اقرأ شفتيَّ!
يصلني جميع أنواع التقييمات على المقالات التي أنشرها، ولكن وصلتني مرة واحدة في حياتي دعوةٌ لمشاهدة العرض الأول لإنتاجٍ مسرحيٍّ مستوحًى من إحداها، ثم عجزت عن الحضور، وبهذا لن أعرف أبدًا كيف تُرجم عملي على المسرح. وكان النص المشار إليه عبارة عن رأي حول تأثير ماكجورك والأفلام المُدبلجة، كما أنه كان سببًا في تغطيةٍ مثيرةٍ عندما ظهر لأول مرة في مجلة «نيو ساينتيست». وفيما يلي النسخة الأصلية الكاملة.
هذه ليست مزحة مطلقًا؛ فنحن نمارس قراءة الشفاه في المحادثات العادية دون أن نعي ذلك في العادة، وقد أثبت هذا كلٌّ من هاري ماكجورك وجون ماكدونالد من جامعة سُري في عام ١٩٧٦؛ فعندما عرَّضَا المستمعين المنتمين لفئات عمرية مختلفة، سواء أكان إلى صوت مُسجَّل فقط أم إلى نفس الصوت مصحوبًا بمقطع مرئي يُظهِر حركات شفاه غير متطابقة، ثم طلَبَا من المتطوعين تكرارَ ما سمعوه؛ اكتشَفَا أن ٩٢٪ من الإجابات كانت خاطئة عندما كان المُدخَل البصري المتعارِض مستخدَمًا، في حين أن جميعهم تقريبًا كانت إجاباتهم صحيحةً دون استخدام هذا المُدخَل. على سبيل المثال، المتطوعون الذين سمعوا «با-با» ولكنهم رأوا حركة الشفاه تتطابق مع «جا-جا»، ذكروا أنهم سمعوا «دا-دا»؛ مما يشير إلى أن الكلام المسموع عبارة عن إشارة مدمجة تجمع بين المدخَلات السمعية والمدخَلات البصرية.
تم الاستشهاد بتأثير ماكجورك — حسبما أصبح يُطلَق على هذه الظاهرة — أكثرَ من ٨٠ مرة في المجلات العلمية التي تتنوَّع ما بين «أدفانسيد روبوتيكس» وصولًا إلى «ساينس». تناولت الدراسات اللاحقة جميعَ أنواع الحالات الخاصة، بما في ذلك التبادُل السمعي البصري لصوتَي الرجل والمرأة («… وجوه نساء وأصوات رجال، حسب تأثير ماكجورك»)، والمقارنات ما بين الثقافات («العوامل الثقافية واللغوية في معالجة الحديث السمعي البصري: تأثير ماكجورك لدى المتطوعين الصينيين»)، والمتحدثين الواقفين على رءوسهم («فهم الحديث من وجوه مقلوبة»، وهو عنواني المفضَّل في هذه القائمة).
ومع هذا، فقد أُجرِيت تجربة واسعة النطاق حول هذا التأثير في العديد من الدول دون ملاحظتها بالفعل، وحسبما أعرف، لم يزعج أحدٌ نفسه حتى بجمع النتائج. فما زال الملايين من الأفراد يتعرَّضون لظروف تجربة ماكجورك في جميع هذه الدول حيث تُعرَض الأفلام الأجنبية عادةً بنُسَخ مُدبلجة، كما هو الحال في ألمانيا وفرنسا على سبيل المثال، ولكن ليس في هولندا ولا بريطانيا. والمثير للدهشة أن معظم المشاهدين الألمان لا يجدون غضاضةً في أن يخالف الصوت حركة الشفاه؛ مما يوحي بأن تأثير ماكجورك يمكن إبطاله، لو أن عادة مستمرة لمدة سنة أعطَتْ أمرًا للمخ بأن إشارات الشفاه في هذه الحالات عديمةُ المعنى. وعلى العكس من ذلك، عندما يجد المشاهدون الألمان أنفسهم في موقفٍ تسير فيه الدبلجة عكس ما اعتادوا عليه، مثلًا عند رؤية ممثِّل ألماني بصوت فرنسي، فإنهم يعترضون بشدة على «الصوت الخاطئ».
من واقع تجربتي الخاصة في الانتقال من دولةٍ تعتمد على الدبلجة إلى أخرى لا تدبلج (من ألمانيا إلى بريطانيا)، أعلم أن قراءة الشفاه اللاواعية التي تعطَّلَتْ بالتعود على رؤية الأفلام المُدبلجة تعود مجدَّدًا بعد قضاء بضعة أشهر فقط في دولةٍ لا تدبلج، حتى عند التعرض تعرُّضًا بسيطًا للسينما والتليفزيون. في الوقت الحاضر، تكفي رؤية مادة مدبلجة لإثارة جنوني، بغض النظر عن اللغة المُدبلج منها أو المُدبلج إليها، شريطة أنني أعرف على الأقل إحدى اللغتين. على سبيل المثال، تُعتبَر مشاهدةُ فيلمٍ سويدي (يظهر فيه ممثلون لا أعرفهم، وبالتالي لا أملك فكرة مسبَقة عن اللغة أو الصوت الذي يجب أن يستخدموه) مدبلجٍ إلى الألمانية أمرًا لا يُطاق؛ وذلك فقط بسبب عدم التطابق الشنيع في حركات الشفاه. (لا أفهم كلمةً واحدة باللغة السويدية؛ لهذا لم أنعِ فقدان اللغة الأصلية لهذه الدرجة في هذه الحالة.) ومن التجارب الصادمة الأخرى النسخةُ الألمانية من الفيلم الفرنسي «سيرانو دي بيرجراك»؛ فالقصة — حسبما تتذكرون — تدور حول شابٍّ ذي أنف طويل للغاية يفوز بحب امرأة بفضل استخدامه للُّغة الجميلة، ورجلٍ لا وزنَ له أقل منه من حيث نتوءُه الأنفي وقدرته اللغوية. تحوَّل الحوار، الآسِر حقًّا في النسخة الأصلية، إلى نثر رديء على نحوٍ لا يُحتمَل في النسخة الألمانية، وبالتالي جعل القصة كلها تبدو سخيفةً.
