في الجزيرة القديمة قبل الإسلام
(١) الجزيرة القديمة
المراد بالجزيرة عند العرب: الأرض التي تحيط بها المياه من كل جانب أو تكاد، فهي تنطبق على ما يُسمَّى بالجزيرة حقيقة، وعلى ما يُسمى بشبه الجزيرة أيضًا. ولم ينظر العرب إلى نوعية هذا الماء المحدق بتلك الأرض، فسواء كان عندهم ذلك الماء ماء بحرٍ أو ماء نهرٍ؛ ولهذا قد أطلقوا منذ القديم اسم الجزيرة على ما يسميه الإفرنج «ميسو بوتاميا»؛ أي بين النهرين. وهذا الذي نريده هنا بلفظ الجزيرة، فهي الديار الممتدة، من هضاب أرمينية إلى مصب شط العرب.
(٢) أحوال المدالث الفراتية الجغرافية
تعالَ نركب طيارة تُحلق بنا في الجو، ونذهب بها إلى المحل الذي ينبع منه الفراتان: دجلة، والفرات، فإذا صعدنا مجرى كل منهما نرى ماءهما ينبط من محل في أرمينية من أسفل جبل كان يُعرف عند الأقدمين باسم «نغاطس»، وهو الذي يُسميه العرب في عهدنا هذا جبل نمرود، أو جبل ذي القرتين، وعند الترك «كلشن طاغ»، وهو أعلى الجبال التي تطرد بين البحر الأسود ونجد إيران، وفي بعض المواضع منه يبقى الثلج على مدار السنة. أما ماء الفرات فيتجمع من واديَي مراد وقرمصو، فإذا جمع بينهما هرب بمياههما إلى الشرق، ثم يفرُّ بها إلى الغرب دافعًا إيَّاها في مختنقات جبال وعرة وأودية ضيقة، فإذا جاوز ملطية قفز قفزة فُجائية كأنه يحاول الفرار إلى الجنوب الغربي، فيخدِّس لنفسه معبرًا في الطورس، طالبًا بحر الروم الذي يميل إليه كل الميل، ثم كمن يرعوي عن غيه يعود إلى الجنوب الشرقي في جهة خليج فارس. أما دجلة فإن مخرج رأسه من «جوار مراد»، لكنه يجري في الغرب إلى الشرق في جهة مخالفة لجهة شقيقه، فإذا خرج من الجبال يميل إلى الجنوب، ويحاول أن يدنو من أخيه الفرات رويدًا رويدًا، فإذا صار في جوار بغداد أخذ كل واحد منهما يحاول مصافحة أخيه كأن الواحد يقول لشقيقه: تعالَ نجتمع في هذه المدينة القديمة ونتعاهد على ألا نتفارق، فيكاد كل واحد منهما يتفق مع الآخر؛ إذ لا يفصل الواحد عن الآخر إلا مسافة بضع ساعات في سهلٍ مطمئن، وكأن عدوًّا سمع ما ينجم من اتفاقهما إذا ما اجتمعا في بغداد، جاء فوشى بالواحد بعد الآخر إلى صاحبه وفرَّق بينهما، فأخذ كل منهما يسير على موازاة شقيقه وهو ينظر إليه شزرًا مسافة ٢٠ إلى ٣٠ ميلًا، ثم يعودان فيفترقان ولا يتفقان إلا بعد أن ينحدرا نحو ثمانين ساعة؛ إذ يتحققان أن الفراق لا يُفضي إلا إلى هلاك كل منهما في الفلوات المحرقة، فيتصافحان عند القرنة، ومن هناك ينحدران مشتركي القوى ليصُبَّا في خليج فارس.
والفرات يرحب من جهة يساره عند وسط مجراه بزائرين، وهما: البليخ، والخابور، ومنذ اتصل به الخابور إلى أن اجتمع بأخيه لا يزوره أحد، أما دجلة فإن زوَّاره أكثر من ذلك، فإن الزابين الأعلى والأسفل يأتيان فيرويانه بمياههما، ثم يجاريهما في هداياهما عظيم وديالي، وكل من الفراتين تجري فيهما السفن في أغلب قسم من منحدرهما، فالسفن تجري في الفرات من سميساط، وفي دجلة من الموصل، وعند ذوبان الثلوج — ويكون ذلك في أوائل نيسان أو أواسطه — يغتاظ الفراتان، فيرغوان ويزبدان ويحبلان غصبًا من الربيع؛ فيطفحان بمياههما ويطغيان على ما جاورهما من الأرضين، فاعلين ما يفعل النيل في ديار مصر، ولا يعودان إلى مألوف مجراهما إلا في أواخر أيَّار أو أوائل حزيران، عندما يبتدئ الحر بكسر شوكة هذين الشقيقين المستبدَّين.
(٣) تكوُّن أرض العراق
لم يكن منظر الفراتين في كل عصر على ما نشاهده اليوم؛ لأنهما عند خروجهما من الجبال ما كانا يرويان في العهد السابق للتاريخ إلا السهل الممتد أمامهما فقط، وهو سهل ثانوي التكوُّن يُعرف بالجزيرة، وأرضها في غاية الخصب عند ضففهما وضفف سواعدهما وفي الأمكنة التي تنبط فيها العيون، وفيما سوى ذلك فإنها قفرة جردة. والطرف الجنوبي من السهل كان بمنزلة شاطئ البحر، وكان الرافدان يدفعان فيه والواحد عن الآخر على مسافة عشرين ساعة في خليج يحدُّه من الشرق آخر إسناد جبال إيران، ومن الغرب جبال الرمال التي تتأخَّر نجد بلاد العرب.
والقسم الأسفل من سقي الفراتين أرض حديثة النشوء بالنسبة إلى غيرها مما يجاورهما من الشمال، وقد أنشأها تراكم غريل الرافدين وسائر الأنهُر، كعظيم، وديالي، وكرخا (خواسب) التي كانت تجري على هواها حيثما شاءَت، ثم ينتهي بها الأمر إلى إفراغ مياهها في البحر. أما اليوم فإنها أصبحَت من سواعد دجلة ومن ممدَّاته بمياهها، وفي عهدنا هذا نرى مدالث شط العرب (دجلة العوراء سابقًا) تتقدم بسرعة، ويظهر جرف جديد قدره زهاء ١٥٠٠ متر كل سبعين سنة، أما في الأعصُر الخالية فكان نموه أبيَن مما هو اليوم، ولعله كان يرتفع ١٥٠٠ متر في كل سبعين سنة.
في العصر الذي أقام أجداد الكلدان الأوَّلون في وادي الفراتين كان خليج فارس داخلًا في البر نحو مسافة أربعين ساعة عمَّا هو عليه الآن، وكان الفراتان يدفعان في البحر متوازيَين غير متَّحدين، ولم تختلط مياههما إلا بعد ذلك بألوفٍ من السنين.
(٤) مدالث النيل وبنجاب
وما يُقال عن الفراتين يكاد يُقال عن النيل وبنجاب، فإن النيل ينبع من أرضٍ وراء خط الاستواء، وإذا جرى مسافة جاءته جميع المياه التي تجري من البحيرات الكبرى الواقعة في أفريقيا الوسطى، ودفعتها إلى نحو الشمال خلال فلوات عظيمة تقطعها غابات ومستنقعات، ثم يدفع فيه من اليسرى بحر الغزال ما يطفح منه، وعن يُمناه مصب فيه نهر سبات والنيل الأزرق والتكزة، وهي مياه تنزل كلها من جبال بلاد الحبش، ثم يصطدم بعد ذلك بنجد الصحراء الكلسي، ويحفر فيه لنفسه فراشًا متمعِّجًا تقطعه خمس مرار شلالات، ثم ينحدر رويدًا رويدًا نحو بحر الروم بدون أن يزيده ماء أحد السواعد. والقسم الشمالي من واديه بين شلال أسوان والبحر أنشأ في كل وقت أرض مصر الشهيرة في التاريخ، وهو يطغى كما يطغى الفراتان، ويكون طغيانه من الأمطار الغزيرة التي تنزل في شباط كل سنة على أنحاء البحيرات العِظام، وحينئذٍ يعظُمُ النيل ويخرج من مجراه، فينشر الطغيان بسرعة من الجنوب إلى الشمال، وفي بضعة أشهر ينتشر في الوادي كله، وفي نحو أواخر نيسان يصل إلى بلدة الخرطوم، حيث يزداد بما يمد من النيل الأزرق، ثم يسير رويدًا رويدًا خلال بلاد النوبة، ويصل ديار مصر في أوائل حزيران فينبه عليه في أسوان في نحو ٨ منه، وفي ١٧ من الشهر المذكور يصل إلى مصر القاهرة، وبعد يومين يعمُّ المدالث كلها.
ويشتد معظم السيل في أواخر آب في بلاد النوبة، وبعد شهر في القاهرة والمدالث، ويبقى على حاله زهاء ثمانية أيام ثم يبتدئ بالنقصان سريعًا، حتى إذا جاء كانون الأول رجع النيل إلى موطنه المألوف.
وأما سهل بنجاب فإنه سهل متَّسع، منحدر إلى جهة الجنوب الغربي من هِضاب كشمير، وهذا السهل يسقيه نهر السند وخمسة أنهُر تجتمع فيه، وهي: الجيلام، والجيناب، والراوي، والبياس، والسطلج؛ ومن ذلك سُمِّي السهل بنجاب (أي خمسة أنهُر بالفارسية)، وهي أرض قديمة الحضارة على ما نراه في واديي الفراتين والنيل.
(٥) العمران النهري
قد لاحظ الباحثون من العلماء أن أول ما ابتدأتِ الحضارة في بلاد المدالث (الدلتا) المعتدلة الهواء، وهي مدالث «الفراتين، والنيل، وبنجاب» قبل أن ترتقي في سائر البلاد، وسبب ذلك أن المياه هي مادة الحياة والنماء لجميع الكائنات، والبلاد التي ينقطع عنها الماء يعقبها الفَناء بل العفاء؛ فمدالث النيل كانت سببًا للعمران المصري، ومدالث بنجاب كانت عِلَّة الرُّقي الهندي، ومدالث الفراتين ساقَتِ الناس إلى العمران العراقي الشهير في التاريخ.
ومن البديهي أن الطعام من أول ضروريَّات الحياة، وهو لا يكثُر إلا حيث تتدفَّق المياه العذبة، فإذا كثُرَ في بلادٍ احتاج أصحابه إلى إرسال ما زاد أو يزيد عندهم إلى الديار التي تحتاج إليه؛ ليعتاضوا عنه بما يرغبون فيما لا يوجد عندهم منه، وهذا ما دفع الناس إلى اختراع وسيلةٍ يتراسلون بها ويتفاهمون ويتكاتبون، ولا سيما لتدوين ما يهم الوقوف عليه من الحوادث والأمور المهمة التي تُفيد الخلف إذا حُفِظت ودُوِّنت، فكانت هذه الحاجة أمَّ اختراع الكتابة، وهذه أصبحَت أقوى أساس للعمران، وأصدق وسيلة لرُقِي الحضارة. ثم حاول الإنسان تعميم هذه الفوائد المدوَّنة في جميع البلاد حتى النائية منها بنفقاتٍ زهيدة، فكان ذلك عِلَّة اختراع المطبعة، فعمَّت بها المعارف والعلوم، ومنذ ذاك الحين نشطَت الحضارة نشطها من عقال، فاتَّسع نطاق العمران، وانتشر الرُّقي في الأرض كلها جمعاء، وزادَت الرغبة فيه كل الزيادة.
(٦) أرض شنعار أو أرض شمر وأكد (تمدُّنها – أنهُر البلاد ومدنها)
يروي لنا الكلدان في كتبهم التي وصلتنا روايات عجيبة في المخلوقات الأولى؛ فقد زعموا أنها مخلوقات غريبة الصورة والهيئة، خيالية الخلق، ظهر في وسطها الإنسان عريانًا أعزل، وبعد ذلك ظهر الإله «يونس» من خليج فارس، فأنس إليه الناس، وأخذ يُهذِّبهم ويُمدِّنهم، وكان جسمه جسم سمكة، ورأسه وصوته رأس إنسان وصوته، وكانت رجلاه البشريَّتان تخرجان من ذنبه السمكي البينية.
ومهما يكن من هذه الرواية فإن الذي ينظر أراضي هذه الديار ويُقابلها بأراضي النيل يرى مشابهة عظيمة، يرى أن الإنسان حاول الاندفاع إلى الرُّقي كما حاوله ساكن وادي النيل، وقد ساقه إليه غِنى الأرض وثروتها؛ أي ما على وجهها من العزيل (وهو الطين الأحمر، ذاك الثوب الذي يخلعه دجلة في الربيع على ابنته المحبوبة الأرض العراقية المباركة)، فتقذف حينئذٍ ما في أحشائها من الكنوز؛ أي أثمارها وحبوبها، وذلك لأدنى عمل يعمله الزُّراع على حدِّ ما يفعله زارع وادي النيل. على أن بين ماء النيل وماء الفراتين فرقًا؛ فماء الرافدين يجري على وجهٍ غير مطرد؛ إذ يُفاجئ الزارع ويضره أضرارًا بليغة، بخلاف ماء النيل، فإنه يُوافي البلاد بمواسم معلومة ومحدودة، ويكون قدومه إلى تلك الديار سببًا لفرح الفلَّاح وسعادته. الفراتان يجريان بين جبال من الرمال، مفتوحي الواديين لغزوات البدو المبثوثين في غربيهما، ولغزوات أهالي الجبال المنتشرين في الجبال القائمة في شماليهما وشرقيهما. والنيل يجري في أرضٍ لا يلحقها الأذى؛ ولهذا لم ترتقِ هذه البلاد إلا من بعد أن تمكَّن أهلها من ردع جماح الطبيعة وأبنائها الهمل، بخلاف النيل فإن أهله تقدَّموا في الحضارة وأوغلوا فيها قبل سكان هذه الديار لخلو واديه من تلك الموانع.
ومع ذلك كله إننا نرى أهالي هذه البلاد قد خطَوا خطوة في الحضارة في نحو ٣٠٠٠ سنة قبل الميلاد، وحفروا أنهُرًا عديدة، وبنَوا مدنًا كثيرة بالطابوق (الآجر)، وفي كل مدينة منها حاكم يحكمها، وإله يُعبد فيها خاصة، ويجمع الكل حاكم عام ممتد سطوته على البلاد كلها.
وأشهر المدن التي بُنيَت يومئذٍ في العراق؛ أي في جنوبي الجزيرة، وهي نبور (وهي المعروفة اليوم باسم نفر، وكان إلهها الليل يُعبد في جميع المدن)، وكيش (وهي اليوم تل الأحيمر)، ولجش (تلو)، وأورك (الوركاء)، وأور (المقير)، وأريدو (أبو شهرين)، ولارسا (سنكرة)، وغيرها من المدن التي كانت في شمالي العراق أوبي (أو أوبيسر، وهي اليوم أبو حمشة، وعند العرب الأقدمين باحمشا).
في وادي النيل كان لجميع الأهالي لسان واحد، أما هنا في وادي الفراتين في الأرض التي تسميها التوراةُ أرضَ شِنعار (بكسر الأول، ولعل القراءة الصحيحة بفتحه)، فكان فيها أقوام من سلالتين مختلفتين، ولهم لغتان، كلٌّ منهما تختلف عن صاحبتها، ويُسمَّى القُطر الشمالي «أكد»، وسكانه أقوام ساميُّو الأصل، أولاد عم العرب والعبريين والفينيقيين والسُّريان، طويلو اللحى سُودُها ومتموِّجوها، وقد احتل القطر أجدادهم قادمين من ديار العرب في زمنٍ واغل في القِدَم. وأما القطر الجنوبي المجاور لمصب الرافدين فاسمه شمر، وسكانه أقوام لا رابط يربطهم بقومٍ من أقوام الأرض الذين نعرفهم، محلوقة لحاهم وشواربهم وشعور رءوسهم، وأنوفهم بارزة دقيقة الأطراف، وشفاههم رقيقة حسنة، فأيُّ الفريقين كان الأول في هذه الديار الفراتية؟ فلا يمكننا الجواب عنه الآن، وهذان الفريقان وإن كان أحدهما يختلف كل الاختلاف عن صاحبه، إلا أنه من البديهي الذي لا يُنكَر أن كلًّا منهما استعار من الآخر معارفَ شتَّى، وكلاهما كان يبعث بالهَدْي إلى آلهة البلاد، مثلًا إلى «الليل» إله نفر.
