الكيميائي محللًا
لقد عثرت على شارلوك هولمز وحده، لكنه كان نِصفَ نائمٍ بقِوامه الطويل النحيل منكمشًا في كرسيِّه الهزاز. وقد استنتجت من وجود مجموعة هائلة من الزجاجات وأنابيب الاختبار، ومع تصاعد … رائحة حامض الهيدروكلوريك النفاذة، أنه قد قضى يومه في العمل الكيميائي الذي كان يُقدِّره أيَّما تقدير.
وسألت وأنا أدخل: «هل وجدتها؟»
أجابني: «أجل، لقد كانت بيكبريتات أكسيد الباريوم.»
صرخت: «لا، أعني حل اللغز!»
بالطبع يسهل على السكر أن يكون حلوًا وعلى نترات البوتاسيوم أن تكون مالحة.
الكيميائي باعتباره محللًا، أيُعقَل هذا؟ بالطبع نعم، فنحن لا نستخدم أريكة لكي نُحلل كيميائيًّا، نحن نستخدم كيميائيًّا لكي نُحلل أريكة. لكننا أرجأنا مناقشتنا للكيمياء التحليلية إلى قرب النهاية؛ لأنها تُخرج أفضل ما لدى الكيميائي بطرقٍ شتَّى. ففي الكيمياء التحليلية، تُحضَر كافة أدوات الكيمياء وكل مواهب الكيمياء من أجل طرح سؤالَين هما: ما الكيمياء التحليلية، وما الكمُّ الموجود لدينا منها؟ عند نقطة ما سنجد كل الكيميائيين كيميائيين تحليليين، وأن كل الكيمياء تتطلب تحليلًا. وثمة مناطقُ عديدة متخصصة تهم الكيميائيين التحليليين مثل خبراء مراقبة الجودة الذين يضمنون جودة الأطعمة التي نتناولها، ومدى الوثوق بالأدوية، وكل السيارات الجديدة التي تدور في خطوط التجميع لها البريق نفسُه، لكن الكيمياء التحليلية منتشرة للغاية حتى إن العديد منا، عادةً ما يعمل كاختصاصي في الكيمياء التحليلية عندما يستخدم عبوات اختبار مياه الصنبور وعبوات اختبار ماء حمامات السباحة، وعبوات اختبار الرادون، وعبوات اختبار مياه أحواض الأسماك، وعبوات اختبار التُّربة، واختبار نِسَب الرصاص في موادِّ الدهان, وحتى اختبارات الحمل، واختبارات مرض السكَّري، ومُحللة النفس الشهيرة التي تَقيس نسبة الكحول في نفس السائق. وتَكمن وظيفة كيميائي التحاليل في إيجاد — أو استنباط — الأداة أو الأدوات اللازمة لتحديد كمية المادة المعطاة أو طبيعة مادة غير معروفة.
وتقع الكيمياء التحليلية في نطاق الأعمال البحثية، ومثل محقق يحل الألغاز، يتعيَّن على كيميائي التحاليل أن يتحرك بحذرٍ وبمثابرة أيضًا كي يجدَ الإجابات الصحيحة. وكما أن الشرطيَّ يتعين عليه لدى حدوثِ جريمة أن يُؤمِّن مسرح الجريمة حتى يَحول دون إفساد أي دليل موجود، كذلك يتعين على كيميائي التحاليل أن يتأكد من أن كل المعدات والأدوات الزجاجية التي يستخدمُها نظيفة تمامًا وخالية من أيِّ تلوث. وكما أن مُحقق الشرطة يجمع أتفه الأدلة، يتعامل كيميائيُّ التحاليل في بعض الأحيان بالمثل مع مقادير مثل الميكروجرام (جزء من مليون من الجرام)، والنانوجرام (جزء من مليار من الجرام)، والبيكوجرام (جزء من تريليون من الجرام) كي يحصل على الإجابات. وقد يصل الأمر بكيميائي التحاليل إلى أن يأخذ بعين الاعتبار طفو الهواء؛ لكي يحصل على الوزن الدقيق.
