الفصل الثاني

تحدث دوريًّا

لا يستطيع ذلك الجيش أن يتعافى في أي مكان؛ فمنذ معركة بورودينو وخراب موسكو وهو يحمل في نفسه ما يُشبِه عناصر الانحلال الكيميائي.

ليو تولستوي في كتابه «الحرب والسلام»، ١٨٦٤

عند التقاط صورة للعائلة عندما يلتئم شملها، قد يطلب المصور أن يقف أفراد الأسر المباشرة بعضهم مع بعض أو يُرتِّبهم حسَب أطوالهم أو أعمارهم، وربما يطلب المصور المبالغ في الاهتمام بالتفاصيل أن يقف أولئك المقيمون في الساحل الغربي في جانب، وأولئك المقيمون في الساحل الشرقي في الجانب الآخر، ويجعل أولئك القاطنين في الشمال يقفون قليلًا إلى الخلف، والقاطنين في الجنوب إلى الأمام. قد تأخذ مثل هذه الترتيبات بعضًا من الوقت والجهد، لكنها ستضمن أن الأجيال القادمة سوف يتبيَّنون قدرًا لا بأس به من المعلومات عن فرد معين بإيجاد موقعه أو موقعها في الصورة. وهكذا، يشبه الجدول الدوري الصورة الملتقطة لاجتماع العائلة؛ فبمجرَّد فَهْم مبدأ الترتيب، يمكن الحصول على معلومات معينة عن عنصر معين بمجرد معرفة موقعه في الجدول.

هذا المصور الحاذق الذي رتَّب عناصر الجدول الدوري هو ديمتري مندليف؛ وُلِد مندليف في روسيا عام ١٨٣٤. أدرك مندليف الحاجة إلى أهمية الترتيب حسَب العمر في اجتماع العائلة؛ إذ كان الأصغرَ بين أربعةَ عشر طفلًا، وأدركَ أيضًا الترتيب حسب الإقامة، حينما رأَت أمه موهبته فاستخدمت مواردها المحدودة لتُرسِله إلى موسكو ليتلقَّى تعليمه هناك. وبدأ مندليف بعد ضمان الحصول على وظيفةٍ في التدريس، حاذيًا حَذْو مُدرِّسي العصور كافَّة، في البحث عن طريقة ليُنظِّم أدواته، وكان موضوعه هو السُّلوكَ الكيميائي للعناصر، وقد نمَت الأداةُ التدريسية التي تبنَّاها لتصل إلى الجدول الدوري.1

ولكي يتمكَّن من تنظيم العناصر كتب مندليف كلَّ سلوك العناصر التي يُلاحظها في بطاقات، ثم صنف هذه البطاقات إلى مجموعات؛ تبعًا للسلوك المتشابه، وبعدئذٍ أضاف مندليف مستوًى آخرَ من التصنيف، وأخذ يُصنِّف العناصر تبعًا للكتلة المميزة للعناصر.

غالبًا ما يُسْتَخدم مصطلح الكتلة والوزن بمعنًى واحد، لكنَّ ثمَّة فرقًا خفيًّا ومهمًّا في الوقت ذاته؛ فوزنُ الشيء هو قياسُ مقدار القوة التي تجذبه بها الجاذبيةُ الأرضية نحو الأرض، ولأن جاذبية القمر أقلُّ من جاذبية الأرض، نجد أن الأشياء تَزِن أقلَّ على سطح القمر. وتُقاس الكتلة وفقًا لميزانٍ يرتبط ببعض المعايير، وبالنظر إلى «تمثال العدالة العمياء» الذي يرمز إلى سيادة القانون، نجده امرأةً معصوبة العينَين تحمل مثل هذا الميزان. ولقياس كتلة المادة، نضع المادة في إحدى كِفَّتَي الميزان ونضع معيارًا لكتلة معروفة في الكفَّة الأخرى إلى أن تتساوى الكفَّتان، ولأن الجاذبية تُؤثِّر على المعايير بنفس الطريقة التي تُؤثر بها على الشيء المراد قياسُه؛ ومن ثَم تكون الكتلة المقيسة على الأرض مُساويةً تمامًا لتلك المقيسة على سطح القمر.

وكان يُعرَف في وقت مندليف أن العناصر يتَّحد بعضُها مع بعض بنِسَب محدَّدة مثلما تتَّحد المكونات في أثناء الطهي، فمثلما قد تتطلَّب طريقة صنع الكعك بيضة وكوب لبن، فإن طريقة صُنع مِلح الطعام تتطلَّب جزءًا من الصوديوم وجزءًا من الكلور. وكانت كتلة الجزء الواحد من الصوديوم تُؤخَذ باعتبارها الكتلةَ المميزة للصوديوم، وهي الكتلة المميزة لكلِّ عنصرٍ استخدمه مندليف في المرحلة الثانية من الترتيب.

وقد رتَّب باحثون آخَرون العناصرَ في مجموعاتٍ طبقًا لكُتَلها المميزة، لكن كانت لمندليف جَسارةٌ في الاحتفاظ بمجموعاتٍ لها نفسُ السلوك الكيميائيِّ بعضها مع بعض، حتى وإن كان نتيجة ذلك تَرْك بعض الفراغات في الجدول، وما لبثت البصيرةُ النافذة لمندليف أن كشفَت عن نفسها عندما وجَد آخرون العناصرَ المفقودة ووجَدوا أنها تتناسبُ وفراغاتِ جدول مندليف.

وبعد مُضيِّ عدة عقود — بعدما كشَف باحثون آخرون عن لُغز تركيب الذَّرة — وجدوا أن اتجاهات تركيب الذرة تتبع ترتيب الجدول الدوري، مُعلِنين بذلك الارتباطَ بين التركيب الذري والسلوكِ الكيميائي. ويبدو أن المفهوم قد أصبح واضحًا بعد الإدراك المتأخِّر له؛ فسلوكُ كلِّ الأشياء، من السمكة إلى وَميض الضوء، تُحدِّده الطريقة التي وُضِعَت بها هذه الأشياءُ معًا، لكن التركيب الأساسي للذرات — الإلكترونات والبروتونات والنيترونات — لم يكن معروفًا حينما رتَّب مندليف جدوله.

