كشف أسرار إنسان النياندرتال
في عام ٢٠٠١، كان الجينوم البشري قد اكتمَلَ على نحوٍ تقريبي، بعد مجهود دولي كبير استغرق قرابة عشر سنوات. وبعد خمس سنوات، ركَّزَ الباحثون انتباههم على جينوم السلالة البشرية المنقرضة؛ النياندرتال. وأظنني لا أحتاج إلى تذكيركم بأنه كان ثمة أكثر من ستة مليارات نموذج من «الإنسان العاقل» منتشرة في جميع أنحاء كوكبنا، تستطيع أن تمدنا بالكثير من الحمض النووي البشري لو احتجنا إلى كلِّ هذا القدر، بينما انطلق مشروع النياندرتال بعيِّنَة حمض نووي متآكلة ومفتَّتة ومتعفِّنة بصفة عامة، وتزن كلها ٥٠ ملِّيجرامًا. لو لم يكن هذا جنونًا، فلا أعلم بأي شيء آخَر أصفه. ومع هذا، فبمجرد قراءتي للأبحاث، أقنعني الباحثون أن هذا المشروعَ مشروعٌ طموح يستحق التنفيذ. علاوة على ذلك، فإن النياندرتاليين لَطالما كانوا نقطةَ ضعفي، حتى إنني قمتُ ببعض الأبحاث عنهم بنفسي.
الكشف عن عظام قديمة
غالبًا ما تتعرَّض أبحاث الجينوم التي تُجرَى عن سلالات منقرضة للسخرية، فتُترَك فقط لمجال الخيال العلمي في فيلم «حديقة الديناصورات». لا توجد سوى بضعٍ من عظام الحفريات محفوظةٍ جيدًا لتمنح الباحثين أملًا في أنهم قد يستعيدون الحمضَ النووي لأصحابها الأصليين. وحتى لو أمكن العثور على الحمض النووي، فهو مفتَّتٌ إلى حدٍّ كبير ومخلوطٌ بالمادة الوراثية لسلالات أخرى، مثل بكتيريا التربة.
لم تَزُلْ هذه المشكلاتُ الجوهرية، ولكن ما تغيَّرَ خلال السنوات القليلة الماضية هو أن طُرُقَ البحث الجينومي الآن أصبحَتْ متقدِّمةً للغاية، لدرجة أنها تستطيع التعامُل مع هذا الموقف. في التسلسل الجينومي الحديث، بحسب أسلوب التسلسل النووي القسري الذي ابتكره كريج فينتر، سيتمُّ تفكيكُ الحمض النووي على أية حال، ويقع الآن حجمُ المقطَعِ النمطي للحمض النووي القديم ضمنَ النطاق الذي تستطيع أجهزةُ التسلسل استخدامه على نحوٍ روتينيٍّ. أما بالنسبة إلى مسألة التلوُّث بالحمض النووي للسلالات الأخرى، فإن توافُرَ مئات الجينومات البكتيرية المسجَّلَة في قواعد البيانات — إلى جانب الجينوم البشري وعشرات الجينومات الأخرى للكائنات المتعدِّدة الخلايا — يتيح للباحثين فحْصَ كلِّ مقطع يعمدون إلى ترتيب تسلسُلِه النووي، والتحقُّقَ من نوع الكائن الحي الذي جاء منه.
اعتمَدَ سفانت بايبُو وزملاؤه من معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في مدينة لايبزيج الألمانية على هذه الاعتبارات خلال عملهم، وبدءوا في دراسة الحمض النووي للنواة (أيْ كتلة المادة الوراثية المخزنة في النواة، مقارَنةً بالقدر الضئيل من الحمض النووي الموجود في الميتوكندريا) المأخوذ من عظامِ أقربِ السلالات شبهًا بنا (على الرغم من انقراضها)، أَلَا وهم النياندرتاليون. في هذه الحالة، يكون أخطر أنواع التلوُّث هو الحمض النووي المكشوط من أصابع الأشخاص الذين تعامَلوا مع العظام، حيث إن الحمض النووي للإنسان المعاصر أكثر شبهًا بالحمض النووي لإنسان النياندرتال من أية سلالة أخرى.
