طور جديد تمامًا
في الأسابيع التي أمضيناها معًا، أضحى هوبر رمزًا للشاب الإنجليزي؛ لذا كلما قرأت بعض الأقوال العامة التي تُنادي بما يتعين على الشباب فعله في المستقبل وما يدين به العالم للشباب، اختبرت هذه الجمل العامة باستبدال هوبر ومعرفة هل لا يزال الأمر يبدو معقولًا؛ ومن ثَم في الساعات المتأخرة وقبل البدء في السهر والعربدة، كنت أحيانًا أفكر مليًّا في شجاعة وصمود هوبر، وفي نزل هوبر، وفي اتحاد هوبر الدولي، ودين هوبر. لقد كان هوبر الاختبار الحامضي لكل تلك السبائك.
ولو كانت هذه هي كلَّ أحداث القصة، لكان هذا فصلًا قصيرًا ولكانت الكيمياء فقيرة، ولكن كما ذكرنا سابقًا، يلعب الضغط دورًا متمِّمًا في التصرفات الواسعة النطاق للمواد المختلفة، مما يُضيف بعدًا آخرَ على مناقشتنا، وفي عملية الخلط يجب أخذ التركيب أيضًا بعين الاعتبار، مما يُضيف عاملًا آخر. يُعلل الضغط لماذا يُعتبَر التزلُّج على الجليد ممتعًا في حين لا يُعَد التزلج على الجليد الجاف (ثاني أكسيد الكربون المجمد) ممتعًا، وتتناول دراسة التركيب سبب تعفُّن البيتزا الجيدة. سنبدأ بالتزلج على الجليد ثم نتجه إلى البيتزا بعدها.
عندما يغلي الماء على الموقد، يحدث تغيير في حالته؛ إذ يتحول من سائل إلى بخار، والفقاعات هي جيوب من البخار تتكون في الماء وهو يتبخر، ويتساوى الضغط داخل الفقاعة مع الضغط الذي يضغط على الماء لأسفل، وإلا فما تمكنت هذه الفقاعات من الارتفاع فوق سطح الماء ولا تمكن الماء من الغليان. عندما يقل الضغط الواقع على سائل، يتمكن السائل من الغليان عند درجة حرارة أقل؛ لأنه لا يُشترَط أن يكون ضغط البخار داخل الفقاعة كبيرًا للغاية، ويُلاحَظ حدوث انخفاض ضئيل في نقطة غليان الماء في الارتفاعات الأعلى، مما يعني أن أقصى درجة حرارة للماء عند الغليان التام تكون أقل من ٢١٢ درجة فهرنهايت (١٠٠ درجة سيليزية)، وعند درجات الحرارة المنخفضة هذه، يستغرق الطعام وقتًا أطولَ لكي يُطهى جيدًا؛ لهذا السبب تُوصي بعض وصفات الطعام إتاحةَ وقت أطول لطهي الطعام، وفي درجات حرارة مرتفعة جدًّا.
وتُبين الطريقة التي يُؤثر بها الضغط في تغير الحالة بالحقنة الشرجية الموصوفة في «قائمة المشتريات والمحاليل». سخِّن قطعة قماش صغيرةً في ماء ساخن، واعصرها. أزِل الإبرة من الحقنة واسحب مقدارًا قليلًا من كحول الأيزوبروبيل إلى داخل الحقنة، ثم غطِّ بأحد أصابعك مكان الفتحة التي تُوضَع فيها الإبرة. لف قطعة القماش حول قمة الجزء الأسطواني الذي في الحقنة، في ذلك الحين اترك الطرف المسدود بأصبعك بحيث يتسنَّى لك ملاحظةُ تغير الحالة. اسحب لأعلى برفق مكبس الحقنة، مما يُنشئ فراغًا فوق الكحول، ويُقلل الضغط. ينبغي عليك أن تلحظ الأيزوبروبيل وهو يبدأ في الغليان من جراء الحرارة المنبعثة من قطعة القماش الدافئة فحسب.
