عندما تُسخَّن المواد
أنت تعي جيدًا أن المركبات الكيميائية موجودة … تلك المركبات التي بمساعدتها يُمكنك الكتابة على … ورق … ومن ثَم لا تُصبح الأحرف مرئية إلا عندما تخضع لتأثير النار. فالعملة المغموسة في الماء الملكي والمخففة بأربعة أضعاف وزنها ماء، تُستخدَم أحيانًا، وتُنتج لونًا أخضر خفيفًا. والكتل المعدنية المُشكلة تحت الخبَث عند صهر الكوبالت، التي تذوب في كحول النترات تُعطي اللون الأحمر. وتختفي هذه الألوان على فترات زمنية متباعدة أو متقاربة بعدما تبرد المادة المكتوب عليها، إلا أنها تظهر مرة أخرى عند إعادة التسخين … أنا أفحص الآن الجمجمة بعناية. إن حوافها الخارجية — حواف الرسم الأقرب من حواف الورق — مميزة أكثر من غيرها. لقد كان واضحًا أن فعل السيل الحراري ناقص أو غير متكافئ.
لقد كان جانب التدريس العملي الذي اطلع عليه فيما بعد بفضول كبير للغاية، دورةً دراسية في الكيمياء التي تعلَّم منها عددًا من النظريات التي شوشت ذهنه مدى الحياة.
لقد استعنَّا باقتباس من كتاب إدجار آلان بو؛ لأنه يُشير إلى «السيل الحراري» وهو الاسم الذي كان يُطلَق على الحرارة عندما كان لا يزال يُعتقَد بأن الحرارة مادة، ويُلمِّح الاستشهاد أيضًا إلى «تأثير النار». وقد ألحقنا الاقتباس الثاني؛ لأن «الديناميكا الحرارية» التي تختص بفَهم واستخدام تأثير النيران، يشوبها سمعة سيئة بأنها تُشوش الأذهان، لكن فهمها حقًّا يستحق العناء؛ فالديناميكا الحرارية تتضمن نظريةً غاية في القوة تُمكن الكيميائيين من أن يتنبَّئوا هل سيحدث التفاعل الكيميائي، وإلى أي مدًى سيحدث، وكمية الطاقة المنطلقة أو المستهلكة أثناء حدوث التفاعل، كل هذا قبل خلط مواد التفاعل معًا؛ ذلك لأن بعض التفاعلات تُطلِق طاقة كافية لصهر المعادن؛ لذا من الجيد أن نعرف كمَّ الطاقة لنتوقع ذلك قبل بدء التجريب العملي. ثمة تفاعلات أخرى تبدو جيدة من الناحية النظرية، لكنها لا تتفاعل سوى بقدر محدود في المختبر. وجيدٌ أن نعرف هذه المعلومة أيضًا قبل الخوض في بحث عميق في مشروع ما.
وبسبب وجود قوة التنبُّؤ التي تمنحها الديناميكا الحرارية، تحظى نظرية الديناميكا الحرارية بمكانة بارزة في دراسة الكيمياء، ويُمكن تلخيصُ آلية الديناميكا الحرارية في ثلاثة مفاهيم: الطاقة، والأنتروبيا، والطاقة الحرة. وسوف نبدأ بالطاقة ونُكمل على ذلك.
يقوم فهمنا لطاقة الجزيئات على النموذج الجزيئي للمادة الذي يَفترض أن جميع المواد في حالة حركة مستمرة. يبدو للوهلة الأولى أنه لا يُمكن تصديقُ هذه الفكرة؛ ذلك لأن ثمة ملاحظاتٍ عديدة في حياتنا اليومية تُخبرنا بأن بعض المواد هي موادُّ صلبة وثابتة وراسخة، فمن الصعب أن نُقرَّ أن رصيف الشارع المصنوع من الأسمنت، يكون على المستوى الجزيئي في حالة التواء مثل تلك التي تُصيب مجموعة من الديدان المتهيجة داخل علبة، لكنها تكون كذلك الفعل. يصلح نموذج الجزيئات التي تكون في حالة حركة جيدة لشرح لماذا تتصرف الغازات والسوائل بطريقتها هذه، ويسمح أيضًا للأسمنت بأن يسلك الطريقة التي يسلكها.
