره أن هذه الإيجابية في مرحلتها الأولى قد استهدفت مباشرة — وكما رأينا — إحباط مساعي الإنجليز وإقصاء الألفي عن السلطة، ثم إنها انطوت على تعزيز مركز محمد علي واستمراره في الحكم، ولم يؤيد «دروفتي» في مسعاه هذا من قريب أو بعيد صالح طائفة المماليك والبكوات التي يتزعمها صديق فرنسا عثمان البرديسي، وذلك لسبب واضح ذكره لتاليران هو اعتقاده أن البرديسي قد انحاز هو الآخر إلى جانب الإنجليز، وقد تحمل «دروفتي» على مسئوليته وحده — وكما ذكرنا سابقًا — الآثار المترتبة على هذا التدخل، فمع أنه ظل يطلب تعليمات من حكومته، فإنه حتى نهاية شهر أغسطس قطعًا لم تكن قد وصلت إليه أية تعليمات منها، أضف إلى هذا أن حكومته عندما أصدرت إليه تعليماتها كانت لا تزال متمسكة بسياستها السلبية القديمة، ولو أن «دروفتي» لم يلبث أن وجد في هذه التعليمات بالرغم من قصورها ما جعله يمضي قدمًا في سياسته الإيجابية وبدرجة من المرونة جعلته يقبل في آخر الأمر على مناصرة محمد علي كغرض أساسي يجب أن يهدف إليه مباشرة إذا شاء رعاية المصالح الفرنسية، ولو أن «دروفتي» حتى هذا الوقت لم يكن قد وصل إلى رأي قاطع في مسألة الإقبال على معاونة محمد علي، بل ظل يخيل إليه أن في وسعه إبعاد نفوذ الوكلاء الإنجليز عن البرديسي وتأليف حزب قوي من المماليك برئاسته يشل من نشاط هؤلاء، ويقدر على الدفاع عن البلاد إذا جاء الإنجليز بحملتهم التي وعدوا بها الألفي طويلًا، على أنه كان لا بد من اقتناع «دروفتي» أولًا بضرورة أن ينفض يده من البرديسي نهائيًّا حتى يقبل على مؤازرة محمد علي، وارتهن هذا التحول بما وقع من حوادث بعد ذلك، وفي هذه المرة كذلك تحمل «دروفتي» مسئولية سياسته على عاتقه وحده.
بل إن «تاليران» لم يلبث أن أكد القاعدة التي طالب «دروفتي» باتباعها بوصفه وكيلًا تجاريًّا، كما أكد سلبية سياسة حكومته عندما استمر يقول في القسم الثاني من تعليماته: ومهما يكن موئل هذه السلطة الفعلية في البلاد فواجب الوكلاء التجاريين أن يعتبروها سلطة شرعية ما دام لا يصدر عنها شيء من شأنه تعطيل نشاط وكالتهم أو إلحاق الأذى بالمصالح التجارية التي تعمل هذه الوكالة لحمايتها ورعايتها؛ وعلى ذلك، فإذا اتضح أن هناك تهيؤًا لتغيير الإدارة أو الأداة الحكومية أو أن هذا التغيير قد وقع فعلًا، فواجب الوكلاء التجاريين أن يلزموا الحكمة في مسلكهم، ثم إنهم قبل كل شيء في حاجة ظاهرة إلى مهارة كبيرة تتيح لهم إدراك ما سوف تنتهي إليه الحوادث سلفًا، على أن «تاليران» لم يلبث أن اختتم تعليماته هذه بذكر قاعدتين أساسيتين للاسترشاد بهما عمومًا، فقال: وفي كل الحالات فهناك قاعدتان على الوكلاء التجاريين ألا ينحرفوا عنهما أبدًا؛ أولًا: عدم الاعتراف بأية سلطة أو حكومة إلا إذا قرر الانتصار مصير البلاد، وثانيًا: عدم مغادرة مقر العمل مهما حدث من انقلابات وثورات داخلية.
ومعنى ذلك أن «دروفتي» عليه الابتعاد عن أي نشاط سياسي؛ وعليه تبعًا لذلك الرضوخ للأمر الواقع والتسليم به، وفضلًا عن ذلك فقد خلت هذه التعليمات من أية إرشادات عملية قد يستعين بها الوكلاء الفرنسيون في تكييف موقفهم مما يقع من حوادث يومية في البلاد، ومع ذلك، فقد استفاد «دروفتي» من الطابع المكيافيلي الذي اتسمت به هذه التعليمات من حيث إنها تركت لذكاء ومهارة الوكلاء الفرنسيين تقدير الحالات التي يجوز لهم فيها الاعتراف بالسلطات أو الحكومة القائمة، والتنبؤ سلفًا بما سوف تفضي إليه الحوادث حتى يتسنى لهم رعاية المصالح التجارية الفرنسية، ولقد اعتمد «دروفتي» على ذكائه ومهارته ثم على قدرته على هذا التنبؤ في رسم الطريق الذي سار عليه قبل وصول هذه التعليمات إليه ثم بعد علمه بها، مستهدفًا رعاية المصالح التجارية والتي كان من المتعذر على الوكلاء الأجانب لإنجلترة أو روسيا أو النمسا أو فرنسا ذاتها أن يفصلوا بينها وبين المصالح السياسية، ثم كان بعد شهر أغسطس ١٨٠٥ أن بدأت تجتمع الأسباب التي جعلت «دروفتي» يمعن في تدخله في شئون السلطات المحلية من جهة، ثم يقبل علانية على تأييد محمد علي وحكومته من جهة أخرى.
