تحدث دوريًّا
لا يستطيع ذلك الجيش أن يتعافى في أي مكان؛ فمنذ معركة بورودينو وخراب موسكو وهو يحمل في نفسه ما يُشبِه عناصر الانحلال الكيميائي.
عند التقاط صورة للعائلة عندما يلتئم شملها، قد يطلب المصور أن يقف أفراد الأسر المباشرة بعضهم مع بعض أو يُرتِّبهم حسَب أطوالهم أو أعمارهم، وربما يطلب المصور المبالغ في الاهتمام بالتفاصيل أن يقف أولئك المقيمون في الساحل الغربي في جانب، وأولئك المقيمون في الساحل الشرقي في الجانب الآخر، ويجعل أولئك القاطنين في الشمال يقفون قليلًا إلى الخلف، والقاطنين في الجنوب إلى الأمام. قد تأخذ مثل هذه الترتيبات بعضًا من الوقت والجهد، لكنها ستضمن أن الأجيال القادمة سوف يتبيَّنون قدرًا لا بأس به من المعلومات عن فرد معين بإيجاد موقعه أو موقعها في الصورة. وهكذا، يشبه الجدول الدوري الصورة الملتقطة لاجتماع العائلة؛ فبمجرَّد فَهْم مبدأ الترتيب، يمكن الحصول على معلومات معينة عن عنصر معين بمجرد معرفة موقعه في الجدول.
ولكي يتمكَّن من تنظيم العناصر كتب مندليف كلَّ سلوك العناصر التي يُلاحظها في بطاقات، ثم صنف هذه البطاقات إلى مجموعات؛ تبعًا للسلوك المتشابه، وبعدئذٍ أضاف مندليف مستوًى آخرَ من التصنيف، وأخذ يُصنِّف العناصر تبعًا للكتلة المميزة للعناصر.
غالبًا ما يُسْتَخدم مصطلح الكتلة والوزن بمعنًى واحد، لكنَّ ثمَّة فرقًا خفيًّا ومهمًّا في الوقت ذاته؛ فوزنُ الشيء هو قياسُ مقدار القوة التي تجذبه بها الجاذبيةُ الأرضية نحو الأرض، ولأن جاذبية القمر أقلُّ من جاذبية الأرض، نجد أن الأشياء تَزِن أقلَّ على سطح القمر. وتُقاس الكتلة وفقًا لميزانٍ يرتبط ببعض المعايير، وبالنظر إلى «تمثال العدالة العمياء» الذي يرمز إلى سيادة القانون، نجده امرأةً معصوبة العينَين تحمل مثل هذا الميزان. ولقياس كتلة المادة، نضع المادة في إحدى كِفَّتَي الميزان ونضع معيارًا لكتلة معروفة في الكفَّة الأخرى إلى أن تتساوى الكفَّتان، ولأن الجاذبية تُؤثِّر على المعايير بنفس الطريقة التي تُؤثر بها على الشيء المراد قياسُه؛ ومن ثَم تكون الكتلة المقيسة على الأرض مُساويةً تمامًا لتلك المقيسة على سطح القمر.
وكان يُعرَف في وقت مندليف أن العناصر يتَّحد بعضُها مع بعض بنِسَب محدَّدة مثلما تتَّحد المكونات في أثناء الطهي، فمثلما قد تتطلَّب طريقة صنع الكعك بيضة وكوب لبن، فإن طريقة صُنع مِلح الطعام تتطلَّب جزءًا من الصوديوم وجزءًا من الكلور. وكانت كتلة الجزء الواحد من الصوديوم تُؤخَذ باعتبارها الكتلةَ المميزة للصوديوم، وهي الكتلة المميزة لكلِّ عنصرٍ استخدمه مندليف في المرحلة الثانية من الترتيب.
