خاتمة: السنوات الخمس عشرة القادمة
عندما تأملتُ المقالات التي كتبتُها خلال السنوات الخمس عشرة الماضية لكي أنتقي من بينها المقالات التي جمعتُها في هذا الكتاب، أدركتُ كم كانت بعضُ توقُّعاتي المتفائلة عديمةَ الجدوى! ففي خضم الحماس الذي يعتري المرء تجاه اكتشاف جديد، ينساق المرء بسهولة وراء هذا الاكتشاف ويستنتج أحدث التطورات المؤدية إلى مستقبلٍ ورديٍّ. يحمل توقُّعي النموذجي المعنى التالي على الدوام: الآن بعدما حُسِمت المسائل الجوهرية، ينبغي أن تصبح التطبيقات العملية ممكنةً خلال السنوات الخمس (أو ربما العشر) القادمة.
ولكن هل حدث هذا فعلًا؟ في بعض الحالات، وجدتُ ما يدعم نظرتي التفاؤلية؛ فبروتين الفلورسنت الأخضر (انظر مقال «الشُّعلة الخضراء» ومقال «بروتينات إشارة المرور الجزيئية») وتداخُل الحمض النووي الريبي (انظر مقال «إسكات النشاز») انتشَرَا في الإجراءات المعملية خلال بضعة أشهر. وفي حالات أخرى، كانت نظرتي متفائلة أكثر من اللازم؛ إذ ظهرت عقبات غير متوقَّعة في الخطوات التي أعقبَت الاكتشاف المذهل. وبناءً عليه، يظل العلاج الجيني بعيدَ المنال، مثلما كان حاله في منتصف تسعينيات القرن العشرين. كما كان يُعتبَر الرودوبسين الجرثومي وغيره من الجزيئات الحيوية من البدائل المشوقة للحوسبة، إلا أن التقدُّم السريع في شرائح السليكون، التي لا تزال تتبع قانون مور حتى اليوم، قد صرف النظر عن هؤلاء المتبارين. فضلًا عن أن التعبير الجيني عن بروتينات الحرير العنكبوتي في ألبان الماعز (انظر مقال «دروس في الغَزْل») لم يُثمِر إنتاجًا لحرير العنكبوت بكميات يمكن الاستفادة بها.
معروف للأسف عن النبوءات أنها ترتدُّ على المتنبئ القليل الحظ. وربما لا يكون تفاؤلي معرقِلًا بقدر تلك التوقُّعات السلبية المُستشهَد بها دومًا كنوع من الإدراك المتأخر، كالحال على سبيل المثال عند توقُّع أن الطائرات لن تطير أبدًا، أو أن أجهزة الكمبيوتر الشخصية لن تُباع أبدًا. ولكن مع هذا، على المرء توخِّي الحيطة والحذر عند التنبؤ بالمستقبل الذي لا يمكن التنبُّؤ به.
بعد قولي هذا، لا يسعني تقديم بعض التخمينات حول المقالات التي قد أُضمنها لو قرَّرتُ أن أجهِّز مجموعةً مماثلة بعد خمسة عشر عامًا. هذا، بالطبع، لو ظلَّتِ الكتبُ موجودةً حتى عام ٢٠٢٣؛ فاستبدال الكتب الإلكترونية بها هو أحد التوقُّعات التي طالما قرأتُ عنها باستمرار على مدار أعوام، دون أن تظهر في الأفق أيةُ إشاراتٍ تدل على تحقُّقها فعليًّا.
لن تكون المشكلات العالمية الحالية — بدءًا من الازدحام السكاني وصولًا إلى الاحتباس الحراري — قد اختفَتْ بعدُ، ولكن من المأمول أننا سنكون قد اقتربنا من حلول بنَّاءة. (ها هو تفاؤلي السريع يلوح مجدَّدًا في الأفق، في واقع الأمر، يجب أن نعتبر أنفسنا محظوظين لو لم نكن قد محونا المحيط الحيوي بحلول ذلك الوقت!) بطريقةٍ ما، فإن الوسائل التكنولوجية المتقدمة، التي أكتب عنها غالبًا، لن تكون مهمةً بالنسبة إلى مصير البشرية على المستوى العالمي بقدر الوسائل التكنولوجية القوية التي يمكن أن تساعد أغلبَ البشر الذين ما زالوا يكافحون الجوعَ والأمراضَ المُعديَة بصفتهما عدوَّيْهم الرئيسَيْن.
