الحمض النووي المتعدِّد الأغراض
إنَّ «سوءَ استغلال الحمض النووي» من الموضوعات التي تناولتُها مرارًا وتكرارًا منذ البداية، وأعتقد أن مكعب الحمض النووي الذي ابتدعه نيد سيمان كان يمثِّله. في البداية، بَدَا الأمر من باب التسلية (انظر مقال «ألعاب الحمض النووي» لتحظَى بأفكار عن هذه المرحلة «الغريبة» في هذا المجال)، ولكن سرعان ما ظهرَتْ من هذه التسلية أمورٌ ذات إمكانات واقعية للغاية، مثلما توضِّح هذه الأمثلة.
كمبيوتر الحمض النووي يدخل المجال الطبي
في عام ١٩٩٤، فاجَأَ اختصاصي علوم الكمبيوتر ليونارد أدلمان العالَمَ بعرضِ أولِ حوسبةٍ معتمِدة على الحمض النووي. ومع أن عمليته الحسابية الأولى كانت مجردَ دليلٍ على صحة المبدأ، أو مجرد مهمة بسيطة تُؤدَّى بقدر مفرط من العمل المكتبي، فسرعان ما اتضح أن أجهزة كمبيوتر الحمض النووي قد تصبح ذات يومٍ مفيدةً حقًّا إذا أمكن تشغيلها أوتوماتيكيًّا بالكامل وتصغيرها على مستوى الخلية. بعد ذلك بعشر سنوات، صمَّمَ فريقٌ بقيادة إيهود شابيرو من معهد فايتسمان جهازًا آليًّا بالحمض النووي يستطيع «تشخيصَ» أعراض السرطان ووصف «العلاج»، «في المعمل» على الأقل.
في بعض حالات السرطان، بما فيها سرطان البروستاتا الشهير، يعتمد التشخيص الروتيني بالفعل على البصمة الجزيئية بدلًا من الانحرافات التشريحية. وباستخدام مستويات التعبير الجيني التي يستخدمها الأطباء عادةً للتعرُّف على هذا السرطان، صمَّمَ فريق شابيرو جزيءَ حمض نووي حاسوبيًّا يستطيع التعامل مع سلسلةٍ من خمسة أسئلة بنعم أو لا بهدف تحديد إنْ كانت الواسِمات النمطية لسرطان البروستاتا موجودةً أم لا. وعمومًا، يحتاج الكمبيوتر الجزيئي إلى خمس إجابات بالإيجاب (أيْ يحتاج إلى وجود خمسة واسِمات) لكي يستطيع ضخَّ الدواء.
الكمبيوتر الجزيئي عبارة عن انعطاف طويل من الحمض النووي يشبه دبوسَ الشعر (أيْ أنه لولب مزدوج يتكوَّن من جزيء أحادي مطوي على نفسه) يحتوي على جزيء الدواء (جديلة قصيرة من الحمض النووي تتداخل مع تنظيم الجين) في طيته. ويحتوي الجذر المزدوج الجديلة للدبوس على خمسة «أقفال»، كلٌّ منها يمكن فتحه وإزالته بواسطة «مفاتيح» معيَّنة؛ أيْ في وجود الحمض الريبي الرسول التشخيصي في الكميات التي تتخطى قدرًا معينًا. وعندما تُفتَح جميع الأقفال الخمسة، يُضَخُّ الدواء.
نجح الباحثون في استخدام هذا الجهاز الآلي مع نظامٍ اختباريٍّ يعيد إنتاجَ البصمات الجزيئية العادية لسرطان البروستاتا «معمليًّا»، ثم شرعوا في استخدام «علاج» مماثِل على نموذج أنبوبة اختبار يحتوي على خلايا صغيرة من سرطان الرئة. ومع هذا، التزَمَ شابيرو الحذرَ في مقابلاته الصحفية، وقال: «قد يستغرق الأمر عقودًا من الزمان قبل أن يتحوَّل مثل هذا النظام الذي يعمل داخل جسم الإنسان إلى واقع.» وبصرف النظر عن المخاوف بشأن قدرة الكمبيوتر الجزيئي على البقاء داخل الجسم، فإن عملية إدخال المادة الوراثية في شخصٍ (يُفترَض أنه موفور الصحة) تستوجب النظرَ إليها باهتمام بالغ؛ فعلى عكس أنبوب الاختبار المحتوي على نماذج السرطان، قد يحتوي الجسم على عوامل بروتينية أو جزيئات حمض ريبي رسول معدَّلة تتَّحِدُ مع كمبيوتر الحمض النووي بطرقٍ لا يمكن توقُّعها بسهولةٍ، حتى لو تعرَّض التسلسل الجينومي بأكمله للفحص سلفًا.