فعليًّا، لا يصلح النموذج إلا عندما نُقر بثلاثة أنماط مختلفة للحركة على الأقل، هذه الأنماط: هي الحركة الدورانية، والاهتزاز، والحركة الانتقالية. والحركة الانتقالية هي حركة خط مستقيم مثل السير في خط مستقيم بعرض الغرفة، والحركة الاهتزازية هي المقابل الجزيئي للتلويح بذراعَيك لأعلى ولأسفل. والحركة الدورانية هي المقابل الجزيئي للدوران السريع في المكان حول محور، ربما مثلما يفعل المتزلج على الجليد. ولا تُتاح كلٌّ من الحركة الاهتزازية والحركة الدورانية إلا للجزيئات، فهي غير متاحة للذرات؛ ذلك لأن الحركة الدورانية والاهتزازية تتعلق بمركزٍ تُحدده العناصر المترابطة.
وترجع أهمية أنماط الحركة هذه إلى أن الطاقة المُضافة إلى مجموعة من الجزيئات تُوزِّع نفسها بين الأنماط المتعددة للحركة، ويُمكِن استخدام قنديل البحر كتشبيه لذلك. عند وغز قنديل البحر، فإن قنديل البحر لن يرتجف محدثًا حركة اهتزازية عنيفة فقط، بل إنه يدور في مكانه كأنه يدور حول محور أيضًا. وفي عينة معينة، يُسمَّى مجموع متوسط الطاقة المعبَّر عنها في كل نمط «الطاقة الداخلية». كل جزء ضئيل من المادة له مقدار من الطاقة الداخلية، حتى إذا كان غاية في البرودة. تذكر أن مقياس كلفن للحرارة يُحدد نقطة طاقة الصفر المطلَق، التي تُسمى «الصفر المطلق»، لكن هذه النقطة ما هي إلا مجرد حد نظري يستحيل الوصولُ إليه عمليًّا.
وتُعَد درجة الحرارة مقياسَ الطاقة الداخلية للشيء، إلا أن استخدام درجة الحرارة كمقياس للطاقة الداخلية يفترض أن الطاقة موزَّعة على نحو متساوٍ بين الأنماط المتعددة للحركة، ويُعَد هذا الافتراض غايةً في الضرورة؛ ذلك لأن درجة الحرارة هي بالفعل المقياس الوحيد لأحد أنماط الحركة، وهو نمط الحركة الانتقالية. يسجل الترمومتر الطاقة المنتقلة إليه من الجزيئات التي تضرب سطحه، وثمَّة مواقف لا تُوزَّع فيها الطاقة المضافة بالتساوي على كل أنماط الحركة. وفي هذه الحالات من الممكن أن تُضاف الطاقة دون إحداث تغيير في درجة الحرارة، ويُعتبَر غليان الماء مثالًا حيًّا على ذلك، حيث تُضاف الطاقة لكن الطاقة المضافة تتجه إلى تحرير الجزيئات من قوى التجاذب البينجزيئية؛ ومن ثَم يُمكنها أن تنتقل إلى الحالة الغازية، فنجد أن الترمومتر الذي يُوضَع في وعاء به ماء في درجة حرارة الغرفة يُسجل تغييرًا في درجة الحرارة؛ لأن الطاقة تُضاف من الموقد وحتى الوصول إلى نقطة الغليان، ثم تستمر الطاقة المضافة في غلي الماء، لكن تظل درجة الحرارة ثابتة عند ٢١٢ درجة فهرنهايت (١٠٠ درجة سيليزية).
وعندما تُوضَع مادتان في وضع اتصال حراري، تتدفق الحرارة من المادة ذات الطاقة الأعلى إلى المادة ذات الطاقة الأقل، حتى يصل الاثنان إلى نفس المستوى من الطاقة. وتدفُّق الطاقة هو ما يُطلَق عليه من الناحية الفنية مصطلح «حرارة»، مع أنه في أي حديث عرَضي يُمكِن أن يُستخدَم المصطلح على نحو أوسع، فعلى سبيل المثال، عندما نشعر بالبرد، نطلب من أحدهم أن يرفع درجة الحرارة، في حين أننا ينبغي أن نطلب منه أن يرفع درجة الطاقة الحرارية؛ فالحرارة هي الطاقة التي يجري تبادلها، والتي تتدفق من إحدى المواد إلى الأخرى أو التي تنتقل إلى المادة عبر الأشعة مثل أشعة الموجات الميكروية القصيرة ومثل أشعة الشمس؛ ولهذا نحن لا نُخطئ القول عندما نقول إننا نشعر بالحرارة الآتية من الشمس أو نشعر بالحرارة عند لمس زجاجةٍ بها ماء ساخن؛ لأنها تُعتبَر طاقة منتقلة إلى بشرتنا.