نحن نُعايش كلَّ يوم مع الطقس عملياتِ تغير حالة المادة حتى لو لم تُمطر السماء أو لم يتساقط الجليد، فغالبًا يتساقط الندى في الصباح، وتتوقف النقطة التي يحدث عندها الندى، وهي درجة الحرارة التي تتكثَّف عندها الرطوبة من الهواء على الأرض، على الضغط المحيط، وعليه كان يُستخدَم الندى في الماضي كبارومتر بُدائي للتوقعات الجوية. وتعتمد أيضًا الدرجة التي يتجمد عندها الماء على الضغط؛ لذا عندما نقول إن نقطة تجمد الماء هي ٣٢ درجة فهرنهايت (٠ درجة سيليزية)، يجب علينا أن نُحدِّد بأن نقول إن هذه درجة تجمد الماء في ظل الظروف العادية للضغط الجوي، إلا أن التغيرات الطفيفة التي نمر بها في الضغط الجوي لا تكفي لأن تُغير نقطة التجمد على نحو كبير؛ لذا من الممكن أن نُبرر إهمالنا لهذا التحديد في حديثنا اليومي. وعندما نقول إن الدرجة ٣٢ درجة فهرنهايت (٠ درجة سيليزية) هي نقطة تجمد الماء، فإن هذا يُشير فعليًّا أيضًا إلى أن هذه هي النقطة التي يبدأ عندها الماء في التحول إلى الحالة الصلبة؛ لذا يُوجَد عند درجة الحرارة هذه بعض الماء الذي لم يتجمَّد بعد، وهو الذي يجعل التزلج على الجليد ممكنًا، فطبقة الماء الخفيفة على الجليد تسمح للزلاجات بأن تنزلق بسهولة. ومع أنه يُمكن التزلج على الجليد بسهولة باستخدام الحذاء الذي يُرتدى على الجليد بدون مِزْلاج، بسبب طبقة الماء الموجودة على الجليد في درجة الحرارة والضغط العاديَّين التي تُسهل التزلق، فإن التزلج على الجليد باستخدام المزلاج هو أكثر متعة؛ لأن إحدى الخصائص المميزة للماء تتمثل في أن زيادة الضغط تُقلل نقطة الذوبان. تُركز آلية تصميم المزلاج على وزن المتزلج على المزلاج الرفيع الذي بدوره يعمل على زيادة الضغط عندما يستخدم المزلاج عند مستويات أكثر انحدارًا. ولا يُعتبَر التزلج على الجليد الجاف ممتعًا؛ لأن الجليد الجاف، كما يُوحي وصفه، جافٌّ، بمعنى أنه لا يُوجَد عمليًّا طبقة سائلة في درجة الحرارة والضغط العاديَّين.
ويُمكن تمثيل التغيرات المرحلية التي تحدث للمخاليط من مخطط الطور أيضًا، إلا أن هذه المخططات البيانية تكون أكثر تعقيدًا في الغالب. والطور هو أي مرحلة متسقة وثابتة للمادة، سواءٌ أكانت نقية أم مختلطة؛ ومِن ثَم تُعتبَر كل الحالات المختلفة، التي يُمكن أن يجد الخليط نفسه عليها، تُحدَّد على أنها طور منفصل في مخطط الطور. ومن الممكن أن تُوجَد مراحل عديدة معًا في توازن، ويجب إيضاح هذا أيضًا في المخطط، والسبيكة هي فئة من المخاليط التي يُمكنها أن تحظى بمراحل مميزة، ويُمكنها أن تُبين مدى التعقيد الذي يشوب تغيرات المرحلة. إذا كان لديك نحاس، يُمكن أن يكون هذا النحاس نُحاسًا سائلًا أو نحاسًا صلبًا، تبعًا لدرجة الحرارة، وإذا كان لديك خارصين فإما أن يكون هذا الخارصين سائلًا أو صلبًا، تبعًا لدرجة الحرارة، لكن إذا كان لديك سبيكةٌ من النحاس والخارصين، فمن الممكن أن تكون هذه السبيكة من سائل النحاس وسائل الخارصين، أو سائل النحاس مع الخارصين الصلب، أو سائل الخارصين مع النحاس الصلب، أو النحاس الصلب مختلطًا بالخارصين الصلب، وكل منها يُعتبَر مرحلة منفصلة، لكن أي حالة من هذه الحالات سيثبت، يتوقف هذا على درجة الحرارة والضغط والمقادير النسبية من الخارصين والنحاس في الخليط، هذا فقط عندما تتكون السبيكة من مادتَين فقط. إذا أحصينا عدد المكونات المُدرَجة على بطاقة زجاجة شامبو، من السهل أن نرى مدى الصعوبة التي يُمكِن أن يكون عليها مخطط الطور، وفي محاولة لتبسيط الموقف، عادة يُفترض أن الضغط ثابت، في الجو الواحد، ويكون المتغيران اللذان نُحاول أن نقتفيَ أثرهما درجة الحرارة والتركيب.
