هل يمكننا هضم البكتيريا المعوية الموجودة في المَعِدة؟
شهدت قصة البكتيريا التي يمكنها أن تصيبنا بالقُرَح تحوُّلاتٍ عديدة على مدار الزمن. فقد بدأت وجهةُ النظر القائلة إن بكتيريا المَعِدة الحلزونية أو «الهليكوباكتر» مُضِرَّةٌ للإنسان على أنها بدعة من الأساس (إذ علم الجميع أن السبب وراء القُرَح هو أحماض المعدة!) ثم سرعان ما تحوَّلت إلى اعتقادٍ راسخ (يُكمِله تقديرُ ستوكهولم بمنح جائزة نوبل لمكتشفي هذه البكتيريا)، ولكنْ دحَضَ هذا الاعتقادَ الراسخ مجدَّدًا أناسٌ يظنون أن هذه البكتيريا ربما تكون لها أيضًا آثار مفيدة. سنستعرض هنا الأساسيات فقط، لكنني سأعود إلى عرض أحدث ما ورد من أخبارٍ عن هذا الأمر قربَ نهاية هذا الجزء الخاص بالكائنات الغريبة.
عندما نعدُّ الطعام، غالبًا ما نستخدم ظروفًا قاسية، مثل درجة الحرارة المرتفعة أو وسيطًا حمضيًّا لقتل الكائنات الحية الدقيقة، وتستعين عمليةُ حفظ الأغذية من خلال الطرق الصناعية بظروفٍ إضافية أشدَّ قسوةً، منها التعقيم بأشعة جاما والضغط العالي، وتستطيع أجسامنا — حتى حدٍّ معين — الاستعانةَ بوسائل مماثلة؛ لذا، فإن إحدى وظائف الأحماض الموجودة في المَعِدة هي القضاء على البكتيريا التي تدخل أجسامنا مع الطعام.
مع هذا، لا يزال العلماء يكتشفون كائناتٍ حيةً دقيقة ذات قدرات عالية على التأقلُم، تُسمَّى «الكائنات أليفة الظروف القاسية» (المتعضيات المتطرفة)، التي تنمو حتى في الظروف القاسية. على سبيل المثال، تستطيع أليفات الحرارة العالية أن تعيش في درجات حرارة قريبة من درجة غليان الماء، كما تستطيع البكتيريا أليفة الملوحة المتطرفة (الملحاوات العصوية) أن تنمو في اللحوم المُملَّحة، بينما تستطيع بكتيريا «دينوكوكس راديوديورانس» المقاوِمة للإشعاع أن تبقى على قيد الحياة بعد التعقيم بأشعة جاما. وبالمثل، ثمة بكتيريا أخرى يمكنها أن تتَّخِذ من بيئة الفم المُعادية موطِنًا لها (كتلك البكتيريا التي تضر الأسنان)، ويمكن أن توجد في المَعِدة.
وفي تشابُهٍ كبير مع صائدي البكتيريا أليفة الظروف القاسية في دراساتهم الميدانية، اكتشف اختصاصي علم الأمراض الأسترالي جيه روبين وارين نوعًا من البكتيريا في مكانٍ من المفترض بحسب المنطق العلمي ألَّا تستطيعَ العيشَ فيه، أَلَا وهو مَعِدة الإنسان؛ فقد كانت البكتيريا الحلزونية الشكل التي صُنِّفت بعد ذلك باسم الملوية البوابية أو «هليكوباكتر بيلوري» قد اختبأَتْ في الطبقة المخاطية التي تغطِّي جدرانَ المعدة. ولم ينجح وارين وزميله باري جيه مارشال في زرع النوع الجديد من البكتيريا إلا بعد سلسلة من المحاولات الفاشلة، وعندما نشَرَا النتائجَ التي توصَّلَا إليها عام ١٩٨٣، أكَّدَ الباحثون في جميع أنحاء العالم ظهورَ هذه البكتيريا في المَعِدة، خاصة لدى المرضى المصابين بالتهاب المَعِدة السطحي المزمن، وهي حالة مرضية تؤدِّي إلى حدوث التهاب متكرِّر في المعدة.
مع ذلك، فإن وجود البكتيريا في نسيج مصاب لا يثبت أنها المتسبِّبة في المرض؛ فربما تكون قد استفادَتْ فقط من ضعف الجسم وغَزَتْ عضوًا مصابًا بالمرض فعلًا. أجرى مارشال ومتطوِّع ثانٍ اختبارًا ذاتيًّا ليقِفَا على حقيقة إن كان وجودُ البكتيريا هو سبب المرض أم أنه نتيجة للإصابة به. وعندما ابتلَعَ الرجلان المتمتِّعان بصحة جيدة جرعةً من «هليكوباكتر بيلوري»، أُصِيبَ كلاهما فعلًا بالتهاب في المَعِدة. وبذلك، أصبح من الواضح أن الإصابة ببكتيريا «هليكوباكتر بيلوري» غالبًا ما تؤدِّي إلى الإصابة بالتهاب المَعِدة السطحي، الذي قد لا يُلتفَت إليه غالبًا وتُلام وجبة دَسِمة على تسبُّبها في أعراضه. ولو استمرَّتِ الإصابةُ ولم تُعالَج في الوقت المناسب، فقد تؤدِّي إلى حدوث قُرَح المَعِدة، أو قُرَح الاثني عشري على المدى الطويل.
