دروس في الغَزْل
ربما تمتلك العناكبُ ثمانيَ أرجل مُشعِرة، ومخًّا صغيرًا للغاية، ومظهرًا قبيحًا، ولكنَّ ثمة شيئًا واحدًا على الأقل تجيد عمله أفضل منَّا، وهو تحديدًا إنتاج ألياف في منتهى القوة.
يتفوَّق مهندسو الطبيعة — بشتى الطرق — على مهندسي البشر. فسواءٌ نظرْتَ إلى الطرق التي تُصنِّع بها الداياتومات أو المحَّار أو الحلزونات أصدافَها، أو الطريقة التي تُغيِّر بها الفراشات ألوانَها، أو الطريقة التي تتحمَّل بها الأشجارُ الرياحَ القوية، فثمة درسٌ يمكن لمهندسي البشر تعلُّمُه دائمًا. وأحيانًا تكون هندسة الطبيعة مُتقَنة للغاية حتى إننا ما زلنا نواجِه صعوبةً في فهم كيفية عملها. ولكننا عندما نفهمها، تكون المكاسِب التي نجنيها من الدرس هائلةً.
من أروع الأمثلة عن كيفية تفوُّقِ الطبيعة علينا في أفضل مجهوداتنا خيوطُ العنكبوت الحريرية. ومثلما هو الحال مع شَعْر الإنسان وصوف الماعز والملابس الحريرية، فإن خيوط العنكبوت الحريرية تتكوَّن في معظمها من البروتين، ولكنَّ سلاسلَ متعدِّدِ الببتيدات تتوازَى وتتشابك بطرق عجيبة تجعل هذا المنتج أقوى من هذه المواد. فنظرًا لأن الطبيعة طوَّرَتْ هذه المادة بحيث تستطيع العناكِبُ أن تُوقِف حشرةً سريعة الطيران، تُعتبَر هذه المادة في الواقع أقوى مادة نعرفها من حيث وزنها، وإذا قارنْتَ خيطَ العنكبوت بسلكٍ فولاذيٍّ له نفس القُطْر، فستجد أنه يستطيع أن يحمل نفسَ الوزن تقريبًا، إلا أن الحريرَ أخفُّ منه ست مرات، وبالتالي فهو فعلًا أقوى من الفولاذ بست مرات، وسيربح العنكبوت في كل مرة.
إذن لماذا لا تزال الجسور المعلَّقة تتدلَّى على أسلاك الفولاذ بدلًا من خيوط الحرير؟ المشكلة أننا لا نستطيع أن نصنع خيوطَ العنكبوت الحريرية بنفس قدرة العنكبوت. إننا نستطيع بالتأكيد أن نعبِّر جينيًّا عن البروتينات التي يُصنَع منها في كائنات حية أخرى، بما في ذلك الماعز الذي سوف يتمتَّع ببروتين السبيدروين في ألبانه (والذي سأعاوِد الحديثَ عنه لاحقًا)، وسنكون قادرين قريبًا على غزل هذا الحرير إلى نوع من الألياف، ولكن نظرًا إلى فهمنا القاصر للعمليات التي تتم في غدَّة الحرير داخلَ العنكبوت، فربما لا تكون النتيجةُ مماثلةً للمنتَج الطبيعي.
بالنظر إلى أن هذه الصور قد احتُفِظ بها (أو تطوَّرَتْ على نحوٍ متقارِب) على مدار فترة زمنية تتخطَّى مائتَي مليون عام، فإن خواصها تحمل على الأرجح أدلةً مهمة حول الكيفية التي تتفاعل بها بروتينات الحرير لإنتاج الحرير. وحتى الآن، فإن المعلومات البنيوية الوحيدة التي نملكها تدور حول الحرير في صورته النهائية، حيث من المعروف أن التكرارات الغنية بالألانين تحدث في النطاقات شبه البلورية، في حين أن التكرارات الغنية بالجلايسين تتم في حالاتٍ أقل تنظيمًا يصعب فهمها.