ويُصوِّر الشمريُّون إلههم بصورة أكدية، وأخذ الأكديون عن الشمريين الكتابة، ذلك الاختراع الذي اخترعوه في أرض الفراتين (كما اخترع مثله سكان النيل قبلهم ببضعة ألوف من السنين)، إلا أن كتابة الشمريِّين لا تشبه التصاوير كما تشبهها الكتابة المصرية التي يُرى فيها صور أُناس وحيوانات وطيور، أما خط الشمريين فهو عبارة عن مجموع خطوط ذاهبة في الطول والعرض بهيئة مسامير أو أسافين قصيرة، ومن ذلك اسمها اليوم عندنا، وهو الخط المِسماري، أو الإسفيني.
وأهل وادي الفراتين كأهل وادي النيل، ينقشون ألفاظهم على صفائح من الحجر، وإن كان الحجر عندهم أغلى وأندر مما هو في وادي النيل؛ لأن الجبال التي تُقطع منها هذه الحجارة هي بعيدة عن مدن العراق، بخلاف المدن التي في وادي النيل، فإن مقاطع الحجارة قريبة منها.
وسكان وادي النيل كانوا يستعملون في أشغالهم المألوفة الورق المُتَّخَذ من البردي، وأما سكان وادي الرافدين فكانوا يستعملون في مثل هذا المقام الطابوق (الآجر) والشمامات والصفائح المتخذة كلها من الفخار، وقد وُجِد من هذه الرقم ألوف وألوف محفور عليها كلها أنواع الإفادات والأنباء، وكانت مدفونة تحت الأرض، وقد حُفظَت كتابتها أحسن حفْظ كأنها خرجت اليوم من يد عاملها، وهناك ألوف غيرها تنتظر أيدي الحفارين ليبرزوها إلى عالم الظهور والمطالعة والاستفادة والإفادة، ومَن وقف على بعض ما ورد في هذه الزُّبر الحجرية أو الفخارية يتحقق أن السلطة كثيرًا ما انتقلَت من يدٍ إلى يد، ومن بيت إلى بيت، ومن قوم إلى قوم، ومن مدينة إلى مدينة، ومن الشمريين إلى الساميِّين، ومن الساميِّين إلى الشمريِّين، وذلك قبل المسيح بنحو ٢٨٠٠ سنة وبعدها. وليس هنا محل لإيراد أسماء ملوك الذين ملكوا في أرض شنعار قبل ألوف من السنين، ولا سيما أن أغلب هذه الأسماء لم تألفها آذاننا ولا تنطبق على أصول لغاتنا في هذا العهد، ولا بد من إيراد بعض منها لتكون بمنزلة مثال لما هناك من هذه التراكيب السمجة التي نستغني عن إيراد ما بقي منها، وهي نحو: لوجالشا جنجور، وأنشا جكوشانا، ولوجاليكجو بنيدود، ونحوها من الأسماء التي تصلُح لأن تُتَّخَذ للطلاسم والعزائم، أو لإبعاد الجن والشياطين عن بني آدم، والمراد من إيرادنا بعض الأمور عن شنعار وأرض النيل أن أهالي ذلك العصر كانوا قد جرَوا شوطًا بعيدًا في الحضارة، وقد ابتعدوا كثيرًا عن الإنسان الأول.
وفي ذلك العهد كانت الأرض تنقسم إلى قطرين: قُطر قد ضُربت عليه سرادق الجهل بظلماته، وقُطر قد غرق في نور العلوم والمعارف، وهو المعروف أصحابه بالمتمدِّنين؛ فمدن القُطر الذي كان واغلًا في الحضارة قد تُعارض المدن الكبرى الشرقية في عهدنا هذا بدون أن يلحقها أدنى شائبة، فإنك كنت ترى في تلك المدن طُرُقًا طويلة ضيقة متمعجة، نشأَت من حيطان البيوت العظيمة التي بُنيَت باللبِن، وكانت معاطاتهم ومعاملاتهم تجري على أحسن وجه، وتُكتب لإحكام أمورهم الوثائق والسندات والحُجج والمقاولات والمبايعات والقرض، إلى غيرها، وكانت تُختَم بالخاتم على معجون الطين، ثم تُشوى في النار لتُحفظ من كل ضرر، وكانت فائدة توقيع هذه الخواتم بمنزلة توقيع الأسماء أو الإمضاءات في عهدنا هذا، وزِد على هذا كله أنه أُنشئ في عهد الملك حموربي دستور أحكام، ولعل هذا الملك قد سبق إلى مثل هذا الدستور، فلم يصِل إلينا، أو أن مثل ذاك الدستور كان يجري بين الناس بالمعاطاة، بدون أن يكون مُدوَّنًا على صفحات الصفائح، وكان لأهل ذلك العهد درجات في المقامات والمجالس على حد ما هي موجودة اليوم، وكان «لابن إنسان» بمقام ممتاز صرحٌ، به دستور أحكام بابل، وهو يختلف عن مقام «الفقراء»، وكان في ذلك العهد المماليك والعبيد، كما كان يوجد رجال أحرار.
في العهد القديم كان الشنعاري إذا سار في أرضه فلا يقع طائر بصره إلا على غاباتٍ تزدحم فيها النخيل والغرب والصفصاف، ويمتد السهل بين يديه بقدْر ما كان يبلغ بصره من مدى الأفق.
وكان إذا أوغل في شرقي دياره لمح جبال إيران تتتالى أمامه كأنها الأغنام تأخذ بعضها برقاب بعض، ويرتقي بعضها فوق بعض، كأنها دَرج توصلك إلى أبعد أوج من الجو، ولعل هذا المنظر هو الذي دفع أهالي هذه البلاد إلى البناية المتدرِّجة التي تُرى في بعض مُشيَّداتهم وقصورهم، فكان السطح يعلو السطح الآخر، لتتمثل أمام عيونهم الجبال البعيدة عن أنظارهم، ويغروا من منظر السهول التي قد أتعبت أبصارهم، هذا فضلًا عن أن الحر هو الذي كان أول سائق لهم لبناية السطوح؛ لأنه إذا اشتد في هذه الديار تعذَّر على الإنسان سكنى الغرف فيعلو السطوح ليلًا؛ ترويحًا للنفس، وشمًّا للهواء العليل، وهربًا من حر الحجر الذي لا يُطاق.
ومما بنوه مدرَّجًا هياكلهم، حتى إذا اعتلوها ليلًا ذكَّرتهم صهواتها خالقَ تلك النيرات المنثورة في القبة الزرقاء نثار فرائد الدرر على بساطٍ أزرق، ولما كانت الأمور تقود الإنسان من شيء إلى شيء ساقه هذا المنظر الرائع إلى رصد النجوم والكواكب، فكان أهل شنعار أول مَن عُني برصد محاسن السماء على قواعد مطردة، وفاقوا مَن تقدَّمهم في هذا الفن البديع، وما زالت مجموعة معارفهم فيه تزداد وتتسع جيلًا بعد جيل حتى اتصلَت بعدهم باليونان، وهي — والحق يُقال — لم تكن راقية كما يتوهَّمه بعضهم، لكن اليونان زادوا عليها زيادة تُذكر، وكذلك فعل الرومان، فتقوَّمَ منها علم النجوم وعلم التنجيم معًا، إلا أن أساس تلك المعلومات كان مبنيًّا على ما وضعه الكلدان، وهم الذين كانوا يزعمون أن حظوظ الناس وسعودهم ونحسهم متوقفة على بروج السماء وكواكبها وعلاماتها وظواهرها، وقد بلغ بهم الرصد إلى أنهم عرفوا ما كان ثابتًا من تلك النجوم وما كان متحيِّرًا، مع أن الأجرام النيرة التي تغشى تلك القبة الزرقاء تُعدُّ بالألوف والملايين، ولقد تصوَّروا في تلك النيرات صورًا وهمية، انتقلَت أسماؤها إلى الخلف إلى يومنا هذا، كالعقرب مثلًا، والرامح الذي نصْفه إنسان ونصفه حيوان، والجدي بذَنَب سمكة، وكان للشمريين معنًى خاص بالسيارة التي نُسمِّيها إلى اليوم الزهرة، ويشركونها بمعبودة الحب والولادة، وكان مركز عبادتها في أورك (الوركاء).
(٧) الملوك الأوَّلون لشمر وأكد (سرجون أكد وخلفاؤه)
لمَّا كان يحكم على أرض شنعار كلها — أي أرض شمر وأكد معًا — مَلِك واحد يرعى رعيته بصولجانه، كانت تلك الأرض عبارة عن قوة متجمعة تتمكن من أن ترسخ في جميع البلاد المجاورة التي أصحابها دون شنعار قوة وتمدُّنًا وحضارة. ويظهر أن تجمُّع هذه القوى وازدحامها في مركزٍ واحد هما من خصائص هذا الزمن لا من خصائص الخضوع لملك واحد في العصور الخالية الواغلة في القِدَم. ويحق لنا أن نفكر أن الحرية الشخصية كانت أثبت في القبائل الأولى منها في مدن شنعار وديار مصر، وكان من المُحتَّم على الرجل المتشوِّف إلى أن يتقدم في السلطة المنتظمة أن ينزع من نفسه شيئًا من حريته الحاسية التي نشأ فيها، وينقاد إلى أخلاقٍ تُرضي الجميع. أما ملك شمر وأكد فكان في نفسه مطامع أعلى، كان في نيته أن يكون سلطانًا مطلق الأمر والنهي؛ ففي نحو سنة ٢٥٠٠ قبل المسيح — على ما ذكره المحققون — دفع سرجون ملك أكد جيوشه الظافرة إلى ما وراء تخوم شنعار شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا؛ ففي الشرق أخضع لصولجانه العيلاميين (الذين يسميهم العرب بني غليم. راجع القاموس مادة غلم، بالغين المعجمة؛ وابن خلدون ٢ و١٣) في القُطر المرتفع المعروف عند العرب باسم خوزستان، واليوم هو جزء من مملكة فارس، في الجنوب الغربي في نحو طرف القسم المطمئن من الأرض الغريلية التي يجتمع فيها النهران، وسكانه اليوم أقوام يتكلمون لغة خاصة بهم، لا تُشبه السامية ولا الشمرية، وكانت حاضرته السوس المعروفة اليوم باسم ششتر، وكان أولئك القوم لا يَدينون بعض الأحيان للملوك الشمريين والأكديين، فيقومون ويُغِيرون على مدن شنعار.
وكانت حضارة عيلام مقتبسة في صورتها الخارجية من شنعار، أما في الجنوب فإن سفن سرجون كانت تمخر مياه خليج فارس ليوصل جزائر البحرين بمملكته، وهي الجزائر التي تتصل اليوم بدولة أخرى عظمى بواسطة بواخرها الجسيمة. وفي الشمال كانت جحافل سرجون تصعد دجلة وتدوِّخ قبائلها السامية؛ فلقد وصلَت على الأقل المدينة الأرمنية المعروفة اليوم بديار بكر؛ إذ وُجد فيها صفيحة شبيثية (بازلتية) لابن سرجون، ووارث مملكة أبيه، ومدينة حرَّان (التي يسميِّها بعضهم خطأ: هاران) المتربعة في سهل الجزيرة، أخذت من عمران شنعار شيئًا قليلًا وكثيرًا، وهي التي أصبحَت في القرون المتتالية مركز عبادة خاصة بسين القمر الإله، إله شنعار. وفي غربي الفرات دوَّخ سرجون بلاد قوم ساميين آخرين اسمهم العموريون، وكانوا قد توطَّنوا سورية الشمالية بين الفرات والبحر، وبلغ سرجون بحر الجنوب الكبير، وكانت سفنه تذهب لتمكن سطوته في قبرص، وهي جزيرة لاحقة بدولة بريطانية العُظمى، كأن البحرين بالإمبراطورية المذكورة بواسطة السفن أيضًا. وعلى ما ترى، كان سرجون قد دوَّخ العالم كله، ذلك العالم الذي كان يعرفه الشنعاريُّون، أما وراءه فكانت ظلمات الهمجية تغشى ما بقي من العالم الذي كان وراء فتوحاتهم. قلنا دوَّخ كل العالم، ولعلنا بالغنا في الكلام؛ لأن في ذلك العهد نفسه، وفي زمن فتوحات سرجون الكثيرة، كان ملوك وادي النيل اختصُّوا بأنفسهم فلسطين وفنيقية، ولا جرم أنهم واصلوا وراسلوا ملك أكد. نعم، إن سرجون أصبح يومئذٍ ملك أقطار الأرض الأربعة وسيدها؛ لأن الشنعاريين كانوا يعتبرون البلاد الواقعة في الأصقاع البربرية المكتنفة بالظلمات غير جديرة بأن تُعدُّ بين البلاد.
إن الدولة الأكدية العظيمة — دولة سرجون — لم تدُم طويلًا؛ فمن بعد قرنين انتقل الصولجان من جديد إلى أيدي الشمريين؛ إذ جاءت مدينة أور (المعروفة بأور الكلدانيين في التوراة، وهي المسماة اليوم: المقير)، وأقامت على العرش ملوكًا من أبنائها. والبلاد التي دوَّخها سرجون خارجًا عن شنعار انتقضَت، ثم قدِم الفاتحون العيلاميون وساقوا أسيرًا آخر ملك من ملوك أور. والظاهر أن شنعار بعد هذا الأمر سقطت من عظمتها، فتطايرت شظاياها، وأصبحَت كل شظية منها دُويلة قائمة بنفسها. وإذا نظرنا بوجهٍ عام إلى ما يمكن العثور عليه من تاريخ شنعار نرى أنه يتعذر على الشنعاريين أن يستعيدوا دولتهم الضخمة، أو دولة طويلة البقاء. نعم، إننا نرى من وقتٍ إلى وقتٍ قيامَ بيت من الملوك الشمريين أو الأكديين يقبضون على أزِمَّة المملكة، لكن ذلك لا يدوم طويلًا، وإن كانوا يجمعون في قبضتهم التسلُّط على البلاد كلها. إن تاريخ شنعار المتقطع يُخالف كل المخالفة تاريخ ديار مصر؛ لأن تاريخ هذه الديار يتسلسل تسلسُلًا عجيبًا أن انتقل من يد ملك واحد مستقل إلى يد ملك آخر مستقل مدة ٤٠٠٠ سنة تخللها فترة يسيرة. ولعل سبب ذلك التقلُّب في بلاد شنعار وجود عنصرين قديمين مختلفين مع لغتين متغايرتين، بخلاف بلاد وادي النيل، فإن أهاليها يرجعون إلى عنصرٍ واحد، ويتكلمون لسانًا واحدًا؛ هذا فضلًا عن أن بلاد مصر كانت قد انحازَت عن سائر البلاد بالبحر الذي يفصلها من جهة، وجبال بلاد العرب أو هضابها من الجهة الأخرى. وأما بلاد شنعار فإنها كانت شاغرة مفتوحة لكل مَن يهجم عليها ومن كل جانبٍ منها.
إن تاريخ شنعار السياسي متقطع، إلا أن حضارته بقيَت ثابتة غير متزعزعة خلال أزمنة الملوك الذين تداولوها، والطوارئ المختلفة التي طرأت عليها؛ فالأراضي كانت تُزرع وتُسقى، وأهاليها كانوا يبيعون ويشترون ويُدوِّنون حساباتهم ويكتبون مراسلاتهم على صفائح الفخار، وكانوا يعبدون أربابهم على ما كان يفعله أجدادهم، وكان أهل الجبال وأهل السهول يزدحمون في شنعار ويترددون إلى غاباتهم وبساتينهم بدون مانع يمنعهم، ويتعجبون من محاسن أرضهم، بل من محاسن فردوسهم، وهو أمر لم يروه خارجًا عنها، كانوا يرون في بلادهم شنعار حيطانًا سميكة من الطاباق، وأبراجًا حسنة البناء، كأنها تناغي السماء. كانوا يرون صور حيوانات ووحوش جسيمة، رُسمَت طبقًا لأصول صناعة توارثها الخلَف عن السلف، ولها مزايا خاصة بها لا توجد في غيرها، وهي كلها منحوتة في الحجارة، أو منقوشة على الآجر، أو مصبوغة بأصباغٍ ملوَّنة أحسن تلوين متلألأ في الشمس الباهرة النور. كانوا يرون أسواقًا يتزاحم فيها الناس من كل حدب وصوب، ذوو ثياب واسعة طويلة، تنحدر على أقدامهم الحافية، أو التي فيها نعال خفيفة لا يُسمع منها حس، وهم يمشون في شوارع كثيرة التراب والعجاج. كانوا يرون بضائع وأموالًا معروضة للناظرين، وأقمشة نفيسة مزركشة أو مُطرَّزة على ما كان يفعله الشنعاريون، زركشة وتطريز لم يُنافسهم فيهما أحد من الأمم، وقد بزوا فيها على سائر الأقوام المجاورين لهم. أو يرون فيها بضائع معروضة وقد جيء بها إلى بلادهم على ظهور الجِمال أو الحمير، وقد نقلوها من البلاد المجاورة. إلا أن الشنعاريين كانوا محرومين من شيءٍ واحد، إنهم كانوا محرومين في عهد سرجون أكد من الخيل الجِياد؛ لأن القبائل المتجولة في الشمال كانت قد اتخذَتِ الحصان خادمها، بل رفيقها، ولم تكن تعرف الطريق المؤدية إلى الجنوب، لا سيما الطريق المؤدية إلى بلاد شنعار نفسها، وكذلك لم يكن للفراعنة ذلك العهد جياد لجر عجلاتهم، كما لم يكن للأعراب الرُّحَّل جياد لركوبها.
