تصوف العطار
التصوف يَقصد إلى فناء الإنسان في الله — تعالى — فلا بد لكل بحث مستوفى في التصوف أن يتناول الله والإنسان، والصلة بينهما، والطريق إلى الفناء المقصود، وهذا ما أبينه بعض التبيين في الفصول الآتية:
وأقدم قبل البحث هذه المقدمة:
لم يشرح العطار التصوف على خطة واضحة كما شرحه المؤلفون في التصوف، ولا استقصى مسائله فبيَّنها في كتبه، فإنما هو شاعر يملي أو يكتب ما تفيض به عاطفته أو وجدانه، وربما يذكر الشيء في صور شتى، ويكرره في مواضعَ عدةٍ.
وليس بين كتبه حدود واضحة تقسَّم بينها الموضوعات، بل موضعها كلها التصوف تتناول مسائله على غير ترتيب؛ فالباحث عن آرائه يلتقطها مفرقة مبعثرة في شعره، ولن يرهقه في بحثه كثرة الأفكار كما ترهقه كثرة الصور.
وبعد، فهل شَرَح العطار كل آرائه الصوفية في كتبه؟ وهل العطار مبين عن آرائه كلها بغير إبهام؟ هل يصرح بكل آرائه، أو يعمد إلى الرمز والإشارة محاولًا إخفاء معانيه؟
ويقول العطار أحيانًا: إنه أوضح كل شيء ورفع الحجاب عن كل محجوب.
وكذلك يقول الصوفية أحيانًا مغتبطين بما أدركوا، مغلوبين بما لاح لهم.
فترى الصوفي المتواضع فاخرًا بنفسه، معجبًا بإدراكه، متحدثًا ببلوغه الدرجة التي لم يبلغها أحد قبله، وذانكم مقامان في القبض والبسط معروفان عند القوم.
نجد العطار تارة يقول: «إن الروح التي قصت قصة الحبيب قُطع لسانها فما تستطيع بعدُ كلامًا»، «إلَّم تتحدث عن الحب؟ تحدث عن أمر يستطاع ذوقه»، «على المرء أنى صمت وقلبه يمزقه الحزن»، «كن كالبحر، واخبأ بجواهرك في نفسك.»
ويقول في مقدمة «مختار نامه»: «إنه غسل منها ألف بيت؛ لأنها ليست من هذا العالم.»
ثم نجده مع هذا كله يقول:
ومن تردد الشاعر بين هاتين الحالين، نراه معجبًا بالحلاج يتخذه إمامًا في إفشاء السر، والإعلان بالحق، ويكرر قوله المعروف: «أنا الحق»، ثم نجده يلومه ويسميه لص الطريق (دزدراه)؛ لأنه لم يستطع كتمان أسرار الطريق.
ومهما يكن؛ فما أحسب العطار أخفى شيئًا مما أدرك أو رأى؛ فقد استطاع أن يقول: «أنا الله»؛ فماذا عسى أن يخفي بعد هذا؟
وأما رموزه وإشاراته فقليلة، قلما يتكلم بلغة حافظ الشيرازي مثلًا، وإن يكن قد أبعد بعض مراميه بالرمز في موضع؛ فقد أبان هذه المرامي نفسها في مواضع أخرى؛ فإن هذا البيان الملح والفيض المتوالي لا يدع في نفسه خفيًا.
فلا ريب أن تصوف العطار واضح في أقواله، مكرر في أشعاره، ومن الممكن أن يتبع الباحث مسائله في هذه الأقوال والأشعار.
(١) طريق المعرفة عند العطار
العطار صوفي؛ فهو لا يثق بالعقل كثيرًا؛ لأن مقصد الصوفي وراء العقل، وللصوفية أقوال كثيرة في القياس بين العقل والعشق. العقل عندهم ضيق جبان عاجز لا يجرؤ على الإقدام على الحقائق الخفية، ولا يستطيع إدراكها، فهو يتقلب في المحسوسات، ويتصرف في الجزئيات، وينكص أو يعجز عن الحقيقة الكبرى، وقد سار كبار الصوفية على هذا حتى «محمد إقبال» في العصر الحاضر.
والعشق — كما أدركت من كلامهم — هذه القوة الخفية التي تبعث الإنسان على الطلب والعمل والإقدام، والتي تهيب بالإنسان إلى العظائم، وترفعه عن الدنايا، والتي تقدم به على المطالب الفلسفية العظمى؛ ليعرف نفسه، ومبدأه، ومنتهاه، وخالقه؛ وهلم جرا.
فهي الوجدان أو ملكة قريبة منه متصلة به.
وتصرف هذه الملكة أو القوة في النفس الإنسانية من حيث نزعاتها وإدراكها لا في الجزئيات المحسوسة التي يتصرف فيها العقل بالجمع والترتيب والاستنتاج وهكذا.
ولكن العطار لا يجعل العقل عاجزًا كلَّ العجز، غير مُجدٍ في المعرفة الإلهية؛ فإن له صلة بالعشق تمكنه من العمل، وسأبين هذه الصلة من بعدُ.
بالعشق، وفناء النفس، والاتصال بالله تدرك الحقيقة، والاتصال الكامل أدركه الأنبياء.
والعطار، كغيره من الصوفية، يعرف في كل فرصة عن أسمى درجات الإعظام للرسول ﷺ وللشريعة، ويعلن في أعقاب كل بحث دقيق في أمهات المسائل الصوفية أن كل أدلته مستمدة من القرآن، وقد عقد فصولًا كثيرةً في كتبه يبين اتفاق الشريعة والحقيقة، فكل ما يدرك الصوفي بالعشق والفناء ملائم للشريعة أو هو مقصد من مقاصدها وسر من أسرارها، وسيأتي بيان هذا.
فلا يفر الإنسان من العقل، وينبغي أن ترى الأشياء بنوره. بل يستطيع الطالب أن يرى بالعقل حتى وجه الحبيب ويدرك جماله، وينبغي أن نذكر أن العقل لا ينال ما ينال إلا في صحبة العشق وهدايته.
والخلاصة أن العقل يقدر على العمل في دائرة العشق، وهدي الدين، ولكنه مع هذا لا يستطيع النفوذ إلى الجوهر، وهو لايحيط بحقيقة القرآن، وإنما يفقهه آية بعد آية.
يعترف العطار في بعض أقواله أن العقل باحث ذكي مدقق أحيانًا، وأنه يدرك نظام العالم، وأنه هدى إلى الرشد، ولكن لا ينبغي أن يقف الإنسان في مستواه، وعليه أن يسموَ إلى مستوى العشق.
ويقول في موضع آخر: إن العقل طيب وخبيث، وصديق وعدو.
والفرق بين العقل والعشق أن الأول مخالط للطبيعة، والثاني من الذات الإلهية؛ فهو مدرك لها دائمًا.
وبعد، فهذا الحاجز بين العقل والعشق تمكن إزالته، بل يمكن اتحادهما، العشق يسبح في الملأ الأعلى ويرجع فيهدم بين العقل، ويشيع النور في الظلام، ويحيط بالعقل؛ فإذا هما واحد.
والعطار الذي يحفر العقل بجانب العشق يعظم العقل ويكبره بجانب النقل أو التقليد، وهو يحذر من التقليد في أقوال كثيرة؛ في جوهر الذات فصل عنوانه: «يقظة القلب للأسرار والحذر من النقل.»
وهذا لا يعني أن الإنسان يستغنى عن كل إرشاد؛ فللمرشد عند الصوفية خطر عظيم كما سيأتي.
وأختم هذا الفصل بكلمة للعطار يجمل فيه رأيه في هذا الموضوع، يقول: «إذا اجتمع العقل والدين والعشق أدرك الذوق كل الأسرار التي يبتغيها الطالب.»
(١-١) العطار والفلسفة
ويقول العطار أيضًا: «إن العقل نفسه يأمر باتباع دليل لا بالسير على غير هدى.»
ويقول: إن كتابيْ ابن سينا: «النجاة» و«الشفاء» لا غناء فيهما، فاهجرهما واعرف الشريعة.
وكلام العطار في العقل والأمر، أو الفلسفة والشرع، ليس بعيدًا عن المسألة التي أثارت الجدال حُقبًا بين المعتزلة وغيرهم؛ وهي مسألة حكم العقل: هل للعقل حكم في الأشياء يدرك به خيرها وشرها، أو الحكم للشرع وحده؟ وهي المسألة التي وضعت في صورة أخرى باسم مسألة الحسن والقبح، واتسع فيها بحث علماء الأصول؛ أصول الفقه.