المرحلة الثانية: مؤازرة محمد علي
ففي شهر سبتمبر ١٨٠٥، أجاب محمد علي إجابة مرضية على مذكرة الاحتجاج التي بعث بها إليه «دروفتي» ضد الإتاوات والمغارم التي فرضتها حكومة الباشا على المحميين الفرنسيين، وكلف محمد علي «مانجان» أن يؤكد ﻟ «دروفتي» أنه يميز الفرنسيين عن سائر رعايا الدول الأخرى، وعين فرنسيًّا طبيبًا له هو «روير» الذي كان قد قصد إلى معسكر البكوات ولكنه لم يلبث أن ترك خدمتهم بسبب سوء معاملتهم له، فقبله محمد علي، ومع أنه كانت تدور المفاوضات بين محمد علي والألفي وبينه وبين بكوات الصعيد، طوال الشهور التالية، وهي المفاوضات التي سبق أن تحدثنا عنها في فصول سابقة، فقد أخفقت هذه المفاوضات، وصرف الباشا جهده لتهيئة الوسائل التي يستطيع بها دفع العدوان الإنجليزي إذا جاءت الحملة التي ظل الوكلاء الإنجليز يذيعون أنها سوف تحضر قريبًا بالاتفاق مع الباب العالي، فأوقف الباشا الحملة التي كان قد أعدها للسير إلى جدة (أكتوبر)، ثم شرع في تجهيز تجريدة عظيمة ضد الألفي في أوائل ديسمبر، وأبطل لذلك نهائيًّا حملة جدة، واقتنع «دروفتي» بأن الباشا لن يقبل الاتفاق مع الألفي، واطمأن باله من هذه الناحية، فكتب إلى «روفان» بالقسطنطينية في ٩–١٩ فبراير ١٨٠٦ أنه يعمل جادًّا لإحباط مساعي الوكلاء الإنجليز حماة الألفي، وأن الباشا يرحب بكل ما يحاول «دروفتي» إدخاله في روعه عنهم وعن خطورة تأثيرهم السيئ على الألفي، ولقد صرح محمد علي بأنه لن يتفاوض مع الألفي إلا إذا أقلع هذا عن الزهو والافتخار بحماية الإنجليز له.
وأزعج «دروفتي» ما صار يحيط بحكومة محمد علي من صعوبات مبعثها مطالبة الجند بمرتباتهم المتأخرة وتمرد الجنود في إمبابة والمنيا ومغادرة الأرنئود للجيش، وذهابهم للعمل مع البكوات، وحاجة الباشا الملحة إلى المال، مما زاد في خطورة مركزه وجعل الولاية ذاتها متأرجحة، وذلك كله في وقت كان مندوبو الألفي في القسطنطينية يتفاوضون مع الباب العالي لإخراج محمد علي من الولاية وإرجاع السيطرة المملوكية إلى البلاد برئاسة الألفي؛ أي تمكين النفوذ الإنجليزي منها كما كان يرى «دروفتي»، ثم تزايد انزعاجه بسبب انتصار الألفي في معركة النجيلة، حتى إنه كتب إلى «تاليران» في ٢ يونيو ١٨٠٦ أن أخبار المعارك الأخيرة لا تدع مجالًا للشك في أن الألفي صنيعة الإنجليز سوف يصبح ذا نفوذ أكبر مما كان له حتى الآن، ومع أن نتائج مساعي مندوبيه في القسطنطينية والتي يؤيدها الإنجليز لا تزال غير معروفة، فإن وكلاءهم في الإسكندرية يزعمون أن الباب العالي سوف يستجيب لهذه المساعي.
ولقد حرص «دروفتي» على إرسال أخبار الموقف في مصر تباعًا إلى حكومته، وكان ينتظر ولا شك أن يظفر من حكومته بتعليمات واضحة محدودة تبين له الطريق الواجب عليه أن يسلكه، لا سيما وأنه كان هنالك من القرائن ما يدل على أن مندوبي الألفي قد ينجحون في مهمتهم بفضل مؤازرة الإنجليز لهم على نحو ما اعتقد «دروفتي» ورجال السفارة الفرنسية في القسطنطينية ولكن حكومة الإمبراطور في باريس لم تشأ التخلي عن سياستها القديمة أو أنها على الأصح لم تشأ أن تختط لها سياسة واضحة المعالم في المسألة المصرية وينهض دليلًا على تمسكها بسياستها السلبية السابقة تكليفها «ماثيو لسبس» بالعودة إلى مصر لاستئناف وظائفه بها، فقد كتب «ماثيو لسبس» إلى «تاليران» من فرساي في ٢٢ مارس ١٨٠٦ يخبره بأنه قد جاءه كتاب من رجل كان قد استخدمه رسولًا سريًّا مع البكوات حين وجوده في هذه البلاد، يذكر له فيه أن البكوات بأسرهم ما عدا الألفي الذي يخلص الولاء لإنجلترة دائمًا يريدون أن يذكرهم الإمبراطور وأن يعتبرهم مستحقين للنجدة والمساعدة وأنهم لا يشتطون في مطالبهم الآن كما كانوا يفعلون في الماضي، فأجاب «تاليران» على هذه الرسالة في ١٢ أبريل بأن الإمبراطور قد أصدر أوامره إليه بإبلاغ «ماثيو لسبس» أنه يريد منه العودة دون إبطاء لاستئناف وظائفه في مصر، وأن التعليمات سوف تصدر إليه خلال الأسبوع المقبل، ويطلب منه الحضور إلى باريس لمقابلة الإمبراطور.
وفي مايو ١٨٠٦ أصدر «تاليران» تعليماته إلى «سباستياني» الذي عُيِّن سفيرًا فرنسيًّا جديدًا لدى الباب العالي، وقد تضمنت هذه التعليمات فيما يتعلق بمصر التوجيهات الآتية: أن يلاحظ السفير الحالة في مصر التي صارت مسرحًا للفتن والحروب الأهلية منذ أن جلا الفرنسيون عنها، فاستأثر بالسلطة فيها الترك والأرنئود والمماليك والعربان، كل جماعة منها بدورها، بينما انقسم المماليك على أنفسهم، وأدخل الإنجليز أنفسهم في الاضطرابات السائدة، وصار الباب العالي ولا سلطان له، ويخشى الجند والباشوات الذين يرسلهم من العمل بالاتحاد فيما بينهم لإعطائه في هذه البلاد السلطة التي يؤثرون اغتصابها لأنفسهم، ثم استطردت التعليمات توصي «سباستياني» بأن يدع الآن الحوادث تجري في هذه البلاد (مصر) دون أن يكون له دخل بها؛ حيث إنه فيما يحدث في المقاطعات الأوروبية التي للعثمانيين فحسب سوف يلقى في بعض الأحايين ما يوجب تدخله لتوجيهها؛ لأن في هذه ما يستغرق طاقة الباب العالي كما يستغرق طاقتك، وفي تعليمات إضافية قال «تاليران»: «إن الإمبراطور لا يريد مناصرة أي ثائر على الباب العالي، سواء أكان هذا يونانيًّا أم من أصدقائه القدامى في مصر والشام، وكل سياسته لحمتها وسداها الارتباط الوثيق بالباب العالي.»