يُعتبَر العمل أيضًا نوعًا من انتقال الطاقة، فعندما تعمل في نظام فإنك تُعطي هذا النظام الطاقة على حساب طاقتك أنت الخاصة، ويُمكِن أن يأخذ العمل عدة أشكال؛ يُمكنك الضغط على النظام (فيُمكن أن يُسبِّب نفخ إطار عجلة في ارتفاع درجة حرارتها)، ويُمكنك أن تبثَّ تيارًا كهربائيًّا عبر النظام (ينبغي تبريد أجهزة الحاسب الآلي حتى لا ترتفع درجات حرارتها)، ويُمكنك أيضًا أن تستخدم الكيمياء للقيام بالأعمال، بعض الأمثلة على استخدام الكيمياء في القيام بالأعمال هي حرق البنزين لتشغيل السيارة أو هضم المواد الكيميائية التي نُسمِّيها الطعام؛ حتى يتسنى لأجسامنا القيام بالأعمال كافَّة.
نحن نستخدم الكيمياء للقيام ببعض الأعمال أو نقل الطاقة، يا ترى، من أين تأتي الطاقة اللازمة للقيام بمثل هذه الأعمال؟ تأتي هذه الطاقة من كسر روابط كيميائية وبنائها.
يبدأ تَكوُّن الرابطة عندما تتحد ذرتان معًا، وإذا كانت الظروف مواتيةً لحدوث الترابط — الظروف التي تتضمَّن رغبة كل ذرة في المزيد من الإلكترونات أو القدرة على منح إلكترونات — تُعيد الإلكترونات ترتيب نفسها في مدارات جزيئية بدلًا من مدارات ذرية منفصلة، وعندما يحدث هذا تنخفض طاقة النظام. وتُعتبَر الأقطاب المغناطيسية خيرَ تشبيه لذلك، فإذا اقترب قطبان مغناطيسيان مختلفان بعضهما من بعض، فإن الأمر يتطلب قدرًا من الطاقة حتى يحول دون ارتباطهما معًا، في حين أنه يقلُّ القدر المطلوب من الطاقة حتى نترك لهما العِنان في الانجذاب بعضهما إلى بعض، هكذا يكون الأمر مع الذرات التي ترغب في الارتباط. تكون الطاقة أقلَّ عند ارتباطها بعضها ببعض.
يقلل الارتباط طاقة الذرتَين المرتبطتَين معًا، لكنه لا يمحوها تمامًا، ربما تنجذب كل نواةٍ إلى إلكترونات الذرة، في حين تتنافر النواتان معًا؛ لأن كل نواة تكون مشحونة بشحنة موجبة؛ ومن ثم يضعف تشبيه الأقطاب المختلفة في هذه النقطة، فقد تستقر النواتان في موقف ترابط، لكنهما يكونان في حالة توتر مستمر فيما بينهما. وعندما يظهر موقف أكثر ملاءمة، تنكسر الرابطة وتتكوَّن رابطة جديدة، وفي بعض الأحيان تنطلق الطاقة الصافية، وفي أحيانٍ أخرى تنقص الطاقة الصافية، ويُطلَق على التفاعل الذي تنطلق فيه الطاقة «تفاعل طارد للحرارة»، ويُطلَق على التفاعل الذي يحتاج إلى وجود حرارة «تفاعل ماص للحرارة».
