لا تُوقِفني الآن!
أحيانًا أقرأ عن أمورٍ في المطبوعات العلمية تبدو غريبة لدرجةٍ يستحيل معها تصديقها؛ فأتوقَّف لحظةً وأرجع إلى الغلاف. أجل، إنها فعلًا مجلة «نيتشر»، وهذا ليس عدد الأول من أبريل (أي إنها ليست كذبة أبريل)، ولست أحلم أيضًا. إحدى هذه الحالات كانت عبارة عن ثلاثة أبحاث ظهرت عام ٢٠٠٤، تصف كيف أدَّى التطور البيولوجي إلى طرح أنظمة شديدة التعقيد تتتبع إنزيمًا ناسخًا جامحًا وتُوقِف عمله. لا بد أن هذا أمر غير مُختلق. وبالنسبة إليَّ، تُعتبَر بالطبع هذه الموضوعات الغريبة مبررًا يدفعني إلى الجنون بعض الشيء أنا أيضًا …
من الجيد دائمًا أن تعرف متى تتوقَّف؛ فلو كنتُ أنا — مثلًا — أنوي الاستفاضة في الجملة السابقة، حتى بعد أن أوضحتُ وجهةَ نظري، كنتُ سأواصِل إضافةَ المزيد والمزيد من الكلمات، ليصبح كلامي غير مفهوم أكثر فأكثر، بينما ستبدأ أنت في الاعتقاد بأنني على وشك أن أفقد عقلي، وستسأل نفسك لماذا لا يتوقَّف؟ هل يعتقد أنه يكتب ملحمة «الأوديسة»؟! وهكذا، سيكون الأمر مضيعةً كبيرةً للوقت والموارد.
في عام ٢٠٠٤، ذكرت عدة فِرَق بحثية طرقًا تستطيع بها الخليةُ إيقافَ البوليمريز عن إهدار المكونات الأساسية للنيوكليوتيدات (بعد دراسة خلية كلٍّ من الإنسان والخميرة لهذا الغرض). وقد وجدوا أدلةً تشير إلى شيء كان حتى الآن محلَّ جدالٍ بصفته افتراضًا غير معقول، وتحديدًا آلية الطوربيد. وبناءً على هذا الافتراض، فإن الإنزيم الذي يهضم الحمض النووي الريبي — ويُعرَف باسم إنزيم النيوكليز الخارجي — يتعرَّف على الطرف المعلَّق من الحمض النووي الريبي الزائد ويبدأ في قطعه. (يجب أن تبدأ إنزيمات النيوكليز الخارجي من الخارج؛ أيْ من طرفٍ ذي نوعٍ خاصٍّ، في حين تستطيع إنزيمات النيوكليز الداخلي هضمَ الحمض النووي الريبي من المنتصف.) ومع تقدُّمِ إنزيم النيوكليز الخارجي على نحوٍ أسرع من البوليمريز، سيتمكَّن الأول من اللحاق بالثاني في نهاية المطاف، وسيجعله يتوقَّف بطريقةٍ تُعتبَر حتى الآن غير محدَّدة.
يبدو أن ثمة آلية مماثلة في الخلايا البشرية، إلا أن فريق نيك براودفوت وألكسندر أكوليتشيف في كلية السير ويليام دان لعلم الأمراض بجامعة أكسفورد قد اكتشف بعض التعقيدات الإضافية؛ ففي جين واحد على الأقل من الجينات التي درسوها، يكوِّن الحمضُ النووي الريبي «الزائد» الذي أنتَجَه البوليمريز ريبوزيمًا قادرًا على التضفير الذاتي، وهو مقطع من الحمض النووي الريبي يعمل كإنزيم ويحفِّز استئصالَ نفسه من جديلة الحمض النووي الريبي. (لكن سيعترض المتزمِّتون بحجة أن الإنزيم أو الريبوزيم الذي يحفِّز نفسَه يهدِم التعريفَ التقليدي للمُحفِّز؛ إذ إنه لا يخرج من التفاعل بلا تغيير. وقد قرَّرَ معظم علماء الكيمياء الحيوية تجاهُل هذا التعقيد الفلسفي.)
من غير المعروف حتى الآن عدد الجينات البشرية الأخرى التي تتطلَّب ريبوزيمًا لمساعدة النيوكليز «إكس آر إن ٢». بما أن الريبوزيم الذي اكتشَفَه باحثو أكسفورد إلى جوار جين الجلوبين كان شاذًّا، فإنه لم يكن ليظهر خلال عمليات بحث التسلسلات التي تفحص وجود مثل هذه العناصر.
ووصولًا إلى هذه النقطة أكون قد انتهيتُ من كتابة كل ما أعرفه عن هذا الموضوع، ولكن بما أن حاسوبي ما زال مفتوحًا وأنا مستمتع بالكتابة، فقد أواصِل أيضًا التفكيرَ فيما يمكن أن يحدث إذا كان حاسوبي يمتلك نسخةً إلكترونية من نيوكليز «آر إيه تي ١». ها أنا ذا قد تخطَّيْتُ نهايةَ مقالتي، ومع هذا ما زلت أثرثر، وقد تظهر أيقونة باكمان صغيرة في نافذة تحرير النص لتبتلع سلسلة الكلمات هذه، وتمضغ الحروف بسرعة تفوق قدرتي على كتابة كلمات جديدة، لدرجة أنها ستدركني بعد بضع دقائق وسأصبح مجبَرًا على «التوقُّف».
أحدث التطورات
أحدثَتْ هذه الأبحاث الثلاثة ضجةً هائلة في عام ٢٠٠٤، ولكني لم أسمع أنباءً مهمة بشأن هذا المجال منذ ذلك الحين. ومن المحتمَل أن يستغرق شرحُ تفاصيل هذه الآلية والتحقُّق من مدى انتشارها بعضَ الوقت.
قراءات إضافية
-
M. Kim et al., Nature, 2004, 432, S. 517–522.
-
S. West et al, Nature, 2004, 432, S. 522–525.
-
A. Ramadass et aI., Nature, 2004, 432, S. 526–530.