ولا جدال في أن هذه التعليمات إنما تقر في جوهرها وتفاصيلها تلك السياسة السلبية التي درجت عليها الحكومة الفرنسية منذ استئناف علاقاتها مع مصر، زد على ذلك أن الإمبراطور نفسه كان لا يزال يمني نفسه بالتدخل في شئون مصر وفي صالح العصاة الثائرين على الباب العالي بالرغم من توكيده التخلي عن أصدقائه القدامى في مصر وهم البكوات من جماعة البرديسي خصوصًا، فناقض نفسه في أمرين: أولهما اعتزامه إرسال «ماثيو لسبس» لاستئناف النشاط مع البكوات الموالين لفرنسا، وثانيهما الحرص على الاستماع لما يقوله مندوب البكوات أحمد كاشف عند ذهابه إلى فرنسا لبسط قضية إخوانه على الإمبراطور وطلب النجدة والمساعدة منه، وبالرغم من أن هذا الكاشف كان من بيت الألفي، وتفصيل هذه المسألة الأخيرة أن «دروفتي» كان قد أبلغ «تاليران» منذ ٢٤ مارس ١٨٠٦ أن أحمد كاشف جاءه ينهي إليه أنه مكلف من قبل الألفي بمهمة لدى الإمبراطور ويرجوه التوصية به وإعطاءه جوازًا للسفر، ولكنه لما كان «دروفتي» قد عجز عن الوقوف على الغرض الصحيح من مهمته، ورفض أحمد كاشف أن يطلعه على أي ترخيص من جانب الألفي له بشأن هذه المهمة فقد رفض إعطاءه الجواز المطلوب، ومع ذلك، فقد استطاع أحمد كاشف السفر إلى فرنسا ووصل إلى مرسيليا، وعلمت حكومة باريس بوجوده بها.
ومع أن «دروفتي» استمر يبعث تباعًا إلى حكومته بتفاصيل ما كان يجري من حوادث حتى وقت وصول القبطان صالح باشا وذيوع خبر الاتفاق الذي أبرم بين مندوبي الألفي بالقسطنطينية وبين الباب العالي، ثم بعث إلى «تاليران» منذ ١٢ يونيو بمناسبة ما وصله من رسائل من البرديسي الذي كلف المندوب الذي كان قد أوفده إليه «ماثيو لسبس» من سنتين مضيتا بالكتابة إلى «دروفتي» حتى يوضح له مدى ما يكنه من ولاء للحكومة الفرنسية، ثم انتظاره لتنفيذ الوعود التي أعطيت له، وطمعه في كرم الإمبراطور، ثم كتب تعليقًا على ذلك: أن من رأيه (أي رأي «دروفتي») إذا اتضح أن الباب العالي قد قرر فعلًا إعطاء حكومة مصر للبكوات، وذلك ما قد يضطر لفعله إذا شاء أن يجني أية فائدة من هذه المقاطعة، فقد يكون ملائمًا إنشاء صلات مع البكوات تفضي إلى تعديل ذلك النفوذ الذي للقناصل الإنجليز وهم الذين يذيعون بين الأهالي ما يوحي إليهم بأن الفضل في إقامة الوضع الجديد إنما ينسب إليهم نتيجة لتدخلهم، ومع أن «دروفتي» بعث يطلب في رسالته هذه تعليمات من حكومته، نقول: إنه بالرغم من ذلك كله، آثرت حكومة باريس التزام خطة الصمت، فلم تصل «دروفتي» أية تعليمات من باريس منذ تلك التي أصدرها إليها «تاليران» في ٢٢ يوليو ١٨٠٥، ومضت الشهور الطويلة دون أن تصل «دروفتي» أية توجيهات من باريس أو من القسطنطينية يسترشد بها في رسم خطته إزاء ما كان يقع من حوادث يومية لا ندحة عن تأثير نتائجها على المصالح الفرنسية سواء أكانت هذه تجارية أم سياسية، وقد ظل الحال على ذلك حتى رأى «تاليران» أخيرًا أن يرسل إليه إخطارًا في ٢٨ يوليو ١٨٠٦ يشعره فيه بأنه قد تسلم رسائله ويشكره على الأخبار المفصلة التي احتوتها هذه الرسائل، ويبلغه بأنه قد عرض بحوث «دروفتي» التي تناول فيها بالتحليل الدقيق الموقف في مصر على الإمبراطور، وقد اختار «تاليران» في هذا الإخطار أن يجيب على مسألة أحمد كاشف بأن هذا الأخير قد حضر إلى فرنسا في مهمة معينة، ثم إنه مما يسترعي النظر حقًّا، ويدل على انعدام وجود أية سياسة مصرية لحكومة فرنسا وقتئذٍ، قول «تاليران» تعليقًا على هذه الأخبار المفصلة التي بعث بها إليه «دروفتي»: إن هذه مع ذلك لا تتطلب إصدار أية تعليمات خاصة من جانبي إلى أن قال: «ولكني سوف أستخدم مع ذلك المعلومات التي بعثت بها إليَّ عن المماليك!» وأما تخبط سياسة الحكومة الفرنسية فيبدو من انصرافها عن إرسال «ماثيو لسبس» إلى مصر وتعيينه للقومسيرية العامة في ليفورنة، كما أن بعثة أحمد كاشف إلى فرنسا لم يترتب عليها أي تعديل في سياستها.
ذلك كان الموقف إذن عندما نجح مندوبو الألفي في الاتفاق مع الباب العالي ونشأت أزمة النقل إلى سالونيك التي كادت تطوح بولاية محمد علي.
فكان على «دروفتي» — كما أسلفنا القول — أن يعتمد على ذكائه ومهارته، ويتدخل إيجابيًّا وفي صالح محمد علي مباشرة في هذه المرة حتى يحول دون استئثار الإنجليز بكل نفوذ أعلى في مصر.