دعونا نُلخِّص الأمر في بضع كلمات، نحن نعني في جوهر حديثنا أن الطاقة الداخلية لمجموعة من الجزيئات أو الذرات هي مجموع (١) الطاقة الدورانية، و(٢) الانتقالية، و(٣) الاهتزازية، ويُمكن أن يتغيَّر مقدار الطاقة الداخلية التي يحويها نظام بالحرارة. يُمكن أن تُضاف الحرارة إلى نظام أو تُطرَح منه بطرق عديدة، لكن الطريقة التي تُهمنا هنا في المقام الأول هي طريقة التفاعلات الكيميائية. عندما يُطلِق تفاعل كيميائي حرارة، يُسمَّى «تفاعل طارد للحرارة»، وعندما يمتص تفاعل كيميائي الحرارة يُسمَّى «تفاعل ماص للحرارة».
والآن نُضيف معلومةً جديدة وهي أن الجزيئات والذراتِ تتسم بالكسل، فتميل كلٌّ من الجزيئات والذرات إلى تقليل طاقتها متى سنحَت لها الفرصة، فكرة البولنج تنحدر إلى أسفل المنحدر، والقارب يعوم في اتجاه مجرى النهر، والجزيئات تستقر في أدنى ترتيب للطاقة يُمكنها أن تكون عليه.
لكن لنا هنا وقفة؛ فالجزيئات تميل إلى أن تكون في أدنى توزيع للطاقة ممكن لها، لكن قد لا يكون هذا أدنى توزيع ممكن للطاقة. لقد شرحنا في التجربة التي في مطلع هذا الفصل نوعَين مختلفَين من التفاعلات، أحدهما يطرد الطاقة والآخر يمتصها، وعندما يصل نظام كيميائي إلى أدنى مستويات الطاقة، فهو يطرد حرارة، ولا يحتاج النظام إلى طاقة إلا عندما يصل إلى توزيع أعلى للطاقة ولا يمتص النظام الحرارة من البيئة المحيطة به إلا عندما يكون هناك احتياج للطاقة، لكن التفاعل الذي امتص الحرارة حدث بتلقائية، من ذاته دون تدخل أي عوامل حفازة غير مواد التفاعل. والآن لدينا سؤال نود أن نطرحه: لماذا حدث ما سبق؟ وهل تخضع الأنظمة الكيميائية إلى قوانين مختلفة غير تلك التي تخضع لها كرة البولنج والقارب؟ هل المواد الكيميائية حرة بالدرجة التي تُمكِّنها من أن تصعد الجبال وأن تسبح ضد التيار؟
هذا السؤال ليس بالسؤال اليسير، ولقد دار بالفعل قدر لا بأس به من المناقشات عن طبيعة الحرارة طوال القرن الثامن عشر والتاسع عشر وحتى مطلق القرن العشرين، وترتبط الإجابة بشيء يُدعى «الإنتروبيا». والإنتروبيا هي ميل الأنظمة إلى الوصول إلى الحالة القصوى من الفوضوية.
المشروبات يختلط بعضها ببعض، والفوضى تعم المكاتب، وأوراق اللعب تُخلط بعشوائية بعضها في بعض، والإنتروبيا هي الميل الطبيعي للفوضوية. وتُعرف الإنتروبيا أيضًا بأنها الضريبة التي تدفعها البيئة، وأيضًا بأنها حكم الإعدام الصادر ضد الكون. في حين أن الإنتروبيا ما هي إلا تفسير فلسفي أو نظرة متشائمة، وهي دافع حقيقي يقود نحو العمليات الفيزيائية، ويكون له أهمية كبرى في تحديد مصير الكون.
وبتساوي جميع الاعتبارات الأخرى، يتحرك النظام نحو الحالة القصوى من الفوضوية، ولا تتسم الجزيئات والذرات بالكسل فحسب، بل بالفوضوية أيضًا. لماذا تسعى النظم نحو الحالة القصوى من الفوضوية؟ والإجابة، مع أنها استغرقت وقتًا طويلًا وكفاحًا مريرًا لاكتشافها، هي أن الحالة الفوضوية هي الشيء المحتمل في كل مكان.