ولا يتسع المجال لتوضيحها هنا.
(٢) الله تعالى، والعالم، والإنسان
قلت آنفًا: إن البحث في التصوف لا يعدو الكلام عن الله — تعالى — والإنسان وصلته بخالقه، والطريقة التي تُحكم هذه الصلة، وتؤدي إلى فناء الإنسان في الله، وفي هذا الفصل أبين تصور العطار لله — تعالى — وهو لا يعدو في جملته تصور المسلمين ولا سيما الصوفية منهم:
يذكر العطار هذه الاستحالة المطلقة في إدراك الذات الإلهية؛ ولكنه يقول في بعض كلامه: إن العشق يدرك الله — تعالى — حتى ذاته، فلا بد أن نحسب المبالغات الشعرية والجذبات التي تغلب عليه حين يتكلم في الأمر والإلهية، وإلا بدت آراؤه متناقضة.
ومهما يقل في إدراك الذات الإلهية فالصفات مدركة لا محالة؛ ولكن إدراكنا إياها ليس محيطًا، وأحسبه يعني هذا حين يقول: «لا أحد يعرف صفاتك.»
والعطار في الصفات الإلهية، يبتدئ بالصفات الإسلامية التي وصف القرآن بها رب العالمين؛ ولكنه يتكلم عن الرحمة والعفو واللطف أكثر مما يتكلم عن الكبرياء والقهر، وهذا شأن كبار الصوفية، وقد سموا الله — تعالى — «الحبيب»؛ وجعلوا همهم التقرب إليه والأنس به والفناء فيه، ويروى عن أبي سعيد بن أبي الخير أنه كان يكف عن قراءة الآيات القرآنية التي فيها العقاب والانتقام وقد كلفوا بالآيات الدالة على القرب؛ كقوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، وقوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.
وكذلك كان العطار، ككبار الصوفية، مولعًا بالآيات القرآنية التي تصف الحق — سبحانه — صفات فيها معنى الشمول والعموم، وما يقرب من وحدة الوجود، كالآيتين: وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
(٢-١) الله والعالم
العطار شاعر يبين عن تصوفه إبانة الشعراء، ولا يبحث بحث العلماء.
والموضوعات التي يتناولها تحتاج أحيانًا إلى تدقيق العالم لا خيال الشاعر.
ولذلك تبدو آراؤه أحيانًا متناقضة؛ ولكن يستطيع الباحث أن يجمع من صفحاته الشعرية الفكر التي وراء هذه الصور الكثيرة، والأصول التي وراء هذه الفروع المتشعبة، والمعاني التي وراء هذه العبارات المتزاحمة.
وقد حاول في مقدمة «منطق الطير» أن يفصل صدور العالم عن الله، فقال: إن أول ما صدر من عالم الغيب نور الرسول ﷺ وخلق الله من هذا النور مائة بحر من النور، وفتح لهذا النور طريقًا بحر الأسرار، فلما سطع عليه اضطرب ودار حول نفسه سبع مرات، فظهرت الأفلاك السبعة، وكلما نظر الله إلى هذا النور ظهر نجم منه، ثم ثبت النور فكان العرش ظهر العرش والكرسي من جوهر النور، وظهرت من صفاته الملائكة، ثم ظهرت أنوار لا تعد وتجلت حقائق كثيرة من العقل الإلهي.
أبان العطار عقيدته هذه وهو يمدح الرسول في مقدمة «منطق الطير»؛ ليبين أنه كان أصل العالم كما كان غايته.
وللصوفية في الرسول كلام مثل هذا أو قريب منه، وقد رووا في هذا أحاديث منها: «لولاك ما خُلقت الأفلاك.»
ويقول العطار: إن كل شيء ينزع إلى البحر أو النور الذي ظهر منه، وإن العالم في حنين دائم إلى أصله، في شوق مستمر إلى الله.
«جؤار العالم دعاء لك، ما رأى القلب إلا أن كمل شيء في ظمأ إليك، رأى ذرات العالمين طالبة إياك.»
ويرى العطار أن سير العالم وسعيه واضطرابه وضوضاءه من الشوق إلى الله والطلب له.
يقول في «جوهر الذات»: «الفلك في عشقه دائر لا يفتر، شمعة تضيء، وما أجمل ضياءها فتهافت الأفلاك حولها كالفراش.»
يقول الشاعر كما يقول كثير من الصوفية: إن الله — تعالى — هو كل شيء، وليس في العالم واه. وهذا في كلامه أبين وأكثر من أن يحتاج إلى شاهد.
وقد عمد إلى البرهان في مقدمة «منطق الطير» فقال: إن الله غير محدود فلا يوجد غيره؛ لأن محالًا أن يبقى شيء خارج غير المحدود.
ومع هذا لا ينبغي أن نفسر أقوال العطار بأن العالم هو الله؛ فهو وغيره من الصوفية يرون أن الوجود الحقيقي لله، وأن ما عداه ليس إلا خيالًا أو وهمًا أو عدمًا، فليس للعالم وجود حقيقي فنقول: هل هو الله أو غيره، وليس في الوجود إلا الله وهذا الوجودالظاهر للعالم متصل بالله اتصالًا يجعل إدراكه بغير إدراك الله، متعذرًا وكثيرًا ما يذكر العطار «الله» على أنه ذات مستقلة عن العالم.
فينبغي أن يفرق بين وحدة الوجود التي رآها بعض فلاسفة اليونان، ووحدة الوجود في رأي العطار وغيره، فالفلاسفة يرون أن الروح والمادة وجود واحد ليس وراء المادة روح، ولا بغير الروح مادة، والصوفية يفرقون بين الروح والمادة، وبين الله والعالم؛ ولكن يرون أن هذا العالم الظاهر لا وجود له حقًّا، وإنما الوجود الحق لله، فليس هو العالم ولا العالم هو؛ لأن العالم لا وجود له، وهو وحده الموجود.
إن وحدة الوجود عند الكُتَّاب المسلمين ظاهرية أكثر منها حقيقية أحيانًا، فينبغي أن نحكم عليهم بجملة أفكارهم لا بالعبارات المتفرقة.
وكذلك قال نكلسون في كتابه «التصوف الإسلامي» وجب في «تاريخ الشعر العثماني».
العالم عند العطار هو تجلي الله، أو هو كالظل من الشمس، والصورة في المرآة، وقد ضرب في «منطق الطير» مثلًا، ملكًا لم يجرؤ أحد على رؤيته أو لقائه، فأراد أن يمكِّن رعيته من رؤيته فصعد فوق قصره وأمر أن توضع مرآة على الأرض تجلى فيها وجهه فرأته الرعية.
فهل يؤخذ من أقوال العطار هذه أن الله روح العالم؟ لم أجد هذه التسمية في كلام العطار؛ بل في «مفتاح الفتوح» المنسوب إليه، والظاهر أنه لغيره.
وليس هذا الكنز سوى الله، ويقرب من هذا ما رواه الصوفية في حديث قدسي: «كنت كنزًا مخفيًّا فأردت أن أُعْرَفَ فخلقت الخلق فبي عرفوني.»
وقد اجتمعت هاتان العبارتان في بيت واحد يمكن أن يترجم هذا البيت:
ومهما تسمِّ الله — تعالى — فليس هو محدودًا في هذا العالم، إن تسمِّه روح العالم أو ذاتًا صفاتها العالم، أو كنزًا والخلق طلسمه فهو غير محدود والعالم محدود، وقد تقدم قول العطار: إن العالمين قطرة في بحر لا يحد له: «بحر إن رأيته لمحة واحدة رأيت العالمين فيه كقطرتيْ ندى.»
وليست آراء العطار في الله والعالم مبتكرة في جملتها، وإن كان فيها ابتكار في التفصيل والتصوير؛ فقد سبقه إليها جماعة من المسلمين وفلاسفة الأفلاطونية الحديثة من قبل، فالقول بأن المحسوسات ليست ذات وجود حق، وأن العالم ظِل من الله أو انعكاس عنه معروف في الأفلاطونية الحديثة، وبين الفلاسفة والمتكلمين من المسلمين فالشهرستاني — مثلًا — يرى الشخص اليوناني (أفلوطين) أن الغائب المطلوب في طي الشاهد الحاضر.
وينقل هذا التفسير عن أبي سليمان السجزي: «مفهوم هذا الإطلاق أن كل ما هو عندنا بالحس بَيِّن فهو بالعقل لنا هناك، إلا أن الذي عندنا ظل ذلك.