وقد رتَّب باحثون آخَرون العناصرَ في مجموعاتٍ طبقًا لكُتَلها المميزة، لكن كانت لمندليف جَسارةٌ في الاحتفاظ بمجموعاتٍ لها نفسُ السلوك الكيميائيِّ بعضها مع بعض، حتى وإن كان نتيجة ذلك تَرْك بعض الفراغات في الجدول، وما لبثت البصيرةُ النافذة لمندليف أن كشفَت عن نفسها عندما وجَد آخرون العناصرَ المفقودة ووجَدوا أنها تتناسبُ وفراغاتِ جدول مندليف.
وبعد مُضيِّ عدة عقود — بعدما كشَف باحثون آخرون عن لُغز تركيب الذَّرة — وجدوا أن اتجاهات تركيب الذرة تتبع ترتيب الجدول الدوري، مُعلِنين بذلك الارتباطَ بين التركيب الذري والسلوكِ الكيميائي. ويبدو أن المفهوم قد أصبح واضحًا بعد الإدراك المتأخِّر له؛ فسلوكُ كلِّ الأشياء، من السمكة إلى وَميض الضوء، تُحدِّده الطريقة التي وُضِعَت بها هذه الأشياءُ معًا، لكن التركيب الأساسي للذرات — الإلكترونات والبروتونات والنيترونات — لم يكن معروفًا حينما رتَّب مندليف جدوله.
وأيًّا كان الشكل الذي تختار أن تستعين به، فالسِّمة اللافتة للنظر في الجدول الدوري هي نظامُ ترتيبه؛ ففي عالَمٍ مثل عالمنا هذا حيث السحُب المتغيرةُ الأشكال، والأشجارُ التي تنمو أفرعها على نحوٍ عشوائي، والخلايا التي لا يوجد اثنتان منها مُتشابهَتَين، أو تتماثل فيه كُتلتان جليديَّتان، قد يبدو ترتيبُ الجدول الدوري الحاذق أمرًا خارقًا للطبيعة مثل الطقوس الدينية الشديدةِ الصرامة. إلا أن هذا النظام البُدائي الذي يُمكنه أن يُحيل الأمور المعقَّدة إلى أمور فوضوية (أرجأنا النقاش في مثل هذا الأمر إلى الفصل الذي يتحدث عن الديناميكا الحرارية)، يُشكِّل القواعد الأساسية لعالمنا المتغير.
وعليك أن تبدأ من مكانٍ ما، وعندما تعلَّق الأمر بالكتلة بدأ العلماء بالبروتون، وقد عرَّف العلماء البروتون بأنه كُتلة وحدة واحدة للكتلة الذرِّية أو: و ك ذ ويُفترَض أن كتلة النيترون وحدةٌ واحدة للكتلة الذرية أيضًا؛ وذلك للاقتراب الشديد بين البروتون والنيترون في الكتلة، ودائمًا يكون عدد البروتونات في ذرَّة العنصر هو عددَها الذري نفسَه ومُساويًا له؛ فإذا كان للذرة سبعةَ عشَر بروتونًا، فإنَّ عددها الذري يكون ١٧، وهو عنصر الكلور. وإذا كانت الذَّرة هي ذرةَ كلور، فهي تحوي إذن ١٧ بروتونًا، ولكن يُمكن أن تتنوَّع كتلة الذرة المعطاة لعنصر ما؛ وذلك لأن عدد البروتونات وعدد النيترونات يحددان كتلة الذرة، ومن الممكن أن يتغير عدد النيترونات؛ فعلى سبيل المثال، تحوي كلُّ ذرة كلور ١٧ بروتونًا، لكن بعض الذرات تحوي ١٨ نيترونًا، والبعض الآخر يحوي ٢٠ نيترونًا، فيكون مُجمل كتلة ذرة الكلور التي تحوي ١٨ نيترونًا هو ١٧ و ك ذ بالإضافة إلى ١٨ و ك ذ أي ٣٥ و ك ذ بالإضافة إلى ٢٠ و ك ذ أي ٣٧ و ك ذ وعندما تكون لذراتِ عنصر ما كتلٌ مختلفة، يُطلَق عليها اسم «النظائر». وتكون الكتلة الذرية للعنصر المعطى هو متوسط كتلة نظائره.
