إنه غاز
الكيمياء يا مدام فرانسوا … تركيب الأسمدة، وتخمير السوائل، وتحليل الغازات، وتأثير الأبخرة العفنة التي تخرج من المستنقعات — أقول لك إن كل هذا ليس سوى كيمياء. هذا كل ما هنالك.
وحتى يتسنَّى لنا أن نصف تصرف عينة من الغازات، نحتاج إلى أربع وصفات رئيسة: درجة حرارة الغاز، وضغط الغاز، والحيز الذي يشغله الغاز (الحجم)، وكم الغاز، وغالبًا يُعبَّر عنها بعدد المولات أيًّا كان الغاز الموجود. على سبيل المثال، إذا قلنا إن لدينا مولًا من غاز معين عند درجة حرارة ٢٥ درجة سيليزية (٧٧ فهرنهايت) وكان حجم الغاز ٢٢٫٤ لترًا (ما يقرب من ستة جالونات) تحت الضغط المحيط، فإنه سيكون لديك كلُّ المعلومات التي تحتاجها للتنبؤ بسلوك هذا الغاز في حال تغير الضغط أو درجة الحرارة. وتُعتبَر هذه المعلومات ضرورية للمهندسين الكيميائيين والغواصين الذين يتعمَّقون في أغوار البحار وحتى لصنَّاع الخمور، فأحد نواتج عملية التخمُّر هو غاز ثاني أكسيد الكربون وإذا لم يُتحكَّم في هذا الغاز على نحو جيد، فإن اندفاع السدادة يكون غير مقصود.
يمتاز الغاز بضغطٍ لا بأس به، وقد حطَّم ضغط الغازات التي تُحيط بالأرض، أي الغلاف الجوي، زجاجة الصودا. لم يتسنَّ تحطيم زجاجة الصودا عندما كانت ممتلئة، لكنها تحطمَت بسهولة عندما خُفِّف ضغط الهواء في الداخل. إذن لماذا لا نتحطم نحن عندما نقوم بعملية الزفير؟ لماذا لدينا المقدرة على الوقوف مُنتصبي القامة؟ السبب هو أن ضغط الهواء يضغط علينا في كل الجوانب بالتساوي، فإذا كان الضغط على قمة رءوسنا فقط، فعندئذٍ تكون لدينا مشكلةٌ بالفعل. يُمكن تطبيق نفس المبدأ على أنبوبة معجون الأسنان، حيث لا يُمكنك الحصول على المعجون إلا عندما تضغط على منتصف الأنبوبة أو قاعِها، أما إذا ضغطت بالتساوي على فتحة الأنبوبة وقاعها، فإن معجون الأسنان يظلُّ داخل الأنبوبة.
ويُمكن شرح منشأ الضغط الذي يُظهِره الغاز، وكذلك التفاعل بين المتغيرات التي هي الضغطُ ودرجة الحرارة والحجم وعدد المولات، عن طريق نظرية تُسمَّى «النظرية الحركية لجزيئات الغازات»، والافتراض الأساسي الذي تقوم عليه هذه النظرية هو أن الغازات تتألَّف من جُسيمات منفردة (ومن ثَم هي جزيئات)، ويكون لهذه الجسيمات حركةٌ ثابتة (مثل تلك التي في الفن الحركي). ومن الممكن أن نفهم جيدًا الكيفية التي تُشرَح بها هذه النظرية خواصُّ الغازات إذا جرى مقارنة خواصِّ الغازات بخواص مجموعة أخرى من الجسيمات في حالة حركة دائمة: سِرْب من البعوض.
لم يكتشف روبرت بويل — فيلسوف الطبيعة الإنجليزي في القرن السابعَ عشر — العلاقة التي أصبحت معروفةً فيما بعدُ قانونًا يحمل اسمه فقط، بل إن أبحاثه كانت تُؤكِّد الملاحظات التي أوردها الآخرون، إلا أنه أدرك المغزى من هذه الحقائق ووضَعها بحماس أمام ناظِرَي زملائه العلماء، وكان حماسه مبرَّرًا تمامًا، فلقد زحزح بهذه العلاقة الكيمياء من عالم السحر، مؤسسًا إياها كعلم كمي؛ أي علم معادلات ومقاييسَ وقوانين راسخة مثل قوانين الرياضيات.