يَظهر الجدول الدوري الحديث الذي جرى توسيعه بدرجة كبيرة منذ وقت مندليف في شكل ٢-١. وقد تكون رموز بعض العناصر مألوفةً لديك مثل رمز H الذي يُشير إلى الهيدروجين، وO الذي يُشير إلى الأوكسجين، وقد لا يكون البعض الآخر مألوفًا. وتُشتَق رموز بعض العناصر مثل التنجستين (W) والصوديوم (Na) من أسماء بديلة لهذه العناصر، فرمز التنجستين (W) مأخوذ عن الاسم الألماني Wofram ورمز الصوديوم (Na) مأخوذ عن الاسم اللاتيني Ntrium. وتُشير الأرقام التي تُوجَد فوق العناصر إلى العدد الذري (وهو مفهومٌ سنَشرحه فيما بعد) ويُلحَق بهذا الكتاب قوائمُ العناصر بأسمائها ورموزها وأعدادها الذرية.
ويُوضِّح شكل ٢-٢ الجدول الدوري المبسَّط بإيجاز وبدون الأعداد الذرية.
يضمُّ شكل ٢-٢ للجدول الدوري كلَّ العناصر نفسِها الموجودة في الشكل ٢-١، لكنه يتطلب من المستخدِم أن يتذكَّر أن العناصر من السيريوم (Ce) إلى الليوتيتيوم (Lu) والثوريوم (Th) واللورنسيوم (Lr) هي بالفعل تتبع اللانثانم (La) والأكتينيوم (Ac) على التوالي، وتُرَى هذه العناصر في الجدول الدوري التقليدي على أنها صفوفٌ منفصلة لملاءمة طباعة الحروف.
fig1
شكل ٢-١: الجدول الدوري الحديث.
fig2
شكل ٢-٢: الجدول الدوري البسيط.

وأيًّا كان الشكل الذي تختار أن تستعين به، فالسِّمة اللافتة للنظر في الجدول الدوري هي نظامُ ترتيبه؛ ففي عالَمٍ مثل عالمنا هذا حيث السحُب المتغيرةُ الأشكال، والأشجارُ التي تنمو أفرعها على نحوٍ عشوائي، والخلايا التي لا يوجد اثنتان منها مُتشابهَتَين، أو تتماثل فيه كُتلتان جليديَّتان، قد يبدو ترتيبُ الجدول الدوري الحاذق أمرًا خارقًا للطبيعة مثل الطقوس الدينية الشديدةِ الصرامة. إلا أن هذا النظام البُدائي الذي يُمكنه أن يُحيل الأمور المعقَّدة إلى أمور فوضوية (أرجأنا النقاش في مثل هذا الأمر إلى الفصل الذي يتحدث عن الديناميكا الحرارية)، يُشكِّل القواعد الأساسية لعالمنا المتغير.

ويَكْمن أول الأنماط وأكثرُها دقةً في عدد البروتونات في نواة كلِّ عنصر؛ فعلى سبيل المثال يحتوي الهيدروجين، أول عنصر مُدْرَج في الجدول الدوري، على بروتون في نَواته، والهليوم، ثاني عنصر (عند القراءة من اليسار إلى اليمين)، على بروتونَين في نواته. ويأتي الليثيوم بعد الهليوم بالاتجاه إلى أسفل في الصف الثاني — ومرةً أخرى بداية من جهة اليسار إلى اليمين — وهو يحتوي على ثلاثة بروتونات في نواته، ويَليه البريليوم الذي يحتوي على أربعة بروتونات، ثم بالانتقال إلى الجانب الآخر من الصف نفسِه متخطِّين الفجوة، نجد البورون ذا الخمسة بروتونات في نواته، وبالمضيِّ قُدمًا على المنوال نفسِه، نجد أن للكربون ستَّةَ بروتونات وللنيتروجين سبعة وللأوكسجين ثمانية، وهكذا. ويُطلَق على عدد البروتونات في النواة العددُ الذري، وهو الرَّقم المعطَى مع كل عنصرٍ في الجدول في شكل ٢-١. ويبدأ التعقيد يَظهر في الجدول بمجرَّد أن يكون للعنصرِ كتلةٌ يُعتَدُّ بها. وتجمع الأعداد الذرية العناصر إلى أرقام دقيقة ومرتَّبة وصحيحة، لكن بإلقاءِ نظرةٍ على الملحَق آخِرَ الكتاب، نجد أن الكتل الذَّرية للعناصر أرقامُها غير دقيقة وغير مُرتَّبة وغيرُ صحيحة. وتنشأ هذه الطبيعة الشاذة للكُتَل الذرية من جرَّاء حقيقة أن الذرَّة تُبنى من بروتونات ونيترونات، وتُوجَد طريقة أساسية تَصِف طريقةَ تركيب هذه العناصر، لكن ثمَّة اختلافات في هذه الطريقة أيضًا.

وعليك أن تبدأ من مكانٍ ما، وعندما تعلَّق الأمر بالكتلة بدأ العلماء بالبروتون، وقد عرَّف العلماء البروتون بأنه كُتلة وحدة واحدة للكتلة الذرِّية أو: و ك ذ ويُفترَض أن كتلة النيترون وحدةٌ واحدة للكتلة الذرية أيضًا؛ وذلك للاقتراب الشديد بين البروتون والنيترون في الكتلة، ودائمًا يكون عدد البروتونات في ذرَّة العنصر هو عددَها الذري نفسَه ومُساويًا له؛ فإذا كان للذرة سبعةَ عشَر بروتونًا، فإنَّ عددها الذري يكون ١٧، وهو عنصر الكلور. وإذا كانت الذَّرة هي ذرةَ كلور، فهي تحوي إذن ١٧ بروتونًا، ولكن يُمكن أن تتنوَّع كتلة الذرة المعطاة لعنصر ما؛ وذلك لأن عدد البروتونات وعدد النيترونات يحددان كتلة الذرة، ومن الممكن أن يتغير عدد النيترونات؛ فعلى سبيل المثال، تحوي كلُّ ذرة كلور ١٧ بروتونًا، لكن بعض الذرات تحوي ١٨ نيترونًا، والبعض الآخر يحوي ٢٠ نيترونًا، فيكون مُجمل كتلة ذرة الكلور التي تحوي ١٨ نيترونًا هو ١٧ و ك ذ بالإضافة إلى ١٨ و ك ذ أي ٣٥ و ك ذ بالإضافة إلى ٢٠ و ك ذ أي ٣٧ و ك ذ وعندما تكون لذراتِ عنصر ما كتلٌ مختلفة، يُطلَق عليها اسم «النظائر». وتكون الكتلة الذرية للعنصر المعطى هو متوسط كتلة نظائره.