لتحليل هذه العظمة الثمينة، استعان فريق لايبزيج بطريقة جديدة تمامًا لم تُسهِم فقط في تسريع العملية بمعدل الضعف تقريبًا، وإنما مكَّنَتْهم أيضًا من متابعة كلِّ مقطع على نحو مستقلٍّ؛ كي يعرفوا — على سبيل المثال — الموضع الذي تنتمي له أي قطعة على أي من جديلتَي اللولب المزدوج.
تعمل هذه الطريقة على نحوٍ أفضل مع المقاطع التي يبلغ طولها حوالي ١٠٠ قاعدة. وفي دورة واحدة لا تستمر أكثر من ٤ ساعات، يستطيع النظام الأوتوماتيكي تحديدَ تسلسل ٢٥ مليون قاعدة، مثلما أوضح روثبِرج بتحديد تسلسل «الميكوبلازما التناسلية» مجدَّدًا. وفي عام ١٩٩٥، كانت هذه البكتيريا هي السلالة الثانية التي يُحدَّد تسلسُل جينومها كاملًا.
جاءت هذه الطريقة التسلسلية الجديدة في أوانها المناسِب للاستفادة منها في مشروع بايبُو. فالمحصلة النهائية أنها تعمل أسرع ١٠٠ مرة، وبدقة أعلى من طريقة سانجر التقليدية التي تُستخدَم الآن على نحوٍ روتينيٍّ، مع الاستعانة بالترحيل الكهربائي الشعيري وصبغات الفلورسنت للاهتمام بعمليتَي الفصل والرصد، على التوالي. عيب التسلسل الحراري أنه لا يصلح مع المقاطع الأكبر من ١٠٠ قاعدة، ولا أهمية لهذه النقطة بالنسبة إلى الباحثين المهتمين بالجينوم القديم أمثال بايبُو؛ حيث إن عينات الحمض النووي التي يحلِّلونها تُقطع بالفعل إلى أجزاء صغيرة عندما تصل إلى المعمل، ونادرًا ما يبلغ طولها ١٠٠ زوج قاعدي.
وهكذا، استطاع فريق لايبزيج البحثي بكل سعادة الإعلانَ عن أحدث تقنية تسلسلية للكشف عن أسرار العظام القديمة. في الجزء الأول من مشروعهم، حدَّدوا التسلسلَ النووي لحوالي ربع مليون مقطع حمض نووي مختلِف مأخوذ من عظمة «في آي-٨٠»، وحاولوا نسبتَها إلى مجموعة كبيرة من الكائنات الحية بمقارنتها مع التسلسلات الجينومية المسجَّلة في قواعد البيانات الحالية. لكن باءَتِ المحاولةُ بالفشل مع ٢٠٠ ألف تسلسُل نووي؛ فمن بين الخمسين ألفًا التي أمكن تصنيفها، اتضح أن ١٧ ألفًا تنتمي لبكتيريا التربة، من الفصيلة المعروفة باسم الحارش «الأكتينومايسليز».
بَيْدَ أن ثاني أهم المجموعات كانت مجموعة الحمض النووي للرئيسيات، الذي يتكوَّن من ١٥٧٠١ مقطع متسلسل يُفترَض أنه ينتمي لإنسان النياندرتال، اختار الباحثون من بينها أولًا تسلسلاتِ الحمض النووي الميتوكندري البالغ عددها واحدًا وأربعين؛ لكي يُطَمئِنوا أنفسهم (مجدَّدًا) بأن الحيوان المنتمي للرئيسيات والخاضع للبحث لم يكن مجرد «إنسان عاقل». اجتازَ الواحد والأربعون تسلسُلًا جميعًا هذا الاختبارَ بنجاح. علاوة على ذلك، أثبَتَ تحليلُ هذه المقاطع فائدتَه في زيادة المعرفة الحالية بشأن الحمض النووي الميتوكندري لإنسان النياندرتال، وقدَّمَ تقديرًا تقريبيًّا حول الوقت الذي انفصلت فيه السلالتان البشريتان إحداهما عن الأخرى. فطبقًا لهذه العينات، حدَثَ الانفصالُ منذ ما يتراوح بين ٤٦١ ألف سنة و٨٢٥ ألفًا مضت.