إن التطعيمات الميسورة التكلفة بالنسبة إلى الأمم الفقيرة، أو العقاقير التي يمكن تخزينها دون الحاجة إلى ثلاجة، أو أجهزة الكمبيوتر التي يمكن أن تنقل الثورةَ المعلوماتية إلى مجاهل أفريقيا، هذه هي الأمور التي من المرجح أن يكون لها أثر أكبر على مدار السنوات الخمسة عشر القادمة مقارَنةً بأية شريحة من الجيل التالي تصيب جهازَ الكمبيوتر بعطل مفاجئ بمعدل أسرع، أو عقَّار يطيل متوسط عمر الأثرياء من ٨٧ عامًا إلى ٨٨ عامًا. بعبارة أخرى، لن يعتمد مصيرُ العالم بصورة حاسمة على مدى سرعة تقدُّم العلوم والتكنولوجيا المتطورة، وإنما على مدى القدرة على مواكبة هذا التقدُّم واللحاق بالرَّكْب.
-
كمبيوتر كمي فعلي: دعونا نتخلَّص من التجارب النظرية. لن يصدِّق الناسُ أن ميكانيكا الكم صالحة للتطبيق العملي ما لم يجدوها على مكاتبهم تنفِّذ معظمَ أعمالهم نيابةً عنهم، في حين ينشغلون هم بممارسة ألعاب الواقع الافتراضي.
-
إصلاح الروابط العصبية: في العديد من الحالات، سيكون من الغباء الشديد أن يظل الناس عاجزين عن تحريك أطرافهم أو الرؤية أو السمع، لمجرد أن هناك فجوة صغيرة في العصب المسئول. يمكننا إصلاح الكابلات الكهربائية، وهو ما يعني أن إصلاح الأعصاب يجب أن يصبح إجراءً روتينيًّا بحلول عام ٢٠٢٣.
-
استبدال أعضاء بسيطة: لا تشغل بالك بما إن كانَتْ أعضاءً صناعيةً أم بيولوجية، فلن يستطيع أحدٌ أن يميِّز الفارقَ بينهما (أذكِّركم بمقال «الإلكترونيات البيولوجية» مجدَّدًا!) بالنسبة إلى أعضاء — مثل الكُلَى أو القلب — تستطيع آلةٌ أداءَ وظائفها خارج الجسم، فلا يوجد سبب مقنع يمنع ابتكار آلة جديدة (سواء تمَّ تصميمها أو استزراعها) تؤدِّي وظائفَ هذه الأعضاء داخل الجسم. وقد يستغرق الأمر مع الكبد وقتًا أطول، كما سيسبِّب تطبيقُ نفس المنهج على المخ مشكلة هوية؛ لذا دعونا نترك هذا للجيل القادم.
-
مواد جديدة مثيرة: سواء أكانت حريرَ العنكبوت أم الأنابيبَ النانوية الكربونية، أرغب في مواد جديدة تفتح آفاقًا جديدة، مثل مصاعد الفضاء أو الأعضاء الصناعية.
-
فهم الكون: بدافع الفضول لا أكثر، أريد أن أعرف ما يشكِّل نسبة اﻟ ٩٥٪ من الكون التي لا نعرف عنها شيئًا. وكميزة إضافية فقد نكتشف أيضًا المصيرَ المستقبلي للكون، ولا يعني هذا أن الأمر سيكون له مردوده علينا، فلن نعيش كلَّ هذه المدة الطويلة كي نشهد أيَّ تغيُّرات ملحوظة في البنية الهائلة للكون بطريقة أو بأخرى. ولكني متحيِّر بشأن حضارتنا؛ لأننا مضطرون إلى الاعتراف بأننا لا نفهم المكانَ الذي نعيش فيه.
من الممكن بالطبع ألَّا تتحقَّق هذه التوقعاتُ، أو أن يتحقَّق بعضها فقط، ولكن العديد من التوقُّعات الأخرى سيتحقَّق، وسيوجد المزيد من الاكتشافات غير المتوقَّعة على نحوٍ غريب، والرؤى المثيرة على نحوٍ لا يُقاوَم، والابتكارات الرائعة إلى حدٍّ مبهر، وجميعها سيُعلَن عنها خلال السنوات القادمة، وهذا ما يدفعني إلى المضي قدمًا ومواصلة ما بدأتُه.