الإلكترونات والذرات، أو الفيلة والبراغيث
إنَّ عِلمنا لهو علمٌ حسِّي …
لا يُلمح إيمرسون في الاستشهاد السابق إلى أن العلم مُتعلق بالحسِّ الجسدي، وإنما يعني أننا نبني نظريتنا العِلمية على مُدْخَلاتِ حواسِّنا الخمس؛ اللمس والتذوُّق والسمع والإبصار والشم، لكن عندما يتعلق الأمر بالنظريات التي تدور حول الذَّرة، تُخفِق حواسُّنا؛ فنحن لا يُمكننا أن نرى ذرة واحدة، أو نتذوقها أو نشعر بها أو نسمعها أو نشَمَّها، وإذا قام أحدهم بضربنا على رأسنا بذرَّة واحدة من التنجستين (وهي ذرة غاية في الضخامة بالنسبة إلى باقي الذرات)، فإننا لن نشعر مطلقًا.
وما يجعلنا غيرَ مُدرِكين لوجود ذرة واحدة هو أن الذرة الواحدة غايةٌ في الصغر؛ فقد تصطفُّ نحوُ عشرة ملايين ذرةٍ مفردة لتصل إلى طول حبة الأرز، والأجزاء التي تتكون منها الذرَّة في منتهى الصِّغر. وتتكوَّن النواة أو مركز الذرَّة من البروتونات والنيترونات، ويُساوي نصف قُطر البروتون تقريبًا فيمتومتر الذي يُعادل واحدًا على كدريليون من المتر، أو لتبسيطها يُساوي نصفُ قطر البروتون واحدًا على مليون من واحد على مليار من المتر، يا له من حجم شديد الصغر! وتبلغ كتلة كلٍّ من البروتون والنيترون نحوَ واحدٍ على سبتليون من الجرام (واحد على تريليون من واحد على تريليون من الجرام)، وهذا حجمٌ شديد الصغر بأية معايير. وتقلُّ كتلة الإلكترون نحو ألفَيْ مرة عن كتلة البروتون والنيترون؛ فحجم الإلكترون بالنسبة إلى حجم البروتون كالبرغوث بالنسبة إلى الفيل، وبالطبع البروتون هو الفيل، وعندما تحسب كتلة الفيل، احذر من أن تُضيف كتلة البراغيث الموجودة على جسم الفيل، وكذلك الحال عندما نحسب كتلة الذرَّة، لا نُضيف إليها كتلة الإلكترونات.
ويُسبِّب هذا التفاعلُ الذي يحدث بين الإلكترونات والمجال المغناطيسي تشويشَ صورة التليفزيون في حالة وجود مغناطيس، إذ ينحرف شعاع الإلكترونات الموجودُ في أنبوبة أشعة الكاثود، التي تُسبِّب حدوث التفسفُر (الوميض الفسفوري) على الشاشة، في وجود مجال مغناطيسي قريبًا منها، وبالطبع لا ينبغي للفرد أن يُقرِّب مغناطيسًا من شاشة التليفزيون، إلا إذا كان يستطيع الاستغناءَ عنه، فهذا التفاعلُ يُمكِنه أن يُسبب تلفًا دائمًا لمُكوِّنات الجهاز، أما إذا كان لدى الفرد جهازٌ يمكن الاستغناء عنه، فإنه سوف يستمتع أيما استمتاع بمشاهدة تأثيرات مثيرة.