(٨) تأثير حضارة شنعار وديار مصر على سائر البلاد
القوة مهما كانت — ماديَّة أو أدبية أو عقلية — لا بد من أنها تؤثِّر أثرًا عظيمًا على مَن يكون حولها أو يراجع صاحبها. وهكذا كان الأمر في حضارتي شنعار وديار مصر على سائر بلاد ذلك العهد التي كانت تجاورهما. فإن الأقوام الأجلاف كانوا يتقدمون في الحضارة بطريقتين مهمتَين ملامستين للأقوام العراقية، إحداهما النظر إلى معيشة سكان النيل والفراتين، ونقل ما يرونه إلى أهاليهم بعد عودتهم إلى بلادهم، فإنهم كانوا يرون نتاج العلوم، والفنون، والصنائع، والأشغال المحفورة والمنقوشة، والأسلحة، والأقمشة الفاخرة، فكانت كلها تنفث في صدورهم أفكارًا تدفعهم إلى أن يجلُّوا أعظم الإجلال أولئك الذين كانوا يُبرِزون إلى عالم الوجود مثلَ تلك المآثر. وأما ملك أكد، أو ملك أور، فإنه رفع منار الحضارة والرُّقي، بحيث أخذ نوره يضيء إلى بُعد سحيق، وغدا كل واحد من الناس يستضيء به ويفرغ ما في إمكانه ليُضاهيه في عمله، ومثل هذا جرى بعد ذلك بقرون عند الرومان، فإن رقيهم كان قد طبع في نفوس أقوام الشمال الذين كانوا يدنون منهم احترامًا وإجلالًا ما كانوا لِينسوهما البتَّة. وعليه، أصبح رُقي أبناء الفراتين مما يُحتذى أن كان له مزايا خاصة به وبصنائعه وأشغاله، وأخذ يتعدَّى البلد بعد البلد، والصقع بعد الصقع لتحقيق حضارة تعم أقوامًا عديدين. وما يجدُر ذكْره ولا يُغمط شكره أنه سبق عمرانَ سرجون عمران آخر لم يبزُغ إلا فجره، وذلك في سواحل البحر المتوسط، وجزره الواقعة قريبة منه، وقد أخرج السر آرثر إيفنس شيئًا من آثاره وبقاياه من جزيرة أقريطش (كريد)، ومما لا نغضُّ عنه الطرف أن تأثير عمران شنعار وديار مصر كان يصل إلى قبرص لقربها من السواحل، وقد ثبتَ ذلك؛ إذ رُؤي فيها أن سكانها اعتاضوا عن الأدوات الحجرية بالأدوات الشَّبَهية (البرنزية).
(٩) بزوغ شمس حضارة بابل وظهور حموربي
ذكرنا الطريق الأولى التي إذا سار فيها الأقوام الأجلاف يرتقون في الحضارة والعمران، أما الطريق الأخرى فهي الاندغام أو الاندماج في أمة راقية أو الانضواء إليها؛ فقد كان يقع أن قبيلة من القبائل الضخمة أو القويَّة تنحدر من الجبال أو تطرأ من الفلوات وتأتي فتستحكم البلاد، وتنشئ فيها مملكة، ثم تمعن في الحضارة التي اقتبستها عند احتلالها البلاد، وتدفعها إلى أقصى غاية منها، وتجري على عادات أهاليها الدينية، فتبعث بهديها إلى آلهة شنعار على ما هو جارٍ في عوائد أهل البلاد، وتتخذ لغتي شمر وأكد، وتتخلق بأخلاق ملوك البلاد. وأحسن مثال لتأييد قولنا هذا ما وقع للآموريين، فإنهم جاءوا واستوطنوا البلاد المذكورة في نحو الألف الثالث قبل المسيح، ونحو المائة الخامسة بعد الملك سرجون، وفي نحو ٢٠٠٠ سنة قبل الميلاد أقبل شيخ أموري اسمه «سموابو»، وأنشأ لنفسه مملكة في أرض شنعار، واتخذ له عاصمة جديدة، وهي مدينة كانت واقعة على الفرات، لم تكن ذات شأن في مدن القُطر، اسمها «باب إيلو»، ومعناه: باب الآلهة، وهي التي نحتَ منها العبريون اسم بابل، فصحَّفها اليونان وقالوا «بابلون»، وقام من هذا البيت بعد مائة سنة ملك اسمه حموربي، وهو أكبر مشترعي بلاد شنعار في التاريخ، وبه دخلت البلاد مرة أخرى تحت جناحي ملك واحد بعد أن أصبحَت كتلة واحدة عجنته يداه؛ فقد ذكرَت تواريخ حموربي المدوَّنة في عهده كيف جمع هذا الملك أفراد تلك الأمة ونهض زاحفًا بهم على ملك أور فافتتحها، وكذلك فعل بمدينة لارسا (سنكرة الحالية)، ونقل أسلابهما إلى عاصمته بابل، ثم حارب العيلاميين واحتل بلادهم المتاخمة لبلاده، فأوقف بذلك غاراتهم، ومدَّ جناح سطوته وشوكته إلى ما وراء شنعار إلى أعالي دجلة، وأدمج ديار آشور في دياره، وكانت هذه البلاد واقعة في منحدر دجلة ناظرة إلى جبال إيران، وكانت تتصل من الشرق بسهول الجزيرة الخضراء، وهواؤها أطيب من هواء شنعار المشهور بشدة حرارته. وكان أهالي تلك الديار ساميين مثل الأكديين والأموريين، ولسانهم قريب من لسان الأكديين، وكانت أشهر حواضرهم آشور أو آثور على دجلة، ثم امتد اسم المدينة حتى عمَّ الصقع كله، فالشعب نفسه، فالآلهة المعبودة فيها. وكان الآشوريين قد ابتنَوا مدينة أخرى قبل أن يدوِّخ حموربي ديارهم، اسمها نينوى، وكانت واقعة أعلى منها من جهة منحدر دجلة، وكانت نيتهم أن يُفَوِّقوها على آشور حتى يكسِف نورها نور آشور. وكان تمدُّن آشور كتمدُّن شنعار، وآلهتها كآلهتها بدون فرق، إلا أن أخلاقهم على ما يظهر كانت تميل إلى الحرب والقراع أكثر مما كانت تميل إليه أخلاق الشنعاريين، يبين ذلك من هذا الأمر: وهو أن أشتر (أو عشترتة) معبودة شنعار الكبرى، كانت إلهة اللذات عندهم، وكانت عند الآشوريين معبودة الحرب. وفي عهد حموربي البابلي أصبحَت بلاد آشور كلها تُعتبر جزءًا من مملكة شمر وأكد.
ولم يكن حموربي ملكًا مغوارًا أو فاتحًا، بل كان أيضًا حارسًا حريصًا على إدارة بلاده، يشهد على ذلك رسائله التي أنفذ بها إلى الضباط الملكيين، وعماله الذين كانوا في جنوبي المملكة، وهي الرسائل التي اكتُشفَت حديثًا، فيظهر منها أنه حوَّل كل فكره وانتباهه نحو إسقاء الأرضين وإروائها، تلك الأرضين التي يتوقف عليها حياة السكان وعمرانهم، ولقد كان يحفر ما يدفن منها، ويُصلح ما يفسد، ويشق ترعًا جديدة في المواطن التي بدت فيها الحاجة. وفي هذه السنين الأخيرة اكتشف العلَّامة الفرنسوي المسيو دمرغان القوانين التي أنشأها لبلاده، وقد نقلها إلى الفرنسويَّة لأول مرة الأب فنسان شيل الدومنيكي، وقوانينه هذه من أجزل الفوائد، والمقابلة بينها وبين شرائع موسى من الأمور التي تعرض لفكر الباحث بدون أن يُنبه عليها. ولقد صارَت مرمى أبحاث طلبة العلم منذ أن ظهرَت إلى عالم الوجود، وقد اتخذ واضعها طريقة ابتدائية للتمييز بين طبقات الناس؛ فقد قال في جُملةِ ما سَنَّهُ: «إذا أتلف واحدٌ عينَ رجل شريف تُقلَع عينه، وإذا رضَّ عضوًا شريفًا يُرَضُّ عضوه.» وقال في موطنٍ آخر: «إذا أتلف رجلٌ عينَ رجل فقير، أو رضَّ عضوًا من أعضائه يؤدي منًّا من الفضة.» والقضاء في أمور الخلق أخشن حُكمًا وأقطع نفوذًا؛ فقد قال في جملةِ ما سَنَّهُ: «إذا عالج طبيبٌ شريفًا لجرح بليغ بمبضع من شَبَهٍ (برنز)، وسبَّب وفاته، أو إذا بزل دملة في عين شريف بمبضع من شَبَه، وسبَّب تلف عينه، تُقطَع يد الطبيب.» «إذا بنى بانٍ بيتًا لرجل، ولم يكُن بناؤه مكينًا، وانهدم البيت الذي بناه، وسبَّب وفاة صاحب البيت، يُقتَل ذلك الباني.»
لا جرم أن شرائع حموربي لا تُمثِّل مطلقًا أفكار رجل خصوصي، لكن أفكار التشريع والأخلاق السائدة يومئذٍ في شنعار في القرن الألف قبل الميلاد؛ ولهذا يجب أن يُنظر إليه نظرنا مستندًا أصليًّا يعتمد عليه مَن يهمه أمر نشوء فكرة الخير والشر بين الناس.
وبعد أن ولَّى عهد هذه الدولة الأمورية البابلية، ابتلع في الآخر العنصر السامي العنصر الشمري، وغَدَت اللغة الشمرية لغة مماتة، حُفظت بجنب اللغة الأكدية بمنزلة لسان ديني على حدِّ ما كانت اللغة اللاتينية في العصور الوسطى، وأصبحَت اللغة السامية منذ ذاك الحين لغة سواد الناس في شنعار كلها.
نشأَت الدولة الأمورية وترعرعَت، ثم اكتهَلَت فهَرِمَت، ثم طوت بساط أيامها وانقرضَت، وآخر خلفٍ لحموربي تشير إليه الآثار يبين كأنه يعود إلى النصف الأول من القرن الثامن عشر قبل المسيح. وبعد ذلك انتشر أقوام في تلك الديار وحيثو آسية الصغرى المعروفة بالأناضول، وهم أقوام لم نسمع بهم إلى اليوم، وفدوا إلى بابل وأخذوا معهم صورة الإله الخاص ببابل؛ أي مردوخ (المعروف باسم عام هو بل تخفيف: بعل؛ أي الرب أو السيد)، ثم قدِم الديار المذكورة قوم من الجبال القائمة بين بابل وفارس اسمهم الكاشو (أو الكشيون)، فجاءوا من الشرق وأوغلوا في قلب البلاد، وأقاموا على عرش بابل واحدًا من ملوكهم. وإننا لنجد أثرًا لهذه الدولة مدة قرن، ثم يكتنف البلاد ظلمات فوق ظلمات زهاء قرنين، لا نرى فيها ما يفيدنا عن أخبار أرض شنعار شيئًا يُذكَر.
(١٠) إبراهيم والقوافل السامية
تفيدنا التوراة أن الله خلق العالم وما فيه مع الإنسان في ستة أيام، واستراح في اليوم السابع، وسمَّى الرجلَ الأول آدم، والمرأة الأولى حوَّاء، وأعطاه إيَّاها مُعينة له، وأقامهما في جنة لذيذة، ثم طُردا منها لمخالفتهما أمر الله، وأكلهما من ثمرة الشجرة التي مُنعا عن أن يأكلا منها، وهي الشجرة المعروفة باسم شجرة معرفة الخير والشر.
وأخذ الناس يَكثُرون من صُلب آدم وحواء، ونمَوا نموًّا بيِّنًا، لكنهم أخطئوا أمامه تعالى؛ فأبادهم بطوفانٍ هائل سَلِمَ منه نوح وأهل بيته، ومن نوح عُمِّرَت الأرض من جديد، فهو الأب الثاني.
وبعد أن مضى على الطوفان نحو ألف سنة اختار الله إبراهيم، وعقد عهدًا معه ليجعله رأس أمة مصطفاة، وكان الخليل قد وُلِد في مدينة أور (وهي التي نُسميها اليوم: المقير)، وكان يقيم يومئذٍ في حران، وهو ابن تارح، فقال الله له: «اخرج من بلادك ومن أقاربك ومن بيت أبيك إلى البلاد التي أُريكها، وأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأجعل اسمك عظيمًا وتكون بركة، وأبارك مباركيك وألعن لاعنيك، وبك تتبرَّكُ جميع بيوت الأرض.» فحينئذٍ غادر إبراهيم بلاده وذهب إلى البلاد التي ذكرها له الرب.
وفي ذلك العهد كانت القوافل تجري على الوجه الذي نراها تجري عليه الآن بدون أدنى تغيير، فكان أهل البيت الواحد يجتمعون وأناسًا آخرين، ويأخذون معهم خيَمًا وزادًا وأدوات طبخ وشرب، ويأخذ أصحاب البيوت المترفِّهة خُدَّامًا ورئيسًا للطريق يُسمُّونه عكامًا، ويُكرون لهم دواب من واحد مهنته السير بين مدينة ومدينة وقد عرف الطريق أحسن معرفة، ويكون أغلب سير القوافل في فصول السنة الطيبة، مثل الربيع والخريف، وقد تكون الأسفار أيضًا في الصيف، لكن المسافرين يُسرون في الليل ولا يسيرون في النهار، ويضربون خيمهم على كل حال قريبًا من الماء بجانب نهر أو عين ماء أو بئر أو صهريج لضرورة الماء، ويمشون كل يوم من ٧ إلى ٩ ساعات، بموجب طول المراحل وقصرها.
وهكذا فعل إبراهيم، فإنه أخذ سارة ولوطًا ابن أخيه وجميع أموالهما التي اقتنياها، والنفوس التي امتلكاها في حران وخرجوا، فأتَوا أرض كنعان، ومن بعد أن قاسى هو ومَن معه شدائد الطريق وأنواع المشقات، ألقى عصا ترحاله في كنعان من بعد أن ذهب إلى مصر، فلم تطِب في عينيه لسوء آداب فرعون ومَن معه من الرؤساء. وكان مقام إبراهيم في كنعان في جوار جرار، ثم في حبرون، وهناك جدَّد الأزلي عهده معه ووعده بأن البلاد كلها تكون لذريته.
(١١) الخروج من مصر وأمر موسى٥
مضت أيام وأقبلَت أخرى، فأُقيم على عرش مصر فرعون آخر لم يكن يعرف يوسف البتة، وكان عدد بني إسرائيل يُخيفه، فأخذ يُشدِّد عليهم ويعنيهم ويحملونهم أشغالًا لا تُطاق، وأمر بقتل جميع الذكور الذين يُولَدون. ثم إن امرأة من سبط لاوي من بعد أن ولدت وأخفت ولدها مدة ثلاثة أشهر وضعته على النيل في قُفَّة في الموضع الذي كانت تستحم فيه ابنة فرعون على مألوف عادتها، فحنَّت عليه الأميرة، وسمَّته موسى (أي المنشول من الماء)، وربَّتهُ في قصرها وعلَّمته جميع علوم مصر. ولمَّا كان موسى ابن أربعين سنة رأى مصريًّا يضرب عبريًّا فقتله غير، وفرَّ إلى بريَّة سيناء، وبقي فيها منفيًّا نحو أربعين سنة.
ولما مات فرعون ظهر الله لموسى في عليقة محترقة، وأمره بأن يعود إلى مصر ليُنجي شعبه من الرِّق، فذهب هو وأخوه هارون، وطلب إلى فرعون أن يُطلق ليقدِّموا قرابينهم في البرية، فلم يحصل على ما طلب إلا من بعد أن أنزل في وادي النيل عشر ضربات وأباد أبكار المصريين. وبعد أن غادروا بلاده تتبَّعهم في البحر الأحمر، وكانوا يعبرونه يابسًا أمامهم، وكانت مياهه تنطبق على المصريين لتبتلعهم، فلما خرج موسى وبنو إسرائيل من البحر ترنَّموا بأنشودة تُغني شهرتها عن ذكرها.