حتى اللغات التي أعرفها بعض الشيء، مثل الألمانية أو الهولندية، أشعر أن شيئًا يتداخل مع اللغة المُتحَدَّث بها، حتى في الوقت الذي أقرأ فيه الترجمة، ويُعتبَر الفيلم الهولندي «أنطونيا» مثالًا ممتازًا على هذا؛ فقد وجدت اللغةَ الأصلية شاعريةً للغاية، لدرجة أنني توقَّفت عن قراءة الترجمة، واعتمدتُ فقط على تشابه الهولندية بالألمانية لفهم مضمون الحوار. وبالمثل، استمتعتُ بتعلم بعض أساسيات اللغة الإيطالية من فيلم «ساعي البريد»، مع أن رؤية فيليب نويريه مُدبلجًا من الفرنسية إلى الإيطالية كانت مستفِزَّة. (بعض الأفلام الحديثة التي تتضمن مزيجًا من ستِّ دول مختلفة أشبه بخمر الاتحاد الأوروبي الرخيص؛ إذ لا يبدو في الواقع أنها تعرف شيئًا اسمه نسخة أصلية غير مُدبلَجة.)
ولكن بالنظر إلى أن معظم صناعة الدبلجة الأوروبية تتمُّ من الإنجليزية إلى الألمانية (والفرنسية والإسبانية، … إلخ)، في حين أن كلَّ مرتاد ألماني للسينما يعرِف على الأقل قدرًا من الإنجليزية أفضل من بعضِ أبطال أفلام الحركة الأعلى أجرًا في هوليوود، وبالتأكيد أكثر مما أعرف الهولندية، فإنني لا أرى منطقًا لهذه الصناعة برمتها؛ فالمستهلكون يفقدون بلا شك جزءًا من التجربة السمعية البصرية الطبيعية، والأفلام الممتازة يمكن أن تتشوَّه على نحوٍ يفوق الوصف، وحتى الأفلام الرديئة لا يمكنها أن تفوز. (يميل جمهور التليفزيون الألماني إلى المجادلة بشأن هذه النقطة بأن النسخة الألمانية من مسلسل «ستارسكي وهاتش» تثير الضحك على نحوٍ يفوق ما في النسخة الأصلية، وهو ما لم أتأكَّد منه بنفسي. وحتى لو كان هذا صحيحًا، فإنه يظل الاستثناء الذي يثبت القاعدة.)
قد تتساءل في هذه المرحلة عن ماهية الشيء الذي أتحدَّث عنه، هذا لو كنتَ تعرف جانبًا واحدًا فقط من هذا الانقسام الثقافي. لو كنتَ تعيش في دولةٍ لا تدبلج ولم تشاهِد قطُّ فيلمًا مُدبلجًا، فحاوِل الحصولَ على فيديو أطفال سويدي مثل «بيبي لونجستوكينجز»؛ فهذه الحلقات لا بد من دبلجتها في معظم الدول، كما أن الاقتراب من وجوه الأطفال وهم يتحدَّثون بصوت عالٍ بعض الشيء وبوجوه معبِّرة للغاية يتيح احتكاكًا ممتازًا بالظاهرة. وعلى العكس من ذلك، لو كنتَ تعيش في دولة تدبلج ولم تدرك قطُّ أن أصواتًا خاطئة تصدر من جهازك التليفزيوني، فاقضِ عطلتك القادمة في إحدى الدول التي تدبلج الأفلام بلغة مختلفة (ستكون فرنسا أو إسبانيا وجهةً ملائمة) وشاهِد بعض الأفلام الأمريكية العادية تُنطَق باللغة «الخاطئة». ثم اعتبر أن الأصوات غير مطابقة تمامًا مثل تلك الصادرة من جهاز التليفزيون في بيتك.
في كلتا الحالتين، ستندهش، وقد اندهشت أنا شخصيًّا. من الناحية العلمية، تتيح بالطبع تجربة ماكجورك العظيمة هذه — التي ضمَّتْ ملايين البشر كحقلِ تجارب وهم غير مُدرِكين — فرصةً فريدةً من نوعها؛ إذ يجب على علماء النفس التجريبيين دراسة كيفية تمكُّن المشاهدين من تعطيل قراءة الشفاه دون أن يعوا حتى أهميةَ ما يفوتهم. لكنْ لدواعٍ ثقافية، أريد أن أطالِب بمنع الدبلجة، أو مقاطعة النسخ المُدبلجة؛ نظرًا لغياب السلطة المناسبة لتنفيذ هذا الأمر.
أحدث التطورات
مع أن هذه المقالة كانت واحدةً من أنجح مقالاتي من حيث تأثيرها والملاحظات التي وصلَتْني عليها، فإنني لم أتابع هذا المجال أكثر من ذلك؛ لهذا لا أعرف أحدث التطورات. ولكن إذا بحثتَ في هذا المجال وتوصَّلتَ إلى شيء مثير، فكل ما عليك أن تلتفِتَ إليَّ لتخبرني، وسوف أقرأ شفتَيْكَ.