وكما يجب على رجال الشرطة أن يحتفظوا بأسلحتهم ويُقدِّموها في الميعاد في مكان التدريب، هكذا يجب على الكيميائيين التحليليين أن يضمنوا دائمًا أن أدواتهم لا تزال محتفظة بالتدرج وتعمل جيدًا. وفي عمل الشرطة، إذا اعترف أحدهم دون أن تُتَّبع الإجراءات المناسبة التي تنصُّ عليها اللوائح، فإن أكبر الدلائل تُصبح عديمة الجدوى. وعلى نفس المنوال، يجب أن يكون كيميائي التحاليل قادرًا على الدفاع عن النتائج التي يصل إليها عن طريق تسجيل المعالم مثل حدود الثقة ومستويات التشويش الصادرة عن الأدوات والأشكال المهمة.
ويجب أن يكون كيميائيُّ التحاليل ضليعًا دائمًا، فإذا وُجِد خيط من سجادة لن يُساعد على تحديد موقع المجرم في مسرح الجريمة، لكن خيط السجادة مع شعرة الكلب مع بقعة دهان لم يجفَّ بعدُ قد تُكوِّن معًا أدلة مقنعة لهيئة المحلَّفين. ويجب على كيميائي التحاليل في أوقاتٍ عديدة أيضًا أن يُقدِّم مجموعة من الأدلة، أي نتائج تُثبِت أدلته باستخدام طرق بديلة وتَكْرار نفس الإجراءات مرات عديدة لكي يُثبت أن النتائج منطقيةٌ من الناحية الإحصائية.
وفي بعض الأوقات، يجب أن يُعيد الاختصاصي في الكيمياء التحليلية، شأنُه في ذلك شأن البوليس السري الذي يتبع المبادئ العلمية في البحث، هيكلةَ الأحداث، فعندما يحدث انفجار، قد يكون لذلك أسباب عدة، ليست جميعُها شريرة، لكن إذا كان هنالك آثارٌ لموادَّ كيميائية لا تُستخدَم لأي أغراض أخرى غير التفجير، عندئذٍ يكون هذا دليلًا قويًّا على أن التفجير مُتعمَّد. وعندما يُشتبَه في تعاطي المخدرات، يُفحَص الدم، غير أن دليل وجود الهيروين في الدم لا يعتمد على وجود آثار من الهيروين، لكنه يعتمد على وجود نواتجِ أيض الهيروين، أي المورفين، ومع ذلك حتى وجود المورفين لا يشير دائمًا إلى استهلاك الهيروين، فقد وُجد أن بذور نبات الخَشْخاش التي تُستخدَم في المخبوزات تحتوي على نسبة ضئيلة من الأفيون، ويُمكِن أن يُنتج نسبًا ضئيلة من المورفين في البول. والأدوية المصرَّح بها يُمكن أن يقوم الجسم بأيضها إلى موادَّ خاضعةٍ للسيطرة؛ ومِن ثَم يجب أن تُؤكِّد الأدلة الأخرى وجود الأدوية المحظورة أو تدحضه. في الواقع، ثمة تشابهات عديدة بين كيميائي التحاليل المحنَّك والمحقق الجنائي، لدرجةِ أننا سوف نستخدم تحقيقًا افتراضيًّا بواسطة كيميائي تحليليٍّ يعمل في مجال الطبِّ الشرعي؛ كي نُوضح كيف يتحرك هذا المتخصص المحترف.
إن مهمة الكيميائي العامل في مجال الطب الشرعي هي أن يُطبِّق الكيمياء التحليلية على القضايا الهامة للنظام القانوني. عادة ما يعمل الطبيب الشرعي في مختبر حكومي وقد يتحمَّل مسئولية الذَّهاب بنفسِه إلى مسرح الجريمة، وتجميع الأدلة، وفحص الأدلة والشهادة في المحكمة. ولكي نرى كيف يُمكن أن يعمل كل هذا، دعونا نبدأ بسيناريو لموقع جريمة افتراضي ونتتبَّع سير عمل اختصاصي الكيمياء التحليلية وهو يتحرك.
ولنقل مثلًا إن الشرطة قد استُدِعَيت في إحدى الليالي إلى مبنًى ما بسببِ الصَّرخات العالية الصادرة عن إحدى الشُّقق والتي تبعها غلق الباب بعنف شديد. تصل الشرطة وتجد جثةَ امرأة غارقة في بِركة من القيء. ويذكر الطبيب الشرعيُّ من الفحص المبدئي أنه يبدو أن المرأة ماتت إثر حادثة من جراء إصابتها بصدمة تأقية (فرط شديد في الحساسية)، غير أنه يجب بالطبع أن يُجري تشريحًا للجثة للتأكد.