وكان جاي لوساك قائدَ منطاد هواء ساخن أيضًا. وفي إحدى المرات، تخلص من كرسيٍّ وبعض المعدات ليُخفِّف من حمل البالون حتى يتمكَّن من التحليق إلى ارتفاعٍ أعلى، وقد اكتشف فيما بعد أن مُزارعين متحيِّرين بالأسفل شاهدوا الكرسيَّ يسقط من السماء، وبسبب عدم وجود أي تفسير، كان عليهم أن يُرجِعوا الأمر إلى فعل إلهي، بشيء من المزاح. وقد أثبت لوساك عن طريقِ تَجارِبَ عملية عددية أن حجم الغاز يتمدَّد بارتفاع درجات الحرارة وهو يتمدَّد بنِسَب طردية؛ بمعنى أنه إذا تضاعفت درجة الحرارة يتضاعف معها الحجم، وإذا قلَّت درجة الحرارة إلى المنتصف يقلُّ الحجم إلى منتصفه، وهو أمر معقول حيث إن قائد المنطاد الذي يعمل بالهواء الساخن هو الشخص الجدير بوصفِ هذه العلاقة؛ لأن هذا هو المبدأ الفعال في عمل المنطاد الذي يعمل بالهواء الساخن، يتمدَّد الهواء الساخن، بمعنى أن نفس الكتلة تشغل حيزًا أكبر من الفراغ الذي كانت تشغله، وعليه تقلُّ الكثافة، وترتفع الفقاعات الموجودة في الهواء الساخن الذي يُوجَد في المنطاد في الغلاف الجوي شأنها في ذلك شأن الفقاعات التي تُوجَد في الماء المغلي.
ويصعب إثبات تمدد الغازات وانكماشها في مدًى مناسب من درجات الحرارة، أي في المدى من نقطة تجمُّد الماء إلى نقطة غليان الماء. إلا أن لوساك رأى أن العلاقة المصاحِبة يُمكِن قياسها؛ حقيقة أن الضغط يتزايد مع الحرارة. قِسْ ضغط إطار سيارتك في الصباح قبل القيادة إلى العمل، ثم بعد الوصول إلى العمل، ستجد أنَّ ارتفاع درجة حرارة الإطار (بسبب الاحتكاك بالطريق وبسبب الفرملة) قد سبَّب ارتفاعًا في الضغط. تعمل مُحرِّكات الديزل بنفس المبدأ، لكنها تستغلُّ الحجم لضبط درجات الحرارة. فالهواء مضغوط؛ لذا تُستخدَم حرارة الهواء المضغوط بشكل كبير في إشعال رذاذ الوقود.
ويُمكن شرح الضغط المتزايد للغاز عند تسخينه في ضوء النظرية الحركيَّة للجزيئات أيضًا، حيث تجعل الطاقة المضافة إلى عيِّنة غاز الجزيئات تدور بطريقةٍ أسرع، والدوران بشكل أسرع يُسبِّب حدوث تصادمات متوالية بشكلٍ أكثرَ وأعنف مع جوانب الحاوية مما يُسبب ارتفاع الضغط. ويُعتبَر التشبيهُ الذي استخدمناه من قبل بخصوص البعوض أقلَّ دقةً هنا، لكن ما من تشبيهٍ كامل، يُمكنك أن تتخيل أن البعوض يلفُّ بشكل أسرعَ في مناخ دافئ، وإذا كان يلف في وعاء فإنه كثيرًا ما سيرتطم بالوعاء.