وعلماء الكلام يقولون: إن الممكن يستمد وجوده من الواجب كل حين، ووجوده ليس أولى من عدمه إلا بالمؤثر الذي يوجده ويمده بالوجود ما دام موجودًا.
وقال أبو حيان التوحيدي في «المقابسات»: فمن ذلك قول القائل: زعم ألا طبيعة للممكن، وإنما هو موقوف على فرض الفارض، ووهم الواهم، ووضع الواضع، وظن الظان.
وقال: إن الإمكان بعد هذا كله استعار من الواجب شبهًا، واقتطع منه ظلًّا، واستعار أيضًا من الممتنع شبهًا، واسترق منه ظلًّا، وذلك هو عدم ما.
ونختم هذا الفصل بأبيات لعبد الكريم الجيلي في كتاب «الإنسان الكامل»:
(٢-٢) الله والإنسان
فرقت بين الكلام في الله والعالم جملة، وبين الكلام في الله والإنسان خاصة؛ لأن الإنسان عند الصوفية واسطة بين الله والعالم.
يقول العطار هنا: إن روح الإنسان من روح الله، وصلته بالله أقر بمن صلته بالعالم.
وقبل أن أبين فكر العطار في هذا الموضوع وتصوره أقول: إن العطار قد سبق إلى هذا الرأي فهو يحذو فيه حذو بعض الفلاسفة والمتصوفة من قبله.
فهي إحدى قواعد الأفلاطونية الحديثة بل أعظم قواعدها، وقد قبلها فلاسفة المسلمين وأفاضوا فيها، وانتقلت من الفلسفة إلى الشعر في مثل قصيدة أبي علي بن سينا التي أولها:
هذه الصلة بين الله والإنسان سوغت لبعض الصوفية أن يروا في أنفسهم الله وحده، وفي «بيسر نامه» يقول العطار صراحةً: أنا الله، أنا الله.
فالإنسان كما قيل، العالم الأصغر الذي انطوى فيه العالم الأكبر.
ومن الصوفية من يشعرون في أنفسهم بهذه الإحاطة، ولا يرون لأنفسهم حدًّا.
روى العطار في «تذكرة الأولياء» عن الجنيد أنه قال: أشعر أني مأخوذ بذنوب الأولين والآخرين، كيف ينجو أبو القاسم (الجنيد) من أصغر ذنوب الناس؟
ويقول العطار في تفسير هذا: إنه دليل الكلية، يرى الإنسان نفسه كلًّا، وكافة الناس أعضاءه، ويبلغ درجة: «المؤمنون كنفس واحدة» فيتكلم مثل هذا الكلام.
ويذهب العطار أبعد من هذا، فيدعي أنه ليس في العالم على الحقيقة إلا الإنسان، وأن كل ما عداه وهم.
يقول العطار: ولهذا الإنسان خلق كل شيء؛ وهو مأخوذ من القرآن: خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ.
وذهب بعض الصوفية في تصوير مكانة الإنسان في هذا العالم مذهبًا آخر، فجعل الإنسان منتهى تطور العالم وأن التطور ينتهي به إلى الفناء في الله، ذكر هذا جلال الدين الرومي في المثنوي وترجمته في هذه الأبيات:
ثم إن النفس الإنسانية التي هبطت من عالم الروح، خالطت المادة ففقدت صفاءها وأصلها وسكنت إلى الحياة الجسمية، فكرهت أن تفارق البدن، كما قال ابن سينا في قصيدة «النفس».
وسبيل النفس إلى النجاة أن تذكر موطنها الأول، وتجاهد لترجع إليه، وهذه غاية التصوف، يقول العطار:
«أيتها الروح! أيها البلبل! بقيت في الأسر إذ سكنت إلى الشرك.»
وتشبيه النفس بالطائر شائع بين الصوفية؛ فقد جعل العطار النفوس البشرية طيرًا في كتابه، وجعلها — وحافظ — صقرًا هبط من السدرة إلى دار المحنة، ويصفر له من شرفات العرش؛ ليعود إلى موطنه.
ويقول العطار أيضًا: أيها الروح! جئتِ إلى العالم الذي لا يحد، فريدة في جمالك، ولبثت في حجاب المادة فلا قرار لك حتى ترجعي. أيتها الروح! كيف أنتِ في هذا العالم الغريب؟ كيف أنتِ مسلوبة كل عظمتك وجمال. الروح طائر فارق العرش فإن لم يجد له دليلًا إلى وطنه ضل.
يتبين من هذا كله أن الروح من الله، وقد جاء في القرآن الكريم: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وأنها سجينة في عالم المادة، وأن نجاتها في الخلاص من سجنها، والرجوع إلى عالمها الأول.
فهل الروح مختارة أن تطير راجعة إلى عالمها؟ هل الإنسان الذي جاء من عالم الأرواح إلى هذه الأرض، ولا نجاة له إلا بمعاودة عالمه، وهو مأمور بهذه العودة، هل هو مختار يستطيع أن يهيئ لنفسه وسائل النجاة إن شاء، أو هو مضطر لا حيلة له؟ ما حيلة الإنسان أمام القضاء في رأي العطار؟ هذا ما نلتمس جوابه فيما يأتي.
(٣) القضاء والقدر
هل اعتقاد العطار الذي تدل عليه هذه الأقوال يناقض ما قدمنا من قوله في الإنسان وصلته بالله؛ إذ جعل الإنسان موصولًا بالكون المطلق أو الخالق، وسوغ له أن يقول: أنا الله؟ تدل هذه الأقوال في القضاء والقدر على أن الإنسان عاجز خاضع لقوة قاهرة مسيطرة عليه، فهل هذا يناقض الاتصال بين الإنسان والله، والاتصال يناقض ألَّا يكون الله والإنسان كائنين منفصلين يقهر أحدهما الآخر؟
ابن العربي فر من هذا التناقص الظاهر بأن جعل إرادة الله ناشئة من علمه بالأشياء على ما هي عليه، وهذا العلم مقتضى طبائع الأشياء، فالإرادة الإلهية موافقة كل الموافقة لما تقتضيه الأشياء والروح تقدر مصيرها والله — تعالى — لا يغيره، فليس هناك قاهرة ومقهور.
ويظهر من كلام العطار، في موضع آخر، أن الإنسان غير مجبر، وأنه قد عاهد ربه على الإيمان به وإطاعته في عهد أَلَسْتُ فارتكابه إثمًا نقضٌ لهذا العهد، وهو مأخوذ بهذا النقض، وعهد أَلَسْتُ هو العهد الذي ذكره القرآن في الآية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ.
في الأزل حين كانوا ذرًّا، ولم يكن فيهم هذا الغرور.
ولكنه بعد هذا بأبيات قليلة يقول: «الذين عرفوا الحقيقة ذلك اليوم يعرفونها الآن.»
كان من الناس من عرف الحقيقة في ذلك اليوم، ومنهم من لم يعرف، وهذا يخالف ما تقدم.
ومهما يكن، فقارئ شعر العطار يشعر بأنه، على اختلاف أقواله، أقرب إلى الاعتقاد في الاختيار.
ويستمر الشيطان في كلامه معربًا عن رجائه في الله، معلنًا أنه لن يحرم رحمته أحد.
وكأن العطار في أقواله المختلفة ينظر إلى فريقين من الناس: العارفين الواصلين إلى الله، والغافلين المنقطعين عنه. وقد ذكر في كلامه عن وادي الفناء في منطق الطير أن الأطهار يفينون في البحر ويتحركون بحركته والآخرين يبقون في صفاتهم منفصلين، فالأولون لا فعل لهم؛ لأنهم فانون في الله، والآخرون تنسب إليه أفعالهم.
وقد بين الهجويري في كتابه «كشف المحجوب» الفرق بين الناس في هذا الشأن؛ إذ قال: «إن الأسرار الإلهية تأتي إلى الدرويش وتذهب، فأعماله مكسوبة بنفسه، وحركاته منسوبة إليه، وأفكاره متعلقة به؛ ولكن إذا خلصت الأفعال من قيد الكسب لم تُنسب حركاته إليه؛ فصار هو الطريق لا السالك، أعني أن الدرويش يصير مكانًا تمر عليه الأشياء لا سالكًا يسير بإرادته، فلا هو يجذب شيئًا إلى نفسه، ولا يدفع شيئًا عن نفسه.»
ويتبين من هذا أن الصوفية يشاركون الأشعرية والمعتزلة حين يكون للعبد كسب لأفعاله أو خلق لها، وهذا في أول مراحل السلوك، ثم يبلغ العبد مرحلة يخلص فيها من الكسب فتكون أفعاله كلها لله.