والصدمة التأقية، التي تكون السبب وراء العديد من حالات الوفاة سنويًّا، هي تفاعل تحسُّسي شديد للغاية حتى إنه يُسبب انقباضًا في الحنجرة لدرجة الاختناق، والمادة التي تُسبب التفاعل التحسسي، التي يُطلَق عليها المسبب للحساسية، قد تكون من مكسرات أو بيض أو سُمِّ نحلة أو العديد من المواد المعروفة. وعادة يُعاني الأكثر عرضة للصدمة التأقية استجابة أولية خفيفة لنفس المسبب للحساسية، ثم تزداد حساسيتهم باطِّراد شديد مع كل تعرُّف للمسبب للحساسية. والذين يعرفون أنهم عرضة لمثل هذه الاستجابات الشديدة يحملون جهاز «إيبيبن»، وهو جهاز صغير يُشبه القلم لحقن جرعة من الأدرينالين تُقاوم الانتفاخ وتنقذ الحياة، ووفقًا للطبيب الشرعي في قصتنا، المرأة التي عُثر عليها في الشقة لديها كل العلامات التي تدل على أنها قد عانت هذا الموت المؤسف لكن الطبيعي، لكن ثمة تقريرًا يُفيد بأنه كانت هناك صيحات عالية وغلقٌ عنيف للباب؛ ومِن ثَم استُدعي فريق كامل من الطب الشرعي.
عادةً يدرس الكيميائي العامل في مجال الطب الشرعي كل الأدلة الممكنة في مسرح الجريمة ويسجلها، لكن في هذه الحالة، يتفحص الكيميائي محتويات الأرفف وخزانة الأدوية ويأخذ أي عينات من فوق الأسطح ليرى ما إذا كان بمقدوره أن يُحدد مصدر المادة المسببة للحساسية، ويقوم بمسح يدِ الضحية ووجهها؛ كي يجمع أي آثار لموادَّ كيميائية، كما يأخذ عينة من دم الضحية ومحتويات المعدة المتوافرة في بركة القيء. ويُلاحِظ الكيميائي أن المأكولات الموجودة على الأرفف منتقاةٌ بعناية بحيث تكون خالية تمامًا من زيت الفول السوداني أو منتجات الفول السوداني؛ ومن ثَم يُشتبَه في أن المرأة تُعاني حساسية من الفول السوداني، المتهَمِ الأكبر في الصدمات التأقية. ويأخذ الكيميائي عيناتٍ بحذر من كل الأطعمة الموجودة في الثلاجة، وكل الأوعية الموجودة على الأرفف، كما يفحص حافظة نقود الضحية وجيوبها، لكنه لا يجد شيئًا جديرًا بالاهتمام. ويفتح أيضًا الأدراج في المطبخ وحجرة النوم دون طائل أيضًا. وينظر في خزانة الأدوية ولا يجد إلا بعض الأدوية التي ليس لها وصفات طبية مثل أسبرين ومضاد للحموضة وضمادات. وعندما كف الكيميائي عن العمل وكان يستعد للرحيل، توقف ليُخبر الضابط المسئول أن ثمة حاجةً إلى إجراء المزيد من التحقيقات، فهو يعتقد بِناءً على ما رآه حتى الآن أنها جريمة قتل. عزيزي القارئ، أتعتقد أنت أيضًا ذلك؟
بدأت الشرطة تتصرف بناء على اقتراح الكيميائي، وعاد هو إلى مختبَره لكي يُؤكِّد بعض شكوكه. أولًا، إذا قلنا إن سبب الوفاة هو استجابة حادَّة بسبب الفول السوداني، إذن يجب أن يكون هناك بعضٌ من زيت الفول السوداني أو بقايا للفول السوداني في مكانٍ ما في جسم الضحية. عندئذٍ يأخذ الكيميائي عيناتِه ويَشرع في تحليلها.