وقد استغرق الأمرُ وقتًا استمر حتى ثلاثينيَّات القرنِ الماضي لاكتشاف كلِّ أجزاء الذرَّة وهو ما يُبيِّن كيف كان الأمر عسيرًا، وحتى ظهور كل الأجزاء لا يزال لم يحلَّ اللغز بعد، فثمَّة سماتٌ أخرى للذرَّة — فضلًا عن حجمها — تُثير الحيرة، وإحدى هذه السمات كثافةُ النواة، وتُساوي كثافة المادة كتلة الحجم المُعطَى، فعلى سبيل المثال، يكون لمكيالٍ من الريش ولآخرَ من الحَصاة الحجمُ نفسُه، ولكن الكتل تختلف حتمًا. فمِكيال الحصاة أثقلُ من مكيال الريش؛ ومِن ثَم كثافته أكبر، وقد ذكرنا أن راذرفورد وجد أن الذرةَ محتشِدة بكثافة، لكننا لم نُصرِّح بمقدار هذه الكثافة، لقد اتضح أن النواة، مع أبعادها المتناهية الصغر، تحتوي على مليون تريليون جرام في السنتيمتر المكعب الواحد، وبمقارنة هذا بكثافةِ الرَّصاص على سبيل المثال — التي تقترب من أحدَ عشر جرامًا في السنتيمتر المكعب — نجد أن الفرق يَكمُن في أن النواة تتكون من جزيئات محتشدة قريبة بعضُها من بعض، في حين أن الذرة تكاد تكونُ فارغة. ويُمكِن تطبيقُ هذه المقارنة على الأرض والشمس، فإذا كانت نواةُ ذرَّة الرَّصاص هي الأرض، تُعادل المسافةُ إلى أقرب إلكترون تقريبًا المسافةَ التي بين الأرض والشمس، فسيكون الأمر كما لو وضَعت قطعًا صُلبة من الرخام، وحينما تضَع ذرَّاتِ الرصاص في وعاء، فإنك في الحقيقة تكون كمن يَصنع فقاعات من الفضاء الفارغ.
والسؤال الذي قد يطرأ على الذهن على الفور هو: إذا كانت المادة تتكوَّن من فقاعات دقيقة، فلماذا إذن لا نسقط في بِرَك من الوحل؟ توجد إجابة غيرُ مُرضِية وهي أن الإلكترونات تبقى حيثما تكون؛ لأنها توجد في مَدارات حول النواة، لكن قد يعترض أحدُهم قائلًا: «إذا كان للإلكترونات شحنةٌ سالبة وللبروتونات شحنة موجبة، لماذا لا تتجاذب هذه الشحنات المختلفة ولماذا لا تَصطدم الإلكتروناتُ بالبروتونات؟»
وكما هو واضح، هذا السؤال ليس سؤالًا تافهًا وإنما هو سؤالٌ يستحق الاهتمام.
في أوائل القرن العشرين، أسهَم العالِمُ الشهير نيلز بور في الإجابة عن هذا السؤال عن طريق توضيح أن الإلكترون ما دام يتحرك يُمكن له أن يظل بعيدًا عن البروتون. ونستطيع أن نُجري تشبيهًا آخر بالأرض والشمس؛ تربط الجاذبيةُ هذَين الجسمَين معًا، إلا أن الأرض عن طريق التحرك في مدار خاص بها، يُمكِنها أن تستمرَّ في الانحدار نحو الشمس، لكنها لا تسقط فيها على الإطلاق. وبالمثل يُمكن تطبيق الصورة نفسِها على الإلكترون، فيُمكن أن نعتبر أن الإلكترون يدور حول النواة ومن ثَم ينجذب نحوها وليس فيها.
ومما لا شك فيه، أن القارئ لاحظَ في الفِقرة السابقة بعضَ العبارات التقييدية، مثل «ساعد نيلز بور في الإجابة» ولم نقل: أجاب نيلز بور، و«يُمكن أن نعتبرَ أن الإلكترون يدور» وليس «يدور الإلكترون …»، وهذا المبدأ ضروري للغاية لأن التشابُه ليس سوى مجردِ تشابه، وهذا التشابُه يعمل فقط عند المستوى الأولي النظري، ويتراجع التشابهُ سريعًا عندما يتطلب الأمر أيَّ قدر من الدقة، ولن يكون لدينا أيُّ تشبيه غايةٍ في الدقة؛ لأن علم الفيزياء عند المستوى الذرِّي يختلف تمامًا عن علم الفيزياء الذي نُلاقيه في عالمنا اليومي الهائل.
وهكذا، ومع هذا الرأي السابق فسوف نعرض بِنْية الذرَّة تمامًا كما هي مفهومة في الوقت الحالي، ولنُلاحظ أولًا الملامحَ الرئيسية التي تشيع معرفتها: تتكون النواة التي هي مركزُ الذَّرة من جسيمات مشحونة بشحنة موجبة تُسمَّى البروتونات وجسيمات منعدمة الشحنة متعادلة تُسمَّى النيترونات، أما الإلكترونات، كما هو معروفٌ للكافة، فهي جسيمات ذات شحنة سالبة تدور في مدارات حول النواة.