ويُمكن تشبيهُ عدد البروتونات في الذرة بنوعٍ من الخصائص التي تُميز الإنسان بكونه ذكرًا، فإذا كان لأحدهم هذه الخصائصُ يكون ذكرًا، كذلك إذا كان لذرَّةٍ عددٌ معين من البروتونات، فإن ذلك العدد هو الذي يُحدد هُويةَ ذلك العنصر، لكن الذكور المختلفة لها كتلٌ مختلفة، لكننا نستطيع بسهولة ويُسر أن نُوجِد متوسطَ كتلة مجموعة من الرجال بواسطة جمعِ كلِّ كُتلِهم الفردية معًا، ثم نَقسم الإجمالي على عدد الرجال في هذه المجموعة، وبالمثل، يمكن اتباعُ نفس الإجراء مع عناصر الجدول الدوري. وكما نرى في الملحَق، كتلة الكلور المعطاة هي ٣٥٫٤٥ و ك ذ التي لا تُمثِّل حتى كتلة أي نظير، وهي تُمثِّل متوسطًا أعلى من الكتلة المعتادة للنظائر، غير أن عدد البروتونات هو الذي يُحدِّد نوع العنصر، وعليه، مع أن النظائر قد يكون لها أعدادٌ مختلفة من النيترونات وكتلٌ مختلفة، فإن العدد الذري هو الذي يُخبِرنا بعدد البروتونات، وعدد البروتونات هو الذي يُحدِّد نوع العنصر، والعدد الذي تلحظ زيادته وأنت تطَّلِع على الجدول الدوري هو العدد الذري وهو عدد البروتونات نفسُه.

لكن إذا كان لا يُوجَد مبدأٌ يقوم عليه التصنيفُ غير عدد البروتونات في النَّواة، لماذا إذن ذلك الشكل المثير للفضول في الجدول الدوري؟ يُعزَى ذلك إلى أن ترتيب الجدول يهتمُّ بما هو أكثرُ من عدد البروتونات.

وتُصنَّف الكائنات الحية في علم الأحياء إلى ممالكَ وشُعَب وطوائفَ ورُتَب وعائلاتٍ وأجناس وأنواع، وتُصنَّف العناصر في الكيمياء أيضًا — وإن كان إلى عددِ فئاتٍ أقلَّ — وما يَعْنينا هنا هو تصنيف العناصر إلى ما يُطلَق عليه «أنواع» مختلفة، وعدد البروتونات هو ما يُحدد نوع العنصر؛ ومن ثَم يُمكن النظر إلى العدد الذري على أنه «النوع»، فإذا كانت الذرة تحتوي على بروتونَيْن فهذا يعني أنها لعنصرِ الهليوم، وإذا كانت الذرة هي ذرَّة هليوم إذن هي تحوي بروتونَين. فهذا أمرٌ ثابت لا يتغير، غير أن عدد الإلكترونات في ذرة العنصر يُمكن أن يتبايَن ويُمكن اعتبارُ أيِّ تبايُن «نوعًا»، ويكون عددُ البروتونات هو عددَ الإلكترونات نفسَه في الأنواع المتعادلة من الذرات.

ويحمل البروتون وَحدةً واحدة من الشحنات الموجبة؛ لذا لكي تُصبح الذرة متعادلة، ويجب أن يُعادل هذه الشحنةَ الموجبة إلكترونٌ له شحنة سالبة؛ لذلك، يُخبرنا الجدول الدوري أيضًا بعدد الإلكترونات الموجودة في ذرة العنصر؛ فعلى سبيل المثال، يحتوي الهيدروجين على بروتون؛ لذا تحتوي ذرة الهيدروجين المتعادلة على إلكترون أيضًا، وتوجد في نواة الكربون ستةُ بروتونات؛ لذا تُوجَد في ذرته المتعادلة كهربيًّا ستةُ إلكترونات.

وكما أشَرْنا من قبل، تَشغل الإلكترونات مداريات وسنضيف إلى ذلك الآن أن هذه المدارياتِ تترتَّب حول النواة في طبقات رقيقة، وتكون الطبقاتُ مُتداخِلة كما هو موضَّح في شكل ٢-٣، وكل طبقة لديها القدرة على أن تسَع المزيد من الإلكترونات، وتوجد مُتواليةٌ حسابية لتحديد عدد الإلكترونات الذي يُمكن أن تحمله كلُّ طبقة؛ فالطبقة الأولى تحمل إلكترونَين، والثانية تحمل ثمانية إلكترونات، والثالثة ثمانية عشر إلكترونًا، أما الطبقة الرابعة فتحمل اثنَين وثلاثين إلكترونًا؛ ومن ثَم، تزداد القدرة الاستيعابية للطبقة على حمل الإلكترونات بنمطٍ منتظِم كالآتي: مربع رقم الطبقة مضروبًا في اثنَين، فالطبقة الأولى، طبقة رقم ١، تحمل ١ مربعًا مضروبًا في ٢، أي إلكترونَين. والطبقة الثانية، طبقة رقم ٢، تحمل تربيعَ رقم ٢ مضروبًا في ٢ أي ثمانية إلكترونات، وهكذا.
fig4
شكل ٢-٣: تمثيل تصويري للطبقات حول الذرة. (غير مرسومة وفق مقياس رسم!)
وقد قدَّمنا هنا الطبقاتِ الرقيقةَ بوصفها طبقاتٍ دقيقةً في أجسام كروية متداخلة، وتُشبِه هذه الطبقاتُ الرقيقة المتداخلةُ تلك الكعكةَ المتعددةَ الطبقات التي تكون كلُّ طبقة فيها ذاتَ نكهةٍ مختلفة، لكن في حقيقة الأمر تتكون الطبقات الرقيقة من شرائحَ داخلية وإن كان علينا أن نعرض شكلًا لإحداها في نموذجنا، فسينتهي بنا الأمرُ إلى شكل أشبهَ بشكلِ البصلة المفتوحة حيث يبرز شكل الشرائح المستديرة بداخلها، فالبصل تتَشابك طبقاته وتُصبح ممزوجةً بعضُها ببعض، وهذا عينُ ما يحدث أيضًا مع الشرائح الداخلية للذرات، لكن هذه طبقة بصل، ولسنا في حاجةٍ إليها الآن! ومن الناحية النظرية، تأخذ الطبقاتُ الشكلَ الكروي بمجرَّد امتلائها بالإلكترونات؛ لذا سنعتبرها هنا كرويةَ الشكل.2
ويُطلَق على صفوف الجدول الدوري دورات (وعليه سُمِّي بالجدول الدوري)، ويتحدَّد موقع العنصر الذي يَشغله في الدورة بناءً على عدد الإلكترونات في طبقته الخارجية الأكثر بعدًا عن النواة، وكل مرة يَزيد فيها العدد الذري بمِقْدار واحد، يَزيد معه عددُ البروتونات في النواة بمقدار واحد، ويتطلب العنصر الجديد إلكترونًا آخر لذرته المتعادلة، وتُرتِّب الإلكتروناتُ نفسَها في الطبقات التي تُحيط بالنواة، وكل مرةٍ تمتلئ فيها الطبقة ينتهي الصف. وتُعرَض الطبقة الممتلئة في الجدول الدوري باعتبارها صفًّا ممتلئًا كما هو موضح في شكل ٢-٤.
fig5
شكل ٢-٤: كل مرة يزيد فيها العددُ الذري بمقدار واحد، يَزيد معه عدد البروتونات في النواة بمقدار واحد، ويتطلَّب العنصر الجديد إلكترونًا آخرَ لذرَّته المتعادلةِ، وتُرتب الإلكترونات نفسها في الطبقات التي تُحيط بالنواة، وكل مرة تمتلئ فيها الطبقة ينتهي الصف؛ فكلٌّ من الهليوم والنيون والأرجون يُكمل صفًّا، وكلٌّ منها يصنع طبقة ممتلئة.