هدَمَ هذا الاكتشافُ مُعتقَدًا راسخًا قديمًا قِدَم الحضارة الغربية نفسها تقريبًا؛ أَلَا وهو أن القُرَح تنتج عن كثرة الإفرازات الحمضية في المَعِدة. فخلال القرن الميلادي الأول، نصح الطبيب الروماني سيلزوس بالأطعمة المنخفضة الأحماض للوقاية من القُرَح. ومنذ سبعينيات القرن العشرين، ظهرت عقاقير تقلِّل إفرازَ أحماض المَعِدة دون آثارٍ جانبية خطيرة، وتقلِّل بالفعل الإصابةَ بالقُرَح. ولكن، دائمًا ما كانت تعود القُرَح عند إيقاف العلاج. وعلى النقيض من ذلك، فإن العلاج بوصفات عنصر البزموت أو المضادات الحيوية التي تبيد جماعات بكتيريا «هليكوباكتر» يمكن أن يشفي من التهاب المَعِدة نهائيًّا.
لكن كيف تنجح هذه البكتيريا في العيش داخل القناة الهضمية للإنسان دون تعرُّضها للهضم؟ يبدو أن السرَّ يكمن في قدرتها الحركية وبعض الخصائص الكيميائية فيما يخصُّ عمليةَ الأيض. فالحركة مهمة عندما تتدفق محتوياتُ المَعِدة نزولًا إلى الأمعاء؛ إذ تستطيع البكتيريا الحلزونية الشكل — بمساعدة سياطها — السباحةَ بسرعة كافية لتنجو من مصير طردها خارج الجسم إلى المرحاض. أما بالنسبة إلى «الحيلة» الذكية لعملية الأيض في هذا النوع من البكتيريا، فتتمثَّل في أنها تُفرِز كمياتٍ هائلةً من إنزيم اليورياز، الذي يستطيع تكسيرَ اليوريا (أحد نواتج عملية هضم البروتينات) وتكوين الأمونيا وثاني أكسيد الكربون. وأحد التفسيرات المحتمَلة لمقاومة بكتيريا «هليكوباكتر» للأحماض أن هذه البكتيريا قد تكون قادرةً على استخدام الأمونيا المفرَزة بواسطة اليورياز لمعادَلةِ الحمض المَعِدي في بيئتها الحالية.
إنَّ ما يبدو حالةً مُدهِشة للتأقلُم مع الظروف القاسية هو أمرٌ بالِغ الأهمية في الحقيقة للرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم؛ فقد قدَّر العلماء أن ثُلثَ سكان العالم يحملون عدوى كامنة ببكتيريا «هليكوباكتر»، لكن نسبة محدودة فقط من حالات الإصابة تؤدِّي — كما في حالة ميكروب السُّل — إلى أعراض ملحوظة للمرض. ويصاب نحو ١٠٪ من جميع البشر بالقُرَح في مرحلةٍ ما من حياتهم، وفي حالات الإصابة بالقُرَح وسرطان المَعِدة، يمكن للدراسات المقارِنة رصدُ ارتباط واضح بين عدد الأفراد المصابين ببكتيريا «هليكوباكتر» وبين الإصابة بهذين المَرضين. وتشيع حالات الإصابة بهذين المَرضين، وكذلك الأمراض التي يُعتقَد الآن أنها من مضاعفات هذين المَرضين الطويلة الأجل؛ في الدول النامية أكثر من الدول الصناعية، بَيْدَ أن كلا المَرضين شهِدَ تراجُعًا بطيئًا على مدار القرن العشرين. ويمكن لحملة وقاية واسعة النطاق من هذا الميكروب أن تكون إجراءً شديدَ الفاعلية للقضاء على القُرح وسرطانَي المَعِدة والاثني عشري.
أحدث التطورات
في عام ١٩٩٧، أكملَتْ مؤسسةُ كريج فينتر لأبحاث الجينوم التسلسُلَ الجينومي لبكتيريا «هليكوباكتر بيلوري». ومنذ ذلك الحين، وُضِعت الخططُ لإبادة هذه البكتيريا نهائيًّا (إذ من شأن التسلسُل الجينومي أن يساعد في تحديدِ أهدافٍ معينة لإنتاج عقَّار مناسِب)، إلا أن بعض الباحثين اقترحوا أن آثارها الضارة على القرح وبعض أنواع السرطان يمكن معادلتها بتأدية دورٍ أكثر إيجابيةً في المساعدة على تجنُّب أنواعٍ أخرى من السرطان. ولهذا فمن غير المحتمَل حتى الوقت الراهن ظهورُ برنامج إبادة منهجي. وفي عام ٢٠٠٥، فاز باري مارشال وروبين وارين بجائزة نوبل مناصَفةً في علم وظائف الأعضاء أو الطب «لاكتشافهما بكتيريا «هليكوباكتر بيلوري» ودورها في الإصابة بالتهاب المعدة ومرض القرحة الهضمية.»
كذلك في عام ٢٠٠٧، اكتشف الباحثون أمرًا مدهشًا للغاية عن بكتيريا «هليكوباكتر»، ولكني سوف أُرجِئ الحديثَ عنه حتى فصلٍ لاحقٍ من هذا الجزء.