وخذ مثلًا النظام البسيط لبيكربونات الصودا في الماء، فهي تُضاف إلى الماء، فتذوب المقادير الضئيلة المُضافة أولًا في المحلول، لكن بإضافة المزيد يُصبح الخليط مشبعًا، وتوجَد المادة الصلبة بالمثل مع المادة السائلة. بكلمات أخرى، تعتمد القابلية للذوبان على التركيب: فإذا كان لديك نظام يسود الماء في تركيبه مع القليل جدًّا من البيكربونات، تذوب البيكربونات في المحلول. وإذا كان لديك نظام يسود الماء على تركيبه لكن مع الكثير من البيكربونات هذه المرة، فإن الصودا تترسَّب في المحلول. أما إذا ثبت التركيب، بمعنى أن تستخدم كوب ماء مشبعًا ببيكربونات الصودا، عندئذٍ يُمكنك أن ترى كيف أن القابلية للذوبان تعتمد على درجة الحرارة، فإذا سخنت المحلول في درجة حرارة منخفضة في ميكروويف، تذوب بيكربونات الصودا في المحلول؛ لأن النظام يسخن ويظهر المحلول بوضوح، وإذا تركنا المحلول يبرد، تخرج بيكربونات الصودا من المحلول مرة أخرى.
مثال آخر تتغير فيه القابلية للذوبان بتغير درجة الحرارة والتركيب هو في فن التقطير الجميل: يتميز التقطير بحقيقة أن البخار الموجود على المحلول يختلف عامة في تركيبه عن تركيب المحلول الذي أتى منه، وهذا الاختلاف في التركيب بين السائل والبخار يُمكن برهنته باستخدام كوب ماء به ألوان طعام. إذا قمنا بتغطية كوب به بوصة أو اثنتان ماء مع ألوان طعام بغلاف رقيق من البلاستيك وثبتنا الغلاف في مكانه بشريط من المطاط ثم قمنا بتدفئته في الميكروويف لفترة قصيرة (من خمسَ عشرة ثانية إلى عشرين ثانية)، نُلاحظ أن الجوانب الداخلية للكوب تتغطَّى بالتكاثف، إلا أن هذا التكاثف يكون شفافًا، ولا يتلوَّن بألوان الطعام، ويُعزى اختلاف الألوان إلى أن الحالة البخارية تختلف في تركيبها عن تركيب الحالة السائلة، والحالة البخارية هي ماء نقي، وليس خليطًا من ألوان الطعام والماء. يتمتع الماء بدرجة غليان منخفضة عن درجة غليان ألوان الطعام؛ ومِن ثَم يدخل الماء في حالة البخار بسهولة أكثر تاركًا لون الطعام خلفه، وقد يكون هناك بعض أنواع الطعام القادرة على التبخر مع الماء، لكن الأغلبية ليست لديها هذه القدرة وجيد أن نرى هذا التأثير. إذا لم تنجح التجرِبة مع لون الطعام الذي لديك، أحضر لون طعام آخرَ (يُرجَّح استخدام ألوان الطعام القديمة، حيث يبدو أنها تعمل أفضل) وحاوِلْ مرة أخرى.
يُستخدَم التقطير لتنقية المياه عند الضرورة ويُستخدَم أيضًا لغرض شائن. يُفصَل الإيثانول من الماء بتسخين الخليط حتى يتحول الإيثانول إلى الحالة البخارية، مخلفًا وراءه الماء، إلا أنه لا يُمكن إزالة كلِّ الماء من الإيثانول بهذه الطريقة بسبب قُوى الجذب البينجزيئية الشديدة. يكون هناك دائمًا بعض الماء في الإيثانول، وأقصى ما يُمكن أن تناله يدك بالطرق العادية هو ٩٥٪ إيثانول (درجة الكحول١٩٠)، وهي نسبة أكثر من رائعة بالنسبة إلى أغلبية الاستخدامات العرضية.