ومن ثَم تُحدد الطبقاتُ شكل الجدول الدوري، لكن ليس هذا كل شيء فلا يزال هنالك المزيدُ لِنَسرده؛ فهناك أثرٌ آخر ذو مغزًى من وجود الطبقات، ألَا وهو أن الانشغال أو الانشغال الجزئيَّ للطبقات هو الذي يُحدِّد السلوك الكيميائي أو «النشاط الكيميائي» للعناصر المتنوِّعة. والأعمدة الرأسية في الجدول الدوري هي لمجموعةٍ من العناصر التي لها حالاتٌ متشابهة من حيث انشغالُ طبقاتها الخارجية، فهي أعضاءٌ في نفس العائلة، ولكن العائلات التي تتشارك الكيمياء، وليست تلك التي تتشارك الأسلاف!

فعلى سبيل المثال، يكون لكلٍّ من الهليوم والنيون والأرجون طبقاتٌ ممتلئة، وتُعرَف هذه العناصر التي تُوجَد في صف عمودي بالغازات النبيلة؛ لأن لها طبيعةً رصينة وهامدةً وخاملة، ويُجسِّد الهليوم فَقْرها إلى النشاط الكيميائي، وهو عنصرٌ غاية في الخمول، حتى إننا نَستخدم بالونات الهليوم في تزيين الحفلات، ومن ناحية أخرى، يتَّسِم الهيدروجين بشدةِ نشاطه؛ لذا قد تجلب بالونات الهيدروجين في الحفلات تسليةً تُصاحبها أصواتٌ مدوية أكثر من تلك التي نكترث لها.

وتتشابه تفاعلاتُ النيتروجين والفسفور؛ لأن لهما العددَ نفسَه من الإلكترونات في طبقتَيهما الخارجيَّتَين (خمسة إلكترونات). وتُشبه تفاعلات الأوكسجين تفاعلات الكبريت لتشاركهما في نفس عدد انشغالِ طبقاتهما الخارجيتَين (ستة إلكترونات). ويُسمَّى هذا الانشغال للطبقة الخارجية للذرة «تكافُؤَ الذرة». فتكافؤ الكربون هو ٤ (بسبب وجود أربعة إلكترونات في طبقته الخارجية)، وهو يتَشابه في بعض الخواصِّ الكيميائية مع السليكون الذي يكون تكافؤه ٤ أيضًا. وتُستخدَم عناصر السليكون والجرمانيوم والقصدير والرَّصاص التي لها التكافؤ نفسُه وهو ٤، ولكن بنسبةٍ مختلفة في تكوين أشباه الموصلات، وفي تكوين موادَّ مثيرةٍ وهامة، وسنتعرَّض لذلك فيما بعدُ عند مناقشة الروابط الكيميائية.

ويتفاعل الأوكسجين مع الهيدروجين بنسبة واحد إلى اثنين، وكذلك الكبريت والسيلنيوم والتيلوريوم، ويَضْطلعُ النشاط الكيميائي — الذي هو قدرة العناصر على الترابط كيميائيًّا في مركَّبات — بمُهمة تحويل عناصر الكون إلى موادِّ الأرض التي هي في النهاية موادُّ الحياة. ومع أنه علينا أن نُقلِع عن الإسهاب في مناقشتنا حولَ جزيئات الحياة المعقَّدة حتى تتوافرَ أسُس أكثرُ متانةً، فإن لدينا بالفعل معلوماتٍ كافيةً لمناقشة اثنتَين من أهم المواد الكيميائية في الحياة، وهما يُعَدان بلا أدنى شك من المواد الأساسية في الحياة التي تتكون منهما الموادُّ الأخرى، وهما الملح والماء؛ فالحياة الأولى تكوَّنَت في المحيطات المالحة كما هو موضح في المحاليل الملحية في خلايانا، وكما هو دائمًا جليٌّ في الطبيعة الملحية لأجسامنا.

فعادةً في العالم المتحدِّث بالإنجليزية، عندما نُفكِّر في المِلح يتوارد على أذهاننا مِلح الطعام؛ كلوريد الصوديوم NaCl، وإذا أردنا أن نَعرف أهمَّ ثاني مركب كيميائي بعد الماء H2O، فبالطبع سيكون كلوريد الصوديوم، مركَّب ملح الطعام، ويتشارك كلوريد الصوديوم وكلوريد البوتاسيوم في خصائصَ كثيرة لدرجة أن كلوريد البوتاسيوم يُستخدَم كبديل لمِلح الطعام؛ إذ تتشابهُ الصيغة الكيميائية لكلا المركَّبَين أيضًا؛ فكلوريد الصوديوم يتكون من جزءٍ من الصوديوم وجزءٍ من الكلور، وكلوريد البوتاسيوم يتكون من جزء من البوتاسيوم وجزء من الكلور، لكن لا تتوحَّد نسبةُ واحد إلى واحد هذه مع الأملاحِ كافَّة؛ فعلى سبيل المثال يتكون كلوريد الكالسيوم من جزء كلور وجزء كالسيوم. لماذا إذن يسلك الصوديوم طريقًا والكالسيوم طريقًا آخر؟ يتعرض الجدول الدوري لهذه القضية أيضًا:
أولًا: ينقسم الجدول الدوري إلى قسمَين رئيسيَّين وهما الفِلزَّات واللافلِزات، وتقع الفلزات يسارَ خط السلم المتعرِّج الذي يبدأ من اليمين بين عُنصرَي البورون (B) والألمنيوم (Al)، وينتهي بين عُنصرَي البولونيوم (Po) والأستاتين (At) (ما عدا الهيدروجين الذي يعتبر من اللافلزات). وتُعتبَر عناصر النحاس (Cu) والنِّيكل (Ni)، والزِّنْك (Zn) عناصرَ مألوفة ومثالًا جيدًا للفلزات؛ فهي تتمتَّع بالحالة الصُّلبة في درجة حرارة الغرفة، وتخضع للتشكيل والقولبة، كما أنها مُوصِّلات جيدة للحرارة والكهرباء، أما اللافلزات فيَصْعب قليلًا أن نضعها في مجموعة ذاتِ خصائصَ عامة، إلا أن خصائص الأوكسجين والكربون مألوفةٌ بالقدر الذي يسمح لنا بأن نُثبت أن هذه العناصر غيرُ فلزية؛ استنادًا إلى سلوكها في التفاعلات الكيميائية.
ولا تتَّضح معالمُ الخط الفاصل بين الفلزات واللافلزات؛ ومن ثَم تُسمَّى العناصر التي تقع على مقربة من خط السُّلم المتعرِّج أشباهَ الفلزات، أي إنها لا تتطابق تمامًا مع تعريفٍ من التعريفَين. ويجد الألمنيوم (Al) نفسَه في هذا الوضع، ومع ذلك فنحن نميل عامة إلى اعتبار الألمنيوم فلزًّا، وهو فلزٌّ غريب؛ لأنه خفيف للغاية (لذا يُستخدَم في قوالب المحرِّكات في عربات السباق)، بالإضافة إلى أنه يبدو مُحببًا ورماديًّا أكثرَ مما يبدو ناعمًا ولامعًا، وتكون رقائقُ الألمنيوم طيِّعةً ولامعةً لكنها تتغيَّر كُلية عند تعرُّضها للهبِ الفحم وهو نفس ما يحدث لعُلب وصفائح الألمنيوم، وهكذا يَسلك الألمنيوم سلوكَ الفلزات واللافلزات معًا، فيكون بذلك شِبهَ فلز.

