الكروموسوم الذكري مهدَّد بالانقراض
إنها لعنة تطارِد كلَّ ذكرٍ مُفكِّر في جنسنا البشري، أَلَا وهي عدم الصلاحية المفجِع في الكروموسوم الجنسي المحدِّد للنوع. انظر إليه فقط؛ إنه مشوَّه، ويسبِّب المشاكلَ بجميع الطرق، وبالنظر إلى اتجاهات التطوُّرِ البيولوجي، فمن الواضح أنه في طريقه إلى النسيان. وبدلًا من القلق بشأن حجم أعضائنا التناسلية الخارجية، يجب أن نقلق حيال اضمحلال الكروموسوم الذكري «واي». لقد كتب عالِم الوراثة ستيف جونز كتابًا كاملًا عن هذا الأمر، ولكني سأتحرَّى الإيجاز وأَقْنَع بهذا الفصل فقط.
لم يَقْنَع الباحثون قطُّ بنسبةِ الواحد في المائة من الذكورة الوراثية. فعلى الرغم من اكتشافهم العامِلَ الذي يتجه بنمو الجنين نحو الصفات الذكرية (إذ يؤدِّي غيابُه إلى إنتاج إناث، حتى إن وُجِد بقية الكروموسوم «واي»!) وبعض الجينات المرتبطة بالخصوبة الذكرية، فإن عددَ الجينات المتبقية صغير على نحوٍ مذهل. يحتوي معظم الكروموسوم «واي» على مخلَّفات التطوُّر البيولوجي، بما في ذلك تكرارات لا نهائية ونُسَخ غير نَشِطة من الجينات، تُعرَف باسم الجينات الزائفة. والعزاء الوحيد لكبرياء الرجل المجروح هو أن أحدَ كروموسومَيْ «إكس» الموجودين لدى المرأة غير نَشِط إلى حدٍّ كبير. وبالتالي، فإن الفارق الإجمالي في مقدار المادة الوراثية النَّشِطة ليس مأساويًّا إلى هذا الحد.
أدَّتْ نسبة التكرارات الكبيرة إلى جعل تحديد تسلسُلِ الكروموسوم «واي» أكثرَ صعوبةً مقارَنةً ببقية الجينوم البشري. وقد أثبتَتْ طريقةُ التسلسُل النووي القسري — التي تنطوي على قصِّ المادة الوراثية إلى مقاطع عشوائية، وترتيب تسلسُلِها النووي، ليجمع الكمبيوتر هذه المقاطِعَ في النهاية — فاعليتَها الشديدةَ في العديد من مشروعات الجينوم، ولكنها تفشل عندما يتسبَّب وجود تكراراتٍ أكثر من اللازم في حدوث ارتباكٍ. كما أن الطريقةَ التقليدية، التي تعتمد على رسم خريطة للجينات أولًا، ثم ترتيب تسلسُلِها النووي لاحقًا، لا يمكنها هي أيضًا حلُّ هذه المشكلة.
لهذا السبب كان على الباحثين في ثلاثة معامل في هولندا والولايات المتحدة، بقيادة ديفيد بيدج من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وَضْعُ استراتيجيةٍ جديدة تمامًا للتعامُل مع الجزء الكثير التكرار في الكروموسوم «واي»، الذي أهمَلَه مشروعَا الجينوم البشري كلاهما. بدءوا بتحليل الكروموسوم «واي» لرجل واحد، حيث أخضعوه لدورات متكرِّرة من رسم الخرائط وترتيب التسلسل النووي، ومع أن العديد من الباحثين قد حذَّروا من أن محتويات الكروموسوم قد لا تستحِقُّ هذا المجهودَ، فقد توصَّلوا إلى معلوماتٍ مثيرةٍ وتنويرية بشأن تطوُّرِ الجنسين.
ذات يومٍ، منذ وقت بعيد، ومع بداية تطوُّر الثدييات، كان الكروموسومان «إكس» و«واي» زوجًا متطابِقًا عاديًّا من الكروموسومات. ومثلما يحدث مع بقية أزواج الكروموسومات الاثنين والعشرين الأخرى في الجينوم البشري (المسمَّاة «الكروموسومات الجسدية»، وذلك تمييزًا لها عن الكروموسومات الجنسية)، كانت لهذه الكروموسومات العتيقة القدرةُ على استبدال مقاطع من الحمض النووي من خلال عمليةٍ تُعرَف باسم «التبادُلِ الكروموسومي». تتضمَّن هذه الظاهرة إمكانيةَ المزج بين جين الأب وجين الأم في الذرية، دون أن يهدِّد ذلك ثباتَ محتويات كروموسومٍ معيَّنٍ. وحسبما سنرى بعد قليل، توضِّح الحالةُ المُزرية التي وصَلَ إليها الكروموسوم «واي» ما يحدث عندما يتوقَّفُ التبادُلُ الكروموسومي.