وتَسوء المشكلةُ عندما يتعلَّق النقاش بأكثرَ من إلكترون، وهو ما يَحدث مع كلِّ عنصر يلي الهيدروجين، والإلكترونات هي جُسيمات لها شحنة، والجسيمات التي لها شحنة تَميل إلى أن ينجذب بعضُها إلى بعض إذا كان لها شحنات مختلفة، ويتنافر بعضها عن بعض إذا كان لها الشحنة نفسُها، وخيرُ مثال على هذا هو المجال المغناطيسي؛ فالأقطاب المختلفة للمغناطيس تتجاذب، والمتشابهة تتنافر. ويُصبِح الموقف أكثرَ غموضًا مع الذرة حيث لا تُوجَد تفاعلات شبه مِغناطيسية بين إلكترون وإلكترون، أو بين إلكترون وبروتون، لكنْ هناك كمٌّ هائل من الشحنات السالبة والموجبة التي يتفاعل بعضُها مع بعض. وقد شبَّه الفيزيائيُّ إنريكو فيرمي الحاصلُ على جائزة نوبل الموقفَ في إحدى المرات بقواربَ تتمايل في الميناء، فنحن نعلم بالبديهة أن حركة أحد القوارب تُؤثِّر على باقي القوارب الأخرى والعكس، لكن بطرقٍ غايةٍ في التداخل والتعقيد، لدرجة أنه لا يُمكن التنبؤ بالحركة الأخيرة لأي قارب من القوارب في أي وقت.
ويُطلِق مَن يدرسون مثل هذه الأمور (علماء ميكانيكا الكَمِّ النظريون) على هذه المسألة اسم «مشكلة الجسيمات الثلاثة»، فحينما يكون لديك جُسيمان في وضع متحرك وينجذب أحدُهما نحو الآخر، يُمكنك أن تصف الموقف في معادلة، لكن حينما يكون لديك ثلاثةُ جسيمات بينها انجذاب وتنافر، وجميعُها في وضع متحرك يحدث الكثير جدًّا من الأشياء في معادلة واحدةٍ دقيقة، وتكمن المشكلةُ في أنه مع وجود إحدى السحب الإلكترونية واستطاعتنا الإشارة إليها وقياسها، فإننا لا نستطيع أن نتنبَّأ سلفًا بالمكان الذي سوف تستقرُّ فيه أو بالشكلِ الذي ستأخذه؛ فثَمة عواملُ كثيرة ومتغيرات عديدة، بعضها غير معروف أو لا يمكن التعرف عليه، فالمشكلة تكمن في لبِّ منهاج الاحتمالية المتعلق بالتركيب الذري.
على سبيل المثال: البروتونات والنُّسَخ الفوتوغرافية
أعرف أن البعض سيراها مغالاة أن نصِفَ آلة التصوير بالمعجزة، أما الذين تعاملوا مع آلة نَسْخ الرسائل (الميموغراف)، فيكون مصطلح معجزة غيرَ مُعبِّر على الإطلاق. وتنتمي آلات التصوير إلى عصر المعلومات تمامًا مثل الحاسوب والهواتف الخلوية التي تعمل عن طريق الأقمار الصناعية، فمع التقدم في وسائل الرفاهية، والبرمجة الخاصة بآلات تصوير العصر الحديث، وأيضًا المزايا التي تُتيح للمرء نَسْخ وترتيب النسخ المصورة وتكديسَها، وتجليدَ الورق بسلك وتدبيسه بالدبابيس المعدنية وتخريمه؛ فإن التكنولوجيا التي تكمن وراء ذلك لهي غاية في الدقة. والمبدأ الرئيسي الذي تقوم عليه عملية التصوير هو التجاذب الإستاتيكي للشحنات.
وتُعتبَر أجزاء ماكينة التصوير مألوفةً لكلِّ مَن استخدم هذه الآلة بأي قدر؛ لأن كلَّ من استخدم هذه الماكينة تعرَّض يومًا ما لمشكلة انحشار الأوراق، وتعيَّن عليه أن يَفتح الماكينة من أجل إزالة الورق المحشور، وإذا كنت بطريقة ما لم تتعرَّض لهذه الخبرة، فاذهَب ببساطة إلى إحدى الماكينات، وافتحها لتتعايش مع أجزاءِ عملها الداخلية: نجد داخل آلة التصوير أسطوانة تُسمَّى الدرام تلفُّ حول محور ثابت، ومصدرًا ضوئيًّا متحركًا، وحبيبات دقيقة من بودرة سوداء هي حبر مجفَّف، ومصدر تسخين، ونظامًا محكمًا للبكرات.