والملحُ مركَّب يتكوَّن من فلزٍّ ولا فلز؛ ومن ثَم يتفاعل الصوديوم وهو عنصرٌ فلزي مع الكلور، وهو عنصر لا فلزي؛ ليُكَوِّنا كلوريد الصوديوم المعروف لدينا بملح الطعام. وتتركَّب الوصفة الثابتة لكلوريد الصوديوم من ذرة صوديوم وذرة كلور، والأساس في هذه النِّسب الدقيقة هو الطبقات أيضًا وهو ما سنخوض في شرحه الآن.

وتتحدَّد كتلة الذرة وفقًا لعدد البروتونات والنيترونات في نواتها، كما ذكَرنا من قبل، ولا تُضيف الإلكترونات، كما ذكرنا أيضًا، فعليًّا شيئًا إلى الكتلة، كما لا تُضيف البراغيث شيئًا في الواقع إلى كتلة الفيل، لكنها تُؤثر على سلوك الفيل مع أنها صغيرة الحجم؛ لأنها براغيث، كذلك الإلكترونات تُحدد السلوك الكيميائي للعنصر مع أنها صغيرة، فعندما تكتسب الذرَّة إلكترونًا أو تفقد آخر، فإنها تُصبِح في حالةٍ من عدم اتزان الشحنة وتصبح «أيونًا»، فيُعَد هذا الأَيُون نوعًا جديدًا لهذا العنصر؛ فذرَّة العنصر التي تحتوي على عددٍ من الإلكترونات أكثرَ من عدد البروتونات هي نوع مشحون بشحنة سالبة أي أيون سالب، وتُعتبَر ذرَّة العنصر التي بها عددُ إلكترونات أقلُّ من البروتونات نوعًا مشحونًا بشحنة موجبة، أي أيون موجب، والأيون هو نوعٌ تفاعلي كما لو كان في حالةِ بحث عن شيء في الشحنة المضادة ليتَّحد معه.

وقد يبدو للوهلة الأولى أن أية كمية من الشحنات يمكن أن تُكتسَب أو تُفقَد وأن أي أيون يمكن أن يتكون، لكنه قد اتضح أن كلَّ عنصر يُفضل أن يتعامل مع كمية معيَّنة من الشحنات يمكن التنبُّؤ بها، أو يُمكِنك القول إنه نوعٌ من مستوى التأيُّن الذي يمنح العنصر الراحة عند التعامل معه، وهو المستوى الذي يُمكِن التنبُّؤ به عن طريق الجدول الدوري.

وتمتلئ الطبقة الأولى (الصف الأول) بإلكترونَين، وتحتاج الطبقة الثانية إلى ثمانية إلكترونات، وتسَع الطبقة الثالثة ثمانية عشر إلكترونًا، وهكذا. ولقد ذكَرنا من قبلُ أن الغازات النبيلة غيرُ متفاعلة/غير نشطة، ومع ذلك، فقد اتضح أن طبقاتها ممتلئةٌ أيضًا، ويُعتبَر أول مبادئ «نظرية طبقات الذرة» — النظرية القائلة إن السلوك الكيميائي يعتمد على عدد الإلكترونات في الطبقات — وأكثرُها جوهريةً هو المبدأ القائل إن الذرة تَميل إلى أن تكتمل طبقاتها امتلاءً، وثمَّة حافز مُلِح للتفاعلات الكيميائية هو أن الذرة تَميل إلى أن تمتلئ بالحمل الإلكتروني أو تُفرِّغه بأيٍّ من الوسائل المتاحة إلى أن تصل إلى هذه الحالة السعيدة؛ ومن ثَم تميل ذرَّة الكلور ذات السبعة إلكترونات في طبقتها الخارجية إلى أن تكتسب إلكترونًا؛ ومن ثَم يُصبح لديها ثمانيةُ إلكترونات، وتمتلئ طبقتها الخارجية. ويفقد الصوديوم إلكترونَه الخارجي ومن ثَم يكون له طبقة ممتلئة بثمانية إلكترونات. في حقيقة الأمر، غالبًا يقع الاختيار على الرقم ثمانية للترتيب المستقرِّ للإلكترونات، ونحن نُشير إلى ترتيب الطبقة الخارجية المكتملة والمستقرَّة تلك بالثمانيات؛ ومن ثَم يكون للموسيقيِّين ثمانيتُهم وللكيميائيين أيضًا ثمانيتُهم، لكن المفهوم يَشوبه بعضُ الغموض لدى الكيميائيِّين؛ إذ تتكون الطبقة الخارجية المكتملة للهيدروجين على سبيل المثال من إلكترونَين؛ ومن ثَم تكون ثمانيته ثنائية، فهو فعليًّا ثنائيٌّ (لحن ثنائي)، وليس ثمانيًّا!