بهذا التأكيد، التفَتَ الباحثون إلى الهدف الرئيسي لبحثهم، وتحديدًا الحمض النووي غير المُستكشَف بعدُ، الموجود في نوى الخلايا النياندرتالية. في نوفمبر ٢٠٠٦، أعلَنَ فريق بايبُو عن أول مليون زوج قاعدي للجينوم النياندرتالي، يغطي نسبة ٠٫٠٣٦٪ من الجينوم بأكمله، وكان الناتج أقلَّ بعض الشيء في حالة الكروموسومات الجنسية، ولكن بما أن المقطعين «إكس» و«واي» تمَّ تحديدهما، فمن المؤكَّد أن «في آي-٨٠» ينتمي لذكرٍ نياندرتاليٍّ. كان المليون الأول بالطبع مجرد علامة مرجعية تمَّ تحديدها عشوائيًّا، وقد واصَلَ الباحثون بعد ذلك تحديدَ التسلسل النووي لمزيدٍ من المواد.
بناءً على أول مليون زوج قاعدي، استطاع باحثو لايبزيج بالفعل عقْدَ مقارنات تفصيلية بين تسلسلات الجينوم المعروفة لسلالتنا وتسلسلات جينوم الشمبانزي الشائع من نوع «بان تروجلودايتس» (انظر الجزء الوارد تحت عنوان «شجرة العائلة» في مقال «أبناء عمومتنا المُشعِرون»). وبالطبع، فإن الغالبية العظمى من قواعد الحمض النووي متطابِقة في السلالات الثلاث جميعها.
باستخدام جينوم الشمبانزي كمقياس خارجي، استطاع الباحثون أن ينسبوا سببَ الاختلافات بين البشر المعاصرين والنياندرتاليين إلى التغيُّر التطوُّري لأحدهما. على سبيل المثال، تختلف مادتنا الوراثية في ٤٣٤ موضعًا (من بين المليون موضع التي أُخضِعت للدراسة) عن الاتفاق الموجود بين النياندرتال والشمبانزي. إذا افترضنا أن معدلات الطفرات في «الكائنات العاقلة» و«الكائنات النياندرتالية» كانت متشابِهةً، فلا بد أن يوجد قدرٌ مماثِلٌ من الاختلافات بين النياندرتاليين من ناحيةٍ، والاتفاق بين الشمبانزي/البشر من ناحية أخرى.
إلا أن ما اكتشفه الباحثون هو أن الحمض النووي النياندرتالي يتَّسِم فيما يبدو بطفرات معيَّنة تزيد ثماني مرات عن طفرات الحمض النووي للإنسان المعاصر. وكان تفسيرهم للأمر أن حوالي سبعة اختلافات من واقع كل ثمانية موجودة حصريًّا في الحمض النووي النياندرتالي؛ قد ترجع إلى التلف الذي تعرَّضَ له الحمض النووي القديم خلال عشرات الآلاف من السنوات التي قضاها في الأرض. وحتى اليوم الذي يصبح فيه حمضٌ نووي مأخوذٌ من أفراد نياندرتاليين آخَرين متاحًا من أجل إخضاعه للمقارنة، لا يملك العلماء خيارًا سوى التغاضي عن هذه الطفرات المفترَضة، والتركيز على الاختلافات المحدَّدة القاصرة على الجينوم البشري المعاصر، الذي يستطيعون فحصه بسهولةٍ بقدر ما يرغبون.
بناءً على مقارنة التسلسلات النووية بين هذه الجينومات الثلاثة المتشابهة، قدَّر بايبُو وزملاؤه أن وقت انفصال إنسان النياندرتال والإنسان المعاصر أحدهما عن الآخَر، كان منذ ٥١٦ ألف سنة قبل زماننا. ولكنهم أشاروا إلى أن هذا الرقم يحتمل الخطأ فيما يتعلَّق بوقت انفصالنا عن حيوانات الشمبانزي، الذي من المفترض أنه كان منذ ٦٫٥ ملايين سنة مضَتْ، وبالتالي يجب ألَّا يُنظَر إليه باعتباره حقيقةً مُسلَّمًا بها.