لكننا نرغب في أن تلحظ أن العلاقات المذكورة قد تبدو إلى حدٍّ بعيدٍ غيرَ واقعية قليلًا حتى إن متغيرًا واحدًا فقط قد يتغيَّر في المرة الواحدة، حين يتغير الضغط أو درجة الحرارة أو عدد المولات أو الحجم. وبالتأكيد، يندر جدًّا أن يكون هذا هو الحالَ في الواقع، حيث يتغير الضغط والحجم ودرجة الحرارة في الوقت نفسِه، أو يزداد عدد المولات في حين يتغير كلٌّ من درجة الحرارة والضغط أيضًا. ولحسن الحظ يُمكِن دمج التأثيرات المتنوعة في معادلة واحدة مباشرة، تُحسَب فيها كافة المتغيرات التي هي درجة الحرارة والضغط والحجم وعدد المولات. والمعادلة التي تتمكَّن من عمل توازن للتأثيرات تُسمَّى «المعادلة المثالية للغاز»، وبهذه المعادلة يتسنَّى لنا بشكل طبيعي أن نُقدِّر جيدًا المتغير المفقود، مثل الحجم إذا كان لدينا درجة الحرارة والضغط وكمية الغاز.
(الضغط × الحجم)/(درجة الحرارة × عدد المولات) = قيمة ثابتة
تنصُّ هذه المعادلة على أن نسبة حاصل ضرب الضغط × الحجم على حاصل ضرب درجة الحرارة في عدد المولات؛ تظل ثابتة، حتى إن معرفة ثلاثة متغيرات تُساعد على التنبؤ بالمتغير الرابع. فعلى سبيل المثال إذا كان كلٌّ من درجة الحرارة والحجم والضغط معروفًا لدينا، فإننا يُمكِننا أن نحسب كمية الغاز.
ونقول إن معادلة الغاز المثاليةَ هي التي تُوفر نسبة تقديرية، لأن هذه المعادلة «مثالية»؛ بمعنى أن المثالية قد أُضفيت عليها، وليس بمعنى أنها أفضلُ معادلة ممكنة، والمثالية هي تجاهل القوى البينجزيئية. في حقيقة الأمر، ستأتي قوى الجذب البينجزيئية إلى المشهد في لقطة ما مُسببةً انحراف الغاز عن تصرفه المثالي. وقد يتكثف الغاز تحت الضغط، ويدفع الضغط الجزيئات إلى تقارب كافٍ حتى تقوم قُوى الانجذاب بممارسة تأثيرها. من ناحية أخرى، إذا كان الضغط كبيرًا جدًّا، فقد ينضغط الغاز أقلَّ من المتوقع حيث إن قوى التنافر تعزل الجزيئات، لكن هذا جيد؛ فالانحراف عن قانون الغاز المثالي يذكرنا بأن الغازات تتألف من نقاط ساكنة هندسية، بل من موادَّ حقيقية لها شكل وحجم، وقدرةٌ على الالتصاق … بل ورائحة أحيانًا.
على سبيل المثال: غازات البطن
افترض أنك اشتريت أدوية مقللة لغازات البطن، فقد يكون من المثير للاهتمام أن تلحظ بعض خصائص وتصرفات غازات الهضم التي نُحاول أن نكبح جماحها.