وفي كل أعماله أظهر موسى من الحزم والعزم وقوة الفكر وحُسن الإدارة ما جعله في مصف الرجال المشترعين الكبار، ولا يمكن أن يُنسى أو يُنكر فضله.
(١٢) آشوريو نينوى الصناديد وفتح مصر
بينما كانت مصر تسير في وجهها في طريق الحضارة والعمران، وأخذ بنو إسرائيل يتجمعون أمة تتقوَّى مع الزمن، كانت السيادة تُنتزع من أيدي شنعار لتنحصر أو لتنتقل إلى قوم ساميٍّ آخرَ يُعرف بالآشوريين من أقارب الأولين، وكان ذلك في نحو السنة التي بين ١٦٠٠ و٦٠٠ قبل المسيح. وبينما كان نور شنعار يتضاءل كان نور آشور يشتد، وما زال الرُّقِي يسير بهم صعدًا حتى أصبحَت مملكتهم حسنة التنظيم، ولها من المطامع في الفتوحات ما لا مطمح وراءه، وكانت حضارتها وديانتها وعلومها وصناعتها وكتابتها مقتبسة كلها من شنعار، إلا أنها أدخلت عليها من التحسين والتجديد والإصلاح ما يكشف عن روح جديد في جميع ما تأتيه، وكانت مغرمة بالغزو والفتح والتبسُّط في مناكب الأرض وأسنمتها، ولم تتوفَّق في بادئ الأمر تحقيق أمانيها لِما كان يعترضها من عزائم أعدائها شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا. عن الشمال والشرق كانت جبالٌ لا يذل سكانُها لأوَّلِ هاجمٍ عليها، ومن الجنوب كان الشنعاريون أصحاب التمدُّن القديم، وفيهم من عزة النفس ما يدفعهم إلى أن يدفعوا أحياء ولا يقبلوا الخنوع لأمةٍ حديثة النشأة، أمة الآشوريين. وأما إيغالهم في جهة ديار الشام وآسية الصغرى فكانت تصدهم جبال أخرى منيعة سكانها رجال أشدَّاء لا يذلون بسهولة.
وبعد أن نشأَت الدولة الآشورية وظهرت للوجود وتمثلت قواها ومظاهر حياتها في قلبها ودماغها — أي في مدينتي آشور ونينوى — عادت إلى البطش والفتك بعد أن استجمعَت قواها، ونجحَت في إنشاء دولة أوسع وأكبر، دولة وجدت إلى عهدها وكان يرعاها ملك واحد. وبعد أن انتابها العز والذل، الرفعة والضعة، النصر والدحر، العثار والإنعاش، أخذت تمتد متبسطة في الأرض، وأول ما كان ذلك في القرن الثاني عشر قبل المسيح. فالملك تغلث فلسر (تغلتي فلاشرا) دوَّخ في الجهة الغربية المشيان والكماجنيان في بلاد هضاب أعالي الفرات بين الجزيرة وآسية الصغرى، ثم سار مظفَّرًا نحو الشرق متوقلًا جبال كردستان، وواغلًا في البلاد التي نسميها اليوم أرمنية حتى الشمال، وقهر الممالك الصغيرة الواقعة في شمالي سورية، واجتاز لبنان نحو الساحل الفينيقي، وتمكَّن من رؤية البحر المتوسط، فلما سمع بدنوِّه ملك مصر أهداه هدايا ليدفعه عنه، فعاد إلى دياره واستحوذ على أرض شنعار، إلا أن ملك بابل أنزل بجيوشه الآشورية أعظم النكبات وأعادها إلى ديارها. وابن تغلث فلسر أخذ بثأر أبيه. وفي هذا الحين سمعنا باسم بغداد للمرة الأولى بدون أن تكون مدينة عظيمة بين مدن شنعار، وبأن الآشوريين دوَّخوها. وبعد عدَّة ملوك اضمحلَّت سلطنة آشور مدة أعصار متطاولة، وهذا ما يُسمَّى بدولة آشور الأولى.
وبعد أن خمد ذكرهم في تلك المدينة عاد فنبه قبل عهد النبي أشعياء. وفي سنة ٨٦٠ق.م اجتازَت جيوش الآشوريين للمرة الثانية جبل لبنان، وأَكرهوا فينيقيِّي ساحل البحر على أن يؤدوا دلائل الإكرام لملكهم. وقبل المسيح بنحو سبعمائة سنة عادت السطوة الآشورية إلى التقدُّم خطوة خطوة على طول فلسطين، التي أصبحَت بمنزلة الجسر يصل البحر بالبر، وقد اعتمد رأسه على المملكة الضخمة القائمة في وادي النيل. وفي ذلك الحين أخذت البلاد المصرية باسترجاع قواها المتبددة؛ ففي أعالي النيل في المكان الذي نرى فيه اليوم مدينة «الخرطوم» كانت مملكة تُعرف ﺑ «كوش»، وهي التي يُسميها اليونان «إثيوبية»، وكان ملوكها مصريي المحتد والحضارة، وكان صولجان الملك بيد دولة مستقلة، فانحدر ملك كوش إلى أرض أجداده ليفتتحها، فتوفَّق لِما نوى وجمع بينها وبين بلاده الكوشية، وجعلها مملكة واحدة، وكان ينتظر أن تصطدم الحضارتان: النيليَّة، والجزرية أو الفراتية، فوقع، وذلك أن سنحاريب أقبل في سنة ٧٠١ق.م بجيش جرار نحو الساحل، وقد ولَّى وجهه شطر البلاد المصرية، فالتحم الجيشان، الآشوري والمصري، في سهل الفلسطينيين، فولَّى المصريون الأدبار، وكان النصر حليف الآشوريين، وظهر كأن الساعة قد حانت للآشوريين أن يوغلوا في بلاد النيل، إلا أن الأمنية لم تتحقق ساعتئذٍ؛ لأنه بينما كانت جيوشهم مرابطة على حدود الصحراء بين فلسطين ومصر فاجأها طاعون جارف وكاد يُفنيها عن آخرها، لولا أنها أسرعَت فعادت إلى وطنها، وكان سبب هذا الطاعون هجوم طوائف عظيمة من الجرذان على أولئك الجيوش الآشورية، ففعلت بهم ما لم يفعله أعداؤهم.
مضت سنوات والآشوريون يُحاولون في أثنائها الزحف على مصر فلم يتوفَّقوا؛ إذ حبطَت خططهم كلما أرادوا تحقيقها. وفي سنة ٦٧٠ق.م عبر الآشوريون «رفح» الواقعة على حافة البادية، وكسروا الجيوش المصرية قريبًا من التخوم في ملحمتين أُريقَت فيهما الدماء، وبعد أربعة أيام دخلوا منف بأُبَّهةٍ وعظمة، والمصريون مقهورون أذِلَّاء صاغرون، وأضاف آسرحدون إلى ألقابه السابقة لقب: «ملك مصر وكوش»، وشيَّد في نينوى قصرًا جليلًا رائع الحُسن والبهاء، وفتح له في صدره جادة وضع فيها تماثيل أبي الهول على ما شاهده في ديار مصر.
وبلغَت دولة الآشوريين أقصى السعة والامتداد في عهد آشور بنيبل بن آسرحدون (٧٦٦–٦٢٥ق.م)، فإن جيوشه الظافرة صعدَت أعالي النيل حتى وصلَت طيبة أو طيوة عاصمة الصعيد (وفي بعض مكانها اليوم الأقصر وكرنك)، فاكتسحوها وساقوا أهلها أسرى بعيدًا عن بلادهم، فكان هدم هذه المدينة العُظمى — مدينة الإله آمون — نكبة من أعظم النكبات على أبناء مصر، وقد أثَّرَت ذكراها على مُخيلتهم ومخيلة جميع الشرقيين، حتى إنها لم تُنسَ ولن تُنسى.
(١٣) الكلدان وانحطاط الجزيرة في القرن السادس قبل المسيح وتعالي سطوة الفُرس وتفوُّقهم على الساميين
بقيَت بابل صاغرة لآشورية حينًا من الدهر، ثم نفضَت عنها غبار الذل والمسكنة، فجيَّش نبوبلصر جيشًا لُهامًا وزحف به عليها، فأفلح في سعيه. وكان نبوبلصر كلدانيًّا، وكان الكلدانيون من الأمم الآرمية الأصل، نزلوا الشرق قبل بضعة قرون فأسسوا فيه مملكة مستقلة لاصقة ببابل، وحاضرتها واقعة على ضفة الفرات المقابلة لها.
ثم أخذ الكلدانيون يترسَّبون رويدًا رويدًا إلى بابل، وينتشرون في تلك الديار، حتى تبسَّطوا في البلاد كلها، وأصبح بعد ذلك معنى «كلدية» و«بلاد بابل» شيئًا واحدًا. ولما قام على عرش بابل ملك كلداني الأصل سهُل حينئذٍ امتزاج الكلدان بالشنعاريين، واقتبس كلٌّ من الشعبين ما ينقصه لنفسه، فاستعار الكلدان إكرام الآلهة القديمة من الشنعاريين، وعبدوها بأشكالها المعروفة منذ العهد البعيد، واتخذوا الكتابة المسمارية لقضاء أشغالهم وأمور معاشهم، وأخذ البابليون من الكلدان علمَ النجوم وعلم التنجيم، ومنذ ذاك الحين امتزجَ علم النجوم بديانة الشنعاريين، حتى إنه في العهد اليوناني الروماني أصبح معنى «الكلدان» يُفيد معنى «المنجمين».
وفي عهد نبوكد نصر (سنة ٦٠٤–٥٦٢ق.م) عادت بابل فلبِسَت حُلة سُلطة جديدة، وماست بثوب مجدٍ سَني، وبعد أن مضى عليها مائتا سنة في بدء أمرها وهي تختال عجبًا وسؤددًا على باقي البلاد، قضت نيِّفًا وألف سنة وهي تابعة لدولة أخرى، أو محافظة على استقلالٍ كله صعوبات، وفي الآخر جاهرَت به غير هيَّابة، فتلألأ مجدها، وسطع نور عزها، لكن ذلك كان عبارة عن شمس أصيل الحضارة الشنعارية القديمة قبل أن تتوارى عن الأنظار؛ فهذه العودة الجديدة إلى المجد والفضل لم تتجاوز عمر نبوكد نصر رافع لوائها وباني معاهدها، وقد وافق وقوع هذا التجدُّد زمن تمخُّض حوادث الدهر بشعبين آخرين، قد خُصَّا من بين جميع الشعوب والأمم بأن يدفعا المجتمع البشري وتصوُّراته وتخيُّلاته المستقبلة إلى أبعد مدًى من العقليَّات الدينية والدنيوية، وهما: اليهود، واليونان؛ إذ على آرائها تُبنى معاهد العقائد والعلوم، فتكون هي السائدة أو الباقية في الأرض، وما عداها يذهب هباءً منثورًا في الكون.
أما من جهة سعة مملكة بابل والكلدان فإنها كانت دون دولة آشور القديمة في قِسمها الجنوبي في عهد آشور بنيبل.
والبائن في نحو هذا العهد انتقلَت عيلام إلى يد جيل آري يتصل بالماذيين نسبًا، وكان مركزه في الديار الجبلية من الجهة الجنوبية الغربية، وقد أسَّس دولة جديدة تدفع الجزية إلى ملك ماذي، وكانت بلاده فيما نسميه الآن «ولاية فارس»، وضمت إليها ديار عيلام التي حُطِّمت كما حُطِّمَت دولة تلك البلاد مع ملوكهم الذين هم من أبنائها في أيام مملكة آشور الأخيرة، وسوف تسمع عنهم كثيرًا فيما يأتي من مطاوي التاريخ، وكانوا يُسمُّون أنفسهم «فارسا»، ومنه اسم «الفُرس» عند العرب الذي وصل إلينا.
وقد حاول نبوكد نصر أن يمد سطوته إلى ما جاوره من البلاد، ويبلُغ وادي النيل، لكنه مع ما بذل من الهمَّة والسعي الحثيث لم يتمكَّن مما منَّى نفسه به، إلا أنه مدَّ صولجانه إلى سورية وفلسطين، وهما بمنزلة الجسر للعبور إلى ديار مصر، ورضي بإقامة ملك من صُلب داود يحكم على تلك الربوع، ولكن إلى أجلٍ مسمًّى، بَيْدَ أن الدسائس التي كانت تُدسُّ بين أورشليم وبين بلاد مصر بلغَت مبلغًا أيَّ مبلغ، حتى إن الجيوش البابلية لمَّا أخذَت أورشليم للمرة الثانية اكتسحَت المدينة المقدَّسة وهدمَت هيكل سليمان، بعد أن حاول الملك صدقيا أن يتخلَّص من سطوة قاهره، ولكن سعيه ذهب أدراج الرياح، وسيقَ اليهود أسرى إلى ديار بابل ومعهم آخر ممثل للسلالة الملكية العتيقة.
وقد أفرغ نبوكد نصر كنانة وُسعه لإصلاح شئون شنعار وتجديد معالمها وإحياء معاهدها، فحفر الأنهُر، ورمَّم الترع، وبذل همه في إسعاد العباد وتأمين البلاد، فوسَّع بابل وزاد في محاسنها ومآثرها، وهو لا يعرف الملل ولا يصيبه الكلل، فشاد هياكلها المتهدمة، ورفع رءوسها إلى عَنان السماء، ونقش جلائل أعماله على الآخر باللسان القديم وحرْفه العتيق المعروفَين في البلاد، لتشهد بأنه وُجد أيضًا في بابل ملك قدير مخلص العبادة للإله «بل» أو «بنو»، وكانت مدينة بابل مبنية في فسحة مستقيمة الزوايا، تكسيرها ميلان ونصف في ثلاثة أميال، ولها سوران: خارج، وداخل، وكان المقبِل إليها من الخارج لا يدخلها إلا من بعد أن يجوز أسوارها الواسعة الواحد بعد الآخر، وكان عرْض الواحد منها بيِّنَ العرض، حتى إن عجلتين كانتا تسيران أو تتلاقيان على أعلاه. وبعد الدخول تنبهر عينا المسافر مما يشاهد ويرى.
وكان الفرات يشق هذه الحاضرة شقًّا، وكانت أبنية الآجر فيها منحصرة في القسم الموجود بين الحيطان من تلك الفسحة، وقسم منها كان عَرصة للبساتين ومزرعًا للحنطة، حتى إذا ما ضايقها العدو في يوم حصار تستطيع أن تُطعِم أبناءها، وكانت الهياكل ترتفع فوق البيوت المألوفة بهيئة أبراج بسطوح بعضها فوق بعض، كما كانت تسمو صعدًا مباني نبوكد نصر الجديدة، وكان أحدها بناية بطبقاتٍ قد ركب بعضها بعضًا، وتلك البنية هي قصر الملك، وكان قسم منه في ضفة من الفرات، والقسم الآخر في الضفة الثانية؛ أي إنه كان راكبًا الفرات ركوبًا، وكان يجمع بين القسمين سرب تحت النهر. والقصر وحده كان عبارة عن مدينة، وكانت جدرانه مغشاة بنقوش حيوانات مرسومة على الآجر بأصباغ زاهية لا تُمحى، وقد خُصَّ رسمها بأهل البلاد دون غيرهم، وعلى وجهٍ غريب تناقله الخلف عن السلف. وكانت قُبَّة القصر المذهبة تتألق ضياء عن مكان سحيق، ولا سيما لأن الشمس في هذه الربوع تبقى سافرًا لا يحجبها حجاب البتة في أيام القيظ. ولا جرم أن هذا القصر الملكي كان متصلًا بالجبل المصطنع، ذلك الجبل الذي وصفه لنا اليونان باسم «البساتين المُعَلَّقة»، وكان الذي حداه إلى صُنعه أن امرأته المادية كانت تذوب أسًى لوجودها في بلادٍ كلها سهول منبسطة، فأراد زوجها أن ينقل لها تلال بلادها، فابتنى لها جبلًا متدرِّجًا متفاوت السطوح يذهب صعدًا في الهواء، وقد بناه كله بالآجر قائمًا على عقودٍ مُحكَمة الشد، وتلك السطوح كثيرة التراب لتتمكن الأشجار الكبيرة من أن تنمو فيه بدون أن ترى نفسها في أرضٍ غريبة، وكنت ترى هناك ينابيع ماء وشلَّالات متنوعة تروي تلك الأشجار المثمرة على تبايُن أشكالها، كما أن هناك سراديب مُظلمة لذيذة الموقع في أيام القيظ الشديدة الحر.
