الكيان الكيميائي في مقابلة مع كيمياء الجسم
لأنه لا النترات ولا الفوسفات ولا امتداد الألياف في القطن هي الأرض، فإنه لا الكربون ولا الملح ولا الماء ولا الكالسيوم هم الإنسان؛ فالإنسان هو كلُّ ذلك معًا، بل هو أكثر من ذلك كله.
ما هي علاقة اللدائن بالبشر؟ كما هو واضحٌ للعيان، فالعلاقة كبيرة جدًّا. تُصنَع الموادُّ البلاستيكية عن طريق البَلْمرة، وهي العملية التي ترتبط من خلالها الجزيئاتُ البسيطة معًا في سلاسلَ طويلة ممتدةٍ من آلاف الجزيئات. ولا تُوجَد بوليمرات أبرعُ من الخلايا الحية.
والمواد التي تتكون منها أجسامُنا، ابتداء من الجلد وحتى الشعر ومن اللَّوزتَين إلى ظفر إصبَع القدم، هي موادُّ بوليمرية ليِّنة ومستمرَّة. وكما أشَرنا في مناقشتنا للكيمياء العضوية فإن نجاح أشكال الحياة العضوية يتوقَّف على قدرة الكربون على تكوين سلاسلَ طويلة، وعندما تتكرَّر الوحداتُ المكونة من هذه السلاسل الطويلة يتكوَّن ما يُعرَف بالبوليمرات. وتتألف أجسامنا — شأنها في ذلك شأن جسم أي شخص وأي شيء آخر، ابتداءً من الأميبا فصاعدًا — من سلاسلَ طويلةٍ من الوحدات الأساسية المتكررة — من الكربوهيدرات والدهون والأحماض الأمينية والنيوكليوتيدات — أي البوليمرات التي نُصنَع منها.
والكربوهيدرات هي سكَّريات – الجلوكوز والفركتوز وجلاكتوز. والسكروز المعتاد هو ثنائي السكاريد، أي جزيئَي سكاريد مرتبطان معًا. وعندما يرتبط أكثر من جزيئَي سكاريد يتكون عديد السكاريد. وتكون السلسلة الطويلة من عديد السكاريد المواد الأساسية للنشا التي هي السليلوز والجليكوجين.
وكما هو معروف جيدًا لأولئك الذين يتبعون الحميات الغذائية والمعنيِّين بالأمور الصحية، يقوم الجسم بأيض السكريات لإطلاق الطاقة وعندما يُوجَد المزيد من السكر، يخزنه الجسم لاستخدامه فيما بعد. وتخزن الحيوانات السكريات كبوليمرات الجلوكوز التي يُطلَق عليها «الجليكوجين». أما النباتات فتصنع بوليمر من السكر يختلف اختلافًا طفيفًا بغرض التخزين، وهذا هو ما نُطلِق عليه النشا. وتستخدم النباتاتُ أيضًا سلاسلَ طويلة من الكربوهيدرات لعمل السليلوز، الذي تستخدمه لأغراضٍ بنائية، وليس لأغراض تخزينية. ولا يستطيع جسم الإنسان أن يستعيد السكاريد من السليلوز، وفي بعض الأحيان تُدمَج الكربوهيدرات عَسِرةُ الهضم في الطعام كي تُقلِّل عدد السعرات الحرارية لكل مكوِّن من مكونات الطعام.
ويخزن الجسم أيضًا بعض أنواع الليبيدات أو الدهون لعملية الأيض النهائية، والدهون نوعٌ آخر من الطعام يُوصى بعدم الإفراط في تناوله بسبب الآثار السلبية الناجمة عن زيادة استهلاكه، لكن يحتاج الجسم الدهون بلا أدنى شك، ولا سيما أجسام الأطفال التي تكون في مرحلة نمو، فعلى سبيل المثال تحتاج فيتامينات أ، ك، د إلى الدهون لكي تُمتَص؛ ومِن ثَم يحتاج مقدار الدهون أن يُضبَط حقًّا عن طريق معرفة أيِّ أنواع الدهون ينبغي الحد منها وأيها ضروري. وثمَّة أنواعٌ عديدة من الدهون تتمتع بوظائفَ مختلفة.
ويُوضَع هذان المركبان معًا في مجموعة واحدة؛ إذ يتمتعان بخاصية مشتركة وهي قابلية الذوبان في السوائل الزيتية القِوام، ففي حالة الأحماض الدهنية، يُوجَد طرفٌ واحد قابل للذوبان في الزيت، والطرف الآخر قابلٌ للذوبان في الماء، وهو غموض يتَّضِح أنه مفيدٌ بدرجة مذهلة، كما سنرى.
لاحظ أن الكربون له أربعُ روابط، والأحماض الأمينية يُمكن أن يكون لها «يد مفضلة» والأحماض الأمينية التي تتكون طبيعيًّا، لديها يد مفضلة، فإذا أُدخل جزيء ذو تشكيلٍ خاطئ — أو حتى إذا جرى تبادل أوضاع رابطتَين — يكون الجزيء غيرَ مناسب ويُمكن أن تكون النتيجة مميتة.