ويُمكن تشبيهُ عدد البروتونات في الذرة بنوعٍ من الخصائص التي تُميز الإنسان بكونه ذكرًا، فإذا كان لأحدهم هذه الخصائصُ يكون ذكرًا، كذلك إذا كان لذرَّةٍ عددٌ معين من البروتونات، فإن ذلك العدد هو الذي يُحدد هُويةَ ذلك العنصر، لكن الذكور المختلفة لها كتلٌ مختلفة، لكننا نستطيع بسهولة ويُسر أن نُوجِد متوسطَ كتلة مجموعة من الرجال بواسطة جمعِ كلِّ كُتلِهم الفردية معًا، ثم نَقسم الإجمالي على عدد الرجال في هذه المجموعة، وبالمثل، يمكن اتباعُ نفس الإجراء مع عناصر الجدول الدوري. وكما نرى في الملحَق، كتلة الكلور المعطاة هي ٣٥٫٤٥ و ك ذ التي لا تُمثِّل حتى كتلة أي نظير، وهي تُمثِّل متوسطًا أعلى من الكتلة المعتادة للنظائر، غير أن عدد البروتونات هو الذي يُحدِّد نوع العنصر، وعليه، مع أن النظائر قد يكون لها أعدادٌ مختلفة من النيترونات وكتلٌ مختلفة، فإن العدد الذري هو الذي يُخبِرنا بعدد البروتونات، وعدد البروتونات هو الذي يُحدِّد نوع العنصر، والعدد الذي تلحظ زيادته وأنت تطَّلِع على الجدول الدوري هو العدد الذري وهو عدد البروتونات نفسُه.
لكن إذا كان لا يُوجَد مبدأٌ يقوم عليه التصنيفُ غير عدد البروتونات في النَّواة، لماذا إذن ذلك الشكل المثير للفضول في الجدول الدوري؟ يُعزَى ذلك إلى أن ترتيب الجدول يهتمُّ بما هو أكثرُ من عدد البروتونات.
وتُصنَّف الكائنات الحية في علم الأحياء إلى ممالكَ وشُعَب وطوائفَ ورُتَب وعائلاتٍ وأجناس وأنواع، وتُصنَّف العناصر في الكيمياء أيضًا — وإن كان إلى عددِ فئاتٍ أقلَّ — وما يَعْنينا هنا هو تصنيف العناصر إلى ما يُطلَق عليه «أنواع» مختلفة، وعدد البروتونات هو ما يُحدد نوع العنصر؛ ومن ثَم يُمكن النظر إلى العدد الذري على أنه «النوع»، فإذا كانت الذرة تحتوي على بروتونَيْن فهذا يعني أنها لعنصرِ الهليوم، وإذا كانت الذرة هي ذرَّة هليوم إذن هي تحوي بروتونَين. فهذا أمرٌ ثابت لا يتغير، غير أن عدد الإلكترونات في ذرة العنصر يُمكن أن يتبايَن ويُمكن اعتبارُ أيِّ تبايُن «نوعًا»، ويكون عددُ البروتونات هو عددَ الإلكترونات نفسَه في الأنواع المتعادلة من الذرات.
ويحمل البروتون وَحدةً واحدة من الشحنات الموجبة؛ لذا لكي تُصبح الذرة متعادلة، ويجب أن يُعادل هذه الشحنةَ الموجبة إلكترونٌ له شحنة سالبة؛ لذلك، يُخبرنا الجدول الدوري أيضًا بعدد الإلكترونات الموجودة في ذرة العنصر؛ فعلى سبيل المثال، يحتوي الهيدروجين على بروتون؛ لذا تحتوي ذرة الهيدروجين المتعادلة على إلكترون أيضًا، وتوجد في نواة الكربون ستةُ بروتونات؛ لذا تُوجَد في ذرته المتعادلة كهربيًّا ستةُ إلكترونات.