ولقد سبق أن تكلمنا بإسهاب عن تطور هذه الأزمة والدور الذي قام به كل من «مسيت» و«دروفتي» أثناءها، وقد أزعج الأخير وأدهشه — كما أوضحنا — أن يرضي الباب العالي بإعطاء كل هذه السلطة العظيمة التي ينطوي عليها إنشاء النظام الجديد للألفي لما يترتب على ذلك من وضع موارد هذه البلاد تحت تصرف الإنجليز حماة الألفي، الأمر الذي يتعارض مع مصلحة الباب العالي ذاتها، ويؤذي المصالح الفرنسية في مصر، فكان هذا الانزعاج وهذه الدهشة هما مبعثا مبادرة «دروفتي» على الفور بإبلاغ محمد علي تفاصيل الاتفاق التي عرفها، وما إن اطمأن إلى موقف هذا الأخير وتصميمه على الدفاع عن ولايته بحد السيف وتقريره طلب النجدة من فرنسا إذا جاءت الألفي نجدات من إنجلترة حتى انبرى «دروفتي» يبذل كل ما وسعه من جهد وحيلة لتأييد ولايته، على اعتبار أنه وحده الرجل القادر على الوقوف في وجه أي اعتداء يأتي البلاد من ناحية الإنجليز أعداء فرنسا، واعتقد أن بقاء محمد علي في الحكم خير كفيل برد هذا الغزو المنتظر إذا قطع الباب العالي العلاقات بينه وبين إنجلترة؛ لأن محمد علي عدو البكوات أصدقاء الإنجليز.
فكان إذن بفضل نشاط «دروفتي» في هذه الأزمة أن امتنع الشيخ المسيري الموالي دائمًا لفرنسا عن دعوة مشايخ القاهرة للتعاون مع القبطان باشا على تنفيذ أوامر الباب العالي، ولو أن «دروفتي» نفسه كانت تساوره الشكوك من ناحية هذا الشيخ، ومع أن هذا ظل ممتنعًا عن زيارة القبطان باشا منذ مقابلته الأولى له، ورفض بعد ذلك طلب القبطان باشا منه الذهاب لإقناع الدمنهوريين بالتسليم للألفي الذي وقف على حصار مدينتهم، ثم كان «دروفتي» هو الذي حاول ردع الألفي وتخويفه بنقل أخبار انتصار نابليون العظيم في معركة أوسترليتز، وذلك كي يشيع روح الهزيمة في معسكر الألفي، ويشن عليه نوعًا من حرب الأعصاب لعله يخفف من غلوائه أو تهن عزيمته، فبعث إليه بأحد رجاله يحمل ترجمة عربية لتقرير وافٍ عن معركة «أوسترليتز» التي أوقع فيها نابليون هزيمة بالغة بجيوش النمسا وروسيا في ٢ ديسمبر ١٨٠٥، فقابل مندوب «دروفتي» الألفي ولكن دون طائل؛ لأن الألفي — كما كتب «دروفتي» في ١٠ يوليو ١٨٠٦ — اعتبر سلطة بونابرت العظيمة شيئًا عابرًا أو لا دوام له؛ لأنه إذا كان قد نجح في هزيمة النمساويين والروس فهو لا يستطيع الادعاء بأنه قد هزم الإنجليز الذين يولونه أي الألفي حمايتهم، وأن الألفي وقد تم الصلح بينه وبين الباب العالي صار لا يعبأ بما يحدث في أوروبا، وأنه لا توجد دولة على وجه الأرض تقدر على زحزحته من مصر، أو أن تأخذ منه بلادًا هي ملك يمينه، وفضلًا عن ذلك، فهو يرى في استمرار الحرب بين الإنجليز والفرنسيين أمنه وسلامته؛ ذلك أنه بينما يتطاحن هؤلاء الكلاب ويفني بعضهم بعضًا يجد هو فرصته السانحة للجلوس على عرش مصر في فسحة من الوقت ودون عجلة، فيتحصن بها تحصنًا قويًّا يجعله لا يخشى أحدًا، وأما فيما يتعلق بالفرنسيين أنفسهم فهو يقينًا يبغضهم؛ لأنهم حطموا قوة المماليك، ولأنهم أعداء للإنجليز، وأعداء الإنجليز هم أعداؤه كذلك.
و«دروفتي» هو الذي حاول كذلك أن يشل نشاط بكوات الصعيد، فقابل كخيا البرديسي، وأثمرت مساعيه معه، حتى إنه كتب إلى «تاليران» في ١٠ يوليو: إن كخيا البرديسي قد رجاه أن يظل الإمبراطور العظيم على عهده من عدم نسيان البكوات الذين لم ينحازوا أبدًا إلى أية جماعة تعمل ضد صالح فرنسا أو إلى أعدائها، واتصل «دروفتي» بأرملة مراد بك، وأكدت هذه ولاءها لنابليون العظيم، وأعلنت سخطها ونقمتها على الألفي الذي باع نفسه للإنجليز عن جبن ونذالة، وحاول «دروفتي» كذلك الاتصال بكخيا إبراهيم بك الذي كان بالإسكندرية، ولكن هذا خشي من مقابلة «دروفتي» لئلا يسيء ذلك إلى الإنجليز فيؤذون مصالح سيده، الأمر الذي جعل «دروفتي» يقول في رسالته إلى «تاليران» في ١٥ يوليو: ومن هذا يتضح لكم كيف يبغي الإنجليز الفوز بالسيطرة في هذه البلاد، وزار «دروفتي» موسى باشا، وأنشأ معه صلات ود وصداقة، وعندما صار القبطان باشا يعمل لتمكين الألفي من الاستيلاء على دمنهور، حصل «دروفتي» على وعد من البرديسي بعدم اشتراكه في هذه العمليات، وقد كان حصار دمنهور الموضوع الذي استأثر بقسط وافر من انتباه «دروفتي» في هذه الأزمة؛ لأن حصارها على يد الألفي وإخضاعها كان جزءًا من مشروع كبير — كما رأينا — قسمه الآخر الزحف على رشيد والاستيلاء عليها، فتصبح بفضل ذلك منطقة البحيرة والإسكندرية (وبهذه القبطان باشا) ورشيد في قبضة الألفي، الأمر الذي يجعل من السهل على الإنجليز عند مجيء حملتهم التي يشيع وكلاؤها قرب مجيئها أن تنزل بسلام وتخضع هذه المنطقة بأسرها وتهدد بعد ذلك الحكومة القائمة بالقاهرة، (أي حكومة محمد) علي تهديدًا خطيرًا وتقضي تبعًا لذلك على المصالح الفرنسية بالبلاد.