ويُوجَد ما يقرب من عشرين حمضًا أمينيًّا مختلفًا موجود بشكل طبيعي في جسم الإنسان، وتُكوِّن بوليمرات هذه الأحماض الأمينية البِنَى البروتينية مثلَ أظافر الأصابع والغضاريف، وكذلك الإنزيمات والهرمونات. ويُمكن تصنيع بعض الأحماض الأمينية في الجسم، لكن يجب أن يأتيَ عددٌ مساوٍ تقريبًا عن طريق الغذاء، فكل الأحماض الأمينية الضرورية تُوجَد في البروتين الحيواني مثل اللحوم والبيض، غير أنها يُمكن أن تُكتسَب من مصادر غير حيوانية أيضًا، ولا تُوجَد خضراوات تحتوي على كل البروتينات الضرورية، لكن ما دام يُوجَد تنوعات مختلفة كثيرة تُستهلك، مثل القرع والذُّرة والأرز والبقوليات وفول الصويا والمكسرات، فإن حاجة الجسم من البروتين يُمكن أن تُلبَّى.
ويستحيل أن نَصِف في هذه الصفحات القليلة عددَ المواد التي تُكونها البروتينات في الجسم وأدوارها المتعددة، لكن من الممكن أن نُلقِيَ نظرة على فئة بعينها وهي الإنزيمات التي تعمل على نقل براعة البروتينات الفائقة.
والإنزيمات هي العوامل الحفازة للجسم، فهي تُسهل حدوث التفاعلات السريعة الضرورية للحياة (تذكر أن ثَمة رسالةً يجب أن تنتقل إلى مخِّك عندما تجرح أصبعك، وإذا لم تصل هذه الرسالة بالسرعة الكافية، فإنه يحدث تلفٌ يتعذر إصلاحه.) وتُؤدي الإنزيمات دورها التحفيزي عن طريق تركيبها ثلاثي الأبعاد، ويتمتع كل إنزيم بشكل متفرد يسمح له بالارتباط بالجزيئات المستهدفة، وقد أوضحنا إحدى الطرق التي يُمكن لهذا الربط أن يُسرع عن طريقها التفاعلاتِ الكيميائية لدى تناولنا لموضوع معدلات التفاعلات الكيميائية، فعندما ترتبط مادتان متفاعلتان بإحدى الإنزيمات، فإن الإنزيم يجمعهما معًا في التقارب الأمثل إلى أن يتفاعلا.
وتُعَد الطريقة التي يستخدم بها الجسمُ الإنزيماتِ طريقةً رائعةً للغاية، فلا يجب أن تعمل الإنزيمات على نحوٍ دائم إذ إنها لو كانت كذلك فسوف تُحفز التفاعلات بلا انقطاع، فإذا لم تكن هناك حاجةٌ إلى ناتج التفاعل، يجب أن تتوقَّف الإنزيمات عن العمل، ففي أوقاتٍ عديدة، وفي موقفٍ أشبهَ برقصة البالية الرشيقة، تقوم المادة الناتجة نفسُها التي يُنتجها الإنزيم بإيقافه عن العمل. ويُؤدي الإفراط في تكوين النواتج إلى انحراف اتجاه التفاعل، فبدلًا من أن يُكوِّن النواتج، يكسرها، ويجب أن يحتفظ الجسم بتوازنٍ حساس للمواد، سواءٌ كان من ناحية النُّدرة أو الغزارة؛ ومِن ثَم يجب أن تعمل آلية إيقاف الإنزيمات عن العمل تمامًا مثل آلية تحفيزها، ومن المدهش أن هذا هو ما يحدث.
ويجب أن يُنظِّم أيضًا عددُ البروتينات نفسَه، ويعمل النظام المسئول عن إنتاج البروتينات وفقًا لمبادئ التوازن أيضًا، فعلى سبيل المثال، إذا كان الإنزيم اللازم لتكسير اللاكتوز موجودًا بصورة دائمة في مجرى الدم، فإنه كان سيجلط الدم ويُعرقل النشاط، فقط في انتظار منتج خاصٍّ بالألبان كي يُستهلَك. ومن ثَم يكسر الجسم بروتيناتِ هذه الإنزيمات ويُعيد تصنيعها، مُخزِّنًا إياها في السائل البروتيني الموجود في الجزء الداخلي لكلِّ خلية، وعندما يظهر اللاكتوز ثانيةً في مجرى الدم، فإن الخلية تُحفَّز لإنتاج المزيد من الإنزيم للتعامل معه، ولكن كيف تُنتج الخلية المزيدَ من الإنزيمات؟ بالطبع، عن طريق بوليمر آخر.
والكروموزوم، الذي هو شريط طويل من الدي إن إيه، هو جزيء يحتوي على معلومات حول كيفية صناعة كل البروتينات الموجودة في الجسم، ويُمثِّل الجين أحدُ قطاعات الكروموزوم الذي يُخبر عن كيفية صنع بروتين واحد بعينه، ويعمل تتابع النيوكليوتيدات في الجين كقابل يُترجَم في نهاية الأمر كتتابُعٍ للأحماض الأمينية في البروتين.