وقد ذهب بعض الفلاسفة، ومنهم ابن رشد، في هذا مذهبًا وسطًا بين الجبر والاختيار، بيَّنه في كتابه «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة».
ولعل في هذا تفسيرًا لبعض ما يبدو من مخالف في أقوال العطار في مسألة القضاء والقدر، والثواب والعقاب.
ثم الشاعر نفسه صوفي تمر به حالات مختلفة فتختلف عباراته باختلافها، فكأن كلامه صادر عن شخصين، ولعل في هذا تفسيرًا آخر لهذا التناقض.
ويتصل بهذا بحث آخر: هو أثر العمل في بلوغ العامل غايته؛ هل يؤدي العمل إلى المقصود حتمًا؟ ويمكن أن نضع المسألة في ألفاظها المعهودة، وصيغتها المألوفة، فنقول: إنها مسألة «العدل والصلاح والأصلح» التي ثار فيها الجدال حقبًا بين المعتزلة وغيرهم، فالمعتزلة يرون أن عدل الله يقتضي لزامًا أن يثاب العامل بعمله؛ خيرًا، أو شرًّا، وأن هذا العدل يوجب على الله سبحانه أن يفعل ما هو صالح لعباده وما هو أصلح لهم، ويقول الأشاعرة: إن الله لا يجب عليه شيء، لا يجب أن يثيب بالخير خيرًا، وبالشر شرًّا، ولا أن يفعل ما هو أصلح لخلقه، وهي مسائل معروفة مبينة في مواضعها من كتب الكلام والأصول.
والصوفية ينفرون من إيجاب شيء على الله، وقد ندد جلال الدين بالمعتزلة في مواضعَ من كتابة «المثنوي».
فما مكان العطار في هذا المعترك؟ ما رأيه في هذا الجدال؟
ينبغي قبل إجابة السؤال أن نقول: إن كبار الصوفية لا يألون في العبادة والرياضة والمجاهدة، ولا يألون في الإيصاء بها، فالمسألة نظرية محضة لا أثر لها في أعمالهم، فلا يعرف بينهم من ترك العمل؛ احتقارًا له، أو قصَّر في المجاهدة؛ إذ رأى أنها غير مجدية؛ ولكنهم حين يتحدثون عنها يحتقرونها في جنب الله، ويرون أنها لا تفني فتيلًا، وإنما مرجع الأمر كله إلى رحمة الله وفضله.
ولما بلغت الطير غايتها في قصة منطق الطير الآتية قيل لهن: إنه لا وزن لكنَّ ولا لأعمالكن ولم يدخلن إلى السيمرغ إلا بالفضل والرحمة.
(٤) الطريقة
بينت فيما تقدم أن النفس الإنسانية من عالم الروح، وأن نجاتها في الرجوع إلى عالمها، فما الطريق التي تسلكها النفس لتتخلص من هذا السجن المادي وتتهيأ للرجوع إلى منزلها الأول؟
كذلك سمى الصوفية المسلمون الرياضة التي يصفون بها أنفسهم طريقًا وسموا المرتاض سالكًا.
وفي الطريق مراحل وصفها الشيوخ، وعرفها السالكون تسمى المقامات، يمر السالك من مقام إلى آخر، كما يرى شيخه أو مرشده حتى يبلغ غايته، كما يقطع المسافر الحسي، مراحل طريقه إلى مقصده.
والمسافر الحسي تعرض له في طريقه أمور لا سلطان له عليها؛ كوعورة الطريق وسهولته، والحر والبرد، والصحة والمرض، والنشاط والفتور، ويمر بمشاهدة سارة وأخرى هائلة، ويلتبس عليه الطريق أحيانًا ثم تتبين أعلامه، ويتداوله اليأس والرجاء، والأمن والخوف، وغير هذا.
وهذه الأعراض كلها لا تؤثر في المسافرين تأثيرًا واحدًا، بل تختلف آثارها باختلاف النفوس والأجسام، والعدد.
فكذلك السالك الروحي تتعاوره أعراض مختلفة، وأمور متعددة لا يدَ له فيها يسميها أهل السلوك الأحوال. وهي كذلك تختلف على السالكين باختلاف فطرهم، وأخلاقهم، ووسائلهم، وحظوظهم.
وقد بين المؤلفون في التصوف كالقشيري صاحب الرسالة، والسراج صاحب اللمع، والهجويري صاحب كشف المحجوب «وهو باللغة الفارسية» بينوا المقامات والأحوال ورووا ما قاله الصوفية فيها.
والمقام ما يتحقق به بضرب تطلب ومقاساة تكلف، فمقام كل واحد موضع إقامته عند ذلك وما هو مشتغل بالرياضة له، وشرطه ألا ينتقل من مقام إلى مقام آخر ما لم يستوفِ أحكام ذلك المقام إلخ.
والحال عند القوم معنى يرد على القلب من غير تعمد منهم، ولا اجتلاب ولا اكتساب لهم، من طرب أو حزن أو بسط أو قبض أو شوق أو انزعاج أو هيبة أو احتياج؛ فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، والأحوال تأتي من غير الوجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود، وصاحب المقام ممكن في مقامه، وصاحب الحال مترقٍّ عن حاله، إلخ.
ويختلف الصوفية في عدد المقامات والأحوال وترتيبها، وهي أمور نفسية لا يضبطها الحد والترتيب ضبطًا تامًّا، وأذكر هنا للتمثيل المقامات والأحوال كما عدها ورتبها السراج في كتاب «اللمع»:
فأما المقامات فهي التوبة، والورع، والزهد، والفقر، والصبر، والتوكل، والرضا. وأما الأحوال فهي المراقبة، والقرب، والمحبة، والخوف، والرجاء، والشوق، والأنس، والطمأنينة، والمشاهدة، واليقين.
وقد عدَّ العطار في القسم الثاني من منطق الطير — وهو القسم المسمى مقامات الطيور — الأودية السبعة التي قطعتها الطير — وهي رمز لمقامات السالكين — وهي أودية: الطلب، والعشق، والمعرفة، والاستغناء، والتوحيد، والحيرة، والفقر، والفناء.
وقد وصف الشاعر هذه الأودية فملأها هولًا ورعبًا، وغلا في تصوير ما يلقى السالك من العقبات، وجعل هذا الوصف على لسان الهدهد قائد الطير في هذه الرحلة الهائلة، فمن الطير من أحجم عن السفر خوفًا مما سمع، والطير التي سافرت رجع بعضها في الطريق حين بدا لها ما لا يحتمل من أهواله، وهلك بعضها، فلم يبلغ الغايةَ إلا قليلٌ منها.
وقد غلا الشاعر في وصف كل وادٍ وهوله؛ حتى كادت الأودية تتشابه وتخفى معالم كل وادٍ بجانب الأهوال التي تملأ الأودية كلها.
ويظهر من المقارنة بين أسماء هذه الأودية وأسماء المقامات والأحوال المعروفة عند الصوفية أن العطار لم يرد التصنيف المعروف عندهم؛ ولكنه ذكر سبع مراحل للكمال النفساني، منها ما يسميه الصوفية مقامات، ومنها ما يسمونه أحوالًا.
وقبل أن أتكلم في هذه الأودية السبعة، كما وصفها العطار، أذكر آراءه في الطريق كلها على هذا النسق:
غاية الطريق التي يسير إليها الصوفي تكاد تكون غاية لا تدرك.
يا من هو فوق الخيال والقياس والوهم، وفوق كل ما قالوا وسمعنا وقرأنا! انتهى المجلس وبلغ العمر منتهاه ولا نزال كما كنا في أول وصفك.
وفي مختار نامه يعقد الشاعر فصلًا بهذا العنوان: «في اليأس والاعتراف بالعجز».
وسواء أكانت الغاية مما يدرك أو ما لا يدرك فيجب على السالك أن يفكر فيها ويعمل لها دأبًا.
محال أن يواصل الظل الشمس، ولكن ينبغي أن يفكر المرء دوامًا في هذا المحال.
ويذكرني هذا ببيت لمولانا جلال الدين من أبيات ثلاثة جعلها محمد إقبال الهندي على غلاف كتابه: «أسرار خودي» وترجمة هذا البيت:
والسحر الذي ييسر كل عسير، والكيمياء التي تحول كل عنصر هما العشق الذي يخفي كل ذات، ويمحو كل نفس، والسالك يقتحم كل عقبة في طريقه بتجرده من نفسه.
والعاشق يطلبه المعشوق أيضًا، فهو طالب ومطلوب ومحب ومحبوب.
