العالم الكامل
يا إله النفوس الضائعة، أيها الضائع بين الآلهة، استمعني! أيها القدير الرحيم الساهر
على
نفوسنا التائهة المجنونة، أَصْغِ إليَّ! فإني وأنا ناقص أعيش بين الكاملين من البشر.
أنا،
أنا البشرية المشوشة السديم، المضطرب العناصر، أتخطَّر بين عوالم تامة من شعوب قد كملت
شرائعهم، وتنزهت نظمهم، وتنسقت أفكارهم
١ وترتبت أحلامهم، وتسجلت رؤاهم، في الأسفار
٢ والدواوين.
رباه! إن هؤلاء الناس يقيسون فضائلهم بالمقاييس، ويزنون خطاياهم بالموازين، ولديهم
سجلات
وفهارس لما لا يحصى من التوافه والنقائص التي ليست بالخطايا فتعرف، ولا بالفضائل
فتنصف.
ويقسمون أيامهم ولياليهم إلى أقسام مقننة مرتبة، فيفعلون كل شيء في حينه على وفق ما
يخطر
لهم، فالأكل والشرب والنوم وكساء العرية، ثم السآمة والضجر، في حينه.
والعمل واللعب والغناء والرقص، ثم الاستراحة عندما تحين ساعتها.
الافتكار بهذا، والشعور بذاك، ثم العدول عن الافتكار والشعور عندما يشرق نجم الأمل
السعيد
فوق الأفق البعيد.
سَلْبُ الجار بثغر باسم، ومَنْحُ العطايا بيد تتوقع الثناء والشكر، ثم المديح بفطنة،
والملامة بتروٍّ، وقتل النفس بكلمة، وإحراق الجسد بقبلة، وغسل اليدين عند المساء كأن
لم يكن
هنالك من شيء.
المحبة بتقليد مطروق،
٣ والتسلية على منوال مسبوق، وعبادة الآلهة كما يحق ويليق، والاحتيال على
الشياطين والمكر بالزنديق، ثم نسيان كل ما جرى وصار كأن الذاكرة حلم من أحلام الأغرار،
٤ التصور لغاية، التأمل بعناية، والمسرة بدراية، والتألم بوقاية، ثم إفراغ كأس
الآمال رجاء أن تملأها الأيام من المآل.
٥
رباه، رباه! إن جميع هذه تسبق الفكر، فيحبل بها، والعزيمة فتلدها، والدقة فتربيها،
والنظام فيسودها، والعقل فيديرها؛ ثم تنحر وتلحد في زوايا سكينة النفوس، فتبقى قبورها
الموسومة
٦ بالعلامات والأرقام عظة لنا ولجميع الأنام.
أجل، هذا هو العالم الكامل الذي بلغ أوجه، عالم الغرائب والمعجزات، بل هو أنضج ثمرة
في
جنان الله وأسمى عالم بين عوالمه، ولكن لِمَ أنا ها هنا يا رب! لِمَ أنا ها هنا، وأنا
ثمرة عجراء
٧ لم تنل بعد شهوتها من النماء، وعاصفة صماء هوجاء لا شرقًا تبتغي ولا غربًا،
وذرة هائمة تائهة من كوكب محترق ثائر؟
لم أنا ها هنا؟ لم أنا ها هنا، يا إله النفوس الضائعة، أيها الضائع بين الآلهة؟