اكتشافٌ مذهل من قلب الصحراء
بدأ هذا المقال بحالة من الغموض اعترَتْ حوارًا دارَ في مكتبي خلال الفترة التي كنتُ لا أزال أزاول فيها أعمالي البحثية في جامعة أكسفورد. كان أحد الزملاء السابقين قد عاد ليُجرِي بعضَ التجارب في مشروعٍ تعاوني لم أكُنْ أعلم عنه شيئًا، وعندما سألته عن طبيعة تجاربه، قال إنه كان يدرس التفاعلَ بين إنزيم الليزوزيم والأجسام المضادة في الجَمَل. كانت كلمة «الليزوزيم» هي الشق الممل في تلك الجملة؛ إذ كان جميع مَنْ في هذا المعمل على درايةٍ بهذه الوسيلة التقليدية التي تجمع بين دراسة البروتين والإنزيم. أما الشق الثاني فكان جديدًا بالنسبة إليَّ؛ لذا أنصتُّ له وسألتُه: «الجَمَل؟ ما المميَّز في الجَمَل؟» فأخبرني، ولا بد أنني حكيتُ هذه القصة عشرات المرات بصور شتى، ولكنها تظل إحدى قصصي المفضَّلة.
بدأ الأمر بحالة إضراب عمَّتْ أحدَ المعامل التعليمية بالجامعة، خلال وقتٍ ما في أواخر ثمانينيات القرن العشرين؛ فقد طُلِب من مجموعة من طلاب مادة الأحياء إجراءُ تجارب المناعة التي سبق وأجراها من قبلهم عددٌ لا يُحصَى من الطلاب، حيث يجمعون الأجسامَ المضادة من مصلِ دمٍ بشريٍّ، ويفصلونها إلى مجموعات مختلفة. لكنهم لم يتحمَّسوا للتجربة؛ خشيةَ احتواءِ المصل على فيروس نقص المناعة البشرية، وكذلك لأن نتائج التجربة كانت معروفة وموثقة بالفعل في كتبهم الدراسية، فعرض عليهم أساتذتهم التضحيةَ ببعض الفئران بدلًا من ذلك، ولكن هذا الخيار لم يَلْقَ قبولًا بدوره. وأخيرًا، عُثِرَ على بضعة لترات من بقايا أحد الأمصال في ثلاجات معامل الأبحاث، وكانت مأخوذةً من الإبل العربية. ألهبَتْ هذه العينةُ الغريبة حماسَ الطلبة بما يكفي ليعلِّقوا إضرابهم ويبدءوا العمل على فصل الأجسام المضادة. وبالفعل رصدوا التوزيعَ المعتاد للجلوبولين المناعي الذي يتوقَّع المرء أن يراه، ولكنهم اكتشفوا أيضًا مجموعة من الأجسام المضادة الأصغر حجمًا التي لا تشبه أيَّ شيءٍ عرفه العلم.
من الصعب التعامُل مع الأجسام المضادة العادية؛ فهي تجمُّعات جزيئية معقَّدَة، ويصعب للغاية إنتاجُها في البكتيريا، وحجمها كبير للغاية إلى الحدِّ الذي لا يجعلها تصلح للعديد من التطبيقات الطبية، كما أنها قد تُحفِّز استجابةً مناعيةً غير مرغوبة لدى المريض، (أجل، توجد أجسام مضادة تقاوِم الأجسامَ المضادة!) ولهذا السبب حاولَتْ فِرَقٌ عديدة من الباحثين إيجادَ بديل أبسط، لتكوين أجسام مضادة صغيرة تجمع بين خاصيةِ الارتباط التي يتميَّز بها الجسم المضاد الحقيقي وقدرٍ أكبر من سهولة الاستخدام. وكان سيرج مويلدرمانز ولود وينز، اللذان يعملان بدورهما في جامعة بروكسل الحرة، يُجرِيان بحثًا في هذا الشأن، فعكفا على دراسة الجِمال، ولكنها كانت رحلةً مُضنِية. ففي البداية، لم يكن من الواضح مطلقًا إن كانت هذه الجزيئات أجسامًا مضادة سليمة تتمتَّع بنفس قابلية الأجسام المضادة الحقيقية للتغيُّر والتخصُّص. وكانا بحاجةٍ إلى جَمل لتحصين مناعته بمولِّد مضاد (مُسْتَضِد) محدَّد، والانتظار لمدة عام، ثم النظر فيما إن كان الجَمل قد أنتَجَ أجسامًا مضادة ثقيلة السلاسل مقاوِمة لهذه المادة. وبالفعل سافَرَ فريق من الباحثين إلى المغرب، واشترَوا جَملًا، وحصَّنوا مناعته … لكنه سُرِق منهم قبل أن يحصلوا منه على المصل الثمين!
أمكن التغلُّب أخيرًا على هذه المشكلات الإجرائية بمساعدةٍ ملَكيةٍ بسيطة؛ فصاحب السمو الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم، الذي كان وقتها حاكم إمارة دبي في الإمارات العربية المتحدة، سانَدَ البحث بتقديم مصل جَمل من مركز الأبحاث البيطرية المعروف التابع له. وما اكتشفه الباحثون عن الأجسام المضادة للجَمل كان مشجِّعًا أكثر مما يأملون فيه على إدخال تطبيقات له في مجالَي الطب والتكنولوجيا الحيوية.
