تقهقر رومة الداخلي وأزمة القرن الثالث
النظام الكولوني وتأخر الزراعة
كان من جراء التوسُّع العسكري الروماني أَنْ تعاظم كسب قادة الجيش وضباطه وحكَّام الولايات وكبار الموظفين، فعادوا إلى أوطانهم متمتعين بجميع ضروب التنعم والترف، مشبعين بغطرسة مَنْ ذاق لذة السلطة المطلقة بعيدًا عن وازع الشريعة الرومانية وقيود النُّظُم الجمهورية. ولم يكن في نظر الرومانيين ليليق بشيوخهم وعظمائهم ووجوههم أن يتعاطَوُا التجارة أو الصناعة، فتهافت الأغنياء والكبراء على اقتناء المزارع يضمون بعضها إلى بعض، فيكوِّنون منها مزارعَ مترامية متسعة، ويستاقون إليها من ملكت أيمانهم من الأرقاء. ولم يقوَ المزارع الصغير على مزاحمة جاره الكبير فضم أرضه الصغيرة إلى أرض جاره الكبيرة، وربط نفسه بتلك الأرض إلى الأبد. ومع أن هذا النظام الكولوني لم يجعل منه رقيقًا لسيده، فإنه فقد حريته أن يذهب حيث يشاء، وتعددتْ هذه المزارعُ الضخمةُ في إيطالية وصقلية وإسبانية، ولم يَبق من المزارع الصغيرة القديمة إلا نزرٌ يسير.
وكانت حياة الرقيق في هذه المزارع شاقة تعسة؛ فإنه كان يُحشر ليلًا في الثكنات حشرًا ويُساق نهارًا إلى الحقل سَوْقًا، وكان يُكوى بمياسمَ؛ ليبقى الوسمُ علامة يعرف بها عند الفرار، فنفر الرقيق من صُحبة سيده وانقبضتْ نفسه عن العمل له بإخلاص وأمانة. واضطر سيدُهُ أن يكلفه من العمل أنواعًا معينة، تلك التي لا تتطلب الكثير من الأمانة والإخلاص، فحمله على تربية المواشي ورعايتها، فتضائلتْ — على الأيام — حقولُ القمح وبساتين الزيتون وكروم العنب، وبار بعضُ الأراضي وتُرك لينبت فيه العشب فترعاه تلك المواشي. واعتمدت رومة على قمح مصر وحُبُوبها لتغذية أبنائها وأبناء المدن الإيطالية الأخرى، وحذرت تصدير هذه الحبوب إلى أي مكان آخر، وسئم المزارع الكولوني هذا النظام، فهجر الأرياف وازدحم في المدن، ولا سيما رومة، ونافس غيره من الفقراء فيها على نصيبٍ ينالُهُ معهم من إحسان الدولة، وكانت رومة قد أخذت تقل حروبها منذ عهد أوغوسطوس قيصر فيتناقص معها عدد الأسرى، وقلت اليد العاملة، فبارت الأرض لهذا السبب أيضًا، وضعف الإنتاج الزراعي.
عداء مزمن بين الأغنياء والفقراء
تَأَخُّر الصناعة والتجارة
وأَدَّى توسع رومة في الشمال والجنوب والشرق والغرب إلى توسُّع مماثل في أفق أبنائها العاملين في حقلَي الصناعة والتجارة، فخرجوا من إيطالية إلى الولايات الجديدة يوظفون أموالهم فيها، وقام من أبناء هذه الولايات نفسها، ولا سيما الشرقية منها، مَنْ شاطر هؤلاء عملَهم وإنتاجهم، فنشطت الزراعة والصناعة والتجارة في الولايات، وأخذت آسية الصغرى مثلًا تصدر ذرتها وخمرها وسمكها المجفف ومنسوجاتها الصوفية وصباغها الأرجواني، وعاد زجاج الساحل اللبناني إلى سابق تفوقه، ومثله كتان هذا الساحل وحريره وصوفه المصبوغ. وعادت الجاليات اللبنانية السورية إلى سابق عهدها في الغرب، توزِّع بضاعة البلد الأم في إيطالية وصقلية وغالية ووادي الرين وبريطانية، وظهرت نشيطة قوية في تراقية ووادي الدانوب الأسفل وجنوبي روسية، ومع الزمن فقدت إيطالية سيطرتها الاقتصادية التي كانت قد كسبتها في حروب التوسُّع المتتالية، وإنتاجها الصناعي الذي كانت تنتجه بالكميات الكبيرة قَلَّ وتدنى فأصبح في مُسْتَهَلِّ القرن الثالث بعد الميلاد إنتاجًا إفراديًّا قليلًا، وقلَّ الدخل عمومًا، فقَلَّ دخل الدولة، والتجأ الأباطرة إلى غش العملة، فأصبحت هذه في عهد مرقوس أوريليوس مغشوشة بمقدار ربع وزنها، وبعد جيلين فقط لم يَبْقَ في النقود الفضية أكثر من خمسةٍ في المائة مِنْ زِنَتِهَا فضة.
انحطاط الجيش
وأدى التوسُّع العسكري الكبير إلى تغييرٍ آخرَ في الجيش؛ فالحدود الشاسعة الطويلة والأعمال الحربية المتتابعة المتتالية قضتْ بتطويل مدة الخدمة العسكرية، والتأخرُ الاقتصادي اضطر الحكومة الرومانية أَنْ تقطع جنود الحدود أراضي يحرثونها وأن تُجيز لهم أَنْ يَتَأَهَّلُوا وأن يُقيموا في أكواخهم قرب الحدود؛ فقضى الجنود حياتهم بأكملها في خدمة العلم وأصبحوا طائفةً عسكرية تعيش لنفسها، لا جيشًا شعبيًّا يقوم بخدمة الدولة.
ومما عجَّل كثيرًا في انحطاط الجيشِ أَنَّ أوغوسطوس قيصر لم يعنَ بإيجاد طريقة قانونية لانتخاب الإمبراطور تنتقل سلطة الإمبراطور بموجبها من سلفٍ إلى خلفٍ دونما خلل يقطع الاستمرار، فنتج عن هذا الخلل أنه أصبح في طاقة الجُند أن يختاروا مَنْ يرضون عنه، وأن يعزلوه وأن يُعَيِّنُوا غيره مكانه، كما أَمْسَى الإمبراطورُ نفسه قليلَ المهابة والاحترام.
الإمبراطور
وحاول الإمبراطور الروماني اللبناني سويروس ألكسندروس (٢٢٢–٢٣٥ب.م) الذي نشأ وترعرع في عرقة عكار أن يعيد إلى مجلس الشيوخ حقوقه المسلوبة، فشاور المجلس في جميع أعماله وطلب إليه انتقاء كبار الموظفين في رومة وفي الولايات وتقديم الأكفاء لجميع الوظائف الأخرى، ورقَّى حكام الولايات إلى رتبة عضو في مجلس الشيوخ كي لا ينظر في أمرهم من كان دون هذه الرتبة. وبعبارة وجيزة: حاول ألا يفعل شيئًا يعكر صفو العلاقات بينه وبين مجلس الشيوخ.
وعني سويروس ألكسندروس بشئون الجيش، فراقب — عن كثب — حركات