وعادة يُمكِن تفسير الأمر بتشبيهه بمجموعة أوراق اللعب، ثمة طريقة واحدة لتوزيع أوراق اللعب بطريقة صحيحة ومنظمة في لعبة البريدج (لعبة من ألعاب الورق): وهي توزيع ثلاثَ عشْرة ورقة من النقش نفسِه، لكن ثمَّة ٦٤٠ مليار طريقة أخرى غير منظمة لتوزيع الورق. والمثير للدهشة أن احتمالية وجود الفوضوية أكبر بكثير من احتمالية النظام، وبطريقة ما يُمكِن النظر إلى هذه الحقيقة من منظور إيجابي، وهي أن كل شيء محتمل، لكن ليس محتملًا بنسبة كبيرة. وعلى مستوى الجزيئات نجد أنه من الممكن أن تتحرك جميع جزيئات كرسي في الاتجاه نفسِه وفي الوقت نفسِه، وقد يتحدى الكرسي الجاذبية ويقفز من فوق الأرض، لكن هذا مستبعَد تمامًا. من المحتمل تمامًا أن تظل حركة الجزيئات فوضوية، وكل حركة جزيء إلى أعلى تقابلها حركة جزيء إلى أسفل؛ لذا يظل الكرسي في مكانه. ويُعتبَر ميل الأنظمة إلى أن تُصبِح فوضوية وتظل فوضوية، قويًّا للغاية بدرجة تسمح له أن يُفسر — بالإضافة إلى اعتبارات الطاقة الأخرى — نتائجَ التفاعلات الكيميائية.
ويكون تأثيرُ الإنتروبيا في العمليات الفيزيائية وفي العمليات الكيميائية أيضًا هو تحفيز التفاعلات، وحتى في التفاعلات التي قد تتطلَّب الطاقة ضمن مدخلاتها. ويُعتبَر البخار السائل مثل بخار الماء والكحول من الأمثلة التقليدية على ذلك، ويُعتبَر الملمس البارد للجلد عندما يتبخَّر الماء أو الكحول دليلًا على أن هذه العملية تحتاج إلى طاقة. فالماء والكحول يمتصان بعض الطاقة من الجسم، إلا أن العملية تحدث بشكل أسهل كثيرًا، باستخدام مصطلح أقرته العلوم وهو يتناسب مع معنًى خاص ومحدود، وهو أن التفاعل يحدث تلقائيًّا، وتكتسب التلقائية معنًى أكثر دقة في الديناميكا الحرارية؛ لأنه بوجود آلية الميكانيكا الحرارية يُمكِن حصر وتحديد ميل التفاعل للحدوث تلقائيًّا بالأرقام، ويُطلَق على الرقم الذي حُدِّد «الطاقة الحرة».
ما هي الطاقة الحرة؟ الطاقة الحرة هي الطاقة الناجمة عن التفاوت بين الطاقة المكتسبة أو المفقودة في تفاعل كيميائي وبين الكمية المستعارة أو المستهلَكة بسبب الإنتروبيا. تُدوِّن الطبيعة، تمامًا مثل دفتر الشيكات أو بيان الميزانية، كمَّ الطاقة المفقودة أو المكتسبة وتخصم الضرائب المُستحَقة للإنتروبيا، وتُمثِّل الطاقة المتبقية رأس المال المتاح، أو كما نقول نحن في الديناميكا الحرارية الطاقة الحرة، وهي الطاقة الطليقة اللازمة لتنفيذ العمل. وقد ذكرنا أن إعادة تنظيم تلك للطاقة تحدث عند تكوُّن الروابط الكيميائية أو كسرها، لكن الأمر نفسَه يدخل في اللعبة عند حدوث انجذابات بينجزيئية أو كسرها. ويُعتبَر التبخير، وهو تحول السائل إلى الحالة الغازية، مثالًا على عملية تتطلَّب طاقة، لكنها لا تزال تحدث بطريقة تلقائية بسبب اكتساب الكثير جدًّا من الإنتروبيا. هل يُؤثِّر تمدُّد الغاز بالفعل؟ يُؤثر تمدد الغاز بالفعل في أسطوانة الاحتراق الداخلي للمحرك.