وقد كانت بابلُ حاضرةُ تلك الديار الغنية قلبَها الحيَّ ومركز حركتها في أمر التدبير والسياسة والغِنى، ولا جرم أنها كانت كذلك حتى لما كانت خاضعة لغيرها في أمر سياستها؛ فقد كانت محط رحال الأقوام ومتَّصَل تجاراتهم ومجتمع قوافلهم؛ إذ كانت تزدحم فيها بياعات أهل الشمال وبلاد العرب والهند وبحر الروم وسكان الغرب، وفيها مُلتقى أُناس من عناصر شتى ولغات مختلفة وألوان متغايرة، وفيها كانوا يختلطون بعضهم ببعض، فهي بابل بالحقيقة. وفي محلة من أحياء الحاضرة التي كان يخرقها من جهة إلى جهة «الطريق السلطاني» كانت الشركات التجارية ومخازنها الواسعة، منتسقة على طول ترعة «ببكودو»، ومما يجدُر ذكره أن في أيدي طلبة الآداب المسمارية الخط في ديار الإفرنج نحو أربعة آلاف صفيحة من الآجر أو أكثر يُطالعونها، وهي عبارة عن دفاتر المحل التجاري الكبير لأصحابه «أجي وأولاده»؛ فقد كانوا يتعاطون بيع غلَّات بابل والنخاسة (تجارة الرقيق)، ويمكننا أن نتحقق منها معاطيات تجارتهم وسعتها وثروتهم الضخمة منذ أيام نبوكد نصر إلى نحو مائة سنة بعدها.
ولم يكد نبوكد نصر يموت إلا ومات معه هذا المُلك العريض؛ ففي مدة سبع سنوات (٥٦٢–٥٥٥ق.م) توالى على أريكة الإمارة ثلاثة ملوك، واضمحلُّوا في فتنٍ وقعَت في القصر، فانقرضَت تلك الأسرة وزالت كل الزوال كأنها لم تكن. وأول مَن تُوِّج بعد اضمحلال آل نبوكد نصر كان «نبو ناهد»، وكان رجلًا تقيًّا كثير الولع بالأبنية، إلا أن شعبه لم يُحبه، وأراد أن يدفع عنه غائلة الفُرس بانضمامه إلى اللوذيين والمصريين، فلم ينجح؛ إذ سقطَت لوذية (سنة ٥٤٦)، ولم ينتفع من سني سكون كورش ليُحصِّن مملكته، فلما كان الهجوم (سنة ٥٣٨) كُسر شر كسرة وقُبض عليه ومات بعد أيامٍ قليلة، ومذ ذاك الحين أصبحَت كلدية أو دار الكلدان من توابع مملكة الفُرس.
والفُرس جيل من الناس احتل البلاد الواقعة في شرقي عيلام، منذ أول انهيال الأقوام الآرية وهبوطهم من مواطنهم، فكانت تمتد ربوعهم من مصبِّ نهر تاب في الغرب، إلى أنحاء مضيق هرمزد، وهي قِفار، وماؤها لا يكفي لسقيها على طول الساحل، وفيها أنهُر صغار لا غير، مثل التاب والبندمير والكراب، وكلها تدفع في البحر. أما ما بقي من سائر الأنهار فلا مجرى لها، بل تجتمع في بطون الأودية، فينشأ منها بُحيرات يختلف امتدادها باختلاف الفصول. وكانت القبائل الفارسية قد اقتسمَت تلك الأرجاء وكوَّرتها كورًا، منها: الباريتكينة (وهي اليوم جزء من عراق العجم)، والمرديانة، وكلتاهما في الجبال، والتكينة، وهي على طول الساحل، والكرمانية نحو الغرب، وابتنَوا لهم فيها بعض القُرى الضخمة، أشهرها: إصطخر (فرسيبوليس)، وبسا (فسر كد، أو معسكر الفُرس)، وكانوا يَدينون لملوك من صلب رجل اسمه هاخمنيش، كان زعيمهم في إبَّان هبوطهم البلاد، ثم انتزع واحد من فرع هذا البيت كورة أُنشئت من العيلاميين الذين كان أفناهم آشور بنيبل، وأسَّس فيها إمارة دبَّر أمورها يئسبا وكورش الأول وقنبوسيا الأول (قمباسوس)، وأقرُّوا بسيادة الماذيين عليهم ما يقرُب من قرن.
ثم جاء كورش الثاني، وهو ابن قنبوسيا، ويُعتبر من كبار الفاتحين الذين فتحوا الفتوحات الواسعة وفرشوا على الأرض بساط ملكهم الضخم، وحالما انتصبَ كورش على أريكة مملكة ماذي وتُوِّجَ ملكًا على الماذيين والفُرس والعيلاميين أصبح مالكًا لدولةٍ أوسع من كل دولة سبقتها، من جهة الوحدة والارتباط والرجوع إلى الرأس الواحد، وأرصد بقية حياته ليزيد في بسط ملكه. أما تتويجه ملكًا على الماذيين والفُرس فكان في أكبتاتة في سنة ٥٥٠ق.م على الأرجح، وأما سائر الدول، فلما رأَت أن ظلَّ السطوة الإيرانية في امتدادٍ دائم، وأنه أوشك على أن يمتد إلى ديارهم، أوجسَت في نفسها خيفة، فتحالفَت عليها، والمتحالفات هي: لوذية، ومصر، وبابل. بَيْدَ أن هذا الملك العظيم استحوذ على سرديس، فأزال بذلك مملكة لوذية، وظل سائرًا في وجهه مُمعِنًا في جوف آسية الصغرى، مُتجهًا إلى السواحل اليونانية على خط مستقيم. وبعد ذلك حوَّل كورش نظره إلى الشرق، ومن سنة ٥٤٥ إلى ٥٣٩ق.م كان يُحارب ويفتح المدن في الأرض التي نسميها اليوم ولايات بُخارى، ومرود، وفيما وراء بحر قزوين، وفي أفغانستان، وبلوجستان. ولما كان أهالي تلك الديار يتصلون نسبًا بالأقوام الإيرانية لم يَخَف كورش من انتقاضهم عليه، فزحف على بابل، وكان القابض يومئذٍ على أعِنَّة الملك نبو ناهد، وهو وإن لم يكن من آل نبوكد نصر في الظاهر إلا أنه توفَّق رعاية الملك، فقبض عليه كورش وأسَره، وصيَّر أرض شنعار ولاية فارسية (سنة ٥٣٧ق.م)، وأما مصر فقد ترك فتحها لابنه قنبوسيا؛ إذ عقد نيَّته على تدويخ قلب آسية، لكنه مات في معركةٍ خاض غمارها في موطنٍ قريب من إحدى ضفَّتَي سرداريا (سنة ٥٢٩ق.م).
وأتمَّ ابنه قنبوسيا في مدة ملكه القصير (من سنة ٥٢٩–٥٢١ق.م) فتح مصر، ثم اتفق بأن الموبذات الماذيين أعانوا برديا أحد النصابين، فاغتصب المُلك مدة وجيزة، ثم انتقل الصولجان إلى يد فروعٍ أُخَر من فروع الكيانيين وهو دارا (الذي يسميه بعضهم داريوس) بن يشتشب، سنة (٥٢١–٤٨٥ق.م).
ودارا هذا من أعظم ملوك الفُرس، فإذا كان كورش هو منشئ الدولة الفارسية فدارا منظِّمها ومُرتِّبها، ولقد كابد الأمرَّين في عدة سنوات ليقمع جماح الفتن القومية، ويردع الشيوخ أو الأمراء الإيرانيين عن مطامح أبصارهم إلى امتداد ذلك الملك الضخم، الذي دخل في حوزة ملك الملوك؛ فهيئة الإدارة الملكية وتقسيم أراضي الدولة إلى مرزبات، وتوزيع الضرائب، هي كلها من أعمال دارا، وقد حاول أن يوسِّع ملكه في إحدى الجهات ويُمعن في أرضها، فعبر البصفور ووطئ أوروبة، وأجبر مكدونية على أداء الجزية، ثم أوغلت جيوشه في جهة الشمال خلال البلاد التي نسميها اليوم بلغارية ورومانية، ثم خلال الطونة (الدنوب) في سهول جنوبي روسية، لكنه أخفق في زحفته، فاضطرَّت الجيوش الفارسية إلى العودة نحو الجنوب متكبدة خسائر، إلا أن دارا بقي قابضًا على تراقية ومكدونية.
فيتضح لك مما تقدم بسْطه أنه لم يكن يوجد في ذلك العهد في الأرض إلا مملكة واحدة، في طرفها الواحد جبال البلقان، وفي الطرف الآخر ضفاف نهر السند، وفي أقصاها شلالات النيل، وفي أقصاها الآخر سرداريا، فاجتماع عدة ممالك بهذه الصورة لم يحلم به أحد في القرون الماضية بأن يكون في قبضة رجل واحد. ومن خاصيات هذه السيادة العُظمى أن الشعوب التي كانت تُطأطئ رأسها لصولجان هذا العاهل الكبير كانت آمنة على نفسها، عائشة عيشتها الغريرة، ومدبرة شئونها بنفسها طالما كانت تعمل بأمره؛ أي: طالما كانت تُؤدي الجزية وحصة الرجال اللازمة لجيوشه، فالحقُّ يُقال: إن جمع القوى في قلب المملكة الحديثة النشوء في مثل تلك الأيام التي كانت تصعب فيها المواصلات؛ إذ كانت في بدء أمرها، هو من الأمور العجيبة، ومما زاد ارتباط أجزاء مملكته بعضها ببعض أنه أقام نوعًا من السُّعاة والرسل على طول الطُّرق الرئيسة في مملكته ليضم الأطراف النائية منها إلى قلبها، فتجري مجاري الحياة في عروق هذا الجسم العظيم. والديار التي هي مثل آسية الصغرى كان قد أودع جزءًا منها إلى عناية حكامها الوطنيين الذين فيها، والجزء الآخر إلى الحُكام الإيرانيين الذين كان لهم قصور خاصة بهم في الديار المذكورة، وكان بيدهم الربط والحل بقدْر ما يحتمله المقام الخاص بهم، وكانوا كأنهم ملوك صغار في تلك الربوع، وكان المبدأ المألوف في الإدارة الفارسية ألا يتدخل كبارها القابضون على زمام الأمر في شئون داخل الأقوام التي أُخضِعَت لحكمهم، وكان الملك راضيًا عنهم طالما يحكمون باسمه حُكمًا عادلًا ويبقون مخلصين لعرشه؛ فالمدن اليونانية الواقعة على سواحل آسية الصغرى كانت مثلًا تحت حكم ملوك يونان، وقد وافق على تعيينهم الملك الفارسي، فإذا عدلوا عن محجة العدل والإخلاص أبدلهم حالًا بغيرهم.
ونرى مثالًا آخر من نوع هذه الإدارة الكثيرة التسامُح ما حدث في اليهودية؛ فإن بابل لمَّا انتقلت إلى يد كورش سمح هذا الملك لجميع الأسرى اليهود أن يعودوا إلى أوطانهم إذا أحبُّوا، وأن يبنوا لهم هيكلًا جديدًا ليهوه آلهتهم، فعمل بهذا الإذن جماعة منهم وشادوا الهيكل على مكانه القديم، وأخذوا يكثرون وينمون حتى نشأت حوله مدينة يهودية جديدة، وكان لها شيوخ خاصة بها يُديرون شئونها، ولما أنفذ الملك حاكمًا أو عاملًا باسمه في اليهودية انتقاه بين يهود بابل، وهو نحميا.
على أن الإدارة مهما كانت حسنة في حدِّ نفسها إلا أن الأمم التي كانت غريبة العُنصر كانت ترى الخضوع للملك الأجنبي والانقياد لأوامره من أصعب المصاعب، فكانت تُحاول أن تتحرر من هذه الربقة، ولا سيما لأن أمراء الملك كانوا يضربون عليهم ضرائب مختلفة من نقدٍ أو عين أو رجال، فكانوا إذا رأوا أنه ينزح بأولادهم يشق عليهم الأمر أعظم مشقَّة؛ إذ أكثرهم يموتون في الحرب أو لا يعودون إلى أوطانهم لعلة من العلل، والأهالي الذين كانوا يبقون في بلادهم كانوا مكرهين على أن يحووا عندهم حامية الملك، وهو أمر لا يخلو من الأضرار الأدبية والمادية.
وإذا انتقلنا إلى وادي الفراتين نرى أن جانبًا عظيمًا من أصحاب المعيشة القديمة كانوا باقين عليها بدون أدنى تغيُّر، وكان أصحاب العناية منهم يُدوِّنون أشغال تجارتهم وشئونهم الشرعية حفرًا على صفائح الفخار، متخذين لها القلم القديم المسماري.
وكانت معامل الأقمشة البابلية تُعنَى بأمورها، فيشتغل فيها مئات من الأيدي، وترى الهياكل غاصة بالسدنة. والظاهر من بعض الدلائل أن هياكل بابل انحطَّت بعض الانحطاط في عهد الكيانيين، وذلك إما لأن الملك كان على دينٍ يُخالف دين البابليين، فكان هؤلاء يخافون أن يضع يده يومًا ما على كنون الآلهة، وإما لأن الكهنة كانوا يُفكِّرون بعض الأحيان فيما يعود إلى أنفسهم من الأرباح أكثر مما كانوا يُفكرون في أمر الآلهة. وأما الديانة نفسها فإنها بقيَت سائرة في وجهها بدون أن يحل بها تغيير، والدائنون بها كانوا يحافظون على معتقدهم بخصوص حكايات الآلهة الملفَّقة، وشعائر السحر والتنجيم، متناقلين كل ذلك خلفًا عن سلف. وكانت بابل أيضًا مركزًا عظيمًا للتجارة، فكأنها قرية نمل ونملها البشر، ويتعذَّر وجود مثلهم في القدْر والعنصر في غير هذا الموطن.
وما عدا أن بابل كانت مملوءة تجارة وصناعة وديانة وأنسًا وملذَّات، فإنها كانت أيضًا نوعًا ما قلب العالم. وكيف لا تكون كذلك وأرضها غريلية غنية هذا الغنى، حافلة بالسكان، واقعة في بؤرة البلاد المعروفة يومئذٍ! أَفَيَهون فقدانُ امتيازها لمجرد انتقال صولجان الملك إلى أمة غير أمتها؟! فكانت بابل المدينة حاضرة الدولة الفارسية شتاءً، وكان قصر الملك فيها قصر نبوكد نصر نفسه الذي كان بجانب الجِنان المُعلَّقة، وكان يقضي فيه ملك فارس أشهُر الشتاء، وأما إذا أقبل الربيع بمحاسنه فإن الملك كان يظعن مع حشمه إلى شوشن حاضرة عيلام العتيقة، ثم يمعن مصعدًا في الجبال الإيرانية إذا ما اشتدَّت حُمرة القيظ فينزل إصطخر في إقليم فارس، أو ينزل البتانة حاضرة بلاد ماذي، في قصرها الفاخر البديع؛ قصر الأرز المنيع.
(١٤) الهلين أو اليونان، إسكندر الكبير أو إسكندر ذو القرنين، السلوقيُّون، في الهلين أو اليونان
في الطرف الأقصى من غربي الدولة الفارسية الضخمة، احتكَّ الفُرس باليوانة المعروفين عند العرب باليونان، وعند الإفرنج بالهلين. وهذا الاحتكاك كان يُسبِّب قلقًا دائمًا لكلٍّ من الطرفين، ولا سيما لأصحاب تلك المدن الآسيوية التي كانت كل منها دولة قائمة بنفسها تريد الاستقلال والتمتُّع بحريتها، وألا يكون على سكانها رئيسٌ يراقب أعمالهم ويسيطر عليهم سوى آلهتهم وشرائعهم، وكان في الجانب الآخر من بحر إيجى أُناس آخرون من عنصرهم يطوون بساط أيامهم في البلقان، وهي دار أصل قوميتهم، وهي «الهلاس»؛ أي بلاد الهلين إن أُطلق هذا اللفظ. وكان اليونان الذين في آسية يشتدون همةً ويزدادون رغبة في العصيان كلما وردهم عون أو أيد من إحدى تلك المدن أو من عدة مدن من المدن الواقعة وراء البحر. وقد كان تمالؤ هؤلاء أولاد الأعمام منذ البدء؛ ولهذا كنت ترى الإيرانيين الفاتحين واليوانة الجمهوريين في قراعٍ ونزاعٍ دائمَين. وبعد أن فتح كورش لوذيتها وليدية ونصف العالم المعروف كان يومئذٍ عند قدميه، جاءه ذات يوم وهو في سردس وفد قادم من مدينة صغيرة من مدن يوانة، واقعة في غربي إيجى اسمها «إسبرطة»، فلما مثُل بين يديه قال له: «لا تَضع يدك على مدينة من المدن اليونانية؛ لأن الإسبرطيِّين يستنكفون من ذلك.» فلما وقف كورش على قوة موفديهم لم يخشهم، لكنه عزم هو وابنه خشايرشا أن يستأصلا شأفة هذا الداء حسمًا للقلق وقمعًا لجماح أولئك المتغطرسين، فيسحقاهم في عُقر دارهم. فجيَّش دارا جيشًا عليهم، لكنه لم يصل؛ لأن الأثِنين قاموا عليه (سنة ٤٩٠ق.م)، واضطرُّوه إلى العود إلى السفن التي نقلَته حينما نزلوا على سواحل أتيكة. فنهض ابنه خشايرشا، وسار في جيوش رجراجة على طريق تراقية ومكدونية، فلما وصل بلاتيا نُكب فيها نكبة عظيمة (سنة ٤٧٩ق.م) لم يَنسَها الفُرس؛ إذ وطَّنوا أنفسهم على القعود مدة جيل أو جيلين لينسوا أوتينا سوءَ كسرة خشايرشا.