ويُمكِن النظر إلى الدي إن إيه على أنه ملف مصغر يحتوي على الوصفة أو طريقة العمل. وعندما يحتاج الجسم إلى هرمون يذهب إلى الدي إن إيه ليتلقَّى التعليمات حول كيفية عمل هرمون، وعندما يحتاج إلى إحدى خلايا البشرة أو ظفر، يذهب إلى الدي إن إيه كي يحصل على وصفات للبروتينات، وعندما يكون هناك حاجة إلى بروتين معين — عندما يكون هناك عجزٌ فيه أو يكون الجسم في حاجة إلى المزيد — يتولد ضغطٌ على الاتزان مما يُؤدي إلى حل شفرة جزء من الدي إن إيه. وبهذه الطريقة عندما يحتاج الجسم إلى المزيد من الشعر، تُحفز الخلايا لإنتاج بروتين الشعر، وعندما يحتاج الجسم إلى إنزيمات تُساعد على الهضم، تُستقبَل الرسالة ويُنتَج المزيد، وعندما يحتاج الجسم إلى هرمون الأدرينالين، يكون الهرمون مستعدًّا، بمعدلٍ يسمح لنا أن نقفز فوق السيارات أو نسبق الصرصار. لكن، كما أشرنا في التجرِبة التي بدأنا بها هذا الفصل، مع كل القدرات الهائلة التي تتمتَّع بها الخلية لكي تُلبِّي حاجة الجسم من الإنزيمات، فإن إنزيمًا واحدًا يبقى لا يستطيع جسم الإنسان أن يُنتجه، إنه الإنزيم الذي يُحلل البقوليات تمامًا.
والإنزيمات، مثل ذلك الإنزيم الذي استخدمناه في تجرِبتنا، يَحكمها مبادئُ علم الحركة الكيميائية — وهو يُمثل إحدى الروابط العديدة التي تربط بين المبادئ الأساسية للكيمياء والكيمياء المعقَّدة للحياة. وتعرض دراستنا السريعة والخاطفة للكيمياء الحيوية هنا، ممزوجة بمناقشتنا السابقة للأنظمة الكيميائية الحيوية، أن كل مبادئنا الكيميائية تلعب دورًا هامًّا في الحياة، مثل التفاعلات الحمضية القاعدية، وتفاعلات الأكسدة والاختزال، والروابط الكيميائية، وقُوى الجذب البينجزيئية، والتركيز، والمواد الصُّلبة والقابلية للذوبان، وعلم الحركة الكيميائية، وحتى تغييرات الحالة والحالة الغازية.
ويلعب الاتزانُ دورًا حيويًّا، وكذلك الديناميكا الحرارية التي تحكمه، وأيضًا الطاقة والأنتروبيا على السواء. وأينما وُجِدت الحاجة لمركب، ينتجه الجسم، وحينما يكون هناك وفرةٌ منه، يتوقَّف الجسم عن الإنتاج، ويستهلك أو يُخرِج الزائد، فعندما نحتاج إلى طاقة نأكل، وجسم الكائن الحي يُؤدِّي دوره عن طريق العرض والطلب من الاتزان الكيميائي.
وقد يبدو الأمر غريبًا حينما نُفكِّر في الأنتروبيا في ضوء الكيمياء الحيوية؛ لأن الأنظمة البيولوجية تكون غاية في التنظيم والترتيب، غير أن الكيمياء الحيوية تُعتبَر قوة هائلة على الأنظمة البيولوجية وكذلك على أي مكان في الكون. وتُعطي الرسوماتُ البيانية للخلايا الموجودة في الموسوعات انطباعاتٍ خاطئةً بأن الخلايا تُشبه صفَّ منازل في مدينة أو شقة في مجمع سكني، وجميعها متكدسة معًا ومنظمة ولها الشكل نفسُه، غير أن نظرةً واحدة عبر الميكروسكوب ستعمل على تصحيح ذلك الانطباع، فالخلايا غيرُ منظمة حقًّا وفوضويةٌ، وكل واحدة منها لها شكلها وعاداتها الخاصة، ولا يكون غشاء الخلية صلبًا، فهو مائعٌ ويُغيِّر شكله تِباعًا بصورة دائمة، والدي إن إيه ليس مطبوعة جامدة من المعلومات، لكنه يحتوي على «الجينات القفازة»، و«الجينات المهمَلة»، وهي الجينات التي يُمكنها أن تتحرَّك حول الجينات، التي يبدو أنها لا تقوم بأي دور سِوى زيادة التشويش والفوضى.
لكنَّ ثمَّة بعضَ الأسباب لتقدير كلِّ هذه الفوضى؛ فهي تَعني أنه لا يُوجَد نظامان بيولوجيَّان طبيعيان متطابقان تمامًا. لقد تعلَّمنا أن نتفهَّم هذا التفرد ونُحسن استغلاله في ضوء تقنيات الكيمياء التحليلية التي سنتناولها لاحقًا. والآن، تُمكِّننا أدوات الكيمياء التحليلية من تحليل المعلومات واستخراجها من إحدى رقائق الجلد أو من قطرة اللُّعاب. سيفتخر بنا شارلوك هولمز.