ألعاب الحمض النووي
أتاحَتْ لنا أدوات البيولوجيا الجزيئية الفرصةَ لقراءة الحمض النووي، ولكنها تمكِّن العلماء أيضًا من تصنيع الحمض النووي والتلاعُب فيه. وقد بدأ مجال تكنولوجيا النانو للحمض النووي كتطبيقٍ غير تقليدي إلى حدٍّ ما لفكرة التفكير خارج الصندوق، ولهذا ضمَمْتُه إلى جزء «كائنات غريبة». ولكن بعد بضع سنوات، أصبحت ألعاب الحمض النووي الصناعي أدواتٍ مفيدةً للغاية؛ ولهذا سنتناول هذا المجال مجدَّدًا بمزيدٍ من التفاصيل في جزء التكنولوجيا الرائعة، مع أن ألعاب الحمض النووي رائعة أيضًا.
عادةً ما تترك الخلية مهامَّ بناءِ البِنى المعقدة وتنفيذ المعالجات الكيميائية الدقيقة للبروتينات المتخصِّصة. وقد يبدو الحمض النووي، بالمقارنة بها، مجرد جزيء مملٍّ ذي أربع وحدات بنائية مختلفة، وتتمثَّل وظيفةُ تركيبه الدقيق بصفةٍ أساسية في توفير المساحة.
مع أن الحمض النووي في الخلية يؤدِّي غرضًا واحدًا فقط، فإن هذا لا يلغي استخدامَ مكوناته الأساسية ومبادئ تصميمه في بناء أشياء أخرى. تتمثَّل إحدى أهم مزايا هذا البوليمر البيولوجي في أن أدوات البيولوجيا الجزيئية الحديثة تُمكِّن العلماءَ من التعامُل معه بكفاءةٍ غير مسبوقة. على سبيل المثال، يزوِّدنا تفاعُلُ البوليمريز المتسلسل بوسيلةٍ لتسريع نَسْخ أيِّ تسلسل حمض نووي، بينما تتيح إنزيمات القطع حدوثَ تعديل عالي التخصُّص للجزيئات.
بدءًا من عشرة جزيئات من الحمض النووي الأحادي الجديلة المفتوح السلسلة، كان الباحثون يحتاجون بصفة أساسية إلى خمس خطوات تتضمَّن الحلقنةَ وتكوينَ الجدائل المزدوجة والدمجَ والتنقيةَ وصولًا إلى المنتَج النهائي. وباستخدام وسائل تحليلية تعتمد على إمكانية وصول إنزيمات القطع إلى الجدائل، استطاعوا أن يُثبِتوا أن التركيب يتمتَّع بالطوبولوجيا الصحيحة المطلوبة لمكعب حمض نووي من تصميمهم الخاص. وهذا يعني أن الجديلتين ملفوفتان إحداهما حول الأخرى، والحلقات متشابكةٌ بالطريقة الطوبولوجية المطلوبة تمامًا، ولكن لإثبات أن البنية تتمتَّع فعلًا بزوايا قائمة وأضلاع مستوية كالمكعب، سيكون عليهم انتظار تحديد البنية الفعلية؛ مما سيتطلَّب مادةً أكبر بعدة قيم أسية مما تمَّ إنتاجه في العرض الأول، وقد استعان تشين وسيمان بطريقة الكاشِف المُشِعِّ لتحليل بِنى الحمض النووي.
فيما بعدُ، أصبح سيمان مهتمًّا أيضًا بالعُقَد الجزيئية كتلك التي ناقشناها في مقال «الأسباراجين والشريط القديم»، وعندما تعامَلَ مع هذا التحدي بأسلوبه، نجح في الحصول على عقدة ثلاثية من الحمض النووي، وحصل مؤخرًا (بالتحديد عام ١٩٩٧) على حلقات بورومين، وهي مجموعة من ثلاث حلقات أو أكثر متشابِكة على نحوٍ سيؤدِّي معه قطعُ إحداها إلى تحريرها جميعًا.
بعيدًا عن كون بِنى الحمض النووي بمنزلة ألعاب مدهشة للكيميائيين، فإن تلك البِنى التي أنتجها سيمان في معمله قد تكون لها تطبيقات في تقنيات المستقبل. مع أن الحمض النووي مادة مُكلِّفة إلى حدٍّ ما، ولا تزال تفاصيله البنيوية واستقراره بحاجةٍ إلى إثبات، فإن الوصول المنقطع النظير إلى أشكالٍ وشبكاتٍ جوفاء محدَّدة ونانوية سيضمن للحمض النووي مكانًا على القائمة القصيرة عندما يتعلَّق الأمرُ باختيار المقومات الأساسية لتكنولوجيا المستقبل. وقد تتضمَّن التطبيقاتُ المحتمَلة وظائفَ ناقلة وداعمة، بل تحفيزية أيضًا.
