جزيئات التضاعُف تفقد مثبطاتها
من أروع ابتكارات تكنولوجيا النانو على الإطلاق اختراعُ أنابيب النانو الجزيئية من حلقات ببتيدية مصمَّمة بحث تتراص من تلقاء نفسها. وبما أنني قد وصفتُ هذا الابتكار بالتفصيل في مقال «مغامرات في عالم النانو»، فسأتناول تكنولوجيا ببتيدية مختلفة هنا، تأتي من نفس المعمل، وتحديدًا الببتيدات العصوية التي تحفِّز تكوينَ نفسها ذاتيًّا باستخدام مقطعين أقصر.
إذا أردتَ أن تحثَّ جزيئين على التفاعل، فإن توجيهَهما بالطريقة الصحيحة قد يحقِّق لك هذه الغايةَ بفاعلية. وبناءً على هذه المعلومة الكيميائية البسيطة وقدرٍ من التفكير الاستراتيجي الذكي، ابتكَرَ رضا غاديري وفريقه من معهد سكريبس البحثي (في لاهويا، بولاية كاليفورنيا) مجالًا بحثيًّا جديدًا تمامًا، وبدءًا من بنية بيولوجية موجودة بالفعل، وهي الشريط الملفوف (حلزونَا ألفا الملفوفان أحدهما حول الآخَر)، أعلنوا أن إحدى الجديلتين هي القالب الذي يساعِد في توجيه الجديلة الثانية، وهي ما يمكن أن نسمِّيها الجديلة المستهدفة. وقطعوا الجديلة المستهدفة إلى نصفين، ونشَّطوا الأطرافَ كي يستطيعَ النصفان التفاعُلَ لتكوين الجديلة الكاملة، ثم أثبتوا أن الجديلة القالب يمكن أن تعمل على توجيه النصفين، وبالتالي تسرِّع تفاعُلَهما لتكوين الجديلة المستهدفة الكاملة.
بهذه الطريقة أنتجوا إنزيمًا صناعيًّا جديدًا، وهو ليجاز الببتيد، الذي يستطيع تكوين ببتيد طويل من ببتيدَيْن قصيرَيْن. علاوة على ذلك، إذا كانت الجديلةُ المستهدفة مطابِقةً للجديلة القالب، فسيُنتِج التفاعُلُ المزيدَ من القوالب، وبالتالي يكون ذاتيَّ التحفيز. وبعبارة أخرى، أنتج الباحثون أولَ جزيء ذاتي التضاعف.
منذ ذلك الحين، أدخَلَ فريق غاديري مزيدًا من التطويرات على هذه الأداة الجزيئية ليبيِّنوا الكيفيةَ التي يمكن أن يطوِّر بها نظامٌ كيميائي بسيط بعضَ خصائص الحياة الأولية، مثل التضاعف وانتقاء عدم التناظُر المِرآتي وتصحيح الأخطاء والتفاعلات بين دورات التفاعل المتداخلة في دورةٍ فائقة معقَّدة.
لكن تكمن مشكلة هذا الأسلوب في أنه بمجرد حدوث التلاحم، يرتبط المنتَج بإحكامٍ مع «الإنزيم» أكثر مما فعل المقطعان الأصليان. وتعاني المنظومة من مشكلة تُدعَى تثبيطَ المنتَج؛ ولهذا السبب لا يزيد ناتجها باطراد مع مرور الوقت، مثلما قد يتوقَّع المرء في حالة نظام ذاتي التحفيز حقًّا.
بناءً على هذه النتائج، وملاحظة مؤشرات حركية أخرى، استنتَجَ الباحثون أنهم قد نجحوا لأول مرة في فكِّ شفرةِ تثبيط المنتج في الببتيدات الذاتية التضاعف. ومع أن الفريق الذي كان يقوده جانتر فون كيدروفسكي من جامعة فرايبورج بألمانيا قد ابتكَرَ أحماضًا نووية ذاتية التضاعف وتغلَّبوا على هذه المشكلة بتدوير درجة الحرارة (بصفة أساسية مثلما في تفاعُل البوليميراز المتسلسل)، فمن الواضح أن عدم استقرار المركب المكوَّن من القالب والمنتَج هو أكثر الطرق الواعِدة للتوصُّل إلى نظام حقيقي ذاتي التضاعف يمكن أن يعمل بانتظامٍ في الظروف البيئية الثابتة.
تتوافر هذه الببتيدات بكثرةٍ، ومن ثمَّ توجد فرصةٌ فريدة لدراسة «السلوك» الجزيئي المعقَّد في منظومة بسيطة، وستكون بعض العمليات المشتركة حافلةً على نحوٍ غريب بأمورٍ تحدث داخل الخلية الحية. على سبيل المثال، أعلن فريق غاديري ظهورَ «التعايُش» خلال تجاربهم المبكرة التي نفَّذوها على الدورات الفائقة للببتيدات. ومع هذا، يجب ألا يتشجَّع المرءُ على نقل هذه النتائج إلى المجال الذي لا يزال غامضًا والمتعلِّقِ بأصل الحياة وتطوُّرها قبل الخلوي. يجب التأكيد على أن الجزيئات البيولوجية لا تضاعِف نفسها، وإنما تضاعِف بعضها بعضًا؛ وعلاوة على هذا، فإن معظم الباحثين يرون الحمضَ النووي الريبي باعتباره المرشحَ الأكبر للدور الرئيسي في المراحل الجزيئية المبكرة من التطور. وبالتالي، قد لا تُعلِمنا الببتيدات الذاتية التضاعف الكثيرَ حول جذور شجرة الحياة، ولكنها تضيف بعضَ الفروع الجديدة المثيرة إلى شجرة الكيمياء.
أحدث التطورات
ظلَّ هذا المجال بعيدًا عن الأنظار على نحوٍ مخيفٍ خلال السنوات القليلة الماضية، ولكني آمل أن يعود إلى بؤرة الاهتمام قريبًا.
قراءات إضافية
-
D. H. Lee et al., Nature, 1997, 390, 591.
-
A. Luther et al., Nature, 1998, 396, 245.
-
R. Issac et al., Curr. Opin. Struct. Biol., 2001, 11, 458.
-
R. Issac and J. Chmielewski, J. Am. Chem. Soc., 2002, 124, 6808.