وفي ٢٥ أغسطس ١٨٠٦ تحدث في كتاب بعث به إلى «تاليران» عن مساعيه لدى موسى باشا لإقناعه بتعارض مصلحته مع مصلحة الألفي وعن محاولاته التي بذلها للتأثير على القبطان باشا حتى يعطل استعداداته العظيمة التي شرع فيها لمعاونة الألفي، وقد عمد «دروفتي» إلى تشويه سمعة الألفي في كل مرة اجتمع فيها مع القبطان باشا، فراح يندد بعجز الألفي وعدم قدرته على ابتكار أية خطة نافعة أو اتباع ما يعهد إليه من خط بنجاح، وصوره بالرجل الذي لا يمكن أن تسلم إليه القيادة في الظروف العصيبة، وأنه إنما خدع الباب العالي عندما بالغ في وصف قوته، آية ذلك امتناع دمنهور عليه وفشل هجماته عليها لإخضاعها، ووصف «دروفتي» هذه الهجمات بأنها عمليات عسكرية قليلة النفع عديمة الأهمية.
ثم إنه كان في هذا الكتاب الذي بعث به «دروفتي» إلى «تاليران» في ٢٥ أغسطس أن ذكر الوكيل الفرنسي وصول رسالة إليه من عثمان البرديسي يؤيد ما سبق أن أبلغه إياه الرسول الذي ذكره «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» بتاريخ ١٢ يونيو، ووعد «دروفتي»: بأنه سوف يجبب على البرديسي بأنه من المنتظر عودة «ماثيو لسبس» دون أي إمهال إلى مصر وأنه ولا شك سوف يأتي معه بتعليمات بشأن ما يطلبه، وحيث إن الإمبراطور يمتدح شجاعة البكوات ويشيد بإبائهم أن يبيعوا أنفسهم للإنجليز فإنه سوف يرحب بطلباتهم، وكان عثمان البرديسي قد تحدث في رسالته هذه طويلًا عن الوعود التي قطعها له «ماثيو لسبس» ثم «دروفتي» نفسه، والتي كان مبعث عدم الوفاء بها سفر «لسبس» الذي هو من أعظم أصدقاء البرديسي وجماعته، ثم استطرد يقول في لغة تمزج بين طلب المعاونة من الإمبراطور والتهديد بالتخلي عن مؤازرة المصلحة الفرنسية ونحن نعرف خلق الأوروبيين لا سيما الفرنسيين الذين يتحمسون لخدمة أناس يجدون أنفسهم في مركز متحرج كما نفعل نحن، كما نعرف بخير تلك الأشياء العظيمة التي فعلها الإمبراطور بونابرت وأنه قد استولى على أوروبا بأسرها بحد سيفه وأنه قد صفح بعد ذلك عن أعدائه فأرجع إلى كل واحد من هؤلاء أملاكه، ونحن نعتقد أنه لا يزال يذكرنا ونرجو منه أن يصفح عنا ويبذل لنا المساعدة في كل أعمالنا، ولقد انتظرنا حتى هذه اللحظة لنرى أثر وعودك لنا وأنت تدري ولا شك أن هذا أمر تتحقق بفضله مصلحتكم، كما تعلم من غير شك أن هناك أناسًا في وسعك الاعتماد على صداقتهم بدليل ما قدموه من براهين ساطعة على ذلك في الماضي، وأما إذا كنت لا تريد تنفيذ وعودك لنا فرجاؤنا منك أن تذكر لنا ذلك حتى نترك نحن أيضًا هذا الانتظار، ولكننا نعتقد أن فرنسا لن تتخلى أبدًا عن كلمتها أو تنبذ وعودًا قطعتها على نفسها؛ ولذلك نرجوك أن تبعث من قبلك رجلًا يحمل خطابات منك إلى الإمبراطور بونابرت وفي وسعك معرفة نوايانا وكل ما نبغي نحن فعله هنا من ترجماننا يوسف (وهو الذي حمل هذه الرسالة إلى «دروفتي»)، ونحن مستعدون لخدمتك، ومع أنه لم يسبق لنا شرف التعرف بك فقد سمعنا عنك أنك إنما تتحلى بكل صفات الأخلاق الحميدة والذكاء والحصافة، ونأمل أن تبلغنا ما صح عليه عزمك.