ويُمنَح الصوديوم، إذا فقَد إلكترونًا، شحنةً موجبة صافية تُرَى كعلامة «+»، تُكتَب أعلى الرمز هكذا Na+، وبالطبع يُمكن للصوديوم أيضًا أن يكتسب سبعة إلكترونات كي يملأ ثمانيتَه، لكن الذرة تميل إلى الأسهل؛ ففقدُ إلكترون أسهلُ من اكتساب سبعة أخرى. ويُعطي اكتساب إلكترون للكلور شحنة سالبة صافية تُرَى كعلامة «−» مكتوبة فوق العنصر Cl، وتعني الشحنات المتساوية والمتضادَّة لأيونَيِ الصوديوم والكلور أن كلًّا منهما سيسعى نحو الآخر، ويتحد كلٌّ منهما بالآخر بنسبة واحد إلى واحد مكوِّنَين NaCl.
fig6
شكل ٢-٥: إذا فقد الصوديوم Na إلكترونًا ستمتلئ طبقته الخارجية، وإذا اكتسب الكلور إلكترونًا ستمتلئ طبقته الخارجية. وعليه، بنقصان إلكترون يُصبح الصوديوم Na+، وبزيادة إلكترون يُصبح الكلور Cl. ويجتمع Na+، وCl معًا ليكونا NaCl.
وهذا نفس ما يحدث مع كلوريد البوتاسيوم. ويقع البوتاسيوم (رمزه K مأخوذ من الكلمة اللاتينية Kaluim) أسفلَ الصوديوم مباشرة في الجدول الدوري، ويتسنَّى للبوتاسيوم بلوغُ حالة السعادة الناتجة عن وجود ثمانية إلكترونات في طبقته الخارجية بواسطة فَقْد إلكترون، تاركًا بروتونًا زائدًا طليقًا وشحنة موجبة، وتتناسب هذه الشحنة الموجبة مع الشحنة السالبة لأيون الكلور، التي تكون في أسعدِ حالاتها، وينتج عن ذلك كلوريد البوتاسيوم KCl، وهو مركَّب يُمكن أن يحلَّ محل ملح الطعام. وبالاستعانة بالجدول الدوري نجد أن الكالسيوم يصل إلى حالة الامتلاء عندما يفقد إلكترونَين، ويكتسب شحنتَين موجبتَين Ca2+، ومن ثم، من الممكن أن نتوقَّع ارتباطَه بأيونَين من الكلور 2Cl؛ ليكون ملح كلوريد الكالسيوم CaCl2.

هذه هي المعادلة على طبق من فِضة أو على طبقة ذرِّية إذا رغبت.

ويُمكن أن تمتدَّ الفكرة لتشمل موادَّ مكوَّنة من اللافلزات أيضًا، فعلى سبيل المثال، يُمكن شرح مركَّب H2O (الماء) في ضوء الطبقات الذَّرية، وثمَّة خيط رفيع فاصل فيما يخص الاختلاف بين الرابطة الكيميائية في كلوريد الصوديوم والرابطة في الماء، وهي ما سوف نتناولها لاحقًا عندما نخوض أكثرَ في الروابط الكيميائية، لكن لا يزال إعادة ترتيب الإلكترونات لملءِ الطبقات هو أولويتَنا الأساسية.
fig7
شكل ٢-٦: يمكن تحديد عدد إلكترونات التكافؤ (عدد الإلكترونات في الطبقة الخارجية) للهيدروجين والأوكسجين من طريق موقعهما في الجدول الدوري؛ فالعدد الذري للهيدروجين هو واحد، فيكون لديه بروتون وإلكترون تكافؤ، ويكون إجمالي إلكترونات الأوكسجين هو ثمانية إلكترونات، لكنَّ اثنَين فقط منها يوجدان في الطبقة الممتلئة، أما الستة إلكترونات الخارجية ففي طبقة التكافؤ.
وعدد إلكترونات التكافؤ (إلكترونات الطبقة الخارجية) التي يجلبها الهيدروجين للخليط هي إلكترون يُستدَل عليه من موقعه كأول عنصر في الجدول الدوري، والهيدروجين في حاجة ماسة إلى طبقة ممتلئة مثل التي يتمتع بها الهليوم؛ مما يعني أنه في حاجةٍ إلى إلكترون آخر. وبالمثال يكون عدد إلكترونات التكافؤ التي يجلبها الأوكسجين للتفاعل هي ستة إلكترونات يستدل عليها من موقعه كسادس عنصر في الجدول، (في الدورة الثانية عند القراءة من اليسار إلى اليمين عبر الجدول الدوري)، إلا أن الأوكسجين غيرُ مُشبع أيضًا، ويصل الأوكسجين إلى السعادة الحقيقية (حالة الاستقرار) عندما يكتمل امتلاء طبقته الخارجية كما في حالة النيون، لكن الأوكسجين يحتاج إلى أن يكتسب إلكترونَين لكي تمتلئ طبقته الخارجية، يحصل كلٌّ من الهيدروجين والأوكسجين على احتياجاتهما المتبادَلة عن طريق مشاركة الإلكترونات، لكن الأمر يستلزم وجود ذرتَي هيدروجين في هذا الخليط الخاص؛ لسدِّ حاجة ذرة أوكسجين واحدة، وعندما تُشارك كلٌّ من ذرتَي الهيدروجين بإلكترونَيها الوحيدَين مع ذرة الأوكسجين، ينتهي الحال بثمانية إلكترونات تكافؤ للأوكسجين. وفي هذا التبادل، تستطيع كل ذرة هيدروجين أن تستفيد بإلكترون من الأوكسجين، وتملأ طبقتها الخاصة وتأخذ نصيبها! والناتج عن هذا الخليط هو الماء H2O.
ونحن بلا ريب نحتاج إلى الماء للحياة، وأيضًا الهواء، لكننا لا نحتاج إلى كل مكوِّنات الهواء؛ فأغلب الهواء يتكون من غاز النيتروجين الذي يوجد في شكل جزيء ثنائي الذرَّة N2، ويختلط بالنيتروجين كمية كبيرة من غاز الأوكسجين الذي يتكوَّن من جزيء ثنائي الذرة (O2). ويُمكِن تفسيرُ طبيعة النيتروجين كجزء ثنائيِّ الذرة بالرغبة نفسِها في الوصول إلى طبقات ممتلئة؛ إذ تحوي ذرة النيتروجين خمسة إلكترونات في طبقاتها الخارجية، وفي حالة وجود ذرتَي نيتروجين، تُشارك كلُّ ذرة شريكتها الأخرى من النيتروجين بثلاثة إلكترونات — إذ تُفيد كلٌّ منهما الأخرى بالحصول على ثمانية إلكترونات لملء طبقاتهما.

ويُعزَى غِنى الهواء الشديد بالنيتروجين أكثرَ من الأوكسجين إلى سبب كيميائي، ألا وهو قلة النشاط الكيميائي للنيتروجين، مما يجعله يُشارك في أنواعٍ محدودة من التفاعلات الكيميائية أقلَّ من الأوكسجين، فضلًا عن أن غاز النيتروجين مستقرٌّ في الجو مما يُعرِّضه لأشعة الشمس وهو ما لا يحدث مع الأوكسجين، ولكن لا يعني القول إن غاز النيتروجين أقل نشاطًا من غاز الأوكسجين أن النيتروجين غير نشط، ففي حقيقة الأمر النيتروجين نشط جدًّا، ويستدل على ذلك من عدد المواد والمخاليط التي تحوي النيتروجين كمُكوِّن أساسي لها.