كما قدَّمت الدراسة المبدئية لأول مليون زوج قاعدي معلوماتٍ عن حجم التجمُّعات المؤسِّسة. فعلى عكس حيوانات رئيسية أخرى، فإن كلًّا من إنسان النياندرتال و«الإنسان العاقل» ينحدر فيما يبدو من تجمعات صغيرة نسبيًّا تبلغ حوالي ١٠ آلاف فرد، وتُعَدُّ أيضًا البيانات المتاحة عن النياندرتاليين مفيدةً للباحثين المهتمين بأصول التنوُّع الجيني للإنسان. ثمة مواضع عديدة في الجينوم البشري لا يوجد بها اتفاق، ولكن وُجِد أن هناك صورًا عديدة واسعة الانتشار. وإذا تضمَّنَتْ هذه الصور زوجًا قاعديًّا واحدًا، فسيشار إليها بأنها التغيُّرات الفردية المتعدِّدة الأشكال للنيوكليوتيدة. وبالنظر إلى كلٍّ من إنسان النياندرتال والشمبانزي بصفتهما نقطتين مرجعيتين، فمن الممكن الآن اكتشاف أيُّ نسخة من صورة بشرية معينة هي النسخة «الأصلية» وأيُّها هي الطفرة. وفي بعض الحالات، بالطبع، قد ينتج التغيُّرُ حتى قبل الانفصال عن النياندرتال.
بالتزامن تقريبًا مع بحث بايبُو في مجلة «نيتشر»، ظهرَتْ دراسة ثانية عن جينوم النياندرتال في مجلة «ساينس» المنافسة، قام فيها إدوارد روبين وزملاؤه في العديد من المعاهد البحثية في أرجاء الولايات المتحدة بتحليل الحمض النووي المأخوذ من نفس العظمة بأسلوبٍ مختلفٍ بعض الشيء؛ فقد حدَّدوا تسلسُلَ ٦٢٥٠٠ زوج قاعدي فقط، ولكنهم اختاروها سلفًا، وبالتالي ربما توصَّلوا إلى قدرٍ من البيانات المهمة مماثِلٍ لما توصَّلَ إليه باحثو لايبزيج الذين فحصوا مقاطع الحمض النووي عشوائيًّا. وتباينت استنتاجات روبين المبدئية عن بايبُو في بعض الجوانب الرئيسية، مثل تاريخ الانفصال واحتمالية الاختلاط الوراثي بين السلالتين.
بناءً على هذه النتائج المبدئية والجدوى المثبتة للجينوم النياندرتالي، اقتنَعَ بايبُو وزملاؤه الآن بأنَّ تحديدَ التسلسل النووي للجينوم بأكمله صار في متناول أيديهم. وهم يرون أن المقارنات الجينومية الكاملة بيننا وبين أبناء عمومتنا من النياندرتاليين والشمبانزي ستكشف عن نتائج غير مسبوقة حول التطور البشري والتنوع البيولوجي. وستتضمن المقارنات أيضًا — بخلاف تحليل الاختلافات البسيطة مثل التغيُّرات الفردية المتعددة الأشكال للنيوكليوتيدة — أنواعًا أخرى من التنوع البيولوجي، بما في ذلك اختلافات عدد النُّسَخ، التي لم يبدأ العلماء في تقدير أهميتها إلا مؤخرًا.
بالنسبة إلى ظهور أبناء عمومتنا الأقرب شبهًا بنا واندثارهم، فثمة جدل دائر حول إن كان كلٌّ من إنسان النياندرتال والإنسان البدائي قد احتكَّ أحدهما بالآخَر بعد انفصال السلالتين إحداهما عن الأخرى، وما إن كان قد حدث أيُّ تبادُلٍ جيني، وما إن كان للإنسان أيُّ دور فاعل في انقراض النياندرتال. سيكون من الأسهل تقييم جميع هذه الأسئلة الجوهرية بمساعدة مقارنات جينومية كاملة. ويقدِّر بايبُو أن هذا الحلم قد يتحقَّق بحلول عام ٢٠٠٨.
أحدث التطورات
في سبتمبر ٢٠٠٧، انتشر جدال واسع حول احتمالية التلوث البشري في عينات بايبُو. وقد نحتاج إلى وضع المزيد من الضوابط لنوضِّحَ كَمْ من البيانات الأصلية يمكن اعتباره نياندرتاليًّا بنسبة ١٠٠٪. وفي الوقت نفسه، كان من المتوقَّع أن يتأخَّر تحديدُ تسلسل الجينوم بأكمله حتى عام ٢٠٠٨ بسبب هذه المشاكل.
في بحثٍ منفصلٍ نُشِر في نفس الشهر، أدَّى الاستخدام المُبتكَر للكربون في تحديد العمر إلى مساعدة الباحثين عند إعادة فحص وتدقيق أسباب الانقراض المفترضة للنياندرتاليين في مواجهة الأحداث المناخية (بدلًا من ربط الاثنين بالزمن، وهو ربطٌ يعتريه الكثيرُ من الشكوك والأخطاء). ويبدو من التحليل الجديد أنه ليس ثمة علاقة واضحة بين التغيُّر المناخي واندثارِ النياندرتال.