ولما كان «دروفتي» قد صح عزمه على إحباط مهمة القبطان باشا بكل وسيلة، ومن عوامل ذلك حتمًا الحيلولة دون اتحاد بكوات الصعيد مع الألفي في نضال هذا الأخير ضد محمد علي من جهة، وفي مساعيه بمؤازرة الوكلاء الإنجليز لدى القبطان باشا من جهة أخرى، ثم إتاحة الفرصة لمحمد علي حتى يتفرغ لمواجهة الصعوبات التي تواجهه في القاهرة والوجه البحري والإسكندرية، وذلك بتخدير أعصاب بكوات الصعيد وحملهم على البقاء في أمكنتهم فلا يخلقون بنزولهم من مظاعنهم متاعب ومشاكل جديدة، فقد آثر أن يكذب على البرديسي تلك الكذبة التي أحيا بها آماله وجعله بسببها يزيد صلابة وعنادًا في رفض أي اتفاق مع الألفي ودفع حصة البكوات القبالي من مبلغ اﻟ ٧٥٠٠٠٠ قرش الذي اتفق مندوبو الألفي على دفعه ثمنًا للترتيب الجديد مما كان من العوامل ذات الأثر البعيد في مسلكه، فقد أجاب على البرديسي بالصورة التي ذكر لتاليران أنه سوف يجيب بها عليه، فكتب إلى البرديسي يقول: «إن الألفي يعتبر نفسه من الآن سيدًا لمصر وأن مهمة القابجي باشا ليست سوى شرك نُصب لإيقاعك فيه دون حذر منك أو احتياط، وليس للإنجليز الذين يتولون تدبير هذه المؤامرة من غرض سوى جعلك تعترف بالألفي سيدًا عليك، ثم يستولون على مصر باسمك وباسم الألفي، فاحترس إذن وكن حذرًا، وفي وسعي فضلًا عن ذلك أن أؤكد لك أن فرنسا لم تنسَ بتاتًا الوعود التي بذلتها لك، بل إن الأمر بعكس ذلك تمامًا لأنك على وشك أن ترى تحقيق هذه الوعود، ومن المنتظر قطعًا حضور «ماثيو لسبس» الذي تعرفه بين لحظة وأخرى، وسوف يأتيك بلا شك بكل أنواع النجدات، ثم ما الذي تخاطرون به إذن لو أنكم انتظرتم؟ وأنتم الذين إذا تريثتم أيامًا قليلة فحسب تصبحون سادة مصر وأصحاب السلطة فيها، أو أنكم تؤثرون باستعجالكم للحوادث أن تكونوا رعايا لإنجلترة وللألفي بك؟»
ومع أننا أبعد ما نكون رغبة في قبول الوسائل التي عمد إليها «دروفتي» لتأمين مصالحنا السياسية والتجارية في هذا الجزء من أجزاء الإمبراطورية العثمانية، ولكنه مع استنكارنا لنواح معينة من الدور الذي قام به في شئون هذا البلد فمن الواجب أن نعترف بكل تلك المصاعب التي وجد نفسه محاطًا بها وأن نحيي ذكاءه الممتاز، وعلاوة على ذلك، فإن ميول الألفي بك نحو فرنسا اتسمت بطابع لم يكن من شأنه أن يجعل «دروفتي» كثير التدقيق عند اختيار الوسائل التي يمنع بها انتصار هذا البك ويكفل بقاء محمد علي وامتلاكه مصر إلى أن قال: ومع ذلك، فقد طلب البرديسي في خطابه إلى «دروفتي»، تفسيرًا دقيقًا وسريعًا — عن موقف فرنسا منه وعزمها على تحقيق وعودها له — ثم إنه بات من المحتمل قبل مضي أيام قلائل أن تسفر المقترحات التي كلف بحملها صالح أغا عن وصول بكوات الصعيد إلى قرار يحددون به مسلكهم، ومن المحتمل أنهم قد يتناسون مبعث كل تلك الأحقاد والمنافسات المبنية على الحسد والغيرة التي جعلتهم يثورون على الألفي ويقفون حجر عثرة لتعطيل أطماعه وآماله وإبطال مشروعات الحكومة الإنجليزية، ثم كان من حسن حظ «دروفتي» أنه وجد فيما اتصف به صنيعة الإنجليز الألفي من زهو وصلف مفرطين، ثم في قرب وصول القنصل العام «ماثيو لسبس» تلك الحجج التي ما كان يعثر عليها لو أنه أراد أن يستند في إجابته على البرديسي على وزن صحيح لكل حزب من الأحزاب المتناضلة أثناء هذه الأزمة فقال: «لقد اتخذ الألفي لنفسه علنًا لقب سلطان القاهرة، ولتشوقه لممارسة السلطة دون إبطاء صار يتصرف مقدمًا في إيرادات مصر، ومن الآن عمد إلى إعطاء التزام حصيلة الضرائب المفروضة على السنا والنطرون إلى بيوت تجارية من لندن، ولم ينسَ «دروفتي» في جوابه على البرديسي كل هذه التفاصيل، بل تحولت هذه بين يديه إلى سلاح قاطع …»
ومهما يكن من أمر، فقد حققت هذه الكذبة الغرض المقصود منها، وشلت حركة بكوات الصعيد، ومنعتهم من الاتفاق مع الألفي، وجعلت القبطان باشا الذي لم يظفر من البكوات بمبلغ السبعمائة والخمسين ألف قرش يقرر المضي في الاتفاق مع محمد علي، فأوقف استعداداته ضد رشيد وبدأت تفتر همته في تزويد الألفي بالأسلحة والذخائر لإخضاع دمنهور، وانفرجت الأزمة عند وصول إبراهيم بن محمد علي إلى الإسكندرية، وغادر القبطان باشا الإسكندرية في ١٨ أكتوبر في طريقه إلى القسطنطينية، وحق ﻟ «دروفتي» عندما علم في منتصف نوفمبر ١٨٠٦ أن «ماثيو لسبس» قد تعين لقنصلية ليفورنة أن يطلب إعطاءه منصب القنصل العام في مصر مستندًا في هذا الطلب على ما أداه من خدمات في هذه البلاد لرعاية المصالح الفرنسية.
تلك إذن كانت معالم السياسة الإيجابية التي سار عليها «دروفتي» في مصر من تلقاء نفسه، ومتحملًا مسئولتيها هو وحده، ولعل أهم ما تجب ملاحظته أن «دروفتي» لم يندفع اندفاعًا في هذه السياسة، كما كان بعيدًا كل البعد عن ذهنه مخالفة أوامر حكومته له، ولكنه بنى خطته الإيجابية على عوامل معينة نشأت من تطورات الموقف في مصر، لم يجد في تعليمات حكومته له ما يدل على أن هذه الحكومة قد أخذت بعين الاعتبار ما كان «دروفتي» نفسه يبعث به إليها من تفاصيل الحوادث التي شهدها، ويعرضه عليها من آراء لم تكن مبتسرة بل جاءت بعد دراسة وبحث مستفيضين للموقف، فصار عندئذٍ واجبًا عليه أن يسد هذا النقص — على حد قول فولابل — بالاعتماد على ذكائه ومهارته، وثمة ملاحظة أخرى أنه كان بعد هذا البحث وهذه الدراسة أن انتهت سياسة «دروفتي» الإيجابية إلى الإقبال على تأييد حكومة محمد علي بوصف أنها القوة التي إذا تدعمت أركانها استطاعت إحباط مشاريع الإنجليز والألفي حليفهم ورد الغزو الإنجليزي إذا وقع على البلاد، وما إن رسخ في ذهن «دروفتي» هذا الاعتقاد حتى تخلى نهائيًّا عن صديق فرنسا عثمان البرديسي، بل ولم يجد أية غضاضة في الكذب والتمويه عليه حتى يصل إلى غرضه.