إلا أن الخواص البنائية الميكانيكية للحمض النووي ليست وحدها ما أثارَ اهتمامَ الكيميائيين خلال تسعينيات القرن العشرين؛ فقد اتضح أيضًا أن الجزء الداخلي من اللولب المزدوج عبارة عن سلك شديد الفاعلية بالنسبة إلى الإلكترونات. وفي عام ١٩٩٣، اكتشفَتْ جاكي بارتون وفريقها في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا أن سرعة انتقال الإلكترون عبر قواعد الحمض النووي العطرية المكدسة في منتصف اللولب المزدوج مثل السلم الحلزوني، هي سرعة فائقة مقارَنةً بأنظمة بيولوجية أخرى. كانت السرعات التي أوردَتْها بالفعل مرتفعةً للغاية، لدرجة أن كثيرين لم يصدِّقوها. ولكن في عام ١٩٩٥، توصَّلَ توماس ميد وجون كايم — اللذان يعملان بدورهما في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، ولكنهما يستخدمان أساليبَ مختلفة — إلى نتيجة مماثلة من الناحية النوعية بأرقام أدنى بعض الشيء، ونجَحَا في إقناع المُشكِّكين.
استخدَمَا في تجربتهما مركبات عضوية فلزية تضمُّ فلز الروثينيوم الثقيل، وذلك من أجل الباعِث والمستقبِل للتيار السريع. يمكن تنشيط الباعث بوميض من ضوء الليزر، ويمكن بسهولة ملاحظة وصول الإلكترون إلى المستقبِل وهو يغيِّر الخواص المطيافية للجزيء. من المحتمَل أن يكون البناء المعقَّد لمركب الروثينيوم الأول — الذي يجب أن تمرَّ عبره الإلكتروناتُ قبل أن تصل إلى «طريق الإلكترونات» في منتصف اللولب المزدوج — هو السبب وراء بطء الانتقال مقارَنةً بما حدث في تجربة بارتون. تعتقد جاكي بارتون أن تجربتها، التي تحرَّرَ فيها الإلكترونُ في «طريق الإلكترونات» مباشَرةً، قد قاست السرعةَ الحقيقية لانتقال الإلكترون في الحمض النووي.
من النتائج المهمة التي تمخضَتْ عنها هذه الدراساتُ اكتشافُ أن «سلك» الحمض النووي يعمل في اللوالب المزدوجة فقط. وحتى عندما يرتبط الباعث والمستقبِل بنفس جديلة الحمض النووي، فإن وجود الجديلة الثانية المكمِّلة ضروريٌّ بلا شك من أجل تدفُّق الإلكترونات؛ مما يفتح المجال أمام تطوير مسابير متخصِّصة وعالية الحساسية من أجل رصد تسلسلات معينة من تسلسلات الحمض النووي. ولكي يتأكَّد المرء من وجود تسلسل حمض نووي محدَّد، بإمكانه تخليق الجديلة المكمِّلة، ودمجها مع المركبات المناسبة، ثم استخدام التحليل المطيافي ذي النقل الإلكتروني السريع من أجل رصد وجود التسلسل محل الاهتمام.
نجح هذا التخمين في إفاقة علماء الكمبيوتر الذين لم يكونوا منبهرين إلا بعض الشيء بكمبيوتر البيولوجيا الجزيئية لأدلِمان. التشابه هو أهم موضوع في مستقبل الحوسبة، والوسائلُ غير التقليدية التي تهدف إلى تحقيق هذا قد تسطِّر نهايةَ رقائق السليكون في يومٍ من الأيام.
أحدث التطورات
مع أن الحمض النووي لا يزال مجالًا محدودًا، فإن «سوء استخدامه» كان يطرح باستمرار اكتشافاتٍ جديدةً ومثيرةً في تسعينيات القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين. اقرأ الجزءَ الواردَ تحت عنوان «تكنولوجيا رائعة»، الذي يطرح تطبيقاتٍ رائعةً وغير تقليدية لبِنى الحمض النووي.
قراءات إضافية
-
M. Gross, Travels to the Nanoworld, Perseus, 1999.