وفي جوهر الذات يقول: إن كل ما قرأ كان حجابًا، وإنما بلغ ما بلغ بالصمت والانقطاع من الدنيا.
والسالك معرَّض لحالات مختلفة — كما قدمنا — ومن هذه الأحوال القبض والبسط، وأخصهما بالذكر هنا؛ لأنهما يفسران ما يبدو أحيانًا من التناقض في كلام العطار وغيره، فالسالك قد يرد على قلبه ما يشعره ببعده من الله أو احتجابه أو تعسر مطلوبه أو غموض الحقائق واختفاء الأسرار، فينقبض فيرى كل شيء بعيدًا أو محجوبًا، وقد يرد على قلبه ما يقابل هذه المعاني فينبسط ويرى كل شيء في طريقه قريبًا ظاهرًا يسيرًا، وبهاتين الحالين يفسر ما في كلام العطار من رجاء ويأس، وعسر في الطريق ويسر.
وفي منطق الطير جعل العطار الطير تكل أمورها إلى الهدهد، وتفوض إليه إرشادها في الطريق، وفي هذا الكتاب قصة عجيبة، قصة الشيخ صنعان، وهو صوفي كبير أغواه عشق فتاة نصرانية فخسر دينه وناله ما ناله من الآلام والأحزان؛ لأن الطريق منبهم مخوف حتى على مثل هذا الشيخ الصوفي.
على السالك أن يطلب المرشد في كل مكان، فسيجده لا محالة؛ لأن العالم لا يخلو من مرشد، «إن المرشد قطب يدور العالم حوله»، بل يظهر المرشد حين يرى سالكًا يطلبه.
وهذه قطعة من مصيبت نامه تصف الطريق وصفًا شاملًا، وتبين بعض مراحله: إذا اتجه الإنسان نحو الحقيقة اضطرب وقلق حتى يجد هاديًا فتقصف له الأسرار الإلهية كالرعد، وتلمع كالبرق، وحينئذ يضحك ويبكي لا من سرور ولا من حزن، تمضي السنون قبل أن تحول قطرة الماء لؤلؤة في قاع البحر (يعني أنه لا بد للسالك من جهاد طويل)، فإذا اهتاج السالك دفعه المرشد في الطريق، الطريق الطويل الشاق الذي لا يعرف سالكه النوم، وتملؤه المخاطر وقطَّاع الطرق، يسير السالك متحرِّقًا مفكرًا حتى يحار، إن حاول الرجوع قيل له: تقدم. وإن تقدم قيل له: ارجع. فيذهب عمله سدى؛ ولكن يتقبل آلامه وأحزانه راضيًا في هذه الحيرة، وربما يؤمر بالبكاء إن ضحك، وبالضحك إن بكى، وبأن ينام وألا ينام، وبأن يعمل حين يصغي وبأن يصغي حين يعمل، وهكذا يتقدم السالك غير آل جهدًا، ولا يستطيع تحولًا حتى يبدوَ له عالم من الحزن، ويرى آلافًا من العوالم المائجة، وهناك النواح والتسليم لا الجهاد.
ثم يجعل العطار السالك يحدث كل مخلوق من الملائكة والأنبياء إلى الحيوان الأعجم إلى الجماد؛ ليبين أن العالم كله يطلب الله، وأنه ليس في الوجود إلا هو، وهذا آخر المنازل؛ حيث يدرك السالك التوحيد محيطًا بكل شيء.»
في هذا الوصف العام، الذي لم يرتبه العطار على المقامات والأحوال، يتبين الناظر مراحل مختلفة للسالكين هي التي بينها العطار في كتاب «منطق الطير»، قسمه الثاني المسمى مقامات الطيور، وسيأتي وصفها.
بعد أن يتزود السالك بالخلال التي بينها الهدهد، في القسم الأول من منطق الطير، يبدأ رحلته فيقطع الأودية السبعة التي وصفها في القسم الثاني من الكتاب الذي سماه مقامات الطيور، وهي أودية: الطلب، والعشق، والمعرفة، والاستغناء، والتوحيد، والحيرة، والفقر والفناء.
وهي أودية متشابهة بما ملأتها حماسة العطار وغلوه بالهول والحيرة؛ ولكن لكل وادٍ، بجانب الأوصاف العامة، خصائص تميزه من غيره.
- الأول، وادي الطلب: يعاني السالك في هذا الوادي ما لا يعد من المتاعب والمشاق زمنًا طويلًا، وهو فيه يتجرد من كل متاع دنيوي كالثروة والجاه، ويطهر قلبه من كل رغبة في هذا المتاع، فإذا طهر القلب تلقى شعاعًا من النور الإلهي، فيتضاعف طلبه ألف مرة ويمضي قدمًا لا يبالي ما يصيبه.
- والثاني، وادي العشق: والعشق هو تحرق الروح لمواصلة أصلها: «الروح في عشقها كالسمكة ألقيت في البيداء تضطرب لتعود إلى الماء، وبهذه الحرقة يتقدم الإنسان إلى مقصده غير مبالٍ بشيء، والعقل دخان مع هذه النار لا غناء فيه؛ بل لا كون له، وكل اعتقاد أو عمل لا وزن له هنا.»
- والثالث، وادي المعرفة: وفي هذا الوادي تسطع الشمس فيرى كلٌّ على قدر بصره، وتلوح مئات آلاف
الأسرار من وراء حجاب، ولكن آلافًا من الناس يهلكون قبل أن يكمل واحد
في معرفة هذه الأسرار.
والمعرفة هناك مختلفة: من الناس من يجد المحراب، ومنهم من يجد الصم، وهناك ترق مستمر وشوق متجدد إلى المعرفة كل لمحة، وكل الأسرار المتجلية تدل على شيء واحد: «كل ما يُرى هناك وجه الله.»
ونرى العطار في جعله وادي المعرفة بعد وادي العشق، مسايرًا لما قال من قبل حين قال: إن العشق وسيلة المعرفة.٥٨ - والرابع، وادي الاستغناء: وهناك يتحقق السالك من عظمة الله التي لا تحد، وجلاله الذي يحيط بكل
شيء، والعالم لا شيء بالقياس إلى هذه العظمة، هناك سبعة الأبحر حوض،
وسبعة الكواكب شرارة، وسبعة الجنات جيفة، والنيران السبع كالثلج، وإن
تساقطت الأفلاك والكواكب قطعًا، فما هي إلا كورقة تسقط من شجرة؛ ولكن
عجيبًا أي عجيب، أن نملة هناك في قوة ألف فيل، وغرابًا يستطيع أن يأكل
مائة قافلة.
ومعنى هذا فيما أظن أن الأشياء هناك غير محدودة بحدودنا، فأعظم الأشياء صغير بجانب هذا الجلال، والأشياء الصغيرة لها حقائق كبيرة تدَرك في هذا الوادي وادي المعرفة، وقد قدمنا قوله إن الذرة تشتمل على الشمس، والقطرة كالبحر، فالحقائق الصغيرة إذا أُدركت من حيث اتصالها بالحقيقة الكبرى تجاوزت حدودها المعروفة، وبدت حقائق عظيمة هائلة.
- والخامس، وادي التوحيد: هناك كل عدد يصير واحدًا في واحد، فتتم الوحدة، ولكن هذا الواحد ليس
مثل الواحد في العدد، بل هو وراء العد والحد.
وهناك لا يدرك الأزل ولا الأبد، وإذا زال طرفا الدوام لا يوجد فيه شيء، فالأشياء لم تكن ولن تكون؛ فهي غير كائنة.
وكلام العطار في هذا المقام مبهم، وأحسبه يعني أن وحدة الله تتجلى، وإحاطته تظهر، فإذا هو غير محدود بابتداء ولا انتهاء ولا مكان ولا زمان، وإذا الأشياء غير كائنة، كما قال من قبل: إن الذي لا يحد يشمل كل شيء. فهذه الأكوان الصغيرة التي يعينها الزمان والمكان تفنى أو يتبين أنها عدم حين تزول حدود الزمان والمكان.