وأما هذه السياسة الإيجابية والتي وضعت كل ثقلها لترجيح كفة محمد علي خصوصًا أثناء أزمة النقل إلى سالونيك فقد بدأت تجني باكورة ثمارها عندما كتب «دروفتي» نفسه إلى «تاليران» في ٢١ نوفمبر ١٨٠٦ أنه لينتظر بفارغ الصبر جواب الوزير على الرسائل المنوعة التي بعث بها إليه بشأن النجدات من الأسلحة والرجال التي يطلبها محمد علي من فرنسا، فإن هذا الباشا لا ينقطع يردد مطلبه هذا ويستعجل الجواب عليه بكل سرعة.
وأما مبعث طلب النجدة من فرنسا فكان ما يصادفه محمد علي من صعوبات ناجمة عن تمرد الجند لا سيما في حامية المنيا وحروجة الموقف تبعًا لذلك في الصعيد، واستعداد الألفي لتشديد الحصار على دمنهور بعد ذهاب القبطان باشا، والخوف من أن يرسل الإنجليز حملتهم إلى الإسكندرية، تلك الحملة التي استمر الوكلاء الإنجليز يؤكدون قرب مجيئها.
(٣) الموقف قبل مجيء حملة «فريزر»
ولقد ظل «دروفتي» يرقب بيقظة واهتمام الموقف في مصر بعد انقضاء أزمة النقل إلى سالونيك، وكان مما استرعى نظره ونظر نائبه «مانجان» في القاهرة، جسامة الصعوبات التي أحاطت بحكومة محمد علي من كل جانب، وأخطر هذه حاجة الباشا المستمرة إلى المال، وتمرد الجنود الذين يطالبون في عناد بدفع مرتباتهم المتأخرة لهم، ثم ما كان يخشى من نشاط البكوات: الألفي وجماعته في الوجه البحري، والبرديسي وإبراهيم وعثمان حسن وغيرهم من البكوات القبالي في الصعيد، واتحاد الفريقين في عمل مشترك ضد حكومة محمد علي، وذلك كله في وقت تأزمت فيه العلاقات بين تركيا وبين روسيا وإنجلترة بصورة أفضت إلى إعلان الحرب من تركيا على روسيا، وتوقع انضمام إنجلترة إلى حليفتها ضد الباب العالي وحضور الحملة الإنجليزية إلى هذه البلاد على نحو ما أكد الوكلاء الإنجليز.
أما الحاجة إلى المال فقد سبق الكلام عنها وعن الآثار التي ترتبت عليها، وقد كان من بين هذه على وجه الخصوص تذمر القاهريين من الإتاوات والمغارم التي فرضت عليهم، ولكن الباشا استطاع بسط الهدوء والسكينة في القاهرة بفضل اعتماده على مؤازرة المشايخ له لا سيما السيد عمر مكرم، بل ويذكر الوكلاء الفرنسيون في نشرتهم الإخبارية عن المدة بين أول وعشرين أكتوبر ١٨٠٦ أن عمر مكرم قد كشف للباشا عن مكايد شيخين كانا يحرضان القاهريين على الثورة، وقد تأثر هذان الشيخان بمساعي الوكلاء الإنجليز والقبطان باشا فألقى القبض عليهما في ٥ أكتوبر، وأظهر عمر مكرم ولاء عظيمًا للباشا، وعاونه معاونة صادقة على استتباب الأمن والنظام في القاهرة، وكان بعد حوالي عشرة أيام أن أطلق الباشا سراح الشيخين بناء على توسط الشيخ سليمان الفيومي في أمرهما على شريطة مغادرتهما القاهرة إلى الريف.
وأما مشكلة الحاميات المتمردة فقد تزايدت خطورتها عندما أوفد الباشا في ٢٠ أكتوبر أحد كبار ضباطه إلى حامية المنيا، ولم يلبث هذا أن عاد من مهمته فاشلًا في ١٢ نوفمبر، ثم انضم إلى البكوات كاشفه الذي حكم الفيوم باسمه، وأظهر جند حسن باشا رغبتهم في تمضية أيام العيد الصغير بالقاهرة، ورفض جند رشيد الذهاب إلى الرحمانية للاشتباك مع الألفي (نوفمبر ١٨٠٦) وإرغامه على رفع الحصار عن دمنهور، وتعالت صيحات جنود الباشا في كل مكان مطالبة بالنقود، النقود، وتعرض الرحالة الفرنسي «شاتوبريان» لإطلاق الرصاص عليه بكثرة عند عودته إلى القاهرة، وكان بسبب مشكلة الجند هذه أن كتب الوكلاء الفرنسيون في تقريرهم عن الموقف في مصر بين ١٤، ٢٧ ديسمبر ١٨٠٦: «إنه لمن المؤسي حقًّا أن يجد هذا الرجل محمد علي صاحب الآراء والمشاريع الضخمة نفسه على رأس طبقة عسكرية شيمتها الشره وحب المال والجبن ونبذ كل نظام»، ولكن محمد علي الذي استمر يطلب الفرض والسلف من القاهريين، وفتح الميري عن السنة القابلة، وصادر قافلة سنار، استطاع أن يدفع قسمًا كبيرًا من مرتبات الجند، ثم إنه منع حسن باشا وجنده من الحضور إلى القاهرة، وبدا كأنما في وسعه أخيرًا التغلب على كل الصعوبات التي تصادفه عندما جاءت الأنباء معلنة عن وفاة البرديسي، ثم عن وفاة الألفي بعد ذلك، ثم شغل الجند بالاستعداد للخروج في تجريدة كبيرة يترأسها الباشا نفسه ضد البكوات المماليك.