ومن ثَم تُحدد الطبقاتُ شكل الجدول الدوري، لكن ليس هذا كل شيء فلا يزال هنالك المزيدُ لِنَسرده؛ فهناك أثرٌ آخر ذو مغزًى من وجود الطبقات، ألَا وهو أن الانشغال أو الانشغال الجزئيَّ للطبقات هو الذي يُحدِّد السلوك الكيميائي أو «النشاط الكيميائي» للعناصر المتنوِّعة. والأعمدة الرأسية في الجدول الدوري هي لمجموعةٍ من العناصر التي لها حالاتٌ متشابهة من حيث انشغالُ طبقاتها الخارجية، فهي أعضاءٌ في نفس العائلة، ولكن العائلات التي تتشارك الكيمياء، وليست تلك التي تتشارك الأسلاف!
فعلى سبيل المثال، يكون لكلٍّ من الهليوم والنيون والأرجون طبقاتٌ ممتلئة، وتُعرَف هذه العناصر التي تُوجَد في صف عمودي بالغازات النبيلة؛ لأن لها طبيعةً رصينة وهامدةً وخاملة، ويُجسِّد الهليوم فَقْرها إلى النشاط الكيميائي، وهو عنصرٌ غاية في الخمول، حتى إننا نَستخدم بالونات الهليوم في تزيين الحفلات، ومن ناحية أخرى، يتَّسِم الهيدروجين بشدةِ نشاطه؛ لذا قد تجلب بالونات الهيدروجين في الحفلات تسليةً تُصاحبها أصواتٌ مدوية أكثر من تلك التي نكترث لها.
وتتشابه تفاعلاتُ النيتروجين والفسفور؛ لأن لهما العددَ نفسَه من الإلكترونات في طبقتَيهما الخارجيَّتَين (خمسة إلكترونات). وتُشبه تفاعلات الأوكسجين تفاعلات الكبريت لتشاركهما في نفس عدد انشغالِ طبقاتهما الخارجيتَين (ستة إلكترونات). ويُسمَّى هذا الانشغال للطبقة الخارجية للذرة «تكافُؤَ الذرة». فتكافؤ الكربون هو ٤ (بسبب وجود أربعة إلكترونات في طبقته الخارجية)، وهو يتَشابه في بعض الخواصِّ الكيميائية مع السليكون الذي يكون تكافؤه ٤ أيضًا. وتُستخدَم عناصر السليكون والجرمانيوم والقصدير والرَّصاص التي لها التكافؤ نفسُه وهو ٤، ولكن بنسبةٍ مختلفة في تكوين أشباه الموصلات، وفي تكوين موادَّ مثيرةٍ وهامة، وسنتعرَّض لذلك فيما بعدُ عند مناقشة الروابط الكيميائية.
ويتفاعل الأوكسجين مع الهيدروجين بنسبة واحد إلى اثنين، وكذلك الكبريت والسيلنيوم والتيلوريوم، ويَضْطلعُ النشاط الكيميائي — الذي هو قدرة العناصر على الترابط كيميائيًّا في مركَّبات — بمُهمة تحويل عناصر الكون إلى موادِّ الأرض التي هي في النهاية موادُّ الحياة. ومع أنه علينا أن نُقلِع عن الإسهاب في مناقشتنا حولَ جزيئات الحياة المعقَّدة حتى تتوافرَ أسُس أكثرُ متانةً، فإن لدينا بالفعل معلوماتٍ كافيةً لمناقشة اثنتَين من أهم المواد الكيميائية في الحياة، وهما يُعَدان بلا أدنى شك من المواد الأساسية في الحياة التي تتكون منهما الموادُّ الأخرى، وهما الملح والماء؛ فالحياة الأولى تكوَّنَت في المحيطات المالحة كما هو موضح في المحاليل الملحية في خلايانا، وكما هو دائمًا جليٌّ في الطبيعة الملحية لأجسامنا.