- والسادس، وادي الحيرة: وكأن الحيرة ناشئة من إدراك التوحيد في المقام السابق:
وفي هذا المقام يتنازع السالك أحوال مختلفة، فلا يدري ما يصنع؛ لا يستطيع أن يهب قلبه لهذا الجلال الذي لا قِبل له به، ولا أنه يمسكه عنه، بل يذهل عن نفسه،٥٩ ولا يستطيع أن يقفو المرشد ولا أن يسير وحده، يضيق بالناس وبنفسه ولا يسعه شيء، لا هو مسلم ولا هو كافر، فإن دين الحيرة لا حدود له، ليس له مبدأ ولا منتهى، ولا يعرف الحب ولا البغض، وليس له روح ولا جسم، ولا هو خير ولا شرير، ولا تقي ولا فاسق، ولا معتقد ولا شاكِ، ولا عظيم ولا حقير، لا هو شيء ولا هو لا شيء، ولا جزء ولا كل، إلخ.٦٠
ويقول العطار أيضًا في منطق الطير يصف الصوفي الذي بلغ وادي الحيرة:
من أدرك التوحيد فَقَدَ العالم وفَقَدَ نفسه، فإن يسأل: أكائن أنت أم لا؟ أأنت هنا أم لست هنا؟ أظاهر أم باطن؟ أفان أم باقٍ، أم فان وباقٍ، أم لا فان ولا باقٍ؟ فجوابه: لا أدري شيئًا، بل لا أدري أني لا أدري، عاشق أنا ولكن لا أعرف من أعشق؛ لست مسلمًا ولا كافرًا؛ فماذا أنا؟ لا علم لي بعشقي فقلبي مملوء بالعشق وخلي.
ويضرب العطار مثلًا: أميرة جميلة عشقت غلامًا صبيحًا واستكبرت أن تعرب عن حبها للغلام، فكاد جواريها للغلام فسقوه حتى سكر، وأتوا به إليها، ففتح الغلام عينيه على فتاة جميلة في مكان فاتن يتضوع عطرًا والجواري يوقعن ألحانًا ساحرة، فعشق الغلام الفتاة الجميلة، ولما غلبه النوم حُمل إلى مكانه.
فلما أفاق تذكر ما رأى، ولكن لم يعلم كيف كان هذا ومتى وأين؟ قيل له: هذا حلم، ولكنه في غمه وحيرته لم يقطع أكان هذا في حلم أم يقظة؟ وهل سكر أم لم يسكر؟ لم يملك إلا الصمت والتحير.
ويتحدث العطار في مختار نامه عن لذة هذه الحيرة ويتمنى زيادتها ودوامها.٦١ - والوادي السابع، وهو الآخِر، وادي الفقر والفناء: وهو وادٍ لا يمكن وصفه، هو الذهول، والخرس، والصمم، هنالك يموج البحر
المحيط فأنى تبقى الصور على البحر، والعالمان نقوش ذلك البحر؟ ومن فقد
نفسه في هذا البحر فقدها أبدًا في فناء وسلام.
ويقول العطار في هذا المقام: «إذا غاص الدنس في البحر الكلي يبقى في صفات نفسه، وإذا غاص فيه الطاهر يفنى فيه، فحركته حركة البحر.»
وظاهر أنه لا يبلغ مقام الفناء هذا إلا من طهر واجتاز المقامات الأخرى، فكلامه عن الطاهر والدنس هنا لا يفهم إلا أن يكون قولًا عامًّا غير مخصوص بهذا المقام.
ويضرب العطار مثلًا لفناء الشخص في الله: طائفة من الفَراش اجتمعت في طلب الشمعة، فأرسلت واحدة منها لتتحراها وتعرفها وتخبرها بمكانها، فطارت حتى رأت قصرًا فيه شمع مضيء، فرجعت إلى صاحباتها تصف لهن الشمعة، قال كبير من الفَراش: لم تعرفي من الشمعة شيئًا. فانطلقت أخرى حتى بلغت موضع الشمعة واقتربت من نارها حتى لم تطق مس النار فرجعت تخبر صاحباتها عن الشمعة، وتنبئ ببعض أسرارها، قال الكبير: يا صاحبتي ليس هذا وصفًا للشمعة. فانطلقت ثالثة في فرح وسكر حتى ألقت نفسها في اللهب، فاشتعلت وأضاءت كاللهب، فلما عادت إلى أصحابها رآها الكبير فقال: قد عرفت هذه الشمعة، إنما يدرك الحبيب بالفناء فيه.
•••
وإذا قطع السالك هذه الأودية السبعة بلغ الغاية وهي الفناء في الله، وهنا يحسن إجمال قصة الطير كما قصها العطار في كتابه منطق الطير؛ لنعرف هذه الغاية التي بيَّنها الشاعر في نهاية القصة، ولنستخلص آراءه في الطريق كلها.
وخلاصة القصة: أن الطير اجتمعت فتشاكت ما هي فيه من التفرق والفوضى، وأنها ليس لها رئيس يجمع كلمتها على حين لا تخلو أمة من ملك.
وأول العهد به أنه كان طائرًا في ظلمات الليل في سماء الصين، فسقطت من جناحه ريشة فقامت قيامة الأمم؛ تعجُّبًا من ألوانها العجيبة، ألم تسمعوا الأثر: اطلبوا العلم ولو في الصين؟ ولولا أن ظهرت هذه الريشة في هذا العالم ما ظهر طائر منكن.
(فلما سمعت الطير مقال الهدهد هاجها الشوق إلى السيمرغ وأزمعت الرحيل إليه، ثم ذكرت ما في الطريق من أهوال فأخذ كثير منها يعتذر).
وأما صلة الطير بالسيمرغ فقد تجلى كالشمس من وراء الحجب فوقعت على الأرض آلاف الظلال؛ فأنتنَّ هذه الظلال أيتها الطير.
إن العشق إذا صدق استسهل العاشق كل صعب في سبيله، واقتحم كل عقبة إلى حبيبه (وهنا يستطرد الشاعر إلى قصة الشيخ صنعان الذي أخرجه العشق من دينه، ونصحه تلاميذه فلم يُجْدِ النصحُ، حتى أدركه لطف الله، وهي قصة عجيبة في مائتي بيت).
هاجت الطير شوقًا إلى السيمرغ، وأجمعت على المسير إليه، على أن يقرع بينها؛ ليتولى أحدها الإمارة في الطريق، فأصابت القرعة الهدهد، فوضع التاج على رأسه وتقدم، واجتمعت إليه أسراب الطير فأوفى بها على طريق موحشة.
(وسارت الطير فرأت طريقًا ولا غاية، وألمًا ولا دواء، هنالك تهب ريح الاستغناء فينحني لها ظهر السماء، هنالك صحراء لا يعبأ فيها بطاووس الفلك؛ فكيف بطير هذه الدنيا؟)
(فصعد الهدهد المنبر وغرد بعض الطير تغريدًا أذهل الطيور، ثم تواترت الأسئلة).
(ثم سئل الهدهد عشرين سؤالًا أجاب عنها مسهبًا مفصلًا ضاربًا الأمثال، وكان السؤال التاسع عشر، والعشرون كما يأتي):
ويصف الهدهد هذه الأودية وصفًا هائلًا مسهبًا حتى يبلغ الوادي السابع، فيقول: إنه وادي الدهشة، والصمم، والبكم، والذهول، هناك آلاف من الظلال متمحي في ضوء الشمس، إذا ماج البحر المحيط، فكيف يبقى النقش على صفحة الماء؛ ولكن كل من فَقد نفسه في هذا البحر فهو في فناء وسلام أبدًا.
ولما فرغ الهدهد من مقاله جزعت الطير وعرفت أنها لا طاقة لها بهذا السفر، ومات بعضها في مكانه فَرَقًا، ثم سارت الأسراب، فلقيت ما لا يوصف من الهول، وهلك أكثرها في الطريق؛ فمنها غارق في البحر، ومنها ضال في الفيافي، ومنها هالك عطشًا على قنن الجبال، ومنها محترق في وهج الشمس، وبعضها ساقط إعياءً، وبعضها شغلته عجائب الطريق فوقف، وبعضها وجد ما يلهو به فركن إلى الدعة وآثر العافية، وبعضها أصابته مصائب أخرى.
لم يبلغ الغاية من هذه الآلاف المؤلفة، إلا ثلاثون طائرًا (سي مرغ). بلغت الغاية وقد أشفت على الهلاك ألمًا وإعياءً؛ فماذا وجدن هناك؟ وجدن ما لا يدركه العقل، ولا يناله الوصف؛ رأين برق الاستغناء يومض فيحرق مئات العوالم في لمحة، رأين آلاف الشموس والكواكب حائرة كالذرات، قال بعض الطير لبعض: وا أسفا على ما تحملنا من مشاق السفر، إن مائة فلك هنا كذرة من التراب، فلمَ وجودنا وما عدمنا في هذه الحضرة؟
وبقين في حسرة وحزن حتى خرج حاجب العزة:
فخرج حاجب الرحمة، وفتح لهن الباب، وتقدمهن يرفع مئات من الحجب كل لمحة، فانبعث النور في الأرجاء، وبدا عالم التجلي، وأجلست الطير على أرائك القرب، ثم أعطي كل طائر ورقة، فقرأ فيها ما قدم من عمل، فغشي عليه خجلًا، ثم محيت الأعمال وأنسيت؛ فلم تذكر الطير شيئًا.