يصنع العنكبوت من هذه الجينات البروتيناتِ الملائمةَ، المسمَّاة الفبروينات. ولا شيء مميَّز فيما يخص هذا الأمر؛ فالبروتينات يمكن أن يتكون منها الشعرَ والصوفَ ونوعَ الحرير الضعيف الذي تصنع الحشرات منه شرانقَها، إلا أن هذه الموادَّ ليست قويةً بما يكفي بالنسبة إلى العناكب. فلكي تصنع العناكب خيطَ البروتين المميَّز الأقوى من الفولاذ، فإنها تتمتَّع بغدة خاصة لإنتاج الحرير، وهي بنية معقَّدَة يُحوَّل فيها محلولُ البروتين بطريقةٍ سحريةٍ إلى خيط حريري. ومع أن هذا التحويل غيرُ مفهوم جيدًا حتى الآن، فمن المعروف أنه ينطوي على زيادةٍ كبيرةٍ في نسبة السلسلة البروتينية المنظمة في صورة صفائح بيتا مطوية.
في مقالٍ نُشِر عام ٢٠٠١ بمجلة «نيتشر»، لخَّصَ الأمرَ عالِما الحيوان فريتس فولرات وديفيد نايت اللذان كانَا يدرسان إنتاجَ الحرير في العنكبوت النسَّاج «نيفيلا كلافيبس» لعدة سنوات. أولًا: جديرٌ بالذكر أن هذه العناكب لا تملك نوعًا واحدًا من غدد الحرير، بل سبعة أزواج تنتج سبعةَ أنواع مختلفة من الحرير تصلح لمختلف الاستخدامات، ويُلاحَظ أيضًا أن التركيبَ البروتيني في هذه الغدد مختلِف اختلافًا ملحوظًا، والنوع الذي أمكن وصفه بدقةٍ هو حرير السَّحْب الذي تنتجه الغدةُ الأمبولية الرئيسية.
دعونا نتتبع مسارَ جزيء السبيدروين منذ إفرازه وصولًا إلى الخيط في صورته النهائية. بمجرد مغادرة البروتين المقصود خلايا المنطقة (أ) (إذ تتَّحِد الحويصلات الإفرازية مع الغشاء الخلوي وتُفرِّغ محتوياتها خارجَه)، فإنه يجد نفسه في قطرة كروية صغيرة مع الكثير من جزيئات السبيدروين الأخرى، ويبلغ تركيز البروتين في الغدة بأكملها حوالي ٥٠٪؛ أيْ أكثر من معظم البلورات البروتينية. تتكتَّل معظمُ البروتينات في كتل غير قابلة للذوبان بتركيزات أقل بكثير، وتتدفَّق هذه الكتلة البروتينية العالية اللزوجة نزولًا عبر ذيل المنطقة (أ) إلى الكيس (المنطقة ب)، حيث تُغلَّف بإفرازات خلايا المنطقة (ب). وعند مخرج الكيس، يمر السائل إلى المجرى الأضيق (ب)، وخلال هذا الانتقال، يتغيَّر شكلُ القطرات تدريجيًّا إلى أشكال رفيعة طويلة تتوازَى مع اتجاه التدفُّق. ومن المفترض حدوث تحوُّل مماثِل للجزيئات. في البداية، يجب أن تكون في بنية مضغوطة إلى حدٍّ ما لتجنُّب التكتُّل، ولكن مع انتقالها إلى المجرى، فإنها تتمدَّد وتتوازى بما يتيح في النهاية تشكيل تلك الروابط بين الجزيئية التي هي سبب تماسُكِ الخيط.
يكون معجون أو محلول الغزل وقتها في حالة بلورية سائلة، تصطفُّ فيها البروتينات بانتظامٍ، ولكنها لا تزال قادرة على الانزلاق بعضها إلى جانب بعض. ويُعتقَد أن هذا جزء مهم من السلاح السري للعنكبوت. وبينما تقل المادة تدريجيًّا وببطء في الساقين الأوليين من المجرى الثلاثي، يكون لدى الجزيئات الوقتُ لإعادة توجيه نفسها بطريقة مناسبة كي تستطيع في النهاية أن تكوِّن تفاعلاتِ صفائح بيتا بين الجزيئية، وربما روابط ثنائي الكبريتيد عندما يتعلَّق الأمر بإنتاج الخيط الفعلي. وتحدث هذه الخطوة عند نقطة على مسافة ٤ ملِّيمترات تقريبًا قبل المخرج، وعادةً ما تحدث فجأةً. ومع أن التفاصيل الجزيئية غير واضحة، فإنه يُعتقَد أنه مع خروج المعجون في صورة خيط رفيع ينفصل عن جدران المجرى، تتوازَى الجزيئاتُ أكثرَ وتكوِّن روابطَ هيدروجينية لتحدِّد أنماط صفائح بيتا المعقَّدة الموجودة في المنتج النهائي. وخلال هذه العملية، يصبح البروتين أكثر تجنُّبًا للماء ويطرد بعضًا من المحتوى المائي الذي كان يحمله حتى هذه المرحلة. وفي نهاية الأمر، يُطرَد معظم الماء من السطح عندما يترك الخيط سِدادة المخرج؛ مما يساعد العنكبوت في تفادي نقص الماء ويجعل خيطَه أقوى.