مع هذا، أعادَتْ هذه التجارب التطبيقات الصناعية المعتمِدة على الحمض النووي، التي ظلَّتْ عشر سنوات في الملعب الجزيئي؛ إلى العالم الواقعي وإلى احتمالية الاستفادة الحقيقية منها. وفي تطوُّر مماثِل في مجال البنى الصناعية الثلاثية الأبعاد المعتمِدة على الحمض النووي، قدَّمَ جيرالد جويس جدائلَ حمض نووي قابلة للاستنساخ يمكن طيها لتكوِّن مجسمات ثمانية من تلقاء نفسها. ويبشِّر الدمج بين القوى البنيوية والحوسبية للحمض النووي بكفاءتها الطبيعية للعمل على مستوى الجزيء الواحد ومضاعفته؛ بعهدٍ جديد لتكنولوجيا النانو والطب.
حمضٌ نووي بيدين وقدمين
في الماضي كان الحمض النووي خبيرَ المعلومات الذي ترك ساحة العمل للبروتينات، أو ربما بعض جزيئات الحمض النووي الريبي. ولكن الأمر لم يَعُدْ كذلك؛ فبفضل بعض تسلسلات الحمض النووي المصمَّمة بذكاء، تستطيع المادةُ الوراثية الآن تكوينَ بنًى معقَّدةٍ وأسلاكٍ كهربائية وأجهزةِ كمبيوتر جزيئية، بل تستطيع الآن أيضًا تكوينَ آلات ذات أجزاء متحركة. وعقب ابتكار جهاز طبي أوتوماتيكي معتمِد على الحمض النووي (المذكور أعلاه)، أظهَرَ بحثان أن الحمض النووي يمكن أن تكون له يدان للإمساك بالأشياء وإفلاتها، وقدمان من أجل جولات المشي الجزيئية.
في الوقت نفسه، صمَّمَ ويليام شيرمان ونيد سيمان (المشهور بتصميمه أجسامًا ثلاثية الأبعاد من الحمض النووي) من جامعة نيويورك إنسانًا آليًّا من الحمض النووي بإمكانه السير، وذلك باستخدام أسلوب مماثِل؛ تتكوَّن قدماه من تسلسلات مختلفة، تتعرَّف تحديدًا على نوعين من موطئ القدم على مسار الحمض النووي الذي يسير عليه. أما عن جدائل الحمض النووي القابلة للذوبان والمضافة للتفوُّق على تفاعلات الارتباط، فإنها تتيح للباحثين الحصولَ على إنسان آلي من الحمض النووي يسير بطريقة موجَّهة ومحكومة.
يدرك سيميل أن «اليد» التي ابتكرها و«القدم» التي ابتكرها سيمان تلتقيان على نحوٍ طبيعي، فيشرح قائلًا: «بالاشتراك مع الأحماض النووية السائرة، فإن جهازنا يستطيع تشكيلَ الجزء الناقل في محرِّك الحمض النووي الذي يمسك بالجزيء في مكانٍ ويحرِّره في مكان آخَر. ويمكن تصميم أجهزة مماثلة تتَّحِد مع جزيئات غير بيولوجية بدلًا من البروتينات، أو تطلقها.» ويُثبِت بحث آخَر من معمل سيميل أن ماكينات الحمض النووي يمكن التحكُّم فيها بيولوجيًّا، عن طريق عملية استنساخ الخلية. ومن الواضح أنه مع تطوُّر روبوتات الحمض النووي بهذه السرعة، فلن يمر وقت طويل حتى تبدأ في التحدُّث وتقديم المشروبات.
أحدث التطورات
في عام ٢٠٠٦، أعلن باحثون يعملون على مشروع أوريجامي الحمض النووي في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا؛ عن صور ثنائية الأبعاد تمَّ إنتاجها عن طريق تصميم تسلسلات الحمض النووي، وقد تصدَّرَتِ الوجوهُ الضاحِكةُ المصنوعة من الحمض النووي غلاف مجلة «نيتشر» بتاريخ ١٦ مارس ٢٠٠٦.
قراءات إضافية
-
Y. Benenson et al., Nature, 2004, 429, 423.
-
W. M. Shih et al., Nature, 2004, 427, 618.
-
W. U. Dittmer et al., Angew. Chem. Int. Ed. 2004, 43, 3550.
-
W. B. Sherman and N. Seeman, Nano Lett., 2004, 4, 1203.
-
W. U. Dittmer and F. C. Simmel, Nano Lett., 2004, 4, 689.