وأول مشكلة قد تُواجه اختصاصيَّ الكيمياء التحليلية عمليةُ الفصل، فكما تفصل الشرطة الشهود وتأخذ كلَّ واحد في حُجرة على حِدَةٍ لتستمع إلى شهادته حتى تتجنَّب أيَّ تدخُّلٍ أو تشويشٍ من ذوي النفوذ على غيرهم، كذلك سوف يبذل اختصاصي الكيمياء التحليلية أقصى جهده كي يفصل مكونات الخليط غير المعروف؛ ومن ثَم يُمكن تحليل المواد المفصولة دون تشويش من الأنواع الأخرى. وإذا كانت المواد تُوجَد في مراحل منفصلة، عندئذٍ يُمكن استخدام تقنية مباشرة مثل الترشيح، فعلى سبيل المثال، يُرشح الكيميائي عينات محتويات المعدة، ثم يبرد المرشح كي يتبيَّن إذا كانت موادُّ أخرى ستنفصل.
إذا كان المركب موضع الاهتمام مركبًا عضويًّا، فإنه يُمكن فصلُه عن المركبات غير العضوية المصاحبة له بواسطة طريقة استخلاص مبسطة مثل تلك التي استخدمت لاستخراج حامض الأسيتيل ساليسيك من الأسبرين في تجربة الكيمياء العضوية، لكن نتيجة استخلاص محتويات المعدة والدم ستكون خليطًا من المواد العضوية، وإذا كانت المحاولة التي نود أن نُجريَها هي محاولة فصل مادتَين عضويتَين، إذن الطريقة التي ستجري هذا العمل البارع هي طريقة الكروماتوغرافيا (الاستشراب). والكروماتوغرافيا هي تقنية للفصل يُمرَّر فيها المذيب على خليط ويحمل العديد من المواد المذابة على مسافات مختلفة. وربما يُمكن تشبيه ذلك بعملية فصل الأتربة عن الذهب؛ إذ يغسل الماء الذي يتدفق بلا انقطاع فوق الرمال الجزيئات الأقل كثافة، مُخلفًا وراءه الذهب.
ويُمكن توضيح التقنية التي تقوم عليها الكروماتوغرافيا بطريقة مبسطة باستخدام الأسيتون أو مُزيل طِلاء الأظفار وبعض أوراق الشجر. اقطع ورقَتَي شجرة خضراوَين أو ثلاثًا، ومزقهما ثم ضعهما في قاع كوب شرب زجاجي. وبعد أن ترتديَ نظارة الأمان الواقية، أضِف نحو ثلاث بوصات من الأسيتون (مُزيل طِلاء الأظفار)، الذي ينبغي أن يُغطي كومة أوراق الشجر. اترك خليط الأوراق هذا لعدة دقائق حتى يتمكَّن الأسيتون من استخراج مركبات من الأوراق.
قصَّ قطعتين من ورق الحمام طويلتَين بما يكفي ليصلا إلى قاع الكوب. لف إحدى طرَفَي الورقتَين حول قلم رصاص وثبِّتها بشريط لاصق، ينبغي أن تكون الورقة الآن أقصر قليلًا من ارتفاع الكوب لكن بالقدر الذي يُسمَح لها أن تلمس السائل.
ضع القلم الرصاص في الكوب، واغمس ورق الحمام في خليط الأسيتون وورق الشجر. وبعد مرور بضع ساعات ينبغي أن يظهر على الأقل شريطان مختلفان من الألوان على الورق؛ إذ ينتقل الأسيتون إلى أعلى الورق بفعل الخاصية الشعرية، وينقل معه صبغة ورق الشجر، لكن انتقال صِبغة ورق الشجر بهذه السهولة مع المذيب يتوقَّف على نوع الصبغة؛ ومِن ثَم عندما يكون هناك أكثرُ من صبغة واحدة في الورقة، فإنها تنفصل إلى مجموعات. انتظر دقيقةً ثم انظر إلى لونِ المجموعات، ينبغي أن يكون لون إحداها أخضر، لكن المجموعة أو المجموعات الأخرى يكون لونها الأصفر أو البرتقالي أو الأحمر. ويُقال في موسم الخريف إن الأوراق تغير لونها، لكن حقيقة الأمر، هذه الألوان التي يبدو أن الورق قد غيرها موجودة بالفعل في الورقة من البداية، لكن ما يَحدث هو أن الكلوروفيل هو الذي يُفقَد في موسم الخريف، وباختفاء الكلوروفيل وبقاء الصبغات الأخرى تظهر الألوان الأخرى.
