ألوان الجسيمات الكميَّة
في كتابي هذا، ستجدون ميكانيكا الكم من الموضوعات الرائعة بلا شك. ومع هذا، فيا ليت آثار الميكانيكا الكمية — المقتصرة عادةً على الأجسام الدقيقة التي لا تُرى بالعين المجردة — كانت مرئيةً، مثلما في تغيُّر الألوان! وهذا ما جذبني في البداية إلى الجسيمات الكميَّة، التي هي موضوعُ واحدةٍ من المقالات العلمية الخمس الأولى التي كتبتُها.
إذا أراد المرء أن يشقَّ جسيمًا أحمر إلى نصفين، فمن المتوقَّع أن يَنتج جسيمان أحمران في الغالب. ولكن في حالة الجسيمات الكميَّة، لا تكون الأمور بهذه البساطة؛ فهذه الحُبيبات الدقيقة للمواد شبه الموصلة التي يبلغ عرضها مجرد بضعة نانومترات، يمكن أن تكون سوداء أو بنية أو حمراء أو صفراء، كلٌّ منها بحسب حجمها. ويُفسَّر «الكم» باعتباره تحذيرًا بأن الآثار العجيبة لميكانيكا الكم مرتبِطة بهذه الغرابة.
إذن، فإن الجسيمات الكميَّة تكون في منطقة وسطى بين المادة شبه الموصلة «على نحو مطلق» وبين الجزيء المكوَّن من بضع ذرات فقط. ويفسِّر هذا الوضعُ الفريد خواصَّها الغريبة. فعند مستوى النانومتر، تتسع فجوةُ النطاق — التي تُعتبَر خاصية مميزة وغير متغيِّرة في المواد شبه الموصلة الكبيرة — مع تضاؤل حجم الجسيم. ومن ثمَّ، يعتمد كلٌّ من لون الجسيمات واستجابتها الإلكترونية على حجمها.
كيف تتكوَّن هذه الجسيمات؟ إنَّ تكوينَ الجسيمات الكميَّة بأيِّ حجم لم يكن بالأمر الصعب. ففي حقيقة الأمر، يمكن أن يفعله طلابُ الكيمياء دون قصدٍ في عامهم الدراسي الأول؛ إذ يكون عليهم أحيانًا إنتاجُ كبريتيد الكادميوم — وهو عنصر كان يُستخدَم في مقاييس التعرُّض الضوئي قديمًا عندما كانت هذه المقاييس منفصلةً عن الكاميرا، وتقريبًا بنفس كبر حجمها — عن طريق فوران غاز كبريتيد الهيدروجين عبر محلولٍ يحتوي على أيونات الكادميوم. وإذا توافرت الظروفُ المناسبة، فقد يحصلون على جسيمات يبلغ قطرها بضعة نانومترات، تنساب بسهولة عبر ورق الترشيح. عادةً ما يثير هذا التأثير المذهل استياءَ الطلاب، الذين كانوا يقصدون فصلَ الكادميوم عن العناصر المُذابة الأخرى لكي يواصِلوا تحليلاتهم. لكن في حالة التحضير الكيميائي للجسيمات الكميَّة، يُعَدُّ هذا المسارُ أسهلَ سبيلٍ للوصول إلى البنى النانوية الحجم؛ فعلماء الكيمياء المهتمون باستكشاف عجائب عالم النانو، مثل هورست فيلر من جامعة هامبورج بألمانيا، عادةً ما يستعينون بهذا الأسلوب لتكوين الجسيمات الكميَّة.
لكن علماء الفيزياء، على النقيض من ذلك، يدرسون آثارَ ميكانيكا الكم في الجسيمات الدقيقة من منظور مختلف؛ إذ يستفيدون من التصغير المتواصِل لطرق التصنيع المجهري، فيحدِّدون مناطِقَ نانوية الحجم على الشرائح المجهرية إما بتآكُل العناصر المحيطة، وإما باستخدام مجالات كهربائية دقيقة. ويمكن دمج «نقاط الكم» الناتجة في أجهزة إلكترونية.
وبالمعالجة الدقيقة بواسطة فولتات كهربائية صغيرة للغاية، يمكن حثُّ البلورات الكميَّة لتتصرف مثل «الذرات الصناعية». إذا نقلنا إلكترونًا واحدًا فقط من نطاق التكافؤ إلى نطاق التوصيل، فسيحتفظ النطاقُ الأول بشحنة موجبة، والثاني بشحنة سالبة؛ وبالتالي نحصل على شحنتين تتطابقان مع أبسط ذرة (الهيدروجين). تتميز الذرات الصناعية بأنه يمكن اختيار عدد شحناتها بمطلق الحرية، وبالتالي يستطيع الباحثون إجراءَ دراساتهم عبر عناصر الجدول الدوري باستخدام نظامٍ نموذجيٍّ واحد فقط. وهي مفيدة بصفة خاصة لاختبار توقُّعات نظريات ميكانيكا الكم بتجارب بسيطة.