كما أن تكنولوجيا تحديد التسلسل النووي المذكورة في هذا البحث هي نفسها التي ساهمَتْ في إكمال واحد من أوائل الجينومات الشخصية، أَلَا وهو جينوم جيمس واطسون. أعلمُ أن هذا مثارُ سخريةٍ لدى البعض، ولكني سأترك لكم الحكمَ.
لقاءٌ مع العائلة
كان النياندرتاليون أكثر السلالات شبهًا بنا في شجرة العائلة البشرية. ومنذ حوالي نصف مليون سنة، ظهر النياندرتاليون بصفتهم سلالةً منفصلة عن سلالتنا عندما انتقلوا إلى أوروبا وتأقلموا مع المناخ البارد، في حين بقي أسلافنا في أفريقيا لبعض الوقت. وبالتالي، فإن الفترة التطورية بين هاتين السلالتين تساوي تقريبًا عُشْر الفترة التي تفصل بيننا وبين الشمبانزي.
الاسم مشتق من وادي نياندرتال بالقرب من مدينة دوسلدورف بألمانيا، حيث وُجِد أثر لهم منذ ١٥٠ سنة. لكن مع الأسف تحطَّمَ هذا الهيكل النياندرتالي الأول؛ فالكهف الذي كان يوجد فيه انهار خلال استخراج الحجارة، واكتُشِفت العظام الأولى في الأنقاض، ولم ينجح الباحثون في تقفي أثر بقايا المادة وإنقاذ المزيد من العظام إلا في تسعينيات القرن العشرين.
كان الاكتشاف الأصلي يضمُّ الجمجمةَ، التي صُنِّفت بعد بضع سنوات باعتبارها منتميةً لسلالة جديدة بسبب النتوءات المميزة الموجودة فوق العين، والجبهة المرتدة إلى الوراء. منذ ذلك الحين، اكتُشِف العديد من العينات في أرجاء أوروبا والشرق الأوسط. عادةً ما توجد هياكل النياندرتال معًا وهي تحمل أنواعًا معينة من الأدوات الحجرية، المعروفة بالموستيرية (نسبةً إلى موقع «لو موستير» في منطقة دوردونيي بفرنسا).
منذ حوالي ٤٠ ألف سنة، انتقل الإنسان المعاصر من أفريقيا إلى أوروبا. ومنذ ٣٠ ألف سنة تقريبًا، انقرَضَ النياندرتاليون، في حين ازدهر أسلافنا، الممثلون من خلال اكتشاف إنسان الكرومانيون وغيره. وكان التحدِّي الأكبر بالنسبة إلى علم الأنثروبولوجيا المعنِيِّ بدراسة الإنسان هو اكتشاف ما حدث خلال هذه السنوات البالغ عددها ١٠ آلاف سنة. هل تراجَعَ النياندرتاليون هربًا من منافسيهم المتفوقين عليهم تكنولوجيًّا؟ هل يمكن أن يكون أسلافنا قد أبادوهم مباشَرةً؟ إلى متى دام التعايُش بينهم في أوروبا؟ وهل كان ثمة أيُّ اتصال أو حتى تزاوُج بينهم؟
في عام ٢٠٠٦، اكتُشِفت أدوات موستيرية في كهفٍ بجبل طارق يعود تاريخها إلى ٢٨ ألف سنة قبل زماننا. يوحي هذا الاكتشاف بأن أواخِر الناجين من هذه السلالة قد وجدوا مأوًى لهم في جبال جنوب إسبانيا، وأن التعايُشَ ربما يكون قد استمرَّ لمدةٍ أطول مما اعتقد العلماء سابقًا.
حتى الافتراض — الذي يُسقِطه معظم الخبراء من الحسبان — بأن الهيكل الذي يرجع إلى ٢٤٥٠٠ سنة مضت لطفلٍ من لاجار فيلو (البرتغال) ربما يكون هجينًا بين إنسان النياندرتال والإنسان المعاصر؛ قد اكتسَبَ المزيدَ من المصداقية بعدَما تمَّ اكتشافُه في جبل طارق. هذا، وتظل قصة أبناء عمومتنا لغزًا شائقًا.