وما إن يفصل كيميائي الطب الشرعي كل المواد العضوية من الأقطان التي استخدمها في مسح الجثة وغيرها، قد تكون الخطوة التالية التي سيُقدِم عليها هي التركيز. ويتعين التغلب على مشكلة التركيز إذا كانت المادة التي ستخضع للتحليل موجودة بكميات قليلة. فمع أن الطرق التحليلية في تقدُّم مستمر طوال الوقت، وتزداد حساسية الأجهزة باطِّراد مستمر، فإنه لا يزال هناك حدٌّ أدنى، ولا يُمكن لأجهزة معيَّنة أن تكتشف المادة إذا كانت كميتها أقلَّ من هذا الحد الأدنى. فعلى سبيل المثال، قد يصعب كشف الكميات الصغيرة من السموم في الدم. فأجسامنا بطبيعتها تركز السموم في الكبد، وقد يستفيد المحلل من هذه الحقيقة إذا كان الكبد متاحًا، أما إذا لم يكن متاحًا، فقد يحدث التركيز عن طريق التبخير أو الترسيب أو الطَّرد المركزي — وهي الطريقة التي تُدار فيها العينات في أنابيبِ الاختبار بمعدلات سرعة عالية حتى تترسَّب المكونات الأكثر ثقلًا في القاع.
وتُعَد الكتلة خاصية مُحدِّدة للهوية جيدة جدًّا، فإذا كان لديك شيءٌ مستدير يَزِن عشَرة أرطال (خمسة كيلوجرامات)، وشيء آخر يزن أوقية واحدة (٢٨ جرامًا)، فإنك ستكون قادرًا على الفور أن تُميز الكرة الحديدية عن كرة التنس، لكن الموقف ليس بهذه السهولة للتحليل الطيفي للكتلة، فلكي تُفصل الجزيئات بِناءً على الكتلة، يجب أن تُحولها أولًا إلى أيونات، والطريقة التي يُمكن بها تحويل الجزيئات إلى أيونات هي تحطيمها، وهي الطريقة التي تصطدم فيها الجزيئات بمصدر من الإلكترونات بمجرد خروجها من عمود الكروماتوغرافيا، ونرى هنا مرة أخرى قوة الإلكترونات، وقد ذكرنا من قبل أن الإلكترونات بالنسبة للجزيئات مثل البُرْغوث بالنسبة إلى الفيل، لكن تخيَّل لو أن سِربًا ضخمًا قويًّا من هذه البراغيث هاجم الفيل! كذلك، قد تكون الإلكترونات صغيرة للغاية، لكنها تمتلك القوة التي تُساعد على حدوث الكيمياء.
وشظايا الجزيئات عامَّة تفقد إلكترونات؛ ومِن ثَم تتمتع بشحنة صافية، وتمامًا كما رأينا في الكهرباء المغناطيسية التي حصلنا عليها من توصيل سلك بمسمار وبطارية، يتفاعل المجال الكهربائي الخاص بالشحنة المتنقلة مع المجال المغناطيسي، وقد صُنِعت الشظايا كي تنتقل في مسارٍ مُنحنٍ عن طريق المجال المغناطيسي، بالإضافة إلى أن الكتلة والشحنة الموجودة على الشظية يُحددان نصف قطر المنحنى، ومن ثم تُرتب الشظايا بالكتلة.
وبنهاية هذا الاختبار يأمُل الكيميائي أن المعدل كان جيدًا وأن التفسير كان دقيقًا — أو أن هناك عينة كافية لمحاولة أخرى — لأن هذه التقنية تعد تقنية مدمرة، وذلك لأن العينة قد نَفِدَت الآن ولا يُمكن استعادتها، ولحسن الحظ، ثمة طرقٌ أخرى متعلقة بالمنظار وغير مُدمِّرة، وإحداها هو التحليل الطيفي للضوء.