فعلى سبيل المثال، النيتروجين مكون أساسي في البارود، علاوة على أنه يُعتبر مكونًا أساسيًّا في الأحماض الأمينية الضرورية للحياة كما نعلم. وتُعطي مركبات النيتروجين اللونَ البُني المحمَرَّ للدُّخان، ويوجد حامض النيتريك في الأمطار الحامضية، ويُستخدَم سائل النيتروجين في إزالة البثور، ونفس النيتريتات التي تُستخدم لحفظ الطعام تُسبب السرطان للفئران، وتقوم مركبات النيتروجين بمسئولية إيجاد تُربة خِصبة غنية بالنيتروجين، وأيضًا بمسئولية نمو البكتيريا التي توجد عند حدوث مرض طفح الحفاض عند الأطفال، وتدخل بعض مكونات النيتروجين في المنظفات القوية، في حين يُعتبر البعض الآخر مصدرَ روائح تُضاهي في كراهيتها روائح السمك السيئة.

والغاز المضحك الذي يُستخدَم مُخدِّرًا لقلع الأسنان بلا ألم هو أحد أكاسيد النيتروجين، في حين أن مادة اﻟ «تي إن تي» وهو اختصار لثلاثي نترات التولوين هي مادة غيرُ بنَّاءة. وعلى الصعيد الفسيولوجي، شكَّلَت مركبات النيتروجين النشطة — مثل الكافيين والنيكوتين والموروفين والكوديين والكينين (مادة شبه قلوية شديدة المرارة تُعالج بها الملاريا) — تاريخ البشرية. ويُشارك النيتروجين في الكيمياء التي تُهدِّد الحياة بالمتفجرات المخصَّبة بالنيتروجين، وأيضًا في الكيمياء التي تحمي الحياة عن طريق الوسائد الهوائية الممتلئة بالنيتروجين؛ فالنيتروجين مادة تُسبب دمارًا شاملًا ونفعًا تامًّا في الوقت نفسِه، كيف يكون هذا؟!

ولفهم براعة النيتروجين نحتاج إلى أن نُلقي نظرة أخرى على الجدول الدوري، وبالنظر على موقع النيتروجين نجد أن هناك طريقتَين يُمكن بهما الحصولُ على طبقة ممتلئة: إما باكتساب ثلاثة إلكترونات والوصولِ إلى طبقة مكتملة العدد، كما ذكرنا من قبل، وإما بفقد خمسة إلكترونات والوصول إلى طبقة مكتملة العدد أيضًا. وكما يتضح، ثمة بعض المواقف الوسطية مثل فقد ثلاثة إلكترونات فقط، فهذا مقبولٌ للنيتروجين أيضًا؛ ومن ثَم يُمثِّل النيتروجين شخصيات عديدة، ويُمكنه أن يخضع للعديد من التحولات. وسنُواصل التعلم عن تعدد براعة النيتروجين وما تبقى من الجدول الدوري في الصفحات القادمة.

على سبيل المثال: عناصر التنوع

الآن وبعد أن اطلعنا على الجدول الدوري، لنقم بجولة قصيرة. يُعَد الكثير من عناصر الجدول الدوري مثل الحديد (Fe) (الرمز مأخوذ عن الكلمة اللاتينية Ferrum) والنيتروجين (N)، والفوسفور (P) والأوكسجين (O) والكربون (C)، عناصرَ مألوفة، في حين لا تكون بعض العناصر الأخرى مألوفة مثل التكنيشيوم (Tc) واللانثانم (La). فنحن نَأْلف الهيدروجين والأوكسجين؛ لوجودهما في الهواء الذي نستنشقه والأرض التي نمشي عليها، لكن مهما استنشقنا من الهواء أو حفرنا الأرض، لن نتوقع أبدًا أن نستنشق ذرة من اللورنسيوم (Lr) أو نكتشف جرامًا من السيبورجيوم (Sg)، وليست هذه العناصر غيرَ مألوفة لصعوبةِ نطقها أو استهجاء حروفها فحسبُ (مع أنه يُمكن إثارة الجدل حول هذا أيضًا)، بل هي غير مألوفة أيضًا في عِلمَي الكونيات والفيزياء، ويرتبط السبب في ذلك بما يُعرَف بنظرية الانفجار العظيم.
وطبقًا لنظرية الانفجار العظيم، نشأ عالمنا نتيجة انفجار هائل لا يُمكن تصوره (لذا سُمِّي بالانفجار العظيم)، ثم تكثفت أنقاض هذا الانفجار العظيم في البداية إلى العناصر الأخف وهي الهيدروجين والهليوم؛ لأنها تكون بسيطة نسبيًّا؛ إذ يتألف الهيدروجين من بروتون وإلكترون، ويتألف الهليوم من بروتونَين ونيترونَين وإلكترونَين. وعندما يتجمَّع عددٌ كافٍ من الذرات معًا وتبدأ الكتلة في الانضغاط تحت ثِقَل جاذبيتها، حتى تبدأ فعليًّا هذه الأنْوِية في الاندماج لتُكوِّن أنوية الذرات الأثقل، وأثقل نواة تكوَّنَت في الكواكب الأولى في غضون عملية الاندماج، أي اندماج الأنْوية معًا، هي نواة الحديد. ولكي تَحويَ الشمس عناصرها كان لا بد أن تبدأ في عمليةِ اندماجها مع بعض الأنوية الأثقل الموجودة بالفعل، مما يحتمل أن الشمس من نجوم الجيل الثالث، أي إنها تكونَت نتيجةً لتجمع الغبار الناجم عن انفجارات نجمَين سابقَين، ومع ذلك — وحتى عند النظر إلى الوفرة النسبية للعناصر الموجودة في الشمس كما هو مبين في شكل ٢-٧ — فإنه يتبيَّن أن العناصر الخفيفة مثل الهيدروجين والهليوم لا تزال تتصدر العناصر الباقية من حيث احتلالُهما للحجم الأكبر من الشمس.
fig8
شكل ٢-٧: انتشار العناصر الموجودة في الشمس. عُدلت بِناءً على تصريح من ستيفن أي. داتش لمقال «الجدول الدوري للعناصر المنتشرة» الصادر عن مجلة «جورنال أوف كيميكال إديوكشن» ٧٦ (١٩٩٩): صفحة ٣٥٦–٣٥٨.
انتشار العناصر في شكل ٢-٧ موضَّح بمقياس لوغاريتماتي: تمثل التغييرات في أنصاف أقطار الدوائر التغيرات في الحجم أو أس الرقم عشرة مثل مقياس الديسبل، فتَزيد شدة الصوت الذي يُسجِّل مقياس ٢٠ ديسبل عشَرة أضعاف الصوت الذي يُسجل ١٠ ديسبل، وشدة الصوت الذي يُسجل ٣٠ تكون مائة ضعف الصوت الذي يُسجل ١٠ ديسبل، وفي هذا الجدول الدوري يُمثل نصف قطر الدائرة المحيطة بالعنصر مضاعفات الرقم ١٠.