وكانت مسألة البكوات من المسائل التي وجب على الباشا إيجاد حل سريع لها حتى يأمن جانب هؤلاء إذا تعرضت البلاد للغزو نتيجة لتأزم العلاقات بين تركيا وروسيا وإنجلترة، وليس من شك في أن محمد علي كان يتوقع هذا الغزو عندما كانت الاستعدادات قائمة بالإسكندرية لتحصينها وراجت الأخبار عن حدوث مثل ذلك في رودس وكريت، فقد كتب «مسيت» إلى «أربثنوت» في آخر ديسمبر ١٨٠٦ أن هناك استعدادات عسكرية وتحصينات تجري بالإسكندرية يعزو أمين أغا سببها إلى وجود حشود الأرنئود في رشيد والرحمانية وخوفه من المفاجأة إذا قرر هؤلاء الهجوم على الإسكندرية، ولكن «مسيت» — كما كتب — يعتقد أن سبب هذه الاستعدادات والتحصينات إنما هو وصول ططر من القسطنطينية بدأت الاستعدادات بعد مجيئهم مباشرة، مما يدل دون شك على أن أوامر قد بلغت هذا الحاكم من الباب العالي بشأنها، لا سيما وأن «مسيت» قد ترامي إليه أن نفس الشيء يحدث كذلك في كل من رودس وكريت؛ وعلى ذلك، فإن صح هذا فإن ما يجري هنا من استعدادات للدفاع إنما الغرض منها التهيؤ لدفع غزو أجنبي وليس لصد الأرنئود، ثم تساءل «مسيت»: ولكن من يكون هذا العدو الأجنبي الذي يستطيع غزو مصر في هذه اللحظة؟ لا شك في أن «أربثنوت» يعرف هذا العدو من معرفته لسياسة تركيا.
وقد كتب «دروفتي» بعد ذلك إلى «تاليران» في ٢ مارس ١٨٠٧: «إن مغادرة السفير الإنجليزي للقسطنطينية أحيت آمال أعدائنا هنا في وقوع غزوة بريطانية (على مصر) ويذيع وكلاؤهم هذا الرأي، ويبغي محمد علي الاستفادة من الاضطراب الذي وقع في صفوف المماليك بسبب وفاة البرديسي والألفي، فخرج على رأس جيشه إلى الصعيد لإرغام بكواته على التسليم، وغرضه أن يحطم أعداءه الداخليين حتى يمكنه التفرغ لمراقبة الشاطئ.»
واعتقد محمد علي أن الفرصة قد صارت مواتية لمعالجة مسألة البكوات من بيت الألفي بعد وفاة كبيرهم، فقد تبدل الحال الآن في معسكر شاهين بك خليفة الألفي، فساءت العلاقات بينه وبين العربان، وكاد هؤلاء ينهبون معسكر شاهين لو أن هذا لم يبادر بالقبض على رؤساء القبائل وحبسهم، وقد ترتب على ذلك أن غادر معسكره بعد ذلك مباشرة أكثر من نصف هؤلاء الفرسان البدو، وقد شجع محمد علي هذه الحركة بفضل ما صار يمنيهم به من وعود طيبة، كما أنه رحب بمن حضر منهم إليه، ثم إنه حتى يزيد من ضعف شاهين، لم يلبث أن سمح لكل من أراد من أهل القاهرة وأعيانها العودة إلى أسراتهم بدخول القاهرة وكان هؤلاء قد انضموا إلى معسكر الألفي، وانفض الآن عدد كبير منهم من حول شاهين، فرأى محمد علي وقد نقصت قوات شاهين وضعف جيشه أنه سوف يؤْثر الصلح على الاستمرار في النضال والمقاومة، فأرسل إليه وإلى سائر البكوات في معسكره مكاتبة يستميلهم ويطلبهم للصلح ويدعوهم للانضمام إليه ويعدهم أن يعطيهم فوق مأمولهم ونحو ذلك، وأرسل تلك المكاتبة صحبة قادري أغا الذي كان قد طرده الألفي ونفاه، كما جعل بعض وسطائه السابقين مع البكوات، مصطفى أغا كاشف الوكيل وعلي كاشف الصابونجي وغيرهما يكتبون إليهم بنفس المعنى، وكان شاهين بك يقيم بالبهنسا منذ وفاة الألفي، ثم قرن الباشا عروضه السخية على شاهين بك وسائر البكوات بمظاهر التهديد والتخويف فأخذ — كما يقول الشيخ الجبرتي — في الاهتمام والركوب واللحوق بهم، وفي كل يوم ينادي على العسكر بالمدينة بالخروج، وقوي نشاطهم ورفعوا رءوسهم وسعوا في قضاء أشغالهم، وخطفوا الجمال والحمير، وحضر الباشا إلى بيته في الأزبكية، وبات به ليلة الأحد أول فبراير ١٨٠٧ وخرج لسفره يوم الخميس ٥ فبراير وخرج إلى العرضى ثانية، ثم إنه أعدَّ عددًا عظيمًا من المراكب المحملة بالمؤن والذخائر والعتاد.
ولكن قادري أغا ما لبث أن عاد في ٧ فبراير من مهمته فاشلًا، فقد أحضر معه جوابًا على رسالة الباشا عليه ختم شاهين بك وباقي خشداشينه الكبار، وآخر لمن كاتبهم يذكرون في جوابهم إن كان سيدهم قد مات وهو شخص واحد فقد خلف رجالًا وأمراء وهم على طريقة أستاذهم في الشجاعة والرأي والتدبير، وكان ذلك من ضروب المبالغة في إطراء أنفسهم عن غير جدارة، حتى إن الشيخ الجبرتي لم يلبث أن علق على ذلك بقوله: «وليس كل مدعٍ تسلم له دعواه، ومن أمثال المغاربة: ما كل حمراء لحمة ولا كل بيضاء شحمة.» ثم إنهم ذكروا في جوابهم أيضًا أنه «إن اصطلح محمد علي مع كبرائهم الكائنين بقبلي (في أسيوط) وهم إبراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن وباقي أمرائهما كنا مثلهم، وإن كان يريد صلحنا دونهم فيعطينا ما كان يطلبه أستاذنا من الأقاليم.» وعندئذٍ لم يجد الباشا مناصًا من الخروج لمحاربة البكوات، وقد غادر شاهين الألفي البهنسا، قاصدًا إلى المنيا التي يحتلها سليمان بك المرادي يبغي الانضمام بقواته إليه.
وكان أثناء غياب محمد علي وبعد حوالي أسبوعين من خروجه من القاهرة أن جاء الخبر بقيام الحرب بين تركيا وروسيا وتوقع حدوث غزو على مصر من جانب الإنجليز حلفاء الموسكوب.