تمهيد
العلم ممتع! وطوال سبع سنوات من العمل صحفيًّا هاويًا، وثماني سنوات تقريبًا من العمل كاتبًا علميًّا حرًّا بدوام كامل، كتبتُ عشرات المقالات التي ما زلتُ أتذكَّرها بولع؛ نظرًا لاستمتاعي الكبير بكتابتها (وآمل أن تكون قراءتها على هذا القدر نفسه من المتعة). تلك المقالات لم تزل تستهويني لقضاء الوقت في إعادة قراءتها لعددٍ لا حصر له من المرات إذا حدث أن صادفتُها في سجلاتي القديمة. وقد استعنتُ بهذه المقالات مرارًا وتكرارًا على مدار السنوات، مستشهِدًا بها كأمثلة، أو مُرفِقًا إياها بسيرتي الذاتية. وهذه المقالات تثبت — من وجهة نظري، على الأقل — أن العلم نشاط ثقافي على الدرجة نفسها من الثراء والتنوع الموجودين في الأدب والموسيقى، ولا يقل إمتاعًا عنهما.
فما الذي يميِّز هذه المقالات من بين قرابة ألف مقال أخرى كتبتها على مدار السنين؟ لقد حدَّدتُ ثلاثة معايير مميزة قد تعكس مقالاتي العلمية المفضَّلة معيارًا منها أو أكثر. وقد صنَّفتُها — مستعيرًا عنوانَ أحد برامج شبكة تي إل سي التليفزيونية — في جدول يحمل العناوين التالية: «الغريب والمثير والرائع». يتألف الكتاب من ثلاثة أجزاء، يتناول الجزء الأول «كائنات غريبة» الأمور المستغربة وغير المتوقَّعة والشديدة الغرابة التي يصادفها العلماء، وكثيرًا ما يكتشفون أنها مفيدة حقًّا، ومثالي المفضَّل على هذا النوع هو الأجسام المضادة الشديدة الغرابة التي عُثِر عليها في الجمل واللَّاما، التي تَبيَّن أنها مفيدة جدًّا في مجال التكنولوجيا الحيوية. وتوجد أيضًا بعض المقالات التي تدور حول تحديات مُعضِلة جدًّا، حتى إنها قد لا يتصدَّى لها سوى العلماء المهووسين بالعلم فقط، وهنا يتبادر إلى الذهن التسلسُل الجينومي لأبناء عمومتنا؛ إنسان النياندرتال. أما الجزء الثاني «علومٌ مثيرة»، فإنه يتحدث أحيانًا عن الجنس (بَدءًا من الانجذاب إلى التناسل)، ولكنه في أحيانٍ أخرى يتحدَّث عن أفكار ومشاعر استحواذية وسمات أخرى لدى الجنس البشري. وبعضه يحكي لنا فقط عمَّا يجعلنا بشرًا. وأخيرًا الجزء الثالث «تكنولوجيا رائعة»، يدور في أغلبه حول اختراعات وأجهزة وآلات وأدوات رائعة، العديد منها اخترعه علماء، بينما جاء بعضها نتاج التطور.
إنَّ كل مقال من هذه المقالات بدأ من مخطوطة أولية كتبتُها بهدف النشر (في مجلة أو جريدة)، ونقَّحتُها و/أو شرحتُها، وأضفتُ فقرة تمهيدية تفسِّر السببَ في تميُّز هذا المقال بعينه، وعند الضرورة كنتُ أرفق أيضًا تعقيبًا ألخِّص فيه تطورات أخرى. وفي كل جزء من الأجزاء الثلاثة الرئيسية، رتَّبتُ المقالات ترتيبًا زمنيًّا إلى حدٍّ ما، كي يدرك المرء أيضًا الطريقة التي تقدَّمَ بها العلمُ خلال السنوات التي تناولتُها في معالجتي. وفي نهاية كل مقال، ذكرتُ بين قوسين العام الذي نُشِر فيه المقال للمرة الأولى.
ظهر كثير من هذه المقالات في الأصل على صفحات مجلة «كميستري وورلد»، التي تصدر عن الجمعية الملكية للكيمياء، أو على صفحات سابقتها «كميستري إن بريتين». ولكن، نظرًا لأن بعض المقالات المأخوذة من مجلة «ناخريشتن أوس دير شيمي» (التي تصدر عن الجمعية الألمانية للكيمياء)، و«سبكتروم دير فيسنشافت» (النسخة الألمانية من مجلة «ساينتيفيك أمريكان»)؛ نُشِرت بالألمانية فقط، فقد ترجمتُها للاستعانة بها في هذا الكتاب. وقد ورد مقالان قديمان من مجلة «سبكتروم دير فيسنشافت» في هذا الكتاب كانعكاس للكتابين السابقين «الحياة على حافة الهاوية» و«مغامرات في عالم النانو»؛ ولهذا فجميعها أشبه بقاعة مرايا كبيرة، مثل الكروموسوم «واي» (انظر مقال «الكروموسوم الذكري مهدَّد بالانقراض»).
ظهرت بعض هذه المقالات أيضًا في جرائد «بيوفورَوم يوروب»، و«بيو آي تي وورلد»، و«كرنت بيولوجي»، و«ذا جارديان»، و«نيو ساينتيست»، و«زوددويتشه تسايتونج»، و«شيمي إن أونزرر تسايت». وإنني لَأتقدَّم بالشكر إلى جميع المحرِّرين الذين كانوا يعدون أعمالي للنشر على مدار السنوات. وقد تطوَّرَ الأمر لدى بعضهم بأن أصبح قادرًا على قراءة أفكاري؛ مما يزيد سرعةَ العملية، وييسِّر الأمور عليَّ. ولكن حتى عندما يطرحون أسئلة صعبة أو شديدة السذاجة، فإنهم يساعدونني في أن أشرك القراء في متعتي وحماسي.
إنَّ خمسة عشر عامًا مدة طويلة للغاية في مجال البحث العلمي، كما عرفتُ ذلك عند تحريري للمقالات التي تعود إلى تسعينيات القرن العشرين، التي يحمل بعضها طابعًا تاريخيًّا إلى حد ما يرجع إلى فترةِ ما قبل تحديد تسلسل الجينوم. وبعض الأمور التي اعتبرتها ممتعةً آنذاك (وما زلتُ أفعل) تبدو الآن مهمَلة، في حين تطوَّرَ البعض الآخَر تطوُّرًا مذهلًا، وحصل الآن بعض الباحثين ذوي الصلة على جائزة نوبل، في حين يبدو أن البعض الآخَر قد اندثَرَ. هكذا حال الحياة، حتى في العِلم.
مع هذا، وقبل أي شيء، آمل أن أنقل إليكم الانطباعَ بأن العلم لم يكن قطُّ مملًّا خلال الخمسة عشر عامًا الماضية، وأنه مع كل إجابة جديدة يتوصَّلُ إليها الباحثون، يُحتمَل أن تظهر فجأةً مجموعة من الأسئلة الجديدة، بل الأكثر تشويقًا أيضًا؛ لتمدَّنا بمخزون لا ينضب من الاكتشافات الغريبة والمثيرة والرائعة.
أكسفورد، مارس ٢٠٠٨