يُخبرنا هذا المخطط أنه إذا كان لدينا خليط، وثمة بعض السكر غيرُ الذائب فيه، ثم سُخِّن دون حدوث تغيرٍ في التركيب، فإن طور الخليط يتغيَّر من خليط سكر صلب وماء إلى محلول يتكون تمامًا من السكر والماء، أو بكلمات أخرى، سخِّن محلول السكر والماء، عندئذٍ تحصل على المزيد من السكر المذاب في المحلول.
قد تبدو هذه الحقيقة غيرَ مهمة إلى حدٍّ ما؛ فهي ليست سرًّا، فطريقة دفع المزيد من السكر إلى الذوبان في المحلول معروفةٌ للطهاة والسُّقاة منذ الأزل، وقد يبدو أنها لا تستحق أن تُعامَل على حدة، وقد تبدو الصلصة الهولندية أيضًا موضوعًا تافهًا لأن تُذكر في كتاب كيمياء، لكننا سنُناقشها هنا أيضًا للسبب الآتي: ألا وهو أن الصلصة الهولندية تختلف عن الماء الذي به سكر! فهي تُظهِر تصرفاتٍ لها فحوى بعيدة الأثر؛ حيث يمتد أثرها من جسر لندن إلى لمبرجر ببلجيكا، ويأتي الاختلاف في هذه الصلصة عندما تُترَك لتبرد مرة أخرى.
والصلصة الهولندية هي مُستعلَق لذيذ المذاق للزبد في البيض، وعندما تكون دافئة ومُعدَّة حديثًا، تنسكب الصلصة بانسيابية كخليط أحاديِّ الطَّور، ويكون محلول السكر والماء المحلَّى الساخن خليطًا متماثلًا من السكر والماء، وعندما يبرد الماء المُحلَّى، فإنه يظل خليطًا متجانسًا من السكر والماء، لكن عندما تبرد الصلصة الهولندية، يحدث شيء آخر، فهي تنفصل، لا تظل الصلصة الهولندية الباردة متماسكة؛ لأنها تكون في حالة شبه مستقرة، بمعنى أن هذا ليس أدنى وضع للطاقة لها، ولكنها تكون في مستوى استقرارٍ أعلى من الوضع الأدنى للطاقة.
وقد تُعتبَر كرة البولنج التي تتوازن أعلى درجة السلم مثالًا على حالة شبه الاستقرار. حيث تكون كرة البولنج مستقرة، لكنها لا تكون في أدنى موضع من الطاقة لها الذي تكون عليه عندما تستقر على الأرض، فعند تعرُّض الكرة لأقل إثارة ستسعى نحو أدنى مستوًى للطاقة؛ ومن ثَم تنحدر من على درجة السلم، أما الوضع الذي تكون فيه الكرة في طريقها نحو الاستقرار، عندما تتحرك الكرة ببطء، فهذا يُعتبَر أيضًا وضعًا شبهَ مستقر وليس مستقرًّا. كذلك تكون الصلصة الهولندية في حالة شبه الاستقرار، إلا أن الزيوت التي تدخل ضمن مكوناتها تسعى نحو الارتباط ثانية بعضها ببعض إذا تمكنَت من إيجاد مسلك لذلك، مما يُسبب انفصالها.
ولا تقتصر حالات شبه الاستقرار على الصلصة الهولندية فحسب، بل يُمكِنها أن تحدث في أنظمة متنوعة بنفس قدر تنوُّع الأدوية والسبائك، وتُعتبَر أدوية عديدة المستعلقات حيث تنتشر حالة عدم استقرار المواد الصلبة في السائل. والسبائك المعدنية هي مخاليط من المعادن التي ينبغي تسخينها عادة في درجات حرارة مرتفعة جدًّا كي تمتزج معًا، وإذا بُرِّدَ الخليط ببطءٍ تام، فإنه يُحتمَل حدوث انفصال مثلما يحدث في «التنقية بالعزل» المذكورة من قبل. أما إذا حدث تبريد سريع، ينتج خليط صُلب في حالة شبه استقرار، بالطبع تُشير حالة شبه الاستقرار ضِمنيًّا إلى وجود حالة أخرى، وهي الحالة المستقرة، يُمكِن أن ينتقل إليها الخليط مع الوقت؛ ومِن ثَم يُمكِن أن تتغير خصائص السبائك المعدنية وإن يكن الأمر يحدث ببطء مع الوقت. بكلمات أخرى، التراكيب التي تتألَّف من سبائك، مثل الجسور، يُمكِنها أن تتقادم، فلا يجب أن نأخذ الصدأ فحسبُ بعين الاعتبار عندما نُقرر إذا كان الجسر سليمًا وآمنًا، لكن أيضًا عمر المادة المصنوع منها الجسر وطبيعتها.