ثم أضاءت شمس القرب محرقة كل روح فرأين السيمرغ حينئذ، وما أعجب ما رأين! كن إذا نظرن إلى السيمرغ، رأين سي مرغ (ثلاثين طائرًا) وإذا نظرن إلى سي مرغ (الثلاثين طائرًا) رأين السيمرغ، وإذا نظرن إلى أنفسهن والسيمرغ معًا؛ رأين السيمرغ وحده، فأخذتهن الحيرة، وسألن فقيل لهن: إن هذه الحضرة مرآة، فمن جاءها لا يرى إلا نفسه، جئتن سي مرغ (ثلاثين طائرًا) فرأيتن السيمرغ، كيف تدركنا الأبصار، كيف تنال الثريا عين النملة؟ ليس الأمر كما رأيتن وعلمتن، ولا كما قلتن أو سمعتن؛ ولكن قد خرجتن من أنفسكن فها هنا مكانكن. فامَّحين وضاع الظل في الشمس.
فلما مضى مئات آلاف من القرون — القرون التي لا زمان لها — أرجعت الطير الفانية إلى أنفسها، فلما رجعت إلى أنفسها بغير أنفسها، رجعت إلى البقاء بعد الفناء أهم. هذا الفناء عند الصوفية هو خلاص الإنسان من نزعاته وأهوائه وإرادته الخاصة فيكون كل فكره وعمله لله وبالله؛ ليكون كما قال العطار قطرة في البحر تتحرك بحركته، وبهذا ينبغي أن يفسر ما يقول الصوفية في الفناء؛ إنه ليس بموت؛ لأن الذي يسمونه فانيًا يعيش على هذه الأرض، وليس هو حلول الله في الإنسان كما في بعض النحل.
قال أبو سعيد بن أبي الخير هو «فناء شعور الإنسان بنفسه» يعني إغفاله نفسه ونزعاته فيما يعمل ويذر.
وقال السراج: أما القوم الذين غلطوا في فناء البشرية فقد سمعوا كلام المحققين في الفناء فظنوا أنه فناء البشرية فوقعوا في الوسوسة؛ فمنهم من ترك الطعام والشراب وتوهم أن البشرية هي في القالب، والجثة إذا ضعفت زالت بشريتها فيجوز أن يكون موصوفًا بصفات الإلهية … والبشرية لا تزول عن البشر، وأخلاق البشرية تبدَّل وتغير بما يرد عليها من سلطان أنوار الحقائق، وصفات البشرية ليست هي عين البشرية.
وقال في موضع آخر: وقد غلطت جماعة من البغداديين في قولهم: «إنهم عند فنائهم عن أوصافهم دخلوا في أوصاف الحق، وقد أضافوا أنفسهم بجهلهم إلى معنى يؤديهم ذلك إلى الحلول، أو إلى مقالة النصارى في المسيح عليه السلام.»
وقد زعم أنه سمع عن بعض المتقدمين أو وجد في كلامه أنه قال في معنى الفناء عن الأوصاف والدخول في أوصاف الحق، فالمعنى الصحيح من ذلك أن الإرادة للعبد وهي من عند الله عطية، ومعنى خروج العبد من أوصافه والدخول في أوصاف الحق خروجه من إرادته ودخوله في إرادة الحق.
وبمعنى أن يعلم أن الإرادات هي عطية من الله — تعالى — وبمشيئته شاء، وبفضله جعل له ما بعطيته ذلك قطعه عن رؤية نفسه حتى ينقطع بكليته إلى الله — تعالى — وذلك منزل من منازل أهل التوحيد.
وهذا قول الهجويري والسراج وينبغي أن نذكر هنا أن الصوفية المؤلفين في التصوف يحاولون تصحيح ما يسمعون عن أهل طريقتهم وتقريبه إلى الفهم؛ ولكن الصوفية الذين يعربون عن شعورهم وإدراكهم لا يقفون في تعبيرهم عند حد، فيأتي كلامهم في الفناء وغيره مخالفًا — ولو في الظاهر — لما يقوله هؤلاء المؤلفون، فالعطار، مثلًا، حين يتكلم عن الاتحاد أو الفناء يتكلم بغير لغة القشيري والهجويري والسراج، ولولا كلمات واضحة صاحية في كتبه ما ساغ أن نفسر كلامه بما قال هؤلاء العلماء.
•••
ثم وراء هذا الفناء حال يسميه الصوفية البقاء بعد الفناء، ومعنى هذا أن الصوفي بعد أن يتجرد من صفاته الخاصة ويفنى في الصفات الإلهية يبقى بهذه الصفات.
قلت: هأنذا قد فنيت. قال: كذلك منحتك البقاء؛ حين ترى نفسك عندما أهبك وجودًا لا يتصور.
أفنيت نفسي منذ زمن بعيد، فإن أحيَ من بعدُ فذلك وجود آخر.
(٥) تصوف العطار والإسلام
قلت قبلًا: إن التصوف نشَّأه الإسلام وأمدَّه، ثم تطور تطوره الذي وصفت.
وأقول الآن: إن الصوفية حينما استوى مذهبهم رجعوا إلى الإسلام يفتشون عما يواتي طريقتهم من الآيات، ويستخرجون ما يلائم تفكرهم من الدقائق، ويؤولون آياتٍ تأويلًا يحيلها عن معانيها الظاهرة إلى معانٍ باطنة.
وقبل أن نبين موجزين طريقتهم في التأويل والاستنباط نقدم هذه الكلمة في التأويل عامة:
وكذلك فعلت فرق من المسلمين: فعله الفلاسفة والشيعة والصوفية، وحسبنا من الفلاسفة ابن رشد في كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، وفي هذا الكتاب يرى ابن رشد أن القرآن يخاطبُ طبقاتٍ مختلفةً من الناس؛ منهم من لا يفهم إلا الظواهر والأمور الخطابية، ومنهم الخاصة الذين يفهمون الحقائق والأمور البرهانية، فوجب أن يلتمس معانٍ باطنة وراء المعاني الظاهرة في بعض الآيات! وقد احتج لرأيه بالآية الكريمة: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الآية.
ويحتج بحديث يروى: «حدِّثوا الناسَ بما يفهمون، أتريدون أن يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُه؟»
انتهى ابن رشد إلى أن كل ظاهر في الآيات والأحاديث يعارض حكم العقل القاطع ينبغي أن يؤول حتى يتفق النقل والعقل؛ لأن كليهما حق، والحق واحد.
أما الشيعة فقد توسع بعضهم في هذا توسعًا ولا سيما الباطنية؛ جعلوا لكل آية ظاهرًا وباطنًا، وأتوا ببواطن، زعموها، لا علاقة بينها وبين الظواهر فيما ألف الناس في اللغات، ولا يتصل بقصدنا هنا أن نشرح طريقتهم في التأويل.
وأما الصوفية فقد ذهبوا في ميلهم المعروف إلى تجاوز الصور إلى الحقائق، والنفور من الظواهر والأشكال، ذهبوا إلى تأويل يرد الأمور المحسوسة إلى المعنوية، أو أخذوا منها إشارات إلى أمور روحية، وتوسعوا في تفسير الآيات والأحاديث التي تتصل بالمسائل الصوفية؛ كقوله تعالى: وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا.
وشاعت بينهم أقوال سموها أحاديثَ دون اهتمام بالإسناد والنقد فرووا: «لولاك ما خلقت الأفلاك»، «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان»، «كنت كنزًا مخفيًّا فأردت أن أُعْرَفَ فخلقت الخلق فبي عرفوني.»
وقد بلغ بهم التدقيق في المعاني القرآنية والاستنباط منها أن اجتمع لهم جملة كبيرة من التفسير على هذا الوجه كما في تفسير سهل بن عبد الله التستري، بل كان من تدقيقهم وتلمسهم الإشارات والمناسبات بين المعاني الظاهرة في الآيات وغيرها أن فهموا من الحروف المفردة دلالاتٍ، فكان فهمهم الآيات شبيهًا بالتفكير في موضوعها، والمفكر يخرج من موضوع إلى آخر يناسبه فيتسلسل الفكر إلى غير حد.