والملحُ مركَّب يتكوَّن من فلزٍّ ولا فلز؛ ومن ثَم يتفاعل الصوديوم وهو عنصرٌ فلزي مع الكلور، وهو عنصر لا فلزي؛ ليُكَوِّنا كلوريد الصوديوم المعروف لدينا بملح الطعام. وتتركَّب الوصفة الثابتة لكلوريد الصوديوم من ذرة صوديوم وذرة كلور، والأساس في هذه النِّسب الدقيقة هو الطبقات أيضًا وهو ما سنخوض في شرحه الآن.
وتتحدَّد كتلة الذرة وفقًا لعدد البروتونات والنيترونات في نواتها، كما ذكَرنا من قبل، ولا تُضيف الإلكترونات، كما ذكرنا أيضًا، فعليًّا شيئًا إلى الكتلة، كما لا تُضيف البراغيث شيئًا في الواقع إلى كتلة الفيل، لكنها تُؤثر على سلوك الفيل مع أنها صغيرة الحجم؛ لأنها براغيث، كذلك الإلكترونات تُحدد السلوك الكيميائي للعنصر مع أنها صغيرة، فعندما تكتسب الذرَّة إلكترونًا أو تفقد آخر، فإنها تُصبِح في حالةٍ من عدم اتزان الشحنة وتصبح «أيونًا»، فيُعَد هذا الأَيُون نوعًا جديدًا لهذا العنصر؛ فذرَّة العنصر التي تحتوي على عددٍ من الإلكترونات أكثرَ من عدد البروتونات هي نوع مشحون بشحنة سالبة أي أيون سالب، وتُعتبَر ذرَّة العنصر التي بها عددُ إلكترونات أقلُّ من البروتونات نوعًا مشحونًا بشحنة موجبة، أي أيون موجب، والأيون هو نوعٌ تفاعلي كما لو كان في حالةِ بحث عن شيء في الشحنة المضادة ليتَّحد معه.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن أية كمية من الشحنات يمكن أن تُكتسَب أو تُفقَد وأن أي أيون يمكن أن يتكون، لكنه قد اتضح أن كلَّ عنصر يُفضل أن يتعامل مع كمية معيَّنة من الشحنات يمكن التنبُّؤ بها، أو يُمكِنك القول إنه نوعٌ من مستوى التأيُّن الذي يمنح العنصر الراحة عند التعامل معه، وهو المستوى الذي يُمكِن التنبُّؤ به عن طريق الجدول الدوري.
