كولومبيا من بعد كولومبوس
الأشخاص الأكثر جاذبية على كوكب الأرض موجودون بالطبع في أمريكا اللاتينية. لكن من غير الواضح بالضبط الطرق التي تسبَّبت من خلالها بوتقة الاختلاط الوراثي التي أعقبت «الاستعمار الإسباني للأمريكتين» في ظهور هذا المزيج من الصفات.
سكان أمريكا اللاتينية هم مزيجٌ ثري ومتنوِّع من الموروث الجيني الذي يجمع بين السكان الأصليين والأفارقة والأوروبيين. وقد سار التقدم الاقتصادي في العالم الجديد خلال الحكم الاستعماري في مسارين مختلفين بصفة أساسية؛ ففي المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية الغنية بالموارد، استغلَّ مشرِفو العبيد الأوروبيون العمالةَ الرخيصة التي تمَّ تشغيلها بالسخرة سواء أكان محليًّا أم في أفريقيا. لكن في الأجواء المعتدلة لأمريكا الشمالية والجنوبية، طردت عائلات المستوطنين الأوروبيين السكانَ الأصليين خارج الأراضي.
كانت لهذه الأساليب المتباينة آثارٌ بالغة الاختلاف على المصير الوراثي للسكان؛ ففي حالة النموذج الاستوائي، اختلط المهاجرون والسكان الأصليون في نهاية المطاف وتمازجوا على الرغم من التعصُّب العِرقي، في حين احتفظت عائلات المستوطنين الأوروبيين في الأجواء المعتدلة بمستودعها الجيني لنفسها.
وهكذا، يتَّضِح على نحوٍ مُقنِع سببَ اختلاف شكل معظم الكنديين عن معظم المكسيكيين، ولكن حتى وقت قريب لم يكن يوجد دليل علمي دامغ يوضِّح كيفية تكوُّن هذا المدى الواسع والسلس من الوراثة المختلطة في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية في العالم الجديد. ولقد أسفرت المحاولات الأولى لاستخدام الطرق الوراثية في حلِّ هذه المشكلة عن نتائج متضاربة.
استعان فريق بقيادة أندريس رويز ليناريس من كلية لندن الجامعية، على سبيل المثال، بالتسلسل الجيني لدراسة أصول السكان الحاليين في منطقة أنتيوكيا في الجزء الغربي من كولومبيا (بالقرب من مدينة ميديلين)، وأشارت الدراسات الأولى إلى أن الكولومبيين القاطنين في هذه المنطقة، الذين يعتبِرون أنفسهم سكَّانًا من أصل أوروبي، هم في الواقع أوروبيون بنسبة ٩٤٪ حسب كروموسومات «واي» التي يحملونها، والتي لا تنتقل إلا عبر نسب الأب. بَيْدَ أن الجينات الميتوكندرية، التي لا تنتقل إلا عبر نسب الأم، كشفت عن قصة مختلفة تمامًا؛ ففي سلالة النسب الأنثوي، كان تكوين سكَّان أنتيوكيا ممثلًا بالنسب التالية: السكان الأصليون بنسبة ٩٠٪، والأفارقة بنسبة ٨٪، والأوروبيون بنسبة ٢٪ فقط.
انطلاقًا من اهتمام أندريس رويز ليناريس وزملائه بهذه المفارَقة الواضحة، أجروا المزيد من الدراسات التفصيلية في نفس المنطقة، وفي تحليلهم المتطوِّر، ضمُّوا أيضًا تغيُّرَ الكروموسوم «إكس»، ووفرةَ الألقاب العائلية الشائعة، التي تمَّ تحليلها من حيث ارتباطها بالصفات المميِّزة للكروموسوم «واي».
قدَّم هذا التحليل التفصيلي معلوماتٍ أعمق عن تاريخ السكان. على سبيل المثال، استطاع الباحثون أن يُثبِتوا أن خمسةً من بين أكثر الألقاب العائلية شيوعًا في المنطقة يمكن إرجاعُ أصلها إلى مهاجِر إسباني واحد جاء في منتصف القرن السابع عشر تقريبًا. ومن بين الألقاب العائلية التي كانت متوافرة منذ البداية، نجد أيضًا أريستيزابال، الذي يعرفه محبِّو موسيقى البوب/الروك اللاتينية باعتباره لقبَ المطرب خوان إيستبان أريستيزابال، أو خوانيس اختصارًا لاسمه، الذي هو في الواقع من سكان ميديلين الأصليين.
عقب وصول الآباء الإسبان المؤسِّسين، انكشفَتِ الدراما الجينية على النحو التالي؛ اختلَطَ المغامرون الأوروبيون — الذين كانوا يصلون في العادة دون زوجاتهم — بنساء السكان الأصليين (طبعًا لم تبيِّن لنا الأبحاثُ الوراثية إن كان ذلك قد تمَّ برضا أولئك النساء أم لا!) فتكوَّن بذلك أولُّ جيل من الهجناء.
ولكن في الجيل التالي، عندما ظهرت النساء المهجَّنات على الساحة، فضَّل الرجال القادمون الهجيناتِ عن نساء السكان الأصليين، وسرعان ما تراجعَتِ المساهمة الجينية للسكان الأصليين إلى الصفر تقريبًا. ويخمِّن الباحثون أن كلًّا من التراجُع الحاد في مساهمة السكان الأصليين وميول الأوروبيين (العنصرية إلى حدٍّ ما) ربما يكون قد لعِبَ دورًا في هذا النمط.
استمرَّ هذا النمطُ على مدار قرون، في انعزال نسبيٍّ، حيث يتمركز الذكور من السلالة الأوروبية (الأبوية) على قمة هرم السلطة، ويختارون (في غياب النساء الأوروبيات) أنقى الهجينات اللاتي يستطيعون إيجادهن. ويفسِّر هذا السلوكُ بوضوح السببَ في كون الكروموسومات «واي» للسكان الحاليين (إلى جانب الألقاب) أوروبيةً بصفة أساسية، في حين أن الجينات الميتوكندرية تنتمي للسكان الأصليين بصفة أساسية.
على العكس من ذلك، لم تحظَ النساء الأوروبيات بكثيرٍ من المُدخَلات الجينية؛ لأن الرجال المستعمرين كانوا يسافرون في العادة دون زوجاتهم، فخسر الآباء من السكان الأصليين فرصهم؛ لأن بناتهم كنَّ يجذبن فقط الجيلَ الأول من المهاجرين الذكور. ولا تزال الكيفية التي أدى بها هذا التقطير الجزئي للجينات إلى إنتاجِ موسيقى خوانيس قيد الدراسة.
قراءات إضافية
-
L. G. Carvajal-Carmona et al., Hum. Genet., 2003, 112, 534.
-
S. Miller and J. Diamond, Nature 2006, 441, 411.
-
G. Bedoya et al., Proc. Natl Acad. Sci. USA, 2006, 103, 7234.