أول خطوة في عملية النسخ هي اكتساب الأسطوانة لشحنة إلكتروستاتيكية متساوية وموزَّعة، وتَزيد الطريقة المستخدَمة في ذلك في براعتها قليلًا عن الطريقة التي تكتسب بها الملعقة شحنتها الكهربية الإستاتيكية في تجرِبة الساحرة والماء، لكن الفارق في الروعة بين الطريقتَين هو فارق طفيف، فعن طريق هذه الشحنات الإستاتيكية، تستطيع الأسطوانة أن تجذب مسحوق الحبر، تمامًا مثلما جذبت الملعقة الماء في تَجرِبة الساحرة والماء، لكن إذا كانت هذه هي آخرَ خطوة، عندئذٍ ستكونُ الورقة الناتجة ورقة سوداء تمامًا، وهو ما لا نَرْغب فيه بالطبع، ولإتمام عمليَّة التصوير يمرُّ ضوء ساطع جدًّا وقويٌّ تحت الورقة لكي تُصوَّر.
ويُستخدَم الضوء لأنه يتفاعل مع المادة بطريقة مستمرَّة كما سنرى، ففيلم الكاميرا يتفاعل مع الضوء ليُكَوِّن الصورة، وتُسجل أجهزة الاستشعار الرقمية مستوياتِ الضوء في الكاميرا الرقمية، ويكتشف المجسُّ الضوئي وجودَ شخص في شعاع الضوء، فيسمح للباب بأن ينفتح، ويُمتصُّ الضوء عندما يَصطدِم بجزء مُظلِم من الورقة، لكن عندما يَصطدم بجزء أبيض من الورقة ينعكس الضوء على الأسطوانة، والمادة المبطَّنة للأسطوانة مادة موصلة للضوء بمعنى أن الضوء سيجعل المادة الداخلية تطرد إلكترونًا، وكلما طُرِدَ إلكترون من داخل الأسطوانة تعادل مع الشحنة الإستاتيكية الموجودة على سطح الأسطوانة في هذه البقعة فحَسْب، ويتزامن دَوران الأسطوانة مع حركة الضَّوء تحت الورقة؛ ومن ثَم تنتقل الصورة المسطحة إلى السطح المنحني للأسطوانة.
وتقذف الأسطوانة المعرَّضة للضوء بالحبر بعد ذلك، فينجذب إلى أجزاء الأسطوانة التي لا تَزال مشحونة، عندئذٍ تُمرَّر قطعة من الورق ذات شحنة إستاتيكية فوق سطح الأسطوانة، فتجذب الحبر بعيدًا عن الأسطوانة، وتُسخَّن الورقة لِيثبت الحبر عليها، فنحصل على صورة من الورقة.
وإذا كان المبدأ وراء فكرة آلة تصوير الورق — وهو انجذاب المواد إلى الشحنات الإستاتيكية — مبدأً أساسيًّا ومفهومًا جيدًا، فلماذا إذن استغرَق كل هذا الوقت لإنتاج آلة تصوير مستندات عملية؟ الإجابة هي الإجابة نفسُها التي تُصاحب مثل تلك النوعية من المخترعات، والتي تتمثَّل في أن المفهوم الأساسي موجود منذ وقت طويل قبل وجود المواد اللازمة لتنفيذ الفكرة. فعلم المواد هو فرع من فروع المعرفة قائمٌ بذاته، ويَرجع ذلك إلى الوجود الفعلي إلى عدد لا نهائي من الخواص المتنوعة للعناصر وللمواد المشتقة من هذه العناصر. فعلى سبيل المثال، فكِّر في التنوُّع الذي يُظهره سلوك عُنصرَي الألمنيوم والنُّحاس (كلاهما يستخدم في الأسلاك الكهربائية)، ومسامير الصلب والمسامير المطليَّة بالخارصين (كِلاهما يُطرَق من على الرأس). وسنعرض في الفصل التالي الاختلافات على الجدول، ونقصد بالطبع الجدولَ الدوريَّ للعناصر.