وتمتلئ الطبقة الأولى (الصف الأول) بإلكترونَين، وتحتاج الطبقة الثانية إلى ثمانية إلكترونات، وتسَع الطبقة الثالثة ثمانية عشر إلكترونًا، وهكذا. ولقد ذكَرنا من قبلُ أن الغازات النبيلة غيرُ متفاعلة/غير نشطة، ومع ذلك، فقد اتضح أن طبقاتها ممتلئةٌ أيضًا، ويُعتبَر أول مبادئ «نظرية طبقات الذرة» — النظرية القائلة إن السلوك الكيميائي يعتمد على عدد الإلكترونات في الطبقات — وأكثرُها جوهريةً هو المبدأ القائل إن الذرة تَميل إلى أن تكتمل طبقاتها امتلاءً، وثمَّة حافز مُلِح للتفاعلات الكيميائية هو أن الذرة تَميل إلى أن تمتلئ بالحمل الإلكتروني أو تُفرِّغه بأيٍّ من الوسائل المتاحة إلى أن تصل إلى هذه الحالة السعيدة؛ ومن ثَم تميل ذرَّة الكلور ذات السبعة إلكترونات في طبقتها الخارجية إلى أن تكتسب إلكترونًا؛ ومن ثَم يُصبح لديها ثمانيةُ إلكترونات، وتمتلئ طبقتها الخارجية. ويفقد الصوديوم إلكترونَه الخارجي ومن ثَم يكون له طبقة ممتلئة بثمانية إلكترونات. في حقيقة الأمر، غالبًا يقع الاختيار على الرقم ثمانية للترتيب المستقرِّ للإلكترونات، ونحن نُشير إلى ترتيب الطبقة الخارجية المكتملة والمستقرَّة تلك بالثمانيات؛ ومن ثَم يكون للموسيقيِّين ثمانيتُهم وللكيميائيين أيضًا ثمانيتُهم، لكن المفهوم يَشوبه بعضُ الغموض لدى الكيميائيِّين؛ إذ تتكون الطبقة الخارجية المكتملة للهيدروجين على سبيل المثال من إلكترونَين؛ ومن ثَم تكون ثمانيته ثنائية، فهو فعليًّا ثنائيٌّ (لحن ثنائي)، وليس ثمانيًّا!
هذه هي المعادلة على طبق من فِضة أو على طبقة ذرِّية إذا رغبت.
ويُعزَى غِنى الهواء الشديد بالنيتروجين أكثرَ من الأوكسجين إلى سبب كيميائي، ألا وهو قلة النشاط الكيميائي للنيتروجين، مما يجعله يُشارك في أنواعٍ محدودة من التفاعلات الكيميائية أقلَّ من الأوكسجين، فضلًا عن أن غاز النيتروجين مستقرٌّ في الجو مما يُعرِّضه لأشعة الشمس وهو ما لا يحدث مع الأوكسجين، ولكن لا يعني القول إن غاز النيتروجين أقل نشاطًا من غاز الأوكسجين أن النيتروجين غير نشط، ففي حقيقة الأمر النيتروجين نشط جدًّا، ويستدل على ذلك من عدد المواد والمخاليط التي تحوي النيتروجين كمُكوِّن أساسي لها.
فعلى سبيل المثال، النيتروجين مكون أساسي في البارود، علاوة على أنه يُعتبر مكونًا أساسيًّا في الأحماض الأمينية الضرورية للحياة كما نعلم. وتُعطي مركبات النيتروجين اللونَ البُني المحمَرَّ للدُّخان، ويوجد حامض النيتريك في الأمطار الحامضية، ويُستخدَم سائل النيتروجين في إزالة البثور، ونفس النيتريتات التي تُستخدم لحفظ الطعام تُسبب السرطان للفئران، وتقوم مركبات النيتروجين بمسئولية إيجاد تُربة خِصبة غنية بالنيتروجين، وأيضًا بمسئولية نمو البكتيريا التي توجد عند حدوث مرض طفح الحفاض عند الأطفال، وتدخل بعض مكونات النيتروجين في المنظفات القوية، في حين يُعتبر البعض الآخر مصدرَ روائح تُضاهي في كراهيتها روائح السمك السيئة.
والغاز المضحك الذي يُستخدَم مُخدِّرًا لقلع الأسنان بلا ألم هو أحد أكاسيد النيتروجين، في حين أن مادة اﻟ «تي إن تي» وهو اختصار لثلاثي نترات التولوين هي مادة غيرُ بنَّاءة. وعلى الصعيد الفسيولوجي، شكَّلَت مركبات النيتروجين النشطة — مثل الكافيين والنيكوتين والموروفين والكوديين والكينين (مادة شبه قلوية شديدة المرارة تُعالج بها الملاريا) — تاريخ البشرية. ويُشارك النيتروجين في الكيمياء التي تُهدِّد الحياة بالمتفجرات المخصَّبة بالنيتروجين، وأيضًا في الكيمياء التي تحمي الحياة عن طريق الوسائد الهوائية الممتلئة بالنيتروجين؛ فالنيتروجين مادة تُسبب دمارًا شاملًا ونفعًا تامًّا في الوقت نفسِه، كيف يكون هذا؟!