تجمع هذه الصورة العامة التي رسمها فولرات ونايت بين المعلومات التشريحية وبعض المعلومات البنيوية. ومع هذا، فإن التفاصيل الدقيقة للانتقالات البنيوية المهمة غير مفهومة بالمرة، وتكمن المشكلة في أن أقوى أدوات تحديد البِنى البروتينية، مثل تصوير البلورات بالأشعة السينية والرنين النووي المغناطيسي، تتطلَّب بلورات بروتينية أو محاليل متجانسة، على الترتيب. وحتى الآن، لا توجد طريقة يمكن أن تقدِّم البنيةَ التفصيلية الذرية لجزيء البروتين وهو يتدفَّق عبر مجرى غدة الحرير في العنكبوت.
ومع هذا، حتى في غياب الفهم التام بالمعنى الجزيئي، هل يمكن للمرء تقليد تقنية العنكبوت على مقياس ميكروسكوبي، عن طريق إمداد المعجون بالتركيب البروتيني المناسِب وتمريره عبر جهاز غزل مصمَّم على طريقة غدة العنكبوت؟ المادة المُخلَّقة الوحيدة المشابهة هي الأراميد (ألياف الكيفلار، وهي الألياف المستخدَمة في السترات الواقية من الرصاص)، وتُغزَل من حمض الكبريتيك الساخن؛ وبالتالي ستكون العملية التي تجري في درجة الحرارة المحيطة وتؤدي إلى إنتاج شيء مماثِل جذَّابةً للغاية، حتى إذا اتضح أن الألياف الناتجة بنفس جودة ألياف الكيفلار، وليست بنفس جودة حرير العنكبوت الحقيقي.
ولكن أولًا ستحتاج إلى إنتاج البروتينات بكميات معقولة. على عكس دودة القز، تتمتع العناكب بسلوكٍ مكاني عنيف؛ مما يعني أنها لن تتعاون مع فكرة إنشاء مزارع عالية الإنتاجية، كما أن التعبيرَ الجيني عن بروتينات الحرير في البكتيريا أو الخميرة غير ناجح بدوره؛ فالطبيعة التكرارية اللافتة للنظر في تسلسلاتها تحثُّ الميكروباتِ على اتخاذِ طرقٍ مختصرة وإنتاجِ نُسَخٍ مختصرة من السلاسل البروتينية.
بالتالي، إذا كنتَ ترغب في استخدام الحرير لاصطياد الطائرات المقاتلة بدلًا من الذباب، فحريٌّ بك أن تستعينَ بحيوان يستطيع إنتاج أكثر من بضعة ملِّيجرامات من هذه المادة الثمينة. كانت شركة نيكسيا بايوتكنولوجيز في مدينة مونتريال الكندية أول مَنْ ينجح في إنتاج ماعز مُعدَّل وراثيًّا بطريقةٍ تجعله يفرز بروتينَ السبيدروين في ألبانه. واتضح أن الخلايا الإفرازيةَ في الغدد الثديية لا تختلف كثيرًا عن خلايا غدد الحرير، الفارِق الوحيد أنه يوجد الكثير منها في الماعز؛ وهو ما يجعل حَلْب الماعز اقتصاديًّا أكثر من حَلْب العناكب.
منذ صيف عام ٢٠٠٠، تباهَتْ شركة نيكسيا بامتلاكها ماعزتين قزمتين أفريقيتين، بيتر وويبستر، ثبَتَ أنهما تحملان جينَ العنكبوت المناسب. بعد استيلاد بضعة أجيال، سيوجد قطيع من الإناث التي تنتج السبيدروين في ألبانها بالجرام. بَيْدَ أن نيكسيا لم تحدِّدِ الطريقةَ التي تريد بها غزلَ بروتين الحرير-اللبن هذا في ألياف قوية بمقياس صناعي، لكن بمجرد أن تستطيع عمل ذلك، فإن المادة الجديدة ستدخل سريعًا في تطبيقاتٍ تتراوح ما بين الخيوط الجراحية وصولًا إلى الحماية من القذائف وأمن الطيران.