يُمكن رؤية السائل على أنه مجموعة أسماك أو سِرْب طيور؛ فالكلُّ يتحرك، لكن في وحدة وانسجام، فجميعُها تنطلق في طريق واحد أولًا، ثم تنعطف في طريق آخرَ معًا، ويكون كلٌّ منها في موقع في المجموعة، وهذا الموقع محدَّد له من قبل، ولا يختلف كثيرًا بتحرُّك المجموعة بأكملها معًا، إلا أن الغاز يُشبه سربَ بعوضٍ يطير في الجوار بشكل فردي وفي اتجاهات عشوائية، فتطير المجموعة حيث تحملها الرياح دون أن تستهدف اتجاهًا بعينه. يسهل علينا جدًّا أن نتنبَّأ بحركة سمكة واحدة من أحد أسراب السمك على أن نعرف اتجاه بعوضة في سربِ بعوض، كذلك يكون السائل أكثر تنظيمًا من الغاز. يتبخر الكحول من الجلد مسببًا تعطيلًا لقوى الجذب البينجزيئية، مما يتطلَّب قدرًا من الطاقة؛ لأن الكحول قادرٌ على اكتساب إنتروبيا بالتحوُّل إلى غاز.
ويُمكن أن تكون مثلُ هذه العملية التي تمتص الحرارة تلقائية إذا أحدثت قدرًا لا بأس به من الفوضى في نفس الوقت، ومن ناحية أخرى، إذا حدث استهلاك طاقة كافية، فإن التفاعلات التي تخلق التنظيم يُمكن أن تُدفَع للأمام، فالكعكة التي تكون صلبة ومنتظمة الشكل تُعَد من مخيض اللبن السائل غير منتظم الشكل بالإضافة إلى الحرارة.
يحدث التبريد في الثلاجة عندما يمتص المبرد المضغوط الحرارة ويتمدَّد؛ مما يعوق قوى الجذب البينجزيئية. جميعنا يألف صوت المبرد المُنساب عبر شبكة الأنابيب المصطفة خلف الثلاجة، وكذا صوت مِضخَّة الضغط الدائرة، لكن كيف يتسنى لهم أن يمنعوا فعل المبردات في المكان المخصص لإشعال السجائر بالسيارة؟ هل من خلال سلاسل الأنابيب الصغيرة جدًّا ومضخات الضغط المصغرة؟ ليس تمامًا، لكن بعض المبادئ الأساسية تظل كما هي.
على سبيل المثال: التبريد على الطريق
قبل أن نتعرض لموضوع التبريد على الطريق؛ دعونا نتطرق إلى المبادئ التي يقوم عليها التبريد المنزلي المألوف لنا. عندما يُسمَح للسائل أن يتبخر على الجلد، يُصبح الجلد أبرد. جرب هذا باستخدام الأيزوبروبيل. والتعرق هو المحاولة التي يقوم بها الجسم لكي يُبرد نفسه من خلال إنتاج سائل يتكثف على الجلد ويُلطفه. يمتص العرقُ الحرارة من الجسم ويستخدمها في كسر قوى الجذب البينجزيئية التي تحمل المواد في الحالة السائلة. ووضع وعاء به ماء يغلي على موقدك، يخوض في التأثيرات نفسِها التي يمر بها المبرد الذي في ثلاجتك؛ إذ تظل درجة حرارة الماء المغلي ثابتة عند درجة ٢١٢ فهرنهايت (١٠٠ درجة سيليزية) (على افتراض أنك في مستوى البحر)؛ لأن الحرارة المُضافة من الموقد تكسر قوى الجذب البينجزيئية لجزيئات الماء، ولا تزيد الطاقة الانتقالية. في واقع الأمر، يتسبب وعاء الماء في تبريد الموقد نفسه عن طريق تبديد الحرارة، ويُمثل المضيُّ قدمًا في هذه العملية حاجةَ السائل المنظم إلى الفوضى بتحوله إلى بخار.