نحن نستخدم المقياس اللوغاريتمي لقياس وفرة العناصر؛ لوجود فرق شاسع بينها، فتُشبه محاولة مقارنة مدى انتشار العناصر، في غياب هذا المقياس، محاولة رسم جودزيلا (وحش عملاق) إلى جانب فأر في نفس الإطار (وقد يكون هذا سببَ عدم وجود فيلم يُمكن أن يحمل عنوان: «جودزيلا يتحدى الفأر الخارق»). فناطحة السحاب في الفيلم يُمكن أن تظهر بجانب جودزيلا وليس الفأر. ولن نَشْغل أنفسنا بدقة الأرقام هنا، نحن نريد فقط أن نشعر بالانتشار النسبي للعناصر، وهذا يُمكن تمثيله جيدًا بواسطة الدوائر.

ثمة قفزة بعد الهيدروجين والهليوم إلى الكربون، ويُعزى ذلك إلى أن الأنوية المركزية تكون غيرَ ثابتة على نحوٍ لا يسمح لها أن تتكوَّن في غضون عملية الاندماج النووي، وتحوي ذرة الهليوم بروتونَين في نواتها، والكربون لديه ستة بروتونات في نواته؛ لذا يمكن أن تتكوَّن ذرة كربون من اندماج ثلاث ذرات هليوم، وهي عملية تتطلب حرارة وكثافة شديدتَين لنجوم ضخمة. يعقب هذا تفضيلٌ مميز للنواة التي بها عددٌ زوجي من البروتونات في نواتها، فالأوكسجين به ثمانية بروتونات في نواته والنيون به عشرة بروتونات والماغنسيوم به اثنا عشرَ بروتونًا … وهكذا. ويمكن شرح هذا التفضيل في ضوء نظريات الفيزياء الذرية، لكنه ليس موضوعنا الآن. وقد لاحظنا أن العناصر الضرورية للحياة مثل الهيدروجين والكربون والنيتروجين والأوكسجين والصوديوم والماغنسيوم والفوسفور والكالسيوم والحديد، وهلم جرًّا، توجد جميعها في الشمس أيضًا.

وفي بعض الأحيان تتكثَّف بقايا الانفجار العظيم وانفجارات النجوم إلى كوكب بدلًا من نجم آخر، وهو ما يُرجَّح حدوثه مع كوكب الأرض. ويمكن أن نستدل من انتشار العناصر الموجودة في قشرة أرضنا الموضحة في شكل٢-٨ أن عناصر الأرض هي بالتقريب عناصرُ الشمسِ نفسُها، ولكن مستنزفة في أكثر العناصر تطايرًا مثل الهليوم والهيدروجين.
fig9
شكل ٢-٨: انتشار العناصر في قشرة الأرض. وقد عُدِّلت بِناءً على تصريح من ستيفين أي. داتش، «الجدول الدوري للعناصر المنتشرة» الصادر عن مجلة «جورنال أوف كيميكال إديوكشن» ٧٦ (١٩٩٩): ٣٥٦–٣٥٨.

ويُوضِّح الثراء النسبي لعناصر الألمنيوم والسليكون مقارنة بالحديد والنيكل حدوثَ تغير في الاتجاه لمصلحة العناصر الأخف؛ لأننا ننظر إلى قشرة الأرض فيتضح لنا أن العناصر الثقيلة، نتيجةً للتغيرات المناخية الشديدة على مر العصور، قد اتجهت نحو باطن الأرض، أما العناصر الأخف فقد ارتفعت إلى القمة.

وفي شكل ٢-٩ نُقارن الأربعين عنصرًا التي تتبوَّأ القمة في القشرة الأرضية بعناصر القمة العشَرة في جسم الإنسان،3 مؤكِّدين مرةً أخرى لمعظم الناس أنه — وقد يكون هذا مُحبِطًا لعلماء النظريات الخاصة بالحياة خارج الأرض — يُمكن أن يكون انتشارُ العناصر في جسم الإنسان مُشابهًا لانتشار العناصر الموجودة على الأرض على نحوٍ لافتٍ للنظر، مما يَزيد التأكيد بشأن أصولنا التطورية. وفي ترتيب تنازلي للكميات، يتألَّف جسم الإنسان من أوكسجين وكربون وهيدروجين ونيتروجين وكالسيوم وفسفور وبوتاسيوم وكبريت وصوديوم وكلور، وتوجد عناصرُ أخرى لكن بكميات أقلَّ من ٠٫١٪.
fig10
شكل ٢-٩: مقارنة بين عناصر القمة الأربعين الموجودة في القشرة الأرضية وعناصر القمة العشرة في جسم الإنسان، وتُرقَّم العناصر الموجودة في الجسم لبيان انتشارها، ويكون الأوكسجين المرقم برقم «١» أكثرَها وفرة، ثم يليه الكربون المرقم برقم «٢»، إلخ.
إلا أن هناك بعضَ الاستثناءات المثيرة؛ فالسليكون الذي يوجد في كلِّ حبةٍ من الرمال التي يطَؤها كلُّ مخلوقٍ يوميًّا ويستحوذ عليها كلُّ جذرٍ من جذور النباتات، لا وجود له بين عناصر القمة العشرة في جسم الإنسان. ولا ينعدم الألمنيوم — الذي يبرز في القشرة الأرضية — من عناصر القمة العشَرة بجسم الإنسان فحسب، بل أيضًا تُجرَى الأبحاث عنه لارتباطِه بتلف الأعصاب.4 ولا يبلغ اليود أيَّ مرتبة في قائمة عناصر القمة الأربعين للقشرة الأرضية، ومع ذلك فغيابه من جسم الإنسان يتسبَّب في الإصابة بتضخُّم الغدة الدرقية. ويُمكن أن نخلص من هذه المقارنة إلى أنه ليس الوجود الفيزيائي للعنصر هو الذي يُحدِّد أهميته فحسب، بل نشاطه الكيميائي أيضًا؛ لذا اسمحوا لنا أن ننتقل إلى هذا العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