شكوى القبور
مر مَلَاك في المقبرة الساكنة، وكان حزينًا حزنَ مَن يرى الموت قريبًا، وكان على الأرض ليلٌ وربيعٌ، وأريجُ أشجار الأزدرخت يتدفق منتشرًا فوق المقبرة.
فبكت القبور، وتألمت نفس المسجونين فيها؛ لأنها لم تكن مستريحة، بل كانت تحلم في نومها بآمال بعيدة.
فقال المَلَاك: ناموا، فإن القبور أولى لكم، ففيها سكون وراحة، لماذا تشكون؟ ألعل حياتكم كانت بلا مصائب ومتاعب؟ ألم تمر كلها كالخيال؟ هو ذا كثير من الأحياء يتنهدون ويقولون: آه ما أحلى الموت! فناموا ولا تذكروا الماضي، ولا تَأْسَفوا عليه.
فأجابت الأصوات من القبور باكيةً: على الأرض ربيع فلا نقدر أن ننام.
وقال واحد منها للملاك: لقد وصل إليَّ أرج الأزهار مخترقًا الثَّرَى، وأيقظني وأذكرني تلك التي كنت أحبها، فاسمح لي أن أنهض وأفتش عنها تحت ظل شجرة الياسمين التي كنا نجلس تحتها سعيدَيْن، لعلي أرى شفتَيْها وعينَيْها التي كنت أقبلها سابقًا.
قد كنت أظن أني سألتقي بها بعد الموت، ولكن قد خاب ظني، وها أنا وحيد كما تراني في قبري، ولا أستطيع المكوث في هذه الوحدة، فاسمح لي بالقيام.
ثم وطأ القبر بقدمه، فخرج منه صوت شبيه بالأنين وصمت.
فبكى قبر ثالث وقال: إن القبر منير، فلا أستطيع النوم بسببه؛ لأني كنت عندما أرى النور في حياتي أندفع بكليتي إليه لجماله، وقد سمَّى الناس هذا النور بأسماء عديدة، غير أني كنت أحبه في كل هيئاته ومظاهره غير مكترث بأسمائه.
فصمت الملاك، ولم يُجِب ببنت شَفَة.
فقال الصوت: أَجِبْني أيها الملاك، لعل النور قد انطفأ من على وجه الأرض، أَجِبْني لعلي أنام.
فلم يُجِب الملاك ولم يطأ الضريح بقدمه، ولم يُعَزِّ الباكي في قبره، بل وقف حائرًا وأطرق حزينًا؛ لأن كلمات الملحود الباكي وقع لها صدًى في قلبه، فشعر كشعوره، ولكنه لم يكن قادرًا على إنهاضه من القبر.