فلما رأى هذا الأمر اليونان، أخذَت مدنهم تنسلخ عن الفُرس الواحدة بعد الأخرى، ومدينة آثينة تمالئهم على عملهم عملًا بمعاهدة بحرية عُقِدَت عراها معهم، وبعد أن فكَّر الفُرس في حيلة يحتالونها على أعدائهم وجدوا وسيلة موقنة يفككون بها ما تحكَّم من عُرى ذلك التحالف، وتلك الوسيلة هي إلقاء بذار الفتن والتباغُض والتشاحُن بين المدن اليونانية، وإثارة الواحدة على الأخرى، فنجحوا بفضل ما صرفوه من الأبيض الفتَّان والأصفر الرنَّان، وهي طريقة عُرفت في الشرق منذ القديم، ولا تزال جارية فيه إلى يومنا. وتمكَّن ملوك الفُرس في آخر الأمر من إخضاع يونان آسية لصولجانهم مرة أخرى، وإكراههم على أداء الجزية وإيواء الحامية في مدنهم، ولو كانت تلك الثغور يومئذٍ في مأمنٍ من كل هجوم أو غارة، وكان إذا عرض لقُوَّاد الجيوش اليونانية أو لمرازبة الفُرس العُصاة حدث خروج على الحكومة الفارسية في غربي مملكتهم فإنهم كانوا يجدون دائمًا بين اليونان أُجرَاء يأتمرون بأمرهم وينتهون بنهيهم، ولضيق المقام لا نورِد هنا إلا شاهدًا واحدًا إثباتًا لما نقول؛ وذلك أن أخ أرتحششتا الثاني تربَّع على أريكة المملكة بواسطة جيش من الأُجراء اليونان، حتى بلغ به إلى الفرات في موضعٍ يسامت بغداد (سنة ٣٩٩ق.م)، والحق يُقال كان اليوانة جذوة نار دائمة، وجرثومة اضطراب وفِتَن في تخوم الدولة من جهتها الغربية، وكانوا أشد بلاء من الأقوام الطوارئ التي نزحَت من قلب آسية، فسبَّبت تلك القلاقل والزعازع في تخومها الشرقية، بل كانوا أسوأ مغبَّة من الأقوام العُتاة الطُّغاة أقوام الهِضاب، مثل الكشيين الذين كان يدفع إليهم الجزية الملك الأكبر نفسه لمَّا كان يذهب إلى بابل وإصطخر مارًّا بديارهم الجبليَّة.
فأخلاقيات اليونان وعقليَّاتهم الجديدة وصناعيَّاتهم وأدبيَّاتهم هي ما يُطلق عليها اسم «الهلنية، أو الخصائص اليونانية» نسبة شاذة إلى بلاد هلاس، التي هي بلادهم الأصلية، على ما ألمعنا إليه قبل هذا، كما قالت العرب رازي، في النسبة إلى ري. ويجوز لنا أن نقول: إن في هذا اليوم الذي مَثُلَ رسول إسبرطة بين يدي كورش في سردس بدأت منازعة عظيمة بين هلاس وإيران في أيهما يملك غربي آسية الصغرى، ودامَت هذه المنازعة بين القومَين أكثر من ألف سنة، كان فيها الظفر للهلنية.
ولا جرمَ أن الفُرس عرفوا ما لحضارة اليوانة من المنزلة والرِّفعة ولو بعض المعرفة، يشهد على ذلك أنهم كانوا قد أبقَوا عندهم في قصور ملوكهم بعض أطباء يونان لما شاهدوا فيهم من الكفاءة وسعة الاطلاع، وكان أغلب الإيرانيين احتكاكًا باليوانة الأشراف منهم الذين كان لهم ماشية في آسية الصغرى، والذين ربطتهم بهم منفعتهم في المعاملات اليومية أو في الأفكار الجديدة التي أدخلها هؤلاء الناس المتنوِّرون، لكن لم يُفكر الإيرانيون قط بأن اليونان يُكوِّنون يومًا دولة تُمكِّنهم من السيادة في آسية؛ لأنهم كانوا معروفين بحب الفتن والقلاقل والتخاذل والتنازُع وشق العصا، أما في بلاد اليونان نفسها (أي إغريقية) فكان قد انتشر في النصف الأول من القرن الرابع أن تخاذل اليونان هو الحائل المكين دون سيادتهم، وهي وحدها تمكِّنهم من القبض على أعِنَّة العالم؛ ولذلك قامت فيهم دعوة إلى بث توحيد الكلمة ولمِّ شعث الأمة كلها، فكانت حقيقة دعوة إلى الجامعة الهلنية تضافروا فيها وتعاونوا ليحملوا حملة واحدة على الإيرانيين. وقد عرض إيسقراطس الهجَّاء أن يكون على رأس هذه العصابة ملك مكدونية، التي كان أهاليها مرتبطين باليونان نَسبًا، وكان رؤساؤها المدبِّرون لشئونها قد انحازوا إلى الهلنية في قسْمها الأعظم.
(١٥) إسكندر ذو القرنين، أو إسكندر الكبير
هذا هو ملخَّص ترجمة أكبر قائد وُجد على هذه الأرض. والظاهر من آخر أعمال الإسكندر أنه عقد النية على أن يجعل دولته العظيمة خليطًا من الهلنية والإيرانية، لِما رأى في أبناء إيران من سمو الأفكار وعلو الهمة مما يُعارض ما في نفوس الهلين، وكان يُبدي التفاتًا خاصًّا إلى أشراف الإيرانيين، وحاول إدماج العنصرين المتنافسَين بواسطة الزواج، فتزوَّج هو أميرة من شرقي إيران (أفغانستان) اسمها روشنك (روكسانة)، وفي بعض الحفلات المشهودة لبِس ثيابًا فارسية، وكان مع ذلك يُحافظ على مألوف عاداته من تقدير علم اليونان وصناعتهم مُنشِّطًا لهما، وكيف لا يكون كذلك وهو تلميذ أرسطوطاليس وخريجه! وتمسُّكًا بما فُطر عليه من حبه لبلاده أقام في المواضع الخطرة من طرق المواصلات خلال أراضي المملكة نحو سبعين مدينة جديدة على الطَّرْز الهلني، وجعل غالب أهاليها من المكدونيين واليونان، ولعله كان في نيته أن يُبقي بابل كرسيًّا لتلك المملكة الهائلة العِظَم؛ لأن موقع أرض الفراتين الغريلية تبدو مركزًا طبيعيًّا لها. هذه كانت نيته حينما عاد من الهند في سنة ٣٢٣، وكان يُفكِّر في فتوحات جديدة والتبسُّط في طول الأرض وعرضها. وحفر أحواضًا جديدة لتحسين شئون سقي أراضي بابل الخصبة، وتطهير دجلة لتسهيل سَير السفن عليه. ومما امتاز به الإسكندر عن سائر القُوَّاد الكبار أنه بذل سعيه في تعمير المدن أو حفْظها أكثر منه من تدميره لها، ودفع الحضارة دفعة إلى الأمام لم يسبقه إليها سابق؛ فإنه ضمَّ أممًا بعضها إلى بعض، أممًا كانت سابقًا متباغضة متشاحنة، ونشر في الشرق أفكار اليونان، كما نشر في الغرب آراء الشرق وصنائعه وفنونه، ووسَّع نطاق الإبحار، فكان قد أمر بإنشاء أسطول ضخم في ثغور فنيقية، فنُقلت أوصال سفنه إلى بابل، وهناك ركَّبها ليُسيِّرها في البحار والأنهار. وبينما هو غارق في بحار هذه الأفكار الكبرى والخطط الوسعى احتضر في بابل قريبًا من الفرات في قصر نبوكد نصر المبني بالآجر البديع الألوان الرائع الجمال.
(١٦) السلوقيُّون
لمَّا أشفى الإسكندر على الموت أسند ظهره إلى وسادة، ومدَّ يده ليلثمها جميع الجند جريًا على العادة المُتَّبعة يومئذٍ، فدنا منه كُبراء دولته وقالوا له: مَن تُخلِّف على هذه المملكة الضخمة؟ قال: خليفتي عليكم أجدركم برعاية الملك والصراط المستقيم، وإني لأرى وقوع الشقاق بينكم، فحذار حذار منه. ثم سأله أحدهم: ومتى نُحصيك في عِداد من يُعظَّم ويُكرَّم؟ فقال: لا أُجلُّ إلا إذا سعدتم بعدي وانتظم شملكم أحسن انتظام. فكانت هذه آخر أقواله، ولما تُوفي كان عمره ٣٢ سنة و٨ أشهر على أصحِّ الآراء. واتَّفق عظماء الدولة على تولية أخيه أرهيديوس من قبلِ أن يُولد ابنه، ثم ولدَت روشند بعد ذلك ولدًا ذكرًا سُمِّي إسكندر إيغوس، فقتله كاسندر مع أمه سنة ٣١١، واقتسم القُوَّاد المملكة، فملك كلٌّ منهم في القسم الذي وقع له، وهذه هي دولة السلوقيين، وهي عبارة عن ثلاث ممالك، وهي: مملكة مكدونية وتراقية، ومملكة بطليموس وتشمل مصر وفلسطين، ومملكة سلوقس. ثم أخذت هذه المملكة بالتنازُل والانحطاط مدة ثلاثة قرون متتالية حتى اضمحلَّت.
أما الهلنية فإنها لم تفقد شيئًا من مزاياها، بل كسبت شيئًا يُذكر في عهد السلوقيين، إلا أنها مع ذلك كانت تتضاءل؛ إذ كانت تنسلخ عنها الكورة بعد الكورة لتنضم إلى الإيرانيين أو إلى ملوك تلك الرُّبوع، وفي الوقت عينه كانت تُؤسَّس مدنٌ جديدة في آسية، أو كان يُعاد تشييد البلدان القديمة على طَرْز يوناني حديث، وهو الأمر الذي شرع به الإسكندر، فبقي سائرًا في وجهه، فكان ذلك سببًا لاستفحال الهلنية وفشوِّها بين الآسيويين المبثوثين في السلطنة السلوقية، بل في قصور إيران نفسها التي كانت تقوم مقام الدولة السلوقية في مواطن عديدة؛ إذ اختلطَت فيها الهلنية قليلًا أو كثيرًا حسب مقتضيات الأحوال.
ومما يُؤسَف لذكره أن سلوقس أخرب حاضرة بابل، تلك المدينة العتيقة الشهيرة، وإن شئت التحقيق فقل: نقل تلك الحاضرة إلى موطنٍ يبعُد ٦٣ ميلًا عنها، وأركبها شق دجلة، وهي التي سُمِّيَت بعد ذلك «سلوقية على دجلة» التي أصبحت في برهة قاعدة نصف دولة الشرق، وهي التي سمَّاها بعضهم ساليق؛ تمييزًا لها من عدة مدن عُرفَت بسلوقية، كانت هذه أكبرهن وأوسعهن. وهي أقرب إلى جبال إيران من أنطاكية الشامية إليها، ولا جرمَ أن سكان بابل الأقدمين ظعنوا إلى الحاضرة الجديدة ولم يبقَ في تلك الخربة إلا جماعات من السدنة كانوا يُحافظون على شعائر دينهم القديم في مدينةٍ تزداد خرابًا يومًا بعد يوم، ويقومون بما يندب إليه الدين في الهياكل الأبراج التي كانت تخرج رءوسها الدقيقة من بين سائر الأبنية، وقد حكم عليها القضاء أن تنحطَّ شيئًا فشيئًا في دركات الخمول والوحشة، بينما كانت سلوقية تتيه عجبًا بكونها مدينة يونانية حديثة الغضارة والنضارة، ينشقُّ منها نور ومدنية جديدة، يتدفق متصبِّبًا على أنهار وجنَّات أرض شنعار القديمة. وهل يبلى اسم سلوقية وهي التي وُلد فيها ونبع منها ديوجينس البابلي، أحد أعاظم كُتَّاب الرواقيين ورأس مدرستهم في أثينة (١٥٦ق.م)، وكثير من البابليين تلقَّوا فيها علومهم وآدابهم اليونانية، ومن جملتهم بيروسس الكاهن البابلي الشهير، الذي وضع تاريخ بلاده باليونانية وأهداه إلى أنطيوخس الأول ابن سلوقس. ومن مشاهير علمائها أيضًا سلوقس الرياضي الفلكي، وكان قد ذهب قبل كوبرنك إلى أن الأرض وسائر السيارات تدور حول الشمس، ولعله كان بابلي المولد.
ولو أخذنا طريق سلوقية بمائتي سنة قبل المسيح شاخصين إلى ماذي وفارس لعثرنا بالمدينة بعد المدينة، وكأنها نصفهم يونان ونصفهم وطنيون، ولسانهم الرسمي اليوناني، وأبنيتهم على الطَّرْز اليوناني، كما كنت تشاهد في تلك المدن مدارس ومعاهد ومسارح لهو كلها يونانية. وبين الحواضر اليونانية البابلية الدار كانت يومئذٍ أرطميتة، وهي مدينة كانت واقعة بين الزوراء وخانقين، ومنها نبغ المؤرِّخ أبلودورس.
على أن الهلنية وإن تقدَّمَت تقدُّمًا ذا شأن بعد الإسكندر ممتدة في البلاد طولًا وعرضًا، إلا أنها فقدَت من صفتها؛ لأن حياة هذه المدن اليونانية المبثوثة بثًّا في أنحاء آسية كانت — ولا شك في ذلك — ظِلًّا ضئيلًا لحياة أثينة في عهد أفلاطون، وفي العهد اليوناني أصل النشأة المشهورة، هذا فضلًا عن أن اللغة لا تجود إلا في أرض مصدرها، ولا تريع إلا فيها، وأما في مستنبتها أو منتقلها فلا تكون فيها إلا عائشة لا نامية.
(١٧) انحلال الدولة السلوقية وظهور الدولة البرثية
ومنذ ذاك الحين إلى أربعة قرون ملك البرث إيران وبلاد بابل، وأصبحَت دولتهم أعظم دولة في الشرق، والأرجاء التي كانوا قد افتتحوها كانت مُغشاة بالمدن اليونانية على ما ألمعنا إليه. وبهذا المعنى عمَّرَت الهلنية طويلًا في عهد الحكومة «البربرية» مدة أجيال في الأقاليم التي فقدها اليونان. ونظن أن تجارة المملكة البرثية بقيَت في أيدي اليونان. وأظهر الملوك البرث الأخيرون التفاتًا عظيمًا للعنصر اليوناني، وكانوا يلقِّبون أنفسهم «محسني اليونان»؛ تقرُّبًا من رعاياهم اليونان، لكن هؤلاء كانوا يخيِّرون دائمًا عليهم كل فاتح أوروبي.
(١٨) الرومان يتممون في الشرق: نفوذ اليونان أصحاب الشرائع والنظام
ما من دولة نشأت في العالم واتَّسع مُلكها إلا وطمح بصرها إلى أرض شنعار، وكان لسان حالها يقول: «إنكِ لا تُسمَّيْن عظيمةً وغنية ما لم تمدي يدكِ إلى تلك الديار وتستظهري على أهاليها.» ولهذا رأينا جميع الدول القديمة تأتي الواحدة تلو الأخرى لتغزو هذه الأرجاء وتقبض على أعِنَّتها حتى تقوم أقوى منها، فتُرغمها وتنزعها من يدها وتطردها عنها فتحل محلها. ولقد رأينا دولة البرث قد قويَت شوكتها وامتدَّ ظلها شيئًا فشيئًا على البلاد المجاورة لها، حتى أخذت تُهدِّد دولة الرومان التي كان قد استفحل شأنها وقتئذٍ، فنشأ بين الدولتين نزاع وخصام، وكل منهما تحاول قهر الأخرى والاستيلاء على ديارها ومحق سطوتها من عالم الوجود لتأمن على حياتها وتُوطِّد دعائم ملكها على أُسس رصينة مُحكمة.
