مرض خبيث من أعماق البحار
عندما ألَّفتُ كتابي «الحياة على حافة الهاوية» (عن الحياة في ظلِّ الظروف القاسية)، وضمَّنت فيه قسمًا عن بكتيريا المَعِدة «هليكوباكتر بيلوري» (انظر مقال «هل يمكننا هضم البكتيريا المعوية الموجودة في المَعِدة؟») شعرتُ بأنني أتحدَّى نفسي. صحيح أن بكتيريا «هليكوباكتر بيلوري» تتأقلم مع البيئة الشديدة العدائية، وأقصد بذلك مَعِدَة الإنسان، ولكن بما أن هذه البيئة بعيدة بعض الشيء عن البيئات البيولوجية الأخرى المذكورة في الكتاب، مثل الينابيع الساخنة في أعماق البحار والقارة القطبية الجنوبية، فإن هذه الأنواع المختلفة من الظروف القاسية لا بد أن تكون غير متصلة. وبعد عشر سنوات، اتضح أن ثمة رابطًا مذهلًا في الواقع بين البكتيريا الغريبة الأطوار التي تسبِّب قُرَحَ المَعِدَة وتلك التي تعيش بسلامٍ في قاع المحيط …
طوَّرَتِ البكتيريا المُخلَّقةُ كيميائيًّا التي تتغذى على البيئات البيولوجية المظلمة في أعماق البحار صفاتٍ مهمةً تعمل بمنزلة عوامل خبيثة في مختلف السلالات الشبيهة المسبِّبة للمرض، حسبما كشف التحليل الأول لجينوماتها.
تعتمد البيئات البيولوجية التي تحيط بالفتحات الحرارية المائية والينابيع الحارة في أعماق البحار على البكتيريا المُخلَّقة كيميائيًّا التي تحيا عادةً متعايشةً مع الحيوانات المقيمة في هذه البيئات، مثل: المحار والديدان الأنبوبية (انظر مقال «كيف تأكل دون مَعِدَة»). وقد كشفت التسلسلات الجينومية لاثنين من هذه الكائنات المتعايشة عن تشابُهات مدهشة مع البكتيريا المسبِّبة للمرض الشائعة في الإنسان، بما في ذلك سلالتا «هليكوباكتر بيلوري» (المسبِّبة لقُرَح المَعِدَة) و«كمبيلوباكتر» (المسبِّبة للتسمُّم الغذائي).
وحتى وقت قريب، قاومت المعايِشات الجوانية التي تعيش في أعماق البحار جميعَ محاولات استنباتها في مستنبت نقي، وهو ما يكون في العادة أول شيء يقوم به علماء الأحياء المجهرية قبل الشروع في توصيف سلالة جديدة وتسميتها. وكان على الباحثين أن يلجئوا إلى دراسة العينات الخام، كتلك المأخوذة من كيس التغذية للديدان الأنبوبية (انظر التعقيب على مقال «كيف تأكل دون مَعِدَة»).
نجح مؤخرًا فريقٌ بقيادة ساتوشي ناكاجاوا بمركز إكستريموبيوسفير للأبحاث في يوكوسوكا باليابان في جمع مستنبتات نقية لعدة سلالات من بكتيريا إبسيلون-بروتيوبكتيريا المأخوذة من مجتمعات بكتيرية تعيش في إحدى الفتحات الحرارية المائية، وهي التي يعتقدون بشدة أنها متعايِشة (مع أن تقنية أخذ العينات عن بُعْد لا تتيح لهم أن يُثبِتوا تحديدًا البيئةَ التي تعيش فيها هذه البكتيريا). وقد أكمَلَ الآن نفسُ الفريق التسلسلاتِ الجينومية لسلالتين من هذه السلالات، وتعرَّفوا عليهما بصفتهما عضوتين من جنس «سولفوروفوم» و«نيتراتيرابتور».
كشفت التسلسلات الجينومية — التي تمَّ تحليلها بالمقارنة مع الكمِّ الهائل من التسلسلات النووية في كلتا السلالتين القريبة والبعيدة — العديدَ من التفاصيل عن عمليات التكيُّف التي تتيح لهذه البكتيريا العيشَ في ظروفٍ فيزيائية قاسية وفي غياب التمثيل الضوئي؛ إذ إنه على غرار البكتيريا المأخوذة من الديدان الأنبوبية التي اكتُشِفت سابقًا في عام ٢٠٠٧، تتمتَّع هاتان السلالتان بمجموعة الجينات الكاملة التي تُعتبَر ضروريةً لحدوث دورة كريبس على نحوٍ عكسيٍّ. وهي مجموعة تفاعلات رئيسية في الكائنات الحية الراقية، تستخدمها البكتيريا لكي تُنتِج جزيئاتٍ عضويةً، بدلًا من أن تهضمها (مثلما يحدث في دورة كريبس في جسم الإنسان).
ومع هذا، فممَّا يثير الدهشة على نحوٍ أكبر أن الباحثين حصلوا أيضًا على معلومات قيِّمة حول تكيُّف البكتيريا مع بيئة أخرى قاسية مختلفة تمامًا، وهي مَعِدَة الإنسان، حيث فُوجِئ ناكاجاوا وزملاؤه بالعثور على عدة جينات يُعتقَد أنها عوامل خبيثة خطيرة في سلالتَي البكتيريا المسبِّبتين للأمراض في الإنسان «هليكوباكتر بيلوري» و«كمبيلوباكتر»، اللتين تستطيعان العيش في البيئة العالية الحموضة التي تتسم بها مَعِداتنا. واستخلص الباحثون أن «ذاتية التغذية الكيميائية في أعماق البحار كانت أساسَ السُّميَّة في البكتيريا المُسبِّبة للأمراض لدى الإنسان والحيوان.»
من الشائع بالنسبة إلى البكتيريا المسبِّبة للأمراض أن تكتسِب صفاتٍ وراثيةً من سلالات أخرى، في عملية تُعرَف باسم الانتقال الجيني الأفقي. على سبيل المثال، البكتيريا العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين المروعة في المستشفيات هي سلالة من بكتيريا «العنقوديات الذهبية» التي اكتسَبَتْ جينًا إضافيًّا يُكسِبها مناعةً ضدَّ المضادات الحيوية مثل الميثيسيلين. وفي الغالب، توجد مثل هذه الصفات في الأجزاء المستديرة من الحمض النووي المُسمَّاة بالبلازميدات، التي تستطيع الانتقال بسهولةٍ حتى بين البكتيريا ذات السلالات المختلفة. وحتى إذا كان من النادر انتقالُ جينٍ محدَّد إلى مُستقبِل معيَّن، فإن وجود عائق تطوري مكافئ مثل المضاد الحيوي سيعطي المستقبِل ميزةً ويمكن أن تنتشر الصفة بسرعة.
ربما تكون العوامل الخبيثة المشتركة بين البكتيريا المُسبِّبة للأمراض في الإنسان وبكتيريا أعماق البحار قد انتقلت من أحدهما إلى الآخر بطرق مماثلة، ولكن هذا يتطلَّب على الأقل أن تكون أسلافها البعيدة قد عاشت بعضها بالقرب من البعض. أما عن مكان التقاء السلالتين بالتحديد وتبادلهما أسلحتهما، فلا يزال لغزًا شائقًا.
قراءات إضافية
-
S. Nakagawa et al., Proc. Natl Acad. Sci. USA, 2007, 104, 12146.