لقد شاهدنا عندما عرَضنا مادة التبييض للضوء الأسود أن الأنواع المختلفة من الضوء تتفاعل مع المادة بطرق مختلفة، وأن نوع الضوء الذي تتفاعل معه المادة يُمكن أن يكون إحدى خواصِّ المادة. ويُستغَل هذا التفاعل الحادث بين الضوء والمادة عن طريق التحليل الطيفي للضوء، فعينةٌ من المادة تتعرض لشعاع ضوئي انفصل إلى مكوناته بنفس الطريقة التي يفصل بها المنشور الضوء إلى ألوان، ويُسمَح لحُزمة معينة من الضوء أن تنفذ من خلال العينة، ثم يُكشَف عن كمية الضوء التي تنجح في النفاذ من العينة من الجانب الآخر وتُسجَّل. ثم يُسلَّط تردُّد جديد من الضوء على العينة، وعندئذٍ يُسجَّل مرة أخرى مقدار الضوء الذي نفذ من العينة وهلم جرًّا. وحتمًا إذا جرت العملية بالتدريج والبطء الممل كما أشرنا، فإن التحليل الطيفي للضوء سيكون تقنية شاقة للغاية وقد كان بالفعل كذلك في وقتٍ ما، غير أن تحسيناتٍ عديدةً أُدخِلَت عليه فيما بعد حتى أصبح الآن تقنيةً سريعة ودقيقة للغاية.
وتتضمَّن أنواع التحليل الطيفي للضوء، التي تُستخدَم على نطاق واسع، التحليل الطيفي للأشعة فوق البنفسجية، والتحليل الطيفي للأشعة تحت الحمراء، والتحليل الطيفي للموجات الميكروئية الذي يكون أقلَّ شيوعًا في مختبرات الطب الشرعي. وغالبًا يُستخدَم التحليل الطيفي للأشعة فوق البنفسَجية في تحليل المركبات غير العضوية، في حين أن التحليل الطيفي للأشعة تحت الحمراء يُستخدَم غالبًا في تحليل المركبات العضوية. وفي الواقع، تُرجع بعض المصطلحات المستخدمة للإشارة إلى التحليل الطيفي للأشعة تحت الحمراء ذاكرتنا مرة أخرى إلى طبيبنا الشرعي، فالمنطقة التي أظهر فيها مطياف الامتصاص الخواص التي تميز بشدَّة المركب الذي يخضع للتحليل تُسمَّى منطقة «بصمة الإصبع»، وهو مفهوم ينبغي أن يتشجَّع به طبيبنا الشرعي!
غير أن التحليل الطيفي للضوء، شأنه شأن التحليل الطيفي للكتلة، لا يطبع اسم المركَّب على قُصاصةٍ من الورق ويُسلمها لك، فالطريقة التي يتفاعل بها الجزيء مع الضوء سوف تعتمد على طبيعة كلِّ أنواعه وترتيبها؛ ومِن ثَم تُعَد الاستجابة للضوء متنوعةً ومعقَّدة، ويُمكن أن يلجأ اختصاصيُّ الكيمياء التحليلية مرة أخرى إلى مجموعة البيانات، لكن إن لم يكن الفصل نقيًّا تمامًا، ويُصاحبه بعض الملوثات أو التشويش أو الشظايا، فعندئذٍ سيكون هناك الكثيرُ من العمل البوليسي لنقوم به.
ويجب أن تُوضَع العينة في الموضع المناسب في اللهب، ويتمتَّع اللهب نفسه بكيمياء مذهِلة تتمثل في أن بعض المناطق في اللهب نفسه تكون أكثرَ سخونة من غيرها، وبعض المناطق تُساعد على حدوث تفاعلات أكسدة، والبعض الآخر تفاعلات اختزال. وبالطبع، يُوجَد هناك أكثرُ أوجه كيمياء اللهب تشويقًا، المتمثلة في اللهب الذي ينتج حرارةً وضوءًا معًا. ويعتمد لون اللهب على المادة الموضوعة في اللهب، مثلما تعتمد ألوان الألعاب النارية على المادة الموجودة في المدفع، وفي أحد الأوضاع، يستفيد جهاز مطياف الامتصاص الذري من هذه الحقيقة كي يُحلل المادة التي فُصِلَت ذراتها في اللهب، فالكاشف الضوئي الموجود بالقرب من اللهب يُسجِّل الألوان المختلفة لألسِنة اللهب وكثافتها، التي تُعَد متناسبة مع كمية كلِّ مادة موجودة في اللهب.