كيفية العثور على بقايا نياندرتالية
في ظهيرة يومٍ حارٍّ من شهر يوليو، خرجتُ وابنتي (التي كانت تبلغ من العمر وقتذاك ١٢ عامًا) على مضضٍ من قطارٍ مكيَّفٍ إلى الرصيف القائظ، وفيما يبدو كنَّا عالِقين في منطقة مجهولة، في مكانٍ ما بجنوب إسبانيا. فقط عندما غادَرَ القطارُ استطعنا أن نرى أنه كانت توجد بالفعل محطة صغيرة على الجانب المقابِل من خط السكة الحديدية، وأن عالِمًا في أصول الإنسان القديم وتطوُّره — يسهل التعرُّف عليه من صورة الجماجم البشرية الموجودة على قميصه — كان في انتظار مقابلتنا. لقد جئنا إلى هذه البقعة النائية لكي نتطوَّع في التنقيب في موقع أحد الكهوف، حيث تمَّ العثورُ على عشرات البقايا النياندرتالية على مدار السنوات العشر الماضية. لم يتطلَّب منا الأمرُ خبرةً سابقة، وكان يتضمَّن أربعَ وجبات وسكنًا أشبه بنُزُل الشباب. ومن هنا بدأت المغامرة.
ضاع يوم الثلاثاء الذي وصلنا فيه بسبب تغيير الحراسة. كان يوجد فريق آخَر من المتطوعين مكوَّن من ١٥ فردًا قويًّا يعملون في كهف مختلف في أقصى الشمال لمدة ثلاثة أسابيع، وقد جاءوا ليروا «كهفنا» قبل أن يرحلوا. كانت معنوياتهم مرتفعةً بعد اكتشافهم فأسًا حجريَّة في موقعهم؛ مما جعل الخبر يظهر على التليفزيون المحلي. وفي وقت الغداء، لم يكن يوجد سوانا من الأشخاص الجُدد على المائدة، ولكن بحلول وقت العشاء، كان الراغبون في الرحيل قد رحلوا ومعظم القادمين الجُدد قد ظهروا. كان من المفترض أن يكون الأربعاء يومَ عملٍ، بَيْدَ أن البروفيسور كان مشغولًا بمهامَّ أخرى؛ لذا خرجنا في جولةٍ بقيادة أحد المرشدين في موقع التنقيب وبضعة كهوف أخرى في نفس الجبل. كان الكهف بصفة أساسية عبارة عن حفرة عمودية عميقة في الصخور الكلسية، وكان كبيرًا بما يَسَع سقَّالة بناء، ويسهل الدخول إليه عبر نفق أفقي حفره عمَّال المناجم، أو عبر الطرف العلوي.
ولأننا كنَّا مستمتعين فعلًا بالتسلُّق إلى مدخل الكهف — على عكس البعض — حظينا بفرصة لنكون جزءًا من أول فريق مكوَّن من ثلاثة حفَّارين يعمل في موقع التنقيب نفسه، الذي يُدار من قمة السقالة، تحت المدخل مباشَرةً. تدخل الموادُّ إلى الكهف بواسطة البكرات، ثم تُحمَل بعد ذلك إلى الخارج عبر مخرج عمَّال المنجم. في «الفتحة العلوية» توجد ساحَتَا حفر، تمَّ كشفهما ببطء بواسطة المجارف الصغيرة، تبلغ مساحة كلٍّ منهما مترًا مربعًا واحدًا. وفي الرسابة المُفكَّكة نسبيًّا تنتثر العظام، ولكن للأسف معظمها ينتمي لحيوانات صغيرة مثل الأرانب. ومن النادر العثور على قطع صغيرة من عظام الغزلان والسلاحف. لم نجد أثرًا للبشر أو غيرهم من الحيوانات الكبيرة آكلة اللحوم في يومنا الأول. تتجه العظام التي يتم تجميعها خلال عملية التنقيب إلى حوض مسطَّح، بينما يخرج كلُّ شيء آخَر بواسطة البكرة في دِلاء، ليتمَّ تجميعه في أكياس في السفح.