لكن ما من مُبرر للقلق بشأن رحلة العودة إلى المنزل باستخدام المواصلات العامة. وليست الجسور وحدها هي التي تُرصَد بعناية من أجل تأثيرات الزمن، فملاحظة عودتها من حالات شبه الاستقرار إلى أقصى حالات الاستقرار يُمكن أن يكون في غاية البطء بحيث يتعذر رصده في غضون حياة بشر كثيرين، وقد بُنِيَت معظم الجسور لتدوم وتبقى.
لكن لا يكون الحال كذلك مع مخاوفنا التالية: وهي الجبن.
على سبيل المثال: عندما تفسد البيتزا الجيدة
تُعتبَر موادُّ كثيرة نتعامل معها يوميًّا في حالة شبه استقرار، مثل المستحلبات والمستعلقات الدوائية والشامبو وصوص السلاطة والصلصة والبهارات التي تُضاف للطعام مثل الكاتشب والمايونيز والماستردة، لكن من بين كل مخاليط الحالة شبه المستقرة التي تُستخدَم كأطعمة، ربما يكون الجبن هو أقدمَها وأكثرها شهرة.
وتكون المواد الصلبة هذه هي الخثارة. وشرش اللبن هو الجزء الأكثر سيولة. ويُمكن أن نعتبر الجبن مستعلَقًا شبهَ مستقر لخثارة اللبن في الشرش. ويُحدِّد قوام نوع معين من الجبن على أساس كيفية تقطيع وعزل الخثارة من شرش اللبن، أو على أساس الوقت المستغرَق في تخثر اللبن أو تعتيقه. وعندما لا تنفصل الخثارة من اللبن ولا يكون الجبن قديمًا، ويكون القوام طريًّا يُسمَّى جبنًا غير ناضج، وهو ما يُشبه جبن الكوتدج (الجبن القريش). وعند عصر كل الشرش الممكن من الخثارة وترك الجبن فترة زمنية ليتعتَّق، تنتج قوالبُ صلبة تُسمَّى الجبن الجاف، مثل الجبن الباراميزان الجاف. يتضمن التعتيق إتاحة الوقت للبكتريا لإتمام عملية التجبُّن التي تبدؤها الإنزيمات، مما يُفسر لماذا يظل الجبن الجاف بحالة جيدة؛ فهو قد تعرض بالفعل للبكتيريا ونجا. أما الجبن الطري مثل الجبن القريش الذي لم يتعتَّق، فينبغي حفظه في المبرد.
ومن بين الثلاثين رطلًا من الجبن التي يستهلكها الفرد في الولايات المتحدة الأمريكية، يتمثل قدر كبير من الجبن المذاب في طعامنا المحلي الحديث: البيتزا. تتصدر عناوين محلات البيتزا معظم دلائل التليفونات، وهو امتياز لم يحظَ به التفاح ولا الخرشوف ولا السبانخ، ومع أن طبقتَي البيتزا الخارجية المقرمشة والصوص قد تكونان عنصرَين مهمَّين في البيتزا الجيدة، فإنه يجب أن نُقر ونعترف أنه بدون الجبن تكون البيتزا مجردَ شطيرة صوص طماطم مفتوحة للهواء. إن جودة جبن البيتزا وخصائصه المميزة هما أهمَّ ما ينشغل به العاملون في مجال البيتزا.