اتضح أن الأجسام المضادة الثقيلة السلسلة تستطيع — مثلها مثل الأجسام المضادة العادية — التعرُّفَ على مجموعة كبيرة من مولِّدات المضاد (المُسْتَضِدات)، ولكنها تتفاعل معها في مواضع مختلفة؛ لذا تستطيع الأجسامُ المضادة الثقيلة السلسلة التي تُطلَق ضدَّ الإنزيمات الصغيرة مثل الليزوزيم أو الريبونيوكليز أن تخترق الموضع النَّشِط وتحقن الإنزيم بمثبط قوي، في حين ترتبط الأجسام المضادة التقليدية بموضعٍ ما سهلِ الاختراق.
تُعتبَر الأجسام المضادة الوحيدة النطاق الأداةَ المثالية للعديد من التطبيقات، بدايةً من أدوات البحث العلمي ووصولًا إلى الأدوات التشخيصية التي يمكن استخدامها في المنزل. ومن مجالات التطبيق الواعدة للغاية تصويرُ الأنسجة الحية، ولا سيَّما تشخيص السرطان. عند محاولة تحديد موضع ورمٍ ما، فإنك تحتاج إلى علامة واسمة، تلك التي فضلًا عن تعرُّفها على الجزيئات المحدَّدة الموجودة على الخلايا السرطانية، فإنها تخترق أيضًا الورمَ بسهولة. وبمجرد نجاحها في هذا وارتباطها بالخلية المستهدَفة، فإنك ستحتاج أن تطرد بسهولةٍ أية مادة متبقية غير مرتبطة، لكي لا تظهر في الصورة. تعجز الأجسام المضادة العادية عن تلبية هذه المتطلبات، إلا أن الاختبارات الأولية تشير إلى أن المُرتبِطات الوحيدة النطاق المأخوذة من الأجسام المضادة الثقيلة السلاسل في الجِمال يمكن استخدامُها لهذا الغرض. كما يبدو أنها لن تُحدِثَ في العادة استجابةً مناعية، على عكس الأجسام المضادة (غير البشرية) ذات الحجم الكامل. علاوة على هذا، يتيح صِغَر حجم هذه الجزيئات للعلماء استخدامَها كمكونات أساسية في التركيبات التي قد تضمُّ موضعين مختلفين من مواضع الارتباط، أو حتى موضع ارتباط متَّحِدٍ بنشاط إنزيمي أو غيره. بل يمكن أيضًا استخدامُها داخل الخلية، باعتبارها أجسامًا مضادة داخلية.
أحد الأمثلة الشائعة لمنتَجٍ استهلاكي يعتمد على الأجسام المضادة هو جهاز اختبار الحمل المنزلي الذي تغمسه المرأة في عيِّنَة بول، ثم تفحصه لترى إن كان قد ظهر خطٌّ أزرق أم لا. يحتوي أحد أشكال هذا الجهاز — الذي صُمِّمَ للإشارة إلى وجود هرمون حمل معيَّن — على نوعين مختلفين من الأجسام المضادة لهذا الهرمون، يلتصق أحدهما بالدعامة الصلبة الموجودة في منطقة النافذة التي من المفترض أن يظهر فيها الشريطُ الأزرق في حالة وجود حمل، وعندما تسبح جزيئات الهرمون عبرها، تلتصق بها هذه الأجسام المضادة. أما النوع الثاني من الأجسام المضادة، ذلك الذي يتعرَّف على جزءٍ مختلف من جزيء الهرمون، فمليء بجسيمات زرقاء اللون، عندما تمر هذه المجموعة الثانية بجزيئات الهرمون المرتبِطة بقوة بالمجموعة الأولى، فإنها ترتبط بها وبالتالي تجعل اللون الأزرق يتراكَم في النافذة. وبما أن هذا النوع من الاختبارات يتطلَّب نوعين من الأجسام المضادة التي ترتبط بالجزيئات المستهدَفة بطرقٍ مختلفةٍ بحيث لا تتدخَّل في ارتباطِ بعضهما ببعض، فسيكون من المناسب استخدام مزيج يجمع بين الأجسام المضادة التقليدية الموجودة على السطح الصلب، وبين الأجسام المضادة المأخوذة من الإبل والموجودة في السائل.
أحدث التطورات
منذ عام ٢٠٠٢، بدأت إحدى الشركات المروِّجة لهذا الاكتشاف، وتُدعَى أبلينكس، في تطوير عددٍ من المنتجات بناءً على الفوائد التي تقدِّمها الأجسامُ المضادة المأخوذة من الإبل. وفي عام ٢٠٠٧، صار لدى أبلينكس أكثر من ٩٠ موظَّفًا وعقود مع العديد من الشركات العملاقة في مجال صناعة الأدوية. وقد دخل مؤخَّرًا أولُ دواء يعتمد على الأجسام المضادة المأخوذة من الإبل في الطور الأول من التجارب السريرية، ونحن في انتظار النتائج.
قراءات إضافية
-
S. Muyldermans et al., Trends Biochem. Sci., 2001, 26, 230–235.
-
T. N. Baral et al., Nature Med. 2006, 12, 580.