تنتج غازات البطن في الأمعاء عن طريق البكتيريا والفطريات التي تعيش هناك، وكما سنكتشف على نحو أكثرَ تفصيلًا في أثناء خوضنا في غمار الكيمياء الحيوية أن هذه البكتيريا والفطريات ضرورية؛ ذلك لأن أجسادنا البشرية لا تحوي المعدَّات الكيميائية الضرورية لكي تُحلل بعض السكَّر المركب الموجود في الطعام مثل الفول والبسلة. من ناحية أخرى تتمتع هذه البكتيريا والفطريات بالمقدرة على تحليل هذه الأطعمة، لكنها عندما تقوم بذلك، يكون من أعراضها الجانبية هذه الغازات التي تحوي ثانيَ أكسيد الكربون والهيدروجين والميثان. هذه الغازات هي بلا رائحة في حد ذاتها، لكنها تلتقط في رحلتها عبر الأمعاء القليلَ من الشوائب، بما فيها بعض المركبات المحتوية على الكبريت ذي الرائحة الكريهة. ويُعتبَر الميثان مادة قابلة للاشتعال؛ لذا بالفعل تُعتبَر بعض غازات البطن قابلةً للاحتراق، لكن الأسطورة الأخرى القائلة إن الغازاتِ القابلةَ للاحتراق يُمكنها أن تبعث إشعاعاتٍ ضوئيةً داخل الأمعاء؛ غير صحيحة. وكما لاحظنا، يتطلب الاحتراق وجودَ الأوكسجين، أما الغازات التي لا تزال داخل البطن فهي ممنوعة نسبيًّا من الأوكسجين، ولكن حتى إذا أُزيلَت الومضات الضوئية من المعدة باعتبارها أمرًا خطيرًا، فالفكرة القائلة بمحاولة إشعال غازات المعدة فكرة سيئة، والعوائق واضحة.
إلا أن الأمر الوثيق الصلة بمناقشتها الحاليَّة هو لماذا تخرج غازات المعدة على أي حال؟ تُفيدنا الخبرة الشائعة أن الحالة الغازية تكون أقلَّ كثافةً من الحالة السائلة وأن فقاعات الغاز تخرج خارج المواد شبه السائلة، وتُؤكد مرة أخرى مناقشتنا حول خواص الحالة الغازية هذه الفكرة، إلا أنه يبدو أن غازات الأمعاء تنتقل في الاتجاه المعاكس.
وسبب هذا السلوك المعاكس هو حدوث التمعُّج (الحركة الدودية للأمعاء) هو فعل التقلُّص الذي تقوم به الأمعاء وهي تدفع ما بداخلها نحو الخارج. يُثار فعل التمعُّج بالأكل أو الشرب مما يُسبب خروج الغازات مباشرة بعد الأكل حتى إذا كانت الوجبة الحالية لا تزال داخل المعدة في مراحل هضمها الأولى، وإذا تمكَّن أحد الغازات من التسلل في عكس اتجاه عمل التمعج، فإن الانحناءات والالتفافات الكثيرة داخل الأمعاء تعمل على الحيلولة دون تقدم سيره، ولكن عندما يستلقي الفرد على ظهره، تبطل قضية الاتجاهات مما قد يُسبب خروج الغازات مباشرة بعد الاستيقاظ.
ومن الممكن إيجاد وسائل مساعدة على الهضم يُمكنها أن تُقلِّل من كمِّ الغازات المنتَجة (سوف نرى كيف تعمل هذه الوسائل لدى تناولنا لهذا الموضوع مرة أخرى في أثناء مناقشتنا للكيمياء الحيوية). ومن الممكن أيضًا تجنُّب الغازات الزائدة عن طريق الابتعاد عن الأطعمة المسببة لها، مثل الأرز والمكرونة والبطاطس والفول والبازلاء. كل هذا التجنب ليس من أجل الصحة، لكن من أجل السلوك الاجتماعي اللائق؛ حيث تُعتبَر رائحة الغازات التي تتنوع بتنوع الأكل المهضوم شيئًا مُحرجًا في ثقافات عديدة، ويُعتبَر الصوت الذي يتحرك على حد سواء مثل الغاز عبر الأمعاء ثم عبر المخرج، شيئًا بذيئًا، لكن ليس هناك مجال للربط بين الحالات المرَضية والغازات الزائدة، في حقيقة الأمر قد يكون العكس صحيحًا؛ لذا فمن المحتمل ألَّا يكون صحيًّا أن تُحاول أن تكتم الغازات المعوية. عمومًا، يُعتبَر خروج الغازات علامة على أن الأمعاء تعمل جيدًا، وهو أمر جيد أن تعرفه.