على الرغم من أن بعض التطبيقات المتصوَّرة مبالَغٌ فيها بصورة كبيرة مقارَنةً بشبكة العنكبوت، فثمة حالة من الاستهانة بها. ففي محاولةٍ لتحويل خيطٍ مرئيٍّ إلى سلك نانوي رفيع إلى حدٍّ يجعله غيرَ مرئي، جرَّدَ فريق بقيادة مايكل شتوك من معهد ماكس بلانك للكيمياء الفيزيائية الحيوية في جوتينجين حرير العنكبوت وصولًا إلى لُبِّه، باستخدام تقنية ليزر الأشعة فوق البنفسجية، فحصلوا على أسلاك نانوية في منتهى القوة، يبلغ قطرها حاليًّا ١٠٠ نانومتر. وتتضمن خططُ المستقبل تغليفَ هذا الخيط بالمعدن ليصير موصلًا.
لكن حتى عندما نستطيع محاكاة خيط العنكبوت واستخدامه بمقاييس طول متنوِّعة، فإن المفصليات الصغيرة المُشعِرة تظل متفوِّقةً. وحسبما أعلن ستيفان شولتس وزملاؤه من جامعة براونشفايج التقنية بألمانيا عام ٢٠٠٠، فإن أنثى العنكبوت الاستوائي «كيوبيدينيوس سايلاي» تترك خيطًا مميزًا بالفيرومونات الجنسية، التي تحفِّز الذكر من نفس سلالتها لإصدار ذبذبات بحماسٍ، فتنتقل هذه الذبذبات عبر الخيط، الذي يتحوَّل فورًا من دور وعاء الرائحة إلى دور خط هاتف؛ فتُصدِر الأنثى بدورها ذبذباتٍ ردًّا على ذلك، ويمكنك أن تخمِّن بقية الأحداث بنفسك. وإنني لأتساءل ما إن كان أي شخص يريد أن ينشئ شركةً تعتمد على هذه التكنولوجيا …
أحدث التطورات
في نوفمبر ٢٠٠٧، أجريْتُ مقابلة مع فريتس فولرات كجزء من بحثي لمقال رئيسي لمجلة «أكسفورد توداي»، واكتشفْتُ أن بعض الآمال المذكورة في المقال السابق لم تتحقَّق. وعلى وجه التحديد، فقد فشلَتْ محاولةُ إنتاج حرير العنكبوت الصناعي من بروتينات العنكبوت التي يُعبَّر عنها جينيًّا في لبن الماعز. وقد طوَّرَ فولرات وزملاؤه طرقًا لتحليل المعجون الحريري وللتنبؤ بما إذا كان سينتج الحرير المناسب، بَيْدَ أن الكائن الوحيد الذي يستطيع إنتاج حرير العنكبوت يظل هو العنكبوت نفسه. ويعتمد الأمل الحالي على المعالجة الجينية لمزيدٍ من الحيوانات «التي يمكن تكوين مزارع بها» مثل الفراشات، لحثِّها على إنتاج حرير العنكبوت بكميات كبيرة. وقد أعلن باحثون يابانيون بالفعل أنهم خدعوا يرقان دود القز لغزل شرانق تحتوي على ١٠٪ من حرير العنكبوت.
أما فيما يتعلَّق بالتطبيقات المحتمَلة، فآمال فولرات عريضة بخصوص المجالات الطبية البيولوجية، بما في ذلك علاج المفاصل. وبما أن بعض العناكب تستطيع إنتاجَ ستة أنواع مختلفة من الحرير لها خواص محدَّدة تصلح لمهامَّ معينة، فإنه يتعيَّن على العلماء ذات يومٍ أن يتمكَّنوا من تكييف المواد المُخلَّقة المشتقة من حرير العنكبوت مع متطلبات التطبيقات الجراحية.
قراءات إضافية
-
M. Papke et al., Angew. Chem. Int. Ed. 2000, 39, 4339.
-
J. Gatesy et al. Science, 2001, 291, 2603.
-
F. Vollrath and D. P. Knight, Nature, 2001, 410, 541.