ولفهم براعة النيتروجين نحتاج إلى أن نُلقي نظرة أخرى على الجدول الدوري، وبالنظر على موقع النيتروجين نجد أن هناك طريقتَين يُمكن بهما الحصولُ على طبقة ممتلئة: إما باكتساب ثلاثة إلكترونات والوصولِ إلى طبقة مكتملة العدد، كما ذكرنا من قبل، وإما بفقد خمسة إلكترونات والوصول إلى طبقة مكتملة العدد أيضًا. وكما يتضح، ثمة بعض المواقف الوسطية مثل فقد ثلاثة إلكترونات فقط، فهذا مقبولٌ للنيتروجين أيضًا؛ ومن ثَم يُمثِّل النيتروجين شخصيات عديدة، ويُمكنه أن يخضع للعديد من التحولات. وسنُواصل التعلم عن تعدد براعة النيتروجين وما تبقى من الجدول الدوري في الصفحات القادمة.
على سبيل المثال: عناصر التنوع
نحن نستخدم المقياس اللوغاريتمي لقياس وفرة العناصر؛ لوجود فرق شاسع بينها، فتُشبه محاولة مقارنة مدى انتشار العناصر، في غياب هذا المقياس، محاولة رسم جودزيلا (وحش عملاق) إلى جانب فأر في نفس الإطار (وقد يكون هذا سببَ عدم وجود فيلم يُمكن أن يحمل عنوان: «جودزيلا يتحدى الفأر الخارق»). فناطحة السحاب في الفيلم يُمكن أن تظهر بجانب جودزيلا وليس الفأر. ولن نَشْغل أنفسنا بدقة الأرقام هنا، نحن نريد فقط أن نشعر بالانتشار النسبي للعناصر، وهذا يُمكن تمثيله جيدًا بواسطة الدوائر.
ثمة قفزة بعد الهيدروجين والهليوم إلى الكربون، ويُعزى ذلك إلى أن الأنوية المركزية تكون غيرَ ثابتة على نحوٍ لا يسمح لها أن تتكوَّن في غضون عملية الاندماج النووي، وتحوي ذرة الهليوم بروتونَين في نواتها، والكربون لديه ستة بروتونات في نواته؛ لذا يمكن أن تتكوَّن ذرة كربون من اندماج ثلاث ذرات هليوم، وهي عملية تتطلب حرارة وكثافة شديدتَين لنجوم ضخمة. يعقب هذا تفضيلٌ مميز للنواة التي بها عددٌ زوجي من البروتونات في نواتها، فالأوكسجين به ثمانية بروتونات في نواته والنيون به عشرة بروتونات والماغنسيوم به اثنا عشرَ بروتونًا … وهكذا. ويمكن شرح هذا التفضيل في ضوء نظريات الفيزياء الذرية، لكنه ليس موضوعنا الآن. وقد لاحظنا أن العناصر الضرورية للحياة مثل الهيدروجين والكربون والنيتروجين والأوكسجين والصوديوم والماغنسيوم والفوسفور والكالسيوم والحديد، وهلم جرًّا، توجد جميعها في الشمس أيضًا.
ويُوضِّح الثراء النسبي لعناصر الألمنيوم والسليكون مقارنة بالحديد والنيكل حدوثَ تغير في الاتجاه لمصلحة العناصر الأخف؛ لأننا ننظر إلى قشرة الأرض فيتضح لنا أن العناصر الثقيلة، نتيجةً للتغيرات المناخية الشديدة على مر العصور، قد اتجهت نحو باطن الأرض، أما العناصر الأخف فقد ارتفعت إلى القمة.