وفي وضع آخر، يستخدم جهاز مطياف الامتصاص الذري بعض الظواهر الفيزيائية الأخرى المعروفة والمستخدمة، مثل حقيقة أن الموادَّ تميل إلى امتصاص تردد الضوء نفسِه الذي ينبعث منها، فمثلًا النظارات التي تكون عدساتها ذات لون وردي تجعل لون الأشياء من حولنا كافةً أقربَ إلى اللون الوردي؛ لأن المواد المصنوع منها العدسات صُمِّمَت لكي تمتصَّ كل الألوان عدا اللون الوردي، ويُمكن تحديد المواد عن طريق الألوان التي تمتصها. وفي جهاز مطياف الامتصاص الذري أيضًا، يُوجَّه ضوء المصباح المصمم كي يبعث خطًّا رفيعًا جدًّا من الألوان نحو العينة الموجودة في اللهب. ويُصمَّم المصباح بحيث تكون مادة التحليل هي أيضًا المادة التي تُنتج ضوء المصباح، أو بكلمات أخرى، إذا أراد المحلل أن يُحلل الصوديوم، فعندئذٍ يُستخدَم مصباح يحتوي على صوديوم، وفي هذه الحالة يبعث المصباح ضوءًا مُميزًا للصوديوم، وإذا كان يُوجَد أي صوديوم في العينة، فإنه يمتص الضوء، ويبين الكاشف أن ثمة بعضَ الضوء المفقود.
والطرق التي يستخدمها طبيبنا الشرعي الشجاع هي تقنيات التحليل الطيفي للأشعة تحت الحمراء وللكتلة، وبنهاية الجهود التي بذلها، وجَد بالفعل آثارًا لزيت الفول السوداني في فم الضحية؛ ومِن ثَم فالأسئلة التي تطرح نفسها هي: من أين جاء هذا الزيت؟ وإلى أين ذهب؟ يُحلِّل بطلُنا عينات الطعام والدواء التي أخذها من الشقة لكنه لا يجد شيئًا، ويُلاحظ أن المريضة قد قرأت البطاقات حتمًا بعناية شديدة كي تتجنَّب حتى المنتجات التي يبدو أنها غير مضرة مثل بعض أنواع الآيس كريم والسلع المخبوزة وصوص السلطة والحساء التي من الممكن أن تحتوي على زيت الفول السوداني، ولم تكشف المعدة أو الدم عن وجود أية سموم أخرى، مع أن هناك دليلًا على حدوث استجابة تحسسية حادة، ويظل يُفكر مليًّا بعناية بالغة، ويُجدول النتائج التي توصَّل إليها وإذا بالهاتف يرن؛ إنها الشرطة تتصل به كي تُخبره بأنه كان محقًّا؛ فقد وجدوا ما أخبرهم أن يبحثوا عنه، ألا وهو جهاز إيبيبن غيرُ مستعمَل — وهي حقنة مليئة بدواء منقِذ — مُلقاة في وعاءِ قُمامة خلف البناية التي تعيش فيها، مع زوج من القفازات الجراحية.
ما الذي جال بخاطر الكيميائي وجعله يخبر رجال الشرطة أن يبحثوا عن جهاز إيبيبن خارج الشقة؟ عندما بحث هو في الأرفف وفي خزانة الأدوية وبجانب الضحية لم يجد جهاز إيبيبن، لقد علم أن الضحية كان حريصة للغاية بشأن اختيار مأكولات خالية من المادة المسببة للحساسية (زيت الفول السوداني)؛ ومِن ثَم كانت الضحية على دراية بالحساسية المصابة بها، وأي شخص كان على علم بأنها مصابة بمثل هذا النوع من الحساسية الخطيرة، يعلم حتمًا أنها ينبغي أن تكون محتفظة بجهاز إيبيبن في متناولها أو في مكان يسهل الوصول إليه، وهي قد مُنعت من الوصول إليه. ويعلم طبيبنا الآن أنه سوف يجد على سطح القفاز زيت الفول السوداني، وقدرًا لا بأس به من بصمات الأصابع داخل القفاز.
ومن ثَم قد تكون مهنة اختصاصي الكيمياء التحليلية معقدة وصعبة ومرهقة ودقيقة، غير أنها لا تزال تُستخدَم على نطاق أوسع من نطاق الجرائم. ومع أن بعض الناس قد يكون لديهم حساسيةٌ لبعض النباتات، وبعض النباتات قد تكون سامَّة لكل الناس، فإن التفاعلات بين النباتات والحيوانات لا تكون دائمًا متضادة؛ إذ تكون النباتات في بعض الأحيان مفيدةً للغاية، في حقيقة الأمر، عندما يتعلق الأمر بالنباتات والحيوانات، فإنَّ لهما مستقبلًا معًا، مستقبل الكيمياء.