بعد أن مضى على وفاة الإسكندر نحو ٢٥٠ سنة رأى الرومان أن العناصر غير اليونانية في آسية الصغرى ربحَت ما كان قد بذل الإسكندر لتحسينه وإصلاحه أو تشييده كلَّ ما في وُسعه مدة عشر سنوات، فحاولوا إيقاف تقدُّمهم، فأنفذوا قائدًا مُحنَّكًا في جيشٍ لهام، اسمه لوقيوس لوقلس، فنجح في مهمته وأفنى جيش البنطس قُرب كوزيكس على بحر مرمرة (٧٣)، وفي السنة التالية أخذ لوقلس ديار البنطس نفسها وألجأ مثريدات على أن يهرب إلى أرض تكران ملك الأرمن. وفي سنة ٦٩ هجم لوقلس على تكران زاحفًا بجنوده على تكرانوكرت (وهي التي سُمِّيت آمد بعد ذلك، واليوم تُعرف باسم ديار بكر)، فانتصر فيها نصرًا مبينًا على الأرمن، مع أنهم كانوا أكثر عددًا من الرومان، وبعد سنتين استرجع مثريدات بلاده البنطس. وفي سنة ٦٦ قُلِّد بنبيوس قيادة الجيوش الرومانية في الشرق، فطرد مثريدات مرة ثانية من أرضه فمات شريدًا طريدًا، وكفر تكران لبنبيوس ووضع تاج مملكته الصغيرة بيد الرومان، فأذنوا له أن يقبض على صولجان تلك الدويلة التي كانت يومًا بيد أرتحشيا، أحد أسلافه.
(١٩) الدولة الساسانيَّة
ولمَّا رسخت قدم الرومان في بلاد الشرق الأدنى بفضل ما بثُّوا فيه من النظام والقِلاع والحصون، أصبح عصرهم من أزهى الأعصار في تلك الديار. نعم، إن السلوقيين أسسوا مدنًا كثيرة يونانية في دولتهم، لكن الفتن والقلاقل كثُرَت في زمانهم، فلم يتمكنوا من نشر لواء المدنية الهلنية فيها، فالأيام المجيدة لتلك المدن اليونانية في آسية الصغرى وسورية وشمالي الجزيرة كانت في العهد الروماني، وبقايا المباني القديمة قد تُرى إلى هذا العصر في كل موطنٍ من مواطن جوف آسية الصغرى وسورية والجزيرة. وأسس الهياكل والعمد والمسارح والحمَّامات والميادين المدفونة تحت التلول، أو الأطلال الشاخصة الجليلة الشأن كما في بعلبك وتدمر وديار بكر وتكريت، تنطق بعِظَم تلك الأبنية وهمم رَازَتِها وبُناتها، وهي كلها راجعة إلى العصر الروماني، وتشهد على ثروة أصحابها ورُقِي حياتها التي كانت تُطوى في تلك الأرجاء. نعم، ليس للآداب اليونانية اللغوية التي نشأَت في الشرق الروماني الابتكار والفضاضة اللذان كانا لها في القرون التي سبقت الميلاد، لكنها كانت ثمرة أعمال جماعة مُهذَّبة، حافظت على ما اتصل إليها من تلك الآداب اليونانية إن لم نقُل إنها زادتها. وبين أسماء المشاهير من كُتَّاب اليونان في العصر الروماني طائفة صالحة منهم منسوبة إلى مدن آسية الصغرى وسورية، من ذلك: ديون الذهبي الغم من بروسية، (وهي برصة الحالية) في بثينية (سنة ٤٠–١١٥ب.م)، ولقيان السموساطي (الشمشاطي) في أعالي الفرات، وهو كاتب صاحب مبتكرات، قوي العارضة في الآداب اللغوية اليونانية (١٢٠–١٨٠)، وكان لقيان سوري المحتد، ولم يتلقَّ اليونانية إلا بعد أن بلغ أشُدَّه.
ولما تنصَّرَتِ الدولة الرومانية اليونانية الأفكار بقيَت ربوع الشرق تنقل ما يتيسَّر لها من ثمرات الحضارة الهلنية النصرانية، فكُتَّاب سورية والجزيرة وضعوا مؤلفاتهم بالسريانية، فراجت الأفكار الدخيلة في سوق آدابهم أي رواج، وتضلَّعَت تلك اللغة من التعابير والمصطلحات اليونانية الأصل، وازدادَت ألفاظًا جديدة؛ إذ اضطرَّتهم الحاجة إليها، فبلغَت مبلغًا لم تبلُغه قبل ذلك العصر. وأما في آسية الصغرى (الأناضول) فلقد نبغ فيها فئة من الآباء الكُتَّاب برزوا في تآليفهم اليونانية كل التبريز، حتى ليخال القارئ أن اليونانية لغتهم الوطنية، وهم جماعة متسلسلة متصلة الحلق، منهم الكبدوكيون الثلاثة، وهم: غريغورس النزينزي (٣٢٩–٣٨٩)، وباسيليوس القيصري (٣٢٩–٣٧٩)، وغريغورس النيصي (٣٣١–٣٩٦). وأما آسية الصغرى الواقعة في غربي الفرات فقد كانت في ذلك الأوان قسمًا مُهمًّا من النصرانية، والتخوم التي كانت تفصل أوروبة عن آسية (بالنظر إلى الحضارة) لم تكن البصفور، بل دجلة والفرات، وإذا شاهدت نصرانية أوروبة ما حلَّ اليوم بتلك الربوع من الخراب والدمار والتقهقر، ترى أن جزءًا من أجزائها فني واضمحلَّ.
(٢٠) الصنائع والفنون والريازة (فن البناء قبل الإسلام في بابل وآشورية وديار اليونان والرومان)
الصنائع والفنون على اختلاف ضروبها وأنواعها تجتمع كلها في واحدة، هي الريازة؛ أي صناعة البناء، بموجب قواعد وضوابط معلومة إذا راعاها الباني أقام ما يُشيده على أُسسٍ متينة، وحفظه من السقوط أو التداعي الوشيك، بقدر مراعاته لتلك الأصول المعينة على إبقائه أو تخليده. وأهم الصنائع والفنون التي تشترك في الريازة أو تُحسِّنها هي: النحت، والحفر، والنقش، والرسم، والتصوير. هذه هي المهمة. ثم تتفرع فروعًا مختلفة وتنتقل إلى غير البناء فتنجلي بمظاهر متلونة وفي مواد شتى، ففي الريازة تظهر أقوم العلوم وأضبطها، كالرياضيَّات والحساب والهندسة وعلم المناظر، وكذلك علم العقائد وعلم الأخلاق، وسر تقدُّم الحضارة بفروعهن. والريازة كسائر العلوم والفنون والصنائع، نشأَت جنينًا، فحبَت، فدبَّت، فترعرعَت، فشبَّت، فاشتدَّت حتى اكتهلَت.
كانت المغاور والأكواخ أول سكنى البشر، واتُّخِذت المواطن العالية وفُرج الغابات من أوائل معابدهم، ووُضِع الطين طبقات، أو نُضِّدَتِ الحجارة ركامًا، فكانت أوائل هياكلهم. وقولنا هذا لا يدفعنا إلى أن نستنتج أن الإنسان الأول كان وحشيًّا أو همجيًّا، بل إن التمدُّن المادي القليل النشوء قد يجتمع مع حالة عقلية وأدبية بعيدة الشأو، وما ابتدعَتهُ ضرائر الحياة وسذاجة الأذواق رقَّاه شيئًا فشيئًا الإمعان في الحضارة والشعور بالجمال وتطلُّب دعة العيش والتأنُّق فيه، فجاءَتِ المباني بعد ذلك أصحَّ هندسةً وأرضى للذوق وأدلَّ على أن أصحابها كانوا ذوي دراية ودُربة.
(٢٠-١) في بابل أو في بلاد الكلدان
ناوأَت كلدية أو ديار بابل بلاد مصر ونافستها في عمرانها، حتى إنه ليصعُب على الباحث أن يبتَّ السبق لإحدى الأُمَّتين في مسألة الحضارة؛ لأن كلًّا منهما أوجدت ركابها في ميدانها، وحاولت غلبة صاحبتها أو طمسها لتنال قصب السبق، فإذا كلتاهما بلغت الغاية في وقتٍ واحد، فكان لكلٍّ منهما فضل صاحبتها، ومن اجتماع فضلهما نشأَت الحضارة القديمة وكل ما يتعلَّق بها.
ليس لنا في العراق من المباني القديمة ما يدلُّنا على ما بلغَت إليه الريازة من الشأو والأوج؛ لأن الأبنية التي شُيِّدَت إنما شُيدت بالآجر (بالطابوق)، ويتطلَّب صنعه وقتًا طائلًا ونفقات باهظة وعناية عظيمة إذا أُريد إتقان إحراقه أو شيُّه، هذا فضلًا عن أنه لا يصبر على طوارئ الجو وتقلُّباته صبر الحجر عليها؛ ولهذا إذا عُني بانٍ بتشييد أثر جليل أو قصر فخم ثم جاء بعده رجل آخر أراد تخليد اسمه، عمد إلى نقض بناء مَن تقدَّمه وانتزع منه ما يصلُح لإقامة أثره ورفع بنيته، وبفعله هذا يُميت ذكر من تقدَّمه ويُحيي اسمه، فيستفيد فائدتين من عملٍ واحد، وقد حذا الواحد حذو الآخر إلى يومنا. وهذا ما يبين لك قلة الأبنية الجليلة أو دثورها، ويمنعك من أن تحكم على ما بلغَت إليه هذه الديار من الرُّقي بالنظر إلى الآثار الباقية.
ولو لم يلجأ العلماء إلى الأرض ويبحثوا في دفائن أحشائها ما بقي فيها من البقايا ليستنطقوها عمَّا كان على ظهرها في سابق الزمان؛ لما عرفنا منها اليوم شيئًا مذكورًا، وقد اتَّضح للإفرنج أن الأقدمين من البابليين والكلدان كانوا يتخذون نفس المواد التي يتخذها اليوم العراقيون في مبانيهم؛ أي الآجر (الطابوق)، وفي بعض الأحيان اللبِن (الطابوق غير المشوي)، والجص، والرماد، والنورة، والقار، ولم يعرفوا الحجر والجيار كما عرفهما المصريون، فصبرت مبانيهم على نوائب الزمن إلى عهدنا.
وأشهر المباني التي اكتُشفَت آثارها في العراق كانت في أرك (الوركاء)، ولارسا أو لرسم (سنكرة)، وأريدو (أبو شهرين)، وأود (المقير)، ولجش أو سربرلا (تلو)، فوجدوا فيها هياكل وقصورًا بناها ملوك معاصرون للفراعنة الذين شادوا الأهرام المصرية، وهي كلها مبنية على أرهاص (قواعد من طين أو لبن يُرفع عليها البناء)، تسمُك نحو عشرين مترًا فتكون كالتل المصطنع حتى تدرأ الغرق عن البناء، ويبلغ سطحها أو أعلاها بمرتقى سهل المصعد للعجلات والخيل، وبسلم يكاد يكون محفورًا في الأرهاص لصعود الناس إليها، وكان القصر نفسه عبارة عن كتلة مربعة أو مستطيلة، ولم يكن لجدرانه الشامخة الجرداء فتحات سوى باب أو عدة أبواب في كل وجهٍ من أوجهه الأربعة، وكانت هذه الأوجه مُزينة في الغالب بتجاويف موشورية الشكل إراحةً للناظر إليها، وفي داخل القصر أفنية متداخلة، ويتيه في جنباتها المتسعة بعض السعة، وهناك غُرف وعلالي ثخينة لحيطان، هي طويلة أكثر منها عريضة، تجمعها من فوق عقود حسنة، العقد تشبه في شكلها مهد الطفل، ويُنيرها من أعلاها كوى ضيقة، وفي إحدى زوايا القصر يرتفع برج هرمي الشكل يُعرف عندهم بالزقورة، وهي من الأبنية الخاصة بالطَّرْز الكلداني، ولكل زقورة سبع طباق، ولكل طبقة لون يختلف عن لون أختها، وموقوفة على ربٍّ من أربابهم، وهي: الشمس، والقمر، والسيارات الخمس، وشكل كل طبقة مكعَّب تام متناسق الوضع، وكل طبقة ترتفع عن أختها متأخرة عنها ومنقبضة، وعلى أعلى الطبقة الأخيرة معبد يُعبد فيه إله المحل.
وأما النحت عندهم فلقد وصلَنا منهم أقل مما وصلنا من منحوتات المصريين، وأغلب التماثيل الكلدانية التي اكتُشفَت إلى الآن وُجدت في لجش (تلو)، وهي محفوظة في اللُّفر، وهي منحوتة من المستماز (نوع من الحجر البركاني يُعرف بالديوريت عند الإفرنج) الأزرق أو الأسود مقطوعة الرءوس، قطعها الحفَّارون المسلمون عند استخراجها من بطن الأرض لكي لا تُعبَد. وفي اللُّفر أيضًا رءوس مقطوعة عن أجسادها وجدها صاحب الحفريات الفرنسوي المسيو دسا رزيك بعد أن أُتلفت أجسادها، وهذه الرءوس ذات منظر ثقيل جهم، عريضة الأذقان مربَّعتها، قوية الوجنات، ثخينة الشفاه ذات شبق واضح، فُطس الأنوف نجل العيون وُطف الحواجب مقرونتها. أما الأجساد فتُرى تارة واقفة وطورًا جالسة على كرسي بدون مُتَّكَأ للظهر. أما الملبوس فهو عبارة عن رداء ضافٍ يمر تحت إبط الرجل الأيمن وينتقل إلى كتفه الأيسر، ثم يقع متوسِّعًا شيئًا فشيئًا إلى أن يتهدَّل إلى عقبه. أما مثاني الرداء فظاهرة قليلًا وعلى وجهٍ مصطنع، ومعاريه منحوتة نحتًا ثقيلًا، غير أنه ينطق بالصدق. وقد أبدى الناحت من ناهض الهمة في صدق التمثيل ما يُدهش كل ناظر إليه؛ فلقد نجح في إظهار ما في خاطره رغمًا عن صلابة الحجر؛ إذ خطَّطَ اعوجاج الأظفار وغضون الجلد بصورة عجيبة، بيد أنه لم يُحافظ على تناسب أعضاء الجسم؛ فإن الكتفين والردفين عريضة، حتى بلغَت وراء المقصود بالنسبة إلى علو مرتفع صدره وطول ساقيه.
وإلا فما عدا هذه الشوائب فإن تماثيل لجش هي صورة حقيقية لمن تُمثِّلهم؛ ففيهم الملك جوديا وأمراء بيته، وترى كل واحد منهم بموجب سمته الخاص به، والظاهر أن الناحت في ديار الكلدان كالناحت في وادي النيل، يبذل ما في وسعه ليُمثِّل الرجل الذي ينحته مدفوعًا بدافع ديني؛ لأنه يتخيل أن التمثال هو مأوى نفس، ينتقل إليه بعض مزدوجها لكي لا يتألَّم هذا المزدوج؛ ولهذا أراد أن يكون هذا المسكن الحجري نسخة صحيحة من المسكن الجسدي.
(٢٠-٢) في بلاد آشور
جرى الآشوريون في أبنيتهم على آثار الكلدان في مواد البناء، وزادوا عليها الحجارة الكلسية الكثيرة الوجود في جبال كردستان القريبة من ديارهم، فكانوا يضعون في الأسس قِطعًا من هذه الحجارة بدلًا من الرهص، ويُحكِمون هندامها، وفي داخل أبنيتهم كانوا يتخذون صفائح رقاقًا من تلك الحجارة، يؤزرون بها حيطانهم ويفرشون بها منبسط غُرَفهم.
وكان ترتيب هياكلهم وقصورهم بوجهٍ عام على ما يُرى في آل آشور (قلعة شرقاط الحالية)، وكلح (غرود الحالية في جوار الموصل)، ونينوى (كوى أنجق)، ودور شروكين (خرساباد)، مطابقًا للنظام الذي يُشاهَد في هياكل الكلدان وقصورهم، من أفنية قوراء، وغُرف معقودة، ودهاليز مطوقة يتحدَّر نورها من الكوس، وزقورات ملوَّنة، إلا أنه يظهر أن الزخرف في الخارج والداخل كان أغنى وأزهى مما كان عند الكلدان، وكانت الأبواب مزينة بثيران رءوسها رءوس بشر، وتماثيل ضخمة تمثِّل البطل جلجامس يخنق أسدًا، وكانت أسافل الحيطان مزينة بعض الأحيان بنطاقٍ من حجارة، وفتحات الأبواب مؤطَّرة بإطارٍ من الآجر الملون، يزيد رونقًا وزهوًا على رأس العقد، حيث تجتمع التصاوير الرمزية، وعند مدخل من مداخل حرم خرساباد كانت نخلتان من الشَّبَه المذهب والنوافذ النادرة التي كانت تشرع في الطبقة العليا من الأبراج كانت مزينة بعُمُد خفيفة، يقرب طَرْز تيجانها من الطَّرْز اليوناني، وعلى النوافذ جلفق (محجل أو درابزون) من الخشب المنقوش حفرًا، وكانت حيطان حجرات الاستقبال مغشاة إلى الحجرات برسومٍ محفورة في الحجارة، تمثِّل المعارك والملاحم وصيد الملك الباني لذلك القصر.