ثمة مجال ثالث يرتبط بكلٍّ من الأساليب الفيزيائية والكيميائية لجسيمات النانو شبه الموصلة، وهو كيمياء التجمُّعات المعدنية. هذه الأجسام الكيميائية التي قد تحتوي على ما يصل إلى بضعة عشرات من الذرات المعدنية، تعكس أيضًا آثارًا كميَّة، وإنْ كان ذلك في نطاق حجم أصغر من أشباه الموصلات. وأحد الأنواع المهمة لتجمُّعات الذهب سبق وتناولناها في مقال «تجمُّعات الذهب اللامعة البرَّاقة». ومع أن هذه المجالات البحثية الثلاثة تشهد تطوُّرًا مستقلًّا على مدار أكثر من عقد من الزمان، فإن التطورات التي تمَّ التوصُّلُ إليها في تسعينيات القرن العشرين تشير إلى أنها تتفق على فهمٍ جديد وأعمق للآثار الكميَّة في الجسيمات النانوية الحجم.
ستكون الجهود الموحدة لجميع الباحثين وقدراتهم الإبداعية مطلوبةً لدفع هذه المواد المثيرة للاهتمام إلى نطاق التطبيقات المفيدة، فعلى الرغم من أنها ظلَّتْ موضوعًا علميًّا بحتًا حتى الآن، يمكننا تخيُّل العديد من التطبيقات العملية لها، فيمكن استخدامها — على سبيل المثال — في تصميم ألواح شمسية أفضل، معتمِدة على مواد مسامية مغطَّاة بالجسيمات الكميَّة؛ فعن طريق تنويع أحجام الجسيمات على النحو المناسب، يمكن للمرء ضبطُ امتصاص الألواح لخواصِّ ضوء الشمس؛ وبالتالي يُحسِّن استغلالَ محتواها من الطاقة الشمسية.
خلال التفاعلات الكيميائية، تشير النسبة العالية من الذرات ذات السطح المكشوف في هذه المواد إلى أنها ستكون مناسِبةً للتحفيز الكيميائي. فعلى سبيل المثال، تُعتبَر جسيمات النانو الخاصة بأكسيد التيتانيوم وسيلةً للمعالجة التحفيزية للفضلات السائلة.
إلا أن الميزة الكبرى تكمن في مجالَي الإلكترونيات والإلكترونيات الضوئية؛ فعن طريق استخدام الجسيمات الكميَّة شبه الموصلة، لا يستطيع المرءُ فقط تحويلَ ضوء ذي طول موجي محدَّد إلى تيار بطريقة انتقائية، ولكنه يستطيع أيضًا أن يجعل الجسيمات تضيء عن طريق تعريضها لجهد كهربائي. وفي التطبيقات الفيزيائية، يتمنَّى المرءُ بالتأكيد استغلالَ حقيقة أن الجسيمات الكميَّة تتيح «التعامُلَ مع» إلكترونات أو فوتونات بعينها. ويتدارس علماء الفيزياء بالفعل الترانزستورات الأحادية الإلكترون، والمحوِّلات البصرية؛ فقد تصبح هذه العناصر مستخدَمةً في أجهزة الكمبيوتر الفائقة المستقبلية.
أحدث التطورات
بينما كنتُ منشغلًا عن هذا المجال، يبدو أن مصطلح «الجسيمات الكميَّة» لم يَعُدْ متداولًا لدرجة أنه لا يظهر في موسوعة ويكيبيديا، كما أن الدراسة التلخيصية لفيلر في عام ١٩٩٣ لا تظهر في قمة نتائج البحث على محرك جوجل. أعتقِد أن تجاهُلَه كان بسبب الاستخدام غير المقصود لمصطلح «نقطة الكم»، مع أنني وجدتُ أن كلا المفهومين مفيدٌ. حسنًا، فَلْترقدِ الجسيماتُ الكميَّة في سلامٍ، بينما تواصِل نقاطُ الكم المنافَسةَ من أجل تصنيع أول كمبيوتر كميٍّ مفيدٍ حقًّا، وهو الذي سأتناوله لاحقًا.
قراءات إضافية
-
H. Weller, Angew. Chem. Int. Ed. 1993, 32, 41.