ما هي أهم خاصية في جبن البيتزا الجيد؟ الطعم، بالطبع، وقدرته على الذوبان بانسيابية أيضًا وفي شكل منتظم دون الانفصال مرة أخرى إلى خثارة وشرش، ولهذا السبب لا تُغطَّى البيتزا بجُبن غير ناضج مثل الجبن القريش أو جبن جاف مثل جبن الباراميزان، لكن بجبن شبه طري: وهو الموتزريلا.
وثمة ميزة أخرى لاستخدام الموتزريلا، وهي أن البيتزا كخليط تنصهر بسرعة وتجانُس عند نقطة انصهارها؛ وذلك لأنه في معظم المخاليط الصلبة، نجد أن الخليط ينصهر في مدًى معين من درجات الحرارة، بمعنى أن الخليط يبدأ في الانصهار عند درجة حرارة ما، لكن لا يتحول الخليط بأكمله إلى الحالة السائلة ما لم يُسخَّن إلى درجة حرارة نهائية معينة.
إلا أنه يُوجَد بعض المخاليط الانتقالية التي لديها التركيب المباشر حيث تصل إلى نقطة الانصهار على نحو مفاجئ وفوري. ويُطلَق في الكيمياء على الخليط الذي ينصهر عند نقطة انصهار واحدة (نقطة واحدة وليس مدًى معينًا من النقاط مثل باقي المخاليط) «الخليط سهل الانصهار»، ويُطلَق على هذا الخليط في عالم الجبن الموتزريلا. وسبيكة اللحام خليط سهل الانصهار.
إلا أن المعضلة التي تُواجه متعهِّدي البيتزا في أمريكا ليست صهر الجبن فحسب، بل تجميده أيضًا، حيث يطلب عشاق البيتزا في أمريكا الحصولَ على وجبتهم المفضلة في التو واللحظة، مما يعني أنها يجب أن تكون في وضع مجمَّد بحيث يسهل إعدادها سريعًا في الميكروويف أو في أفران الحمل الحراري. إلا أن الجبن يُمكن أن يفسد عندما يمر بتغيرات سريعة في الطور مثل تجميده في المبرد وتسخينه في الميكروويف. ويُفضي التجميد الذي يعقبه تسخينٌ سريع إلى جبن هش وخيطي وصُلب القوام، أو إلى جُبن محروق. والحل هو استخدام جبن معالَج وهو خليط من الجبن المطحون وأملاح استحلاب ومثبتات أخرى. يسمح الجبن المعالج للبيتزا بأن تتجمد وأن يُعاد تسخينها أو حتى تُترك خارج الثلاجة على المائدة لفترة مقبولة من الوقت، إلا أن أفضل فترة انتقالية من التجمد إلى الانصهار يُمكِن تحقيقها باستخدام جبن مُقلد مكوَّن من زيت فول الصويا والخثارة.
ولإثبات الاختلاف في سلوك تغير الحالة، اشترِ موتزريلا مبشورة أصلية، وموتزريلا مبشورة مقلدة ممتازة. وبقراءة البطاقة المكتوب عليها المكونات، ستجد علامة تدل على ما إذا كانت هذه الموتزريلا أصليةً أم مقلَّدة، أما إذا كان لديك بعض الشك، فبالنظر إلى قائمة المكونات سيتَّضح الاختلاف بين الاثنتَين. ضع مقدارًا ضئيلًا من كلٍّ منهما على كل جانب من جوانب طبق من الورق واكتب «أصلي»، و«مقلَّد» على الطبق بجانب كل عينة على حسَبها. سخِّن الطبق الذي يحوي العينات في الميكروويف لمدة من عشرين إلى ثلاثين ثانية. نُلاحظ أن الموتزريلا المقلدة المنصهرة بانسيابية تحتفظ بلونها ومرونتها، أما الموتزريلا الأصلية فتتحول إلى اللون البُني وتُصبح هشة وصلبة بصورة سيئة. بترك عينات الموتزريلا الأصلية والمقلدة، بالخارج على منضدة لمدة يومَين، نجد أن الموتزريلا الأصلية تُصبح هشة وجافة، في حين أن سطح الموتزريلا المقلدة يبدو طازجًا تمامًا كما كان الحال عند إخراجها من عبوتها.