وبما أنه يستحيل علينا مع درجة الحرارة المرتفعة العملُ في الموقع بعد الساعة الثانية عصرًا، امتدت استراحة الغداء وتضمَّنت زيارةً لحمام السباحة، وإتاحةَ وقتٍ لنوم القيلولة. وبنهاية فترة الظهيرة، عُدنا إلى العمل وأخذنا الأكياس من موقع التنقيب إلى الخطوة التالية، وهي الغربلة. يتم هذا في مصنع الرخام الموجود على الجانب الآخَر من الجبل، حيث يوجد خرطوم خاص مزوَّد برشاش ماء قوي، يساعد في تفتيت التراب وتمريره عبر مجموعة من ثلاثة غرابيل يتفاوت حجم شبكتها. ثم فحصنا الغرابيل، وجمعنا كلَّ العظام، وأي شيء يمكن أن يكون أداة حجرية، وحتى أصداف الحلزون. ولم تكن الأخيرة مهمةً في حدِّ ذاتها، ولكنها مهمة من أجل عينات التربة التي تغلِّفها. تتجه جميع هذه الاكتشافات بعد ذلك إلى الأحواض المسطحة، وتُوضَع عليها بطاقات تحمل تاريخها وموقعها الأصلي، ولكن لا يزيد تصنيفها عن هذا الحد.
الجمعة هو يوم الاحتفال المحلي بالقديس الراعي؛ ولهذا كان مصنع الرخام مُغلَقًا وتوقَّفَتِ الغربلة الرطبة، واستعضنا عنها بتركيبِ غربال جافٍّ عملاق عند مدخل عمَّال المنجم وغربلنا الركام الملقَى هناك. تُعتبَر مثل هذه المادة المستعملة أقلَّ قيمةً؛ لأنها تفتقر إلى السياق الجيولوجي الدقيق، ولكن من ناحية أخرى، يمكن للمرء معالجتها بسرعة والعثور على عظام أكثر وأكبر بأقل مجهود. ويجب ألَّا ننسى أن تلك الاكتشافات الكبرى قد وُجِدت في نفايات الآخَرين؛ ففي الموقع النياندرتالي، حيث عثَرَ عمَّال المحجر على قُبَّة الجمجمة الأصلية التي قادَتْ إلى تعريف السلالة النياندرتالية، أثمرَتْ إعادةُ الفحص الجديدة للتربة التي رماها أولئك العمَّال عن ثروة من البقايا النياندرتالية. حسنًا، يحقُّ للمرء أن يحلم، أليس كذلك؟! بالتحديد في هذه الكومة من الأنقاض عثرنا على بقايا من قرون الوِعال، وأصداف سلاحف، وجزء من حجر شديد الصلابة، ولكننا لم نجد عظامًا بشرية.
في وقت متأخِّر من ظهيرة يوم الجمعة، عرفنا آخِر خطوة من هذه الإجراءات، وهي فرز الاكتشافات وتصنيفها. إذ يوجد أكثر من ١٢ تصنيفًا مختلفًا، فيما يخص العظام والأسنان المحترقة أو غير المحترقة، لحيوانات صغيرة أو كبيرة، قابلة للتصنيف أو غير قابلة للتصنيف. النوع غير القابل للتصنيف هو الخيار الشائع، حيث إن جميع العظام في تلك الكومة — التي عادةً ما تكون أجزاءً من جسم العظمة دون مفصل أو شكل محدَّد يتيح التعرُّف على أصلها — ستُوضَع في كيس بلاستيكي واحد، ولن يُنظَر إليها مرةً ثانية. وعلى العكس من ذلك، يجب وضع كلِّ عظمة من العظام القابلة للتصنيف في كيس بلاستيكي صغير منفصِل يحمل اسمها. وانتهت مهمتنا عند تعبئة الأكياس وعدِّها ودمجها في أكياس أكبر، ولكن سيضطر بعض علماء الأحياء التعساء ذاتَ يومٍ إلى فحصِ جميع العظام القابلة للتصنيف مرةً ثانية وكتابةِ التقارير التي ربما يستطيعون إخبارنا بها. يبدو أن الكهف لم يكن مأوًى للنياندرتاليين فقط، ولكنه كان يأوي أيضًا بعض الحيوانات الأخرى آكلة اللحوم، مثل الثعالب والبوم. وبناءً على الوفرة النسبية للعظام المتنوعة (على الرغم من ندرة الفقاريات إلى حدٍّ يثير الشك)، قد يستطيع الباحثون اكتشافَ مَنْ أكل مَنْ ومتى.