أما النحت عندهم فكان تتمَّة النحت الكلداني وتقدُّمه ورقيُّه، إلا أن التماثيل نادرة؛ لأنها نُحتت من مواد سريعة التلف، كالجص، والمرمر الكلسي، والحواري، والهيصمي، والبلنط، بخلاف المستماز الذي استعمله الكلدان. وأشهر هذه التماثيل تمثال آشور نرز هبل، فإنه مُحكم الصنع، يدل على مهارة ناحته، فإن محل رأسه من الملامح الناطقة بسرائر الضمير وإتقان التعبير ما لا يُرى مثيله في رءوس تماثيل الكلدان، إلا أنه ذهب بمحاسنه ما يُشاهَد على رأسه وفي لحيته من وفرة الشعر المُغَضَّن المُجعَّد. هذا، والجسم ممشوق حَسن التناسُب والسمت مهيب المقتبل، وإن كان عليه رداء قد التف به التفافًا من العنق إلى الرجلين. فلا جرم أن الصانع أفرغ ما في مجهوده لتخليص منحوته من شوائب الشناعة والسماجة، وبعكس التماثيل فإن الصور المحفورة كثيرة، وتدل على مهارة في الصناعة وحرية في العمل وأنفة في نفس صاحبها، حتى لتبلغ مبلغًا عظيمًا في التأثير على الناظر، مع أنه لم يكن لصانعها إلا وسائل في منتهى البساطة، وطرائق غير تامة. ومفعول ظهور المصوَّرات كالأصل يبين في طور نشوئه، ولم يُراعَ فيها تناسُب الأشياء بموجب اتصالها بعضها ببعض، وإن شئت فقُل إنه رُوعي فيها خطورة ما يُراد عرضه على الناظر؛ فإن الناس الممثَّلين فيها هم بطول الأشجار. والذي ينظر إلى العساكر المُشاة عند هجومهم على القِلاع والحصون يُخيَّل له أنهم أعظم منها. ومهما تكن عيوب هذه الرسوم فإن التصاوير المحفورة الآشورية تُبقي في النفس أثرًا لا ينشأ إلا في مَن ينظر إلى خلائق متحركة أو حية؛ فإنك تُشاهد هناك أُناسًا يتقاتلون ويتحاربون ويتذابحون، وأُناسًا يتصايدون ويتداعبون ويتمازحون، وجميع الوقائع التي تُمثَّل حسنة الالتحام والارتباط، حتى إن الصانع الماهر في يومنا هذا لا يحتاج أن يُنقِّح فيها شيئًا كثيرًا إذا أراد أن يحلها من نفس الناظر المحل الذي يُناسب تقدُّم عصرنا في هذا الفن، ويعرضها على الناظرين معرض ألواح مصورة. ومن خصائصها أنه قد رسم عليها رسمًا مُتقِنًا دقائق الأمور كجلائلها، حتى لتظهر لنا المعيشة الآشورية بمظهرها الحقيقي مع جميع تفاصيلها، فهي من هذا القبيل بمنزلة شاهد تاريخي يُعتمد عليه في كتابة الوقائع، فضلًا عن أنها تحفة من تحف الصناعة ذات فضلٍ لا يُنكَر.
وأما صنائع المهن عند الكلدان والآشوريين والحفر على الخشب وحياكة الطنافس وصناعة الآنية الخزفية، فليس لنا منها إلا الشيء النزر. إلا أننا نعلم أن الآشوريين — ولا سيما الكلدان — نبغوا في التطريز، حتى إنهم كانوا يُصوِّرون على الأنسجة الصور التي نراها على جدران قصورهم، لكن صروف الزمان أفنَت جميع ما صوَّرته الإبرة. وكان الرومان واليونان يقضون منها العجب العجاب، ولقد صبر على تصاريف الدهر بقايا من مهنهم المعدنية، وأغلبها يشهد على حذق ولياقة؛ فإن الأوزان المتخَذة من الشَّبَه بصورة أسد رابض تدل على براعة صانعها، ولا سيما الرأس، فإنه يمثل الحقيقة تمثيلًا لا يُبقي لك فيها مطمعًا. ومما يُعَد في المقام الأول من المهارة في الصنع تميثيلات الأرباب والمعبودات والتمائم وقطع النقوش التي تُلصق على الكراسي والسُّرر؛ فإن فيها من مُحكم الحفر على المعدن ما يأخذ بمجامع القلوب. وأبواب قصر شلمناسر في بلوات، وهي أبواب من خشب كانت مُزينة بضبات من الشَّبَه علوُّها ٢٦ سنتيمترًا، وقد نُقش عليها نقشًا ناتئًا زحفات الملك. وأحسن طائفة منها معروضة في أروقة دار التحف الإنكليزية في لندن، وهي نفس الأمثلة التي تُشاهَد على صفائح الرخام الكلسي، من معركة، وحصار، وطرد العدو، واللحاق به خلال بلاد الغابات والجبال ومعابر الأنهُر، والمقادير فيها مُصغَّرة، لكن صنْعها شيء واحد، ويدل على حذق أصحابها في التصرُّف في المعدن، ويُرى مثل هذا الإتقان والإحكام في مصنوعات العاج النادرة الوجود التي أفلتت من يد الضياع والتلف، ولا سيما في اللوالب والخواتم المتَّخذة من الحجر الأصم على اختلاف أنواعه، وتُجمع من أخربة مدن كثيرة قديمة، ونحت المصنوعات الدقيقة لم يكن أدنى إتقانًا من النحت الكبير؛ ولهذا كان للصناعة الكلدانية الآشورية مقام في عالم الحضارة القديم بجانب الصناعة المصرية في مختلف عصورها.
(٢٠-٣) في ديار اليونان
كانت الريازة في عصر أبطال اليونان في نشوئها الأول، ولم يكن في قصورهم ومعابدهم شيء يُذكَر. وأما بعد حرب تروادة بأربعة أو خمسة قرون فكانت تُتَّخذ الأبنية من الخشب، ومنذ الأولنبياذة الأولى (أي ٧٧٦ق.م) أخذَتِ الريازة تتقدَّم تقدُّمًا حثيثًا في إغريقية، فشُيِّد في كورنثس وأجينة ومغارة ودلفس وأولنبية وديلس وأثينة مبانٍ جليلة فخمة. فهذه ثلاثة أطوار، وأما الطور الرابع — وهو بين سنة ٤٧٩ و٣٣٦ق.م — فإن الزيارة بلغَت أبعد شأو أمكن للبشر أن يبلغوه؛ فإن اليونان تخلصوا في ذلك العهد من الفُرس، فنبغ فيهم رَازَةٌ تُعقد عليهم الخناصر، ومن جملتهم: كليكراتس، وأكتينس، ومناسكلس، وكريبس، وأوبوليمس، وميتاجينس، وبوليكليتس، وزينكلس، فإنهم شادوا أبنية خالصة الطرز، منها: هيكل أيلون الديدمي في مليطس، ومعبد مينرفة بليادة في بريانة، وزون بخس في مغنيسية، ولا سيما هيكل ثسياس والبرثينون في أثينة، فإنها كلها مما يُخلِّد الذكر لرازتها النوابغ، وحرب البيلوبونيس وإن كانت طامة عظيمة على مباني إغريقية إلا أنها لم تُوقِف حركة الفن عن إتمام طريقه، وفي هذا العهد قامت أحسن المسارح وأبهاها: إغريقية، وصقلية، وإيطالية، وآسية الصغرى، ونشروا ألوية الزهو والتأنُّق في تشييد المصارع؛ أي ميادين الصراع المسماة عندهم بالسترا، والمراوض؛ أي ميادين الرياضة الجسدية المعروفة عندهم باسم الجمناسيون، وأفرغت قوالبهما إفراغًا بحيث صارت معروفة، لا يتجاوز أحد حدودها ولا أحكامها. ومنذ أن تسلَّط المكدونيون على الإغريق (اليونان) دخلت الريازة طورها الخامس، وفيه فسد الذوق وأخذ يسير إلى الانحطاط؛ إذ فشت في البلاد الحروب الداخلية، فغادرها أمهر رازتها، وشخصوا إلى مصر وآسية لينحازوا إلى خلفاء الإسكندر، فرحَّب بهم بطليموس كل الترحيب، وبنى قصرًا وشيَّد السرافيون ومنارة الإسكندرية الشهيرة، ودعا السلوقيُّون أيضًا رَازَةً ونحاتين يونانًا فحسَّنوا مدن أنطاكية وأفامية وسلوقية التي أسسوها، وكذلك فعل أمراء برغامون.
إلا أن الحروب التي خاضوا عبابها مع الرومان أوقفَت سيرَ الفنِّ، فحاول بعض خلفاء الإسكندر تعويض الضرر الذي لحق بالهلاس، فشرعوا ببناء هيكل ومسرح فخم في تيجية، وأُعيد بناء هيكل المشتري الأولنبي ومراضٍ في أثينة، وزُينت ديلس بهياكل وتماثيل، ثم حانت ساعة قومية اليونان الأخيرة بسبب الحرب التي ثار نقيعها بين الآخيين والإيتوليين، فأخربت عدة مدن وكثيرًا من الآثار الجليلة القديمة، فلم يُبقِ فيلبس آخر ملوك مكدونية حجرًا على حجر في برغامون، وهدم أكاذمية أثينة، والهياكل التي كانت تحيط بها. وكلما ساد الرومان في البلاد كانوا يُعَرُّونها من بدائعها، وينقلون منها إلى إيطالية شيئًا كثيرًا وكل ما كان يقع في أيديهم من الطُّرَف. ولما أخذ سلا أثينة هدم البيرة والمباني التي كانت تجاورها، ونقل إلى رومة طائفة من عواميد مقدس المشتري الأولنبي ليزين بها المشتري الكابيتولي، ولم يحترم الرومان آسية الصغرى ولا إغريقية الكبرى، فكان بذلك نهاية الريازة اليونانية.
وأما من جهة سائر العلوم المستظرفة فإن اليونان يدَّعون أنهم اخترعوها كلها، ومن جملتها النحت والتصوير والنقش، وهذا محض تبجُّح واختلاق؛ لأننا رأينا المصريين والكلدان والآشوريين واقفين على هذه الفنون، بينما كان اليونان غائصين في بحر ظلمات الجهل والهمجية. ويُرَجِّح أهل البحث والتحقيق أن المصريين علَّموا اليونان مبادئ صنْع التماثيل. ولا جرم أن ككربس مؤسِّس أثينة أخذ معه من أرض الفراعنة صُنَّاعًا مهرة أكفاء لبناء وتزيين هياكل مينرفة وسائر المعبودات التي أدخل عبادتها ذلك الصقع من بلاد اليونان. ومما لا ريب فيه أن آثار الريازة والنحت القديمة التي أقامها اليونان بادئ بدء في بلادهم تُشاكل كل المشاكلة ما يُجانسها في ديار الفراعنة، إلا أن ثمَّ فرقًا مهمًّا، وهو أنه بينما كانت هذه الصنائع واقفة جامدة في ربوع مصر، كانت تسرع كل السرعة في أرجاء اليونان، حتى بلغت أبعد مدًى من كمالها ورُقِيِّها.
وأول مَن عُرف من اليونان بالنحت هو ديدال ابن حفيد أرختة ملك أثينة. وقد ذهب بعضهم إلى أن ديدال هذا هو اسم شامل لجماعة من النَّاحتين، وبعد حرب تروادة ارتقَت النحاتة رقيًّا ظاهرًا، ويُظَن أن فريقًا منهم أُخذوا من آسية الصغرى إلى بلاد اليونان ليقيموا هناك آثارًا تُخلِّدُ مآثر فاتحيهم، وكانت هذه الصناعة قد خطَت خطوة بعيدة هناك في ميدان الإتقان. على أن مصنوعات هذا الفن لم تجلب إليها الأنظار جلبًا صادقًا إلا في القرن الثامن قبل الميلاد، فارتقى صبُّ المعادن في ذلك العهد، وكذلك الحفر عليها. وفي القرن السادس ق.م طرأ انقلاب عظيم في أفكار أهل الحذق من المصوِّرين، حتى بلغت مصنوعاتهم إتقانًا لا يُنسى، ونبغ في كثير من المدن من مهرة الصُّنَّاع رجالٌ معدودون، ولا سيما في ساموس (سيسام)، وخيو (ساقص)، وسكيونا، وقد فُتِحت فيها مدارس لتَلقي أصول هذه الصناعة وأحكامها. وما زالت النحاتة في رُقيٍّ حتى كان ليسبس (المتوفَّى في القرن الرابع ق.م)، وبراكسيتيلس (المولود سنة ٣٩٠ق.م)، فبلغ الإتقان على أيديهما مبلغًا أيَّ مبلغ، حتى قيل عنهما إنهما أتيا المعجزات بمحاكاة الطبيعة، ولم يأتِ بعدهما مَن قاربهما في الصناعة. وقد أذن الإسكندر لليسبس أن ينحت تمثاله كما أذن لإبلس أن يصوِّر صورته، فانتهى هذان الفنان في عصرهما، ثم لما كان عهد السلوقيين تدهورت الفنون والصنائع من قللها حتى ماتت.
(٢٠-٤) في بلاد الرومان
لم يكن للرومان صنائع مستظرفة أو جميلة في يد دولتهم؛ لأنهم كانوا مشتغلين مدة أزمان متطاولة بالدفاع عن أنفسهم من هجمات أقوام إيطالية الوسطى، وبالحمل عليها حملات تُنَكِّل بهم تنكيلًا وتُمثِّل بهم تمثيلًا. ولم يكن لهم ذوق للعقليات، ولم يكن لهم وقت يتفرَّغون لها، ولمَّا احتكُّوا باليونان نهضوا يُحاكونهم في جميع أعمالهم وآدابهم ومصنوعاتهم، لكنهم لم يفوقوهم البتَّة، بل ساووهم فيها وساووهم نادرًا. وقد قُلنا إن الرومان كانوا يخرِّبون مباني اليونان البديعة في ديارهم وينقلونها إلى ربوعهم، فلما اغتنت رومية بمحاسن إغريقية وآسية حاولت أن تحصل على أبنية فخمة ضخمة واسعة كثيرة الزخرف، ففضَّلت لهذه الغاية الطَّرْز الكورنثي الذي كان يمتاز عن سائر ضروب الطُّروز بوفرة الزخرف. بيد أن الطَّرْز الروماني بقي معتبرًا في نظر أهل الفن طرْزًا يونانيًّا فاسدًا، مع ما فيه من الجلالة والفخامة والعظمة التي لا تُنكر. قال فتروفس: «إن رَازَة اليونان كانوا واقفين على جميع العلوم التي كانت تساعدهم على إتقان صناعتهم، وكانوا قبل أن يشرعوا ببناء يخطِّطون رسمه ومنظره، وينقشونه بألوان، ويصوِّرونه أيضًا صورة مصغرة.» وكان فريق منهم كتب رسائل جليلة بخصوص الأبنية التي شادوها، ولم تكن كتبًا نظرية ككتاب فتروفس، بل كتبٌ تروي ذكر الأشغال التي تمَّت على أيديهم، والأسباب التي حدت بهم إلى اختيار ذلك البناء من غيره، لكن لم يصلنا أحد هذه الكتب التي وصفها فتروفس لسوء الطالع. ومما امتازَت به الريازة الرومانية عن اليونانية أنهم اتخذوا العقود في أبنيتهم؛ أي فن وضع الحجارة المنحوتة بعضها يدعم بعضًا على شكل قوس مربع؛ فبالعقود تسنَّى لهم أن يقيموا أبنية أوسع وأكثر تفنُّنًا من أبنية اليونان.
وما يُقال عن الريازة والنحت يُقال أيضًا عن سائر الفنون المستظرفة، مثل التصوير، والنقش، والرسم؛ فإن الرومان بلغوا في إكرامهم لنوابغ اليونان في هذه الفنون مبلغًا كان يقرب من العبادة، وهذا ما اضطرَّ القياصرة إلى جلب جماعة منهم إلى رومة ليفتحوا فيها مدارس يُعلِّمون فيها أصول هذه الفنون، ففعلوا، لكن لم يفلح فيها الرومان كما أفلح اليونان، وبقي قَصَب السبق بأيديهم بدون أن ينزعه منها أحد من غير عنصرهم.