في الوقت الحالي، لا يزال جزء صغير للغاية من الكروموسوم «واي» مشتركًا في التبادُل الكروموسومي مع الكروموسوم «إكس». يُعرَف هذا الجزء من الكروموسوم بأنه الجزء الكروموسومي الجسدي الزائف؛ لأن الكروموسومين «إكس» و«واي» يتصرَّفان هناك وكأنهما كروموسومان جسديان. إلا أنَّ الأجزاء الشديدة التكرار والصعبة التسلسُل التي شكَّلَتْ تحدِّيًا بالنسبة إلى الباحثين تمثِّل الوجهَ الآخَرَ من الكروموسوم «واي»، وهي غير قادرة على الاشتراك في التبادُل الكروموسومي، كما أنها تشكِّل ٩٥٪ من طول الكروموسوم، وكان يشار إليها بأنها المنطقة غير المُطَعمة، حيث يُقصَد ﺑ «التطعيم» عمليات تبادُل الحمض النووي، مثل التبادُل الكروموسومي. وبعدما اكتشف بيدج وزملاؤه أن هذه المناطق قد تُطعم في الواقع بطرق أخرى، اقترحوا بدلًا من ذلك تسميتها بمنطقة التخصُّص الذكري.
تكشف التسلسُلات التي حدَّدَها بيدج وزملاؤه عام ٢٠٠٣ أن الجزءَ النَّشِط من الحمض النووي الموجود في منطقة التخصُّص الذكري عبارة عن فسيفساء تجمع بين ثلاثة أنواع شديدة الاختلاف من المادة الوراثية. يُعتبَر النوع الأسهل عند التعرُّف عليه هو تسلسلات الإكس المنقولة، التي لا تحتوي إلا على جينين اثنين فقط من الثمانية وسبعين جينًا الموجودة في منطقة التخصص الذكري. من الواضح أن هذين الجينين قد نُقِلَا من الكروموسوم «إكس» خلال حدَثٍ واحد يبدو أنه قد تمَّ منذ أربعة ملايين سنة، عقب افتراق أسلافنا عن أسلاف القردة مباشرة، وهما أحدث مهاجرين في منطقة التخصُّص الذكري، وقد وُجِدَا في الكروموسوم «واي» البشري فقط.
ثمة حقيقة تقول: إن مقدار النصف تقريبًا من جينات الكروموسومات الجسدية التسعة والعشرين — التي كانت موجودةً في هذه المجموعة في بداية تطوُّرِ الثدييات — قد فقدَتْ وظيفتَها وتحوَّلَتْ إلى جينات زائفة. وتعكس هذه الحقيقة مشكلةً فعليةً متأصِّلةً في الطريقة التي نعامِل بها نحن الثدييات كروموسوماتنا الجنسية. ومع أن التبادُلَ الكروموسومي في الكروموسومات الجسدية، وفي الزوجين «إكس إكس»، وفي الأجزاء الكروموسومية الجسدية الزائفة للزوجين «إكس واي» يضمن تحقُّقَ بعض الاستقرار الجيني، فإن منطقة التخصُّص الذكري مُستثَناة من هذه الآلية الاستقرارية. وبطريقةٍ ما، كان من سبيل المفارَقةِ الشديدة أن ينتقلَ جزءُ تحديد الجنس في الجينوم البشري بطريقةٍ لا تزاوجيةٍ، فقط من الأب إلى ابنه. ويحمل هذا النوع من الوراثة مخاطَرةً تتعلَّق بتراكُمِ الطفرات الخطيرة.
ومع هذا، فثمة طريقة يحاوِل بها التطوُّرُ البيولوجي مقاوَمةَ هذه المخاطَرةِ، وقد اكتشَفَ الباحثون هذا الأمر في المجموعةِ الثالثة من تسلسُلات الحمض النووي، المسمَّاة بالتسلسُلات المُضخَّمة. والتسلسُل المُضخَّم عبارة عن مقطع من الحمض النووي تم تكبيره؛ مما يعني أن نُسَخًا متعدِّدة تُصنَّع منه (في المعمل، يُعتبَر تفاعُل البوليمريز المتسلسِل وسيلةً شائعة لتضخيم الجين). وتعدُّدُ النُّسَخ هو في الحقيقة ما تُجِيدُ منطقةُ التخصُّص الذكري عملَه. وبوجود عشرة ملايين قاعدة، يصبح الحمضُ النووي المُضخَّم هو الأكبر بين هذه المجموعات الثلاث، وهو يحتوي على تِسْع عائلات من الجينات النَّشِطة (أيْ تسعة جينات مختلفة والكثير من النُّسَخ والصور منها)، وكلها تنشط غالبًا أو حتى حصريًّا في الخصيتين، وبالتالي يُفترَض أن لها علاقةً بالجنس والتكاثُر.