بعد عملية التصنيف، عقد البروفيسور محاضَرةً حول المجهود السابق في كلا الموقعين، وعرض بعضَ الأجزاء من البقايا البشرية التي اكتُشِفت سابقًا، والفأسَ الحجرية الأصلية التي اكتُشِف منذ أسبوعين، وكانت رؤية الفأس الحجرية (وهي عبارة عن قطعة حجرية شبه بيضاوية بحجم قبضة اليد، وبعض أجزائها مكشوطة عند الزوايا، في حين أن طرفها الحاد مكسور) بمنزلة صدمة بالنسبة إلى معظمنا. تخيَّلْ أن هذا الشيء كان وسط التراب، إنني متأكِّد أننا لم نكن لندرك أنه أداة (الشخص الذي اكتشَفَه لم يتعرَّف عليه هو أيضًا)، وأعتقد أنني ربما أكون قد ألقيْتُ خمسَ فئوس حجرية خلال الغربلة الجافة. حسنًا، أنا متأكِّد أن شخصًا آخَر سيجدها عندما يغربل ركامنا.
عُرِض علينا يوم السبت القيام بجولةٍ في الموقع الآخَر، بالإضافة إلى أثر روماني ومنزل مستدير نيوليتي اكتُشِف حديثًا. وفي يوم الأحد، ظلَّ مصنع الرخام مغلقًا؛ ولهذا قمنا في هذا اليوم أيضًا بالغربلة الجافة والتصنيف، ولم نَرَ فئوسًا حجرية، مع أننا أصبحنا على علمٍ الآن بالشكل الذي من المفترض أن تبدو عليه.
الإثنين هو يوم عملنا الأخير، حيث كنَّا قد حجزنا الأسبوع الأول فقط من عملية الحفر المستمرة لمدة ثلاثة أسابيع، وأول ما فعلناه في الصباح هو الذهاب مجدَّدًا إلى ساحات التنقيب مع متطوِّع حديث القدوم، وقد حالَفَه الحظُّ واستطاع العثورَ على رأس عظم الفخذ، وهو الطرف المستدير من عظم الفخذ، الذي يدخل في مفصل الوَرِك. هذا الرأس قد ينتمي لإنسانٍ، ولكن من ناحيةٍ أخرى، قد ينتمي لأي حيوان ثديي آخَر كبير الحجم؛ لذا سيكون على علماء الأحياء إلقاء نظرة أدق على هذه العظمة.
في الظهيرة، عُدنا إلى مصنع الرخام لنفحص الغرابيل الرطبة. تأخَّرَ الوقت بنا، وبينما كنا نبدأ في التعامل مع آخِر غربال، إذا بابنتي تضع يدها داخله وتنتشل شيئًا أبيض بعض الشيء مقارَنةً بالصخور والتراب، وسألتني: «ربما تكون هذه سنًّا بشرية، أليس كذلك؟» وبصفتي شخصًا غير متخصِّص مهتمًّا بالتشريح، اعتقدت أنها ربما تكون كذلك، ولكنني لم أكن واثقًا في حكمي؛ لهذا الْتَفتُّ إلى المساعِد الواقف بالقرب مني وطرحت عليه نفس السؤال، فنظر إليَّ كما لو كان واثقًا تمام الثقة أنني أحاول أن أمزح معه، ثم نظر إلى السن فتغيَّرت تعابير وجهه، وقال: «في واقع الأمر، بلى، إنها سن بشرية.» وبالطبع فحصنا عن كثب كلَّ ذرة تراب في هذا الغربال المحظوظ، ولكن حتى نهاية الأسبوع الأول ظلَّتْ هذه السن الاكتشافَ النياندرتالي الوحيد القاطع. وفي يوم الثلاثاء، انطلقنا إلى الشاطئ، ولكن بقيةَ الأفراد كان لا يزال أمامهم أسبوعان آخَران لاكتشاف المزيد من بقايا تلك السلالات التي لديها أسنان كأسناننا.
قراءات إضافية
-
M. Krings et al., Nature Genet., 2000, 26, 144.
-
M. Margulies et al., Nature, 2005, 437, 376.
-
R. E. Green et al., Nature, 2006, 444, 330. (one million base pairs)
-
J. P. Noonan et aI., Science, 2006, 314, 1113. (62,500 base pairs)
-
R. Redon et al., Nature, 2006, 444, 444.
-
C. Finlayson et al., Nature, 2006, 443, 850.