المستنبطات ما استنبط أهل الفهم من المتحققين بالموافقة لكتاب الله — عز وجل — ظاهرًا وباطنًا، والمتابعة لرسول الله ﷺ ظاهرًا وباطنًا، والعمل بها بظواهرهم وبواطنهم.
فلما عملوا بما علموا من ذلك ورثهم الله — تعالى — علم ما لم يعلموا، وهو علم الإشارة وعلم مواريث الأعمال التي يكشف الله — تعالى — لقلوب أصفيائه، من المعاني المذخورة واللطائف والأسرار المخزونة وغرائب العلوم وطرائف الحكم في معاني القرآن ومعاني أخبار رسول الله … إلخ.
وأحسن من ذلك مستنبطات أهل العلم والتحقيق والإخلاص في العمل من المجاهدات والرياضات والمعاملات.
وقال في باب كيفية الاختلاف في مستنبطات أهل الحقيقة: «إن اختلاف أهل الظاهر في الاستنباط يؤدي إلى الغلط، والاختلاف في علم الباطن لا يؤدي إلى ذلك؛ لأنها فضائلُ ومحاسنُ ومكارمُ، وأحوالٌ وأخلاقٌ ومقاماتٌ ودرجاتٌ.»
ومعنى هذا أن اختلاف الفقهاء — مثلًا — يؤدي إلى إصابة واحد وخطأ الآخر؛ لأنهم يبحثون عن أحكام ثابتة لأعمال معينة، وأما استنباط الصوفية فهو أن يفهم أحدهم من أية إشارة إلى فضيلة أو خلق، ويفهم غيره إشارة أخرى إلى فضيلة أو خلق، وليس بين الإشارتين تعارضٌ؛ لأن كل ما فهمه المختلفون من هذه الإشارات مطلوب محبوب.
وذكر السراج في باب آخر أمثلة من خطأ المستنبطين وصوابهم، فذكر ممن أصابوا أبا بكر الشبلي: سئل عن قوله تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ فقال: «أبصار الرءوس عن محارم الله — تعالى — وأبصار القلوب عما سوى الله تعالى.»
فأنت ترى أنه ذكر المعنى المقصود من الآية، وتجاوزه إلى المعنى الثاني؛ وهو في نفسه حسن، ولكن لا تتضمنه الآية بالحقيقة أو المجاز، بل تدقيق الصوفية، والتماسهم كل مناسبة؛ لبيان مقاصدهم، أخرج من الآية هذا المعنى.
وفسر شاه الكرماني الآية: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، فقال: «الذي خلقني فهو يهديني إليه لا إلى غيره، وهو الذي يطعمني الرضا ويسقيني المحبة، وإذا مرضت بمشاهدة نفسي فهو يشفيني بمشاهدته» إلخ.
فهو — كما ترى — أغفل المعنى الظاهر، وفسر الآية بالمعاني الغالبة على نفسه، المسيطرة على فؤاده.
قال السراج بعد ذكر أمثلة من هذا القبيل: فهذا من طريق الفهم، وأما طريق الإشارة … إلخ، وذكر أمثلة؛ منها: ما روي عن ابن عطاء الله أنه كان يقول: المحب يسقط عنه التعذيب ووجود الألم بصفات البشرية. ويستدل بالآية: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم الآية.
وفي تفسير القرآن لسهل بن عبد الله التستري المتوفى سنة ٢٨٣ﻫ، أمثلة كثيرة من تفسير الصوفية.
قال في تفسير الآية: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ، عجل كل إنسان ما أقبل عليه فأعرض به عن الله من أهل وولد، ولا يتخلص من ذلك إلا بعد إفناء جميع حظوظه من أسبابه؛ كما لم يتخلص عبدة العجل من عبادته إلا بعد قتل النفوس.
وقال في تفسير الآية في قصة إبراهيم: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.
«إبراهيم — عليه السلام — لمَّا أحب ولده بطبع البشرية تداركه من الله فضله وعصمته حتى أمره بذبحه؛ إذ لم يكن المراد منه تحصيل الذبح، وإنما كان المقصود تخليص السر من حب غيره بأبلغ الأسباب، فلما خلص السر له ورجع عن عادة الطبع فداه بذبح عظيم.»
وإلى جانب هذا الاستنباط الذي يختص به الصوفية، يرون اتصالهم بالله تعالى وتوجههم إليه مصدر إلهام، ويغلو بعضهم فيجعله وحيًا كما روي عن أبي سعيد بن أبي الخير أنه كان يعظ في نيسابور فخطر لأحد المتكلمين — وكان حاضرًا — أن قول أبي سعيد لا أصل له في سبعة أسباع القرآن — أي القرآن كله — فالتفت إليه أبو سعيد وقال: أيها العالم لم يخفَ عليَّ خاطرُك، إن الذي أقول في السبع الثامن من القرآن. فسأل العالم: ما معنى هذا؟ فأجاب أبو سعيد: سبعة الأسباع هي يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ، والسبع الثامن هو: فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ.
وأعجب من هذا ما رواه القشيري في رسالته من أن جماعة كانوا يتذاكرون الحديث وبجانبهم شاب لا يشاركهم، فسُئل في هذا فقال: أنتم تحدثون عن غائب، وأنا في حديث مع الله متصل.
ومن قول الصوفية في الظاهر والباطن نشأت مسألة الشريعة والحقيقة؛ فالشريعة قانون يقضي بظواهر الأشياء، والحقيقة ما عليه الأشياء في الواقع.
ويضرب الصوفية لهما مثلًا: قصة موسى والخضر التي في سورة الكهف؛ فقد لام موسى صاحبه (الخضر) على خرق السفينة، وعلى قتل الغلام، وعلى ترميم جدار في قرية أبت أن تُضَيِّفُهُما، وفسر الخضر عمله بما جاء في هذه الآيات: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا.
ذلك ملك الصوفية عامة، وأما العطار فهو في عامة قوله صوفي سني متشدد يلح في تبيين الاتفاق بين الشريعة والتصوف، ويوصي باتباع الشرع في كل شيء، ويتكلم كثيرًا عن الاتصال بين الشريعة والحقيقة، ويرى كما يرى غيره من الصوفية، أن الرسول ﷺ المثَل العلي لصاحب الشرع وللصوفي معًا.
- (أ)
العطار لا يتردد في تأويل كل قول للصوفية مخالف في ظاهره للإسلام، وتحمسه للدفاع عن الحلاج دليل كافٍ لإثبات هذه الدعوى.
- (ب) وهو يوصي باتباع الشرع في كل صغيرة وكبيرة، ويرى أن الصوفي لا يُعفى من التكاليف إلا إذا غلب على عقله، وهو يروي في وادي التوحيد من منطق الطير أن لقمان السرخسي لما بلغه الكِبَرُ ناجى ربه قائلًا:
«رب إن السيد يعتق عبده إذا كبر، وقد كبرت في طاعتك»، فسمع لقمان مناديًا أن من يريد العتق يمحي عقله وتكليفه معًا؛ فاترك هذين وأقبل. قال: إلهي إنما أطلبك أنت؛ لا حاجة بي إلى العقل والتكليف. ويخرج لقمان من العقل والتكليف ويمضي في جنونه، ويقول: الآن لا أدري من أنا … إلخ.
- (جـ)
ويرى قارئ كتب العطار أنه يعتقد كل عقائد الإسلام، ولكن يؤولها تأويلًا روحيًّا أحيانًا، يقول: إن الجنة والنار في خلقة الإنسان، وإن الجنة هنا ولا يدري أحد، ومن درى فقد ذهل، وإن الثواب والعقاب في الآخرة هما في القرب من الحبيب والبُعد عنه، وإن اللوح المحفوظ هو القلب.
وليس في كلامه إنكار هذه الأشياء صراحة.
- (د) ويردد العطار أحيانًا ما عُرف عن كبار الصوفية من عد المذاهب والأديان كلها مظاهر مختلفة لحقيقة واحدة هي تحرق النفس الإنسانية لمعرفة خالقها والاتصال به، يقول:
لا تنظر إلى غير الله، الكعبة والدير عندي سواء.
وهذا شائع جدًّا في الشعر الصوفي؛ كما قال ابن الفارض:
وألسنة الأكوان إن كنت واعيًاشهود بتوحيدي بحال فصيحةوإن عبدوا غيري وإن كان قصدهمسواي وإن لم يظهروا قصد نيتي
وقال شاعر فارسي:
وقال شاعر آخر:
رحمة الله تنال أهل الأديان كلها. ويقول: إن هذا مُسْتَمَدٌّ من القرآن.
والحق أن في القرآن آياتٍ في هذا المعنى؛ كقوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