توجد أجزاء كبيرة من هذه التسلسلات بصفتها تتابُعاتٍ متناظِرةً؛ مما يعني أن شريطًا معيَّنًا من حروف الحمض النووي تعقبه فورًا صورة منعكسة لهذا الشريط في الجديلة المقابلة. على سبيل المثال:
TATATCTC | GAGATATA |
ATATAGAG | CTCTATAT |
(لاحِظْ أنه بسبب التكامُل القاعدي، ستجد تتابُعاتٍ متناظِرةً أيًّا كان الشريط الذي تبدأ بقراءته.) ويتكوَّن أطولُ تتابُعٍ متناظِرٍ من هذا النوع من ٢٫٩ مليون قاعدة، ويحتوي على تتابُعين متناظِرين أصغر داخلَ تسلسُلِه. ويتبين أن جزءًا كبيرًا من الكروموسوم «واي» مليء بالتتابعات المنعكسة على نحو محير.
الجينات في هذه الصور المنعكسة ذات أصولٍ مختلفة. في تسعينيات القرن العشرين، اكتشف بيدج وآخَرون أن فقدان مجموعة واحدة من هذه الجينات يجعل الرجل عقيمًا، وتُعرَف المنطقةُ التي توجد بها هذه الجينات باسم عامِل فَقْدِ النِّطاف. وحسبما يبدو، فقد خَصَّصَ التطوُّرُ البيولوجي بمرور الوقت هذه الجيناتِ وغيرَها من جينات التكاثُر لمنطقةِ عامِل فَقْدِ النِّطاف. هذا هو المثال الوحيد المعروف لكروموسومٍ تَخصَّصَ في وظيفةٍ من نوع معيَّن، و«يجمع» الجينات المرتبطة به. وفي بقية الكروموسومات الأخرى، يكون ترتيبُ الجينات عشوائيًّا على نحو تقريبي.
عندما تأمَّلَ الباحثون عن كثبٍ التعدُّديةَ المحيِّرةَ التي تتسم بها النُّسَخُ والصور المنعكسة، توصَّلوا إلى حلٍّ مدهش للمشكلات التي تسبَّبَ فيها غياب التبادُل الكروموسومي، مثلما أوضحنا من قبل. ومن الواضح الآن أن الصورَ المنعكسة تكون بمنزلة نُسَخٍ احتياطية، وتتبادل رفقاءها بطرق مماثلة لما يحدث مع النُّسَخ الموجودة على الكروموسوم الآخَر في حالة الكروموسومات الجسدية. وحيث إن التبادُلَ الكروموسومي مع الكروموسوم «إكس» قد أصبَحَ مستحيلًا، يلجأ الكروموسوم «واي» إلى التبادُل الكروموسومي مع نفسه، وكانت هذه المساعدة الذاتية تتمُّ منذ ملايين السنين، حسبما اكتشَفَ بيدج وزملاؤه عن طريق فحص الكروموسوم «واي» في الشمبانزي؛ مما يعني أن أقربَ الكائنات الحية شبهًا بنا تشترك معنا في ستةٍ من ثمانية تتابُعاتٍ متناظِرة كبيرة.
سيحتاج الباحثون إلى مزيدٍ من المعلومات عن عددٍ أكبرَ من الكروموسومات الجنسية في الثدييات ليحدِّدوا بدقةٍ كيفيةَ انحراف الكروموسومين «إكس» و«واي» وأسبابه. وتكشف المقارَنات مع أنواع مثل الطيور والنحل، بل وفي واقع الأمر خُلد الماء (انظر مقال «الطيور والنحل وخُلد الماء»)؛ أن هناك طرقًا عديدة لتحديد الجنس، وبالتالي فإن انهيار الكروموسوم الجنسي الذي نحمله نحن ذكور البشر، كان بلا شكٍّ نتيجةً حتميةً. ومع هذا، فقد نجحوا حتى الآن في أن يُثبِتوا أن الانعكاسات والتكرارات اللانهائية لا يُشترَط فيها أن تكون عديمة الفائدة ومملة.
أحدث التطورات
شهد عام ٢٠٠٧ ظهورَ علم الجينوم الشخصي. وكما هو متوقَّع، فإن أول مَن خضعا للتسلسل الجينومي كانا من الرجال، وتحديدًا جيمس واطسون وكريج فينتر. لذا، بالإضافة إلى جميع المعلومات المتاحة عن الرجال عمومًا، يمكننا أن نتطلَّع إلى تفاصيل أكثر عن جينوم رجالٍ بأعينهم (من المرجَّح أن يكونوا عظماء).
قراءات إضافية
-
H. Skaletsky et al., Nature, 2003, 423, 825.
-
S. Rozen et al., Nature, 2003, 423, 873.
-
S. Jones, Y: The descent of men, 2003.