من ثَم إذا كان هدفك هو أن تتغلب على فيزياء تغيُّر الحالة، فإن الموتزريلا المقلدة هي طريقك إلى ذلك، لكنها ليست طريقك إذا أردت أن تحتفظ بالنكهة الغنية، فالكيمياء مختلفة هنا. وللأسف، لقد قادتنا خبراتنا الكثيرة مع الجبن المعالج إلى توقع صلابة في البيتزا التي لن تكون موجودة لو أنها كانت مصنوعة من مكونات غير معالَجة؛ لذا إذا كنت تستثمر في بيتزا جيدة بحقٍّ، وكان هناك متبقٍّ منها لتخزنه، فربما يتعيَّن عليك أن تفعل ذلك بحذر. فعند معالجة الموتزريلا بعناية، فإن كل شيء يكون على ما يُرام، فيجب تدفئة البيتزا المجمدة قبل إعادة تسخينها، ويجب إعادة تسخينها في درجة حرارة منخفضة في الميكروويف، أو ربما من الأفضل في فرن دافئ، لكن حتى مع كل هذه التحذيرات، قد يكون هناك تغيرات في القوام والمذاق؛ لذا من الأفضل أن تتمتع بالبيتزا بأكلها وهي طازَجة وبحالة جيدة، وإذا كان عليك أن تُجمدها، فلا تُحبط إذا فسدت هذه البيتزا الجيدة.
تبقى معضلة أخرى ألا وهي أنه ما من مقدار من المُثبتات يُثبت، وعليه، ستجف حتمًا البيتزا إذا لم يُحكَم غلق الكيس الذي يحويها. وأما غير المطلعين على مخطط الطور، فقد يبدو تجفيف الطعام في المجمد غريبًا عليهم، لكن بالنظر إلى مخطط طور الماء، نرى أنه في درجة الحرارة ٣٢ فهرنهايت (٠ درجة سيليزية)، وهي درجة حرارة معظم المجمدات، يكون الجليد الصلب في توازن مع بخار الماء، مع أن ضغط البخار أقلُّ من ضغط الجو؛ ومن ثم يتبخر الماء في المجمد، لكن لأن المجمد مغلق معظم الوقت، قد نظل نتوقع أن يكون انخفاض الماء بأدنى حدٍّ ممكن. إلا أن الصعوبة تكمن في أن المجمدات الخالية من الثلج تحتفظ بخلوِّها من الثلج بتدوير الهواء وتجميع بخار الماء قبل أن تأتي له الفرصة ويستقر في جوانب المجمد في هيئة ثلج. بكلمات أخرى، نظرًا إلى أن الماء يُزال باستمرار بسبب دوران الهواء، لا يكون الماء الذي في المجمد في حالة اتزان، فهو لا يكون في حالته السعيدة، الحالة التي يكون متوازنًا فيها مع بعض الماء في الحالة السائلة وبعض الماء في الحالة البخارية. ينتج المزيدُ من بخار الماء من الأطعمة نظرًا إلى أن النظام يُحاول أن يستعيد التوازن، وهذا الدافع لإحداث التوازن يُفسِّر سبب تضاؤل مكعبات الثلج ببطء في المجمد، ويُفسِّر أيضًا سبب «فساد» البيتزا الموضوعة في كيس غير محكم الغلق، وبذلك لا تظل البيتزا على حالها إلى الأبد. ويُعَد أخذ ما يحدث عندما ينشر أحدهم ملابسه لتجفَّ في قارة أنتاركتيكا بعين الاعتبار، امتدادًا مشوقًا لهذا التوضيح المتعلِّق بالتوازن الفيزيائي، فهل تجف هذه الملابس؟ نعم تجف، ما دام الهواء يعمل على إزالة بخار الماء الذي يُحيط بالملابس المتجمدة مباشرة؛ فإن رقاقات الثلج في الملابس الداخلية سوف تستمر في التبخر لاسترداد التوازن.
أما النوع الآخر من التوازن الذي سنبحثه الآن، فيُطلَق عليه التوازن الكيميائي. والتوازن الكيميائي ليس أقلَّ شيوعًا لكن لا يُمكن التعرف عليه بنفس القدر من السهولة دائمًا، فهو بالتأكيد أكثرُ تعقيدًا، لكن سواء كان معقدًا أم لا، فإننا متجهون إليه الآن.