وفي الواقع، يَستخدم سائل النيتروجين المبدأ نفسَه لإزالة الثآليل الصغيرة. وكما ذكرنا من قبل في مناقشتنا حول القوى البينجزيئية، يحدث الانجذاب بين الأقطاب الثنائية الاستقطاب المُستحثة، وقوى التشتت بسبب توزيعات الإلكترونات المؤقتة غير المتساوية في السحب الإلكترونية التي تنتج مناطق موجبة وسالبة سريعة الانقضاء. يتكون النيتروجين من نواتَي نيتروجين متحدتَين معًا — ولا تملك الإلكترونات مبررًا لتفضيلها نواة نيتروجين واحدة في الجزيء على الأخرى — ومن ثم لا تُعتبَر القطبية الثنائية — وهي الانفصال الدائم للشحنة الموجبة والسالبة — من سمات جزيئات النيتروجين. وعند تبريد النيتروجين وضغطه يتحول إلى الحالة السائلة بسبب جذب قوى التشتت وحدها، لكن لهؤلاء الذين شعروا ببرودة سائل النيتروجين، لا يُمكن أن يترك الألم أيَّ شك فيما يخص تأثير هذه القوى؛ فالطاقة التي تُمتَص من الجلد عندما يتبخر سائل النيتروجين تُسبب صقيعًا شديدًا يُصيب الجلد بما يكفي لقتل هذا الجزء من الجلد، وإذا كان هذا الجزء من الجلد هو الذي يحوي الثألول الصغير، فإن الثألول يتلاشى.
والسائل الذي يتدفق عبر الملفات التي تُوجَد خلف الثلاجة يُزيل الحرارة من الداخل على المنوال نفسِه. في الواقع، يمتص المبرد المُستخدَم في الثلاجة قدرًا كبيرًا جدًّا من الحرارة حتى إنه يستطيع أن يُجَمِّد الجلد، ويُضغَط الغاز عن طريق آلة، ثم يُسمَح له بالتمدد عبر الملفات، تُدار عملية الضغط بمحرك كهربائي، وتكون عملية التمدد مدفوعة بالإنتروبيا؛ فالحالة الغازية تكون أكثر فوضوية من الحالة السائلة.
ومع أن عملية التبخر تكون مدفوعة بالإنتروبيا، فإنها لا تزال في حاجة إلى طاقة كي تحدث؛ ومِن ثَم فهي تمتص طاقتها من الأشياء المحيطة بها؛ وبالتالي تبرد الأشياء المحيطة بها في هذه العملية، تُجمَع المادة المبردة ويُعاد ضغطها إلى سائل، ويَطرد السائل المعاد ضغطه الحرارةَ التي سحبها من الثلاجة، والتي تكون سبب الحرارة التي نشعر بها خلف الثلاجة، بعد حدوث عملية الضغط، تُعاد الكَرَّة من جديد.
لكن لا يُوجَد ضجيج ناتج عن مكبس التبريد الموجود في السيارة، إذن لماذا؟ يُعزى ذلك إلى شيء يُسمَّى «تأثير بلتير للكهرباء الحرارية»، الذي يُمكِن شرحه أيضًا في ضوء الديناميكا الحرارية كالآتي:
تسمح بعض أشباه الموصلات بمرور الإلكترونات بشكل أسهل من غيرها، وعليه عندما ترتبط أي مادتَين مختلفتَين من أشباه الموصلات في دائرة كهربية، فإن الإلكترونات تمر بحالة من تغيير الطاقة، وهي تعبر من أحد أشباه الموصلات إلى الآخر. عندما تقفز الإلكترونات من إحدى موادِّ أشباه الموصلات إلى مادة جديدة من أشباه الموصلات — ثم تعود مرة أخرى إلى المادة الأولى — فإن إحدى القفزات الإلكترونية هذه تكون مع التيار والأخرى تكون ضد التيار. تحتاج إحدى القفزات إلى طاقة، في حين تُطلق أخرى طاقة. من أين تأتي الإلكترونات بهذه الطاقة؟ ولماذا لا تُبتلَع في الطريق عبر الوصلة حيث تنطلق الطاقة؟ هذا هو ما يحدث في المقام الأول: فالطاقة تتدفق، وتسخن إحدى الوصلات وتبرد الأخرى، إذا كانت الوصلة الساخنة خارج الصندوق المعزول والباردة داخله، فهنيئًا مريئًا، أنت تملك ثلاجة.
وتتعدد استخدامات الديناميكا الحرارية في الكيمياء، كما تتعدد الثلاجات، لكنها مفيدة على نحو فريد في فهم توازن الحالة، بالإضافة إلى مفهوم التوازن الكيميائي الهام؛ لأن التوازن الكيميائي يتضمَّن توازن الحالة، وسنُلقي نظرة على توازن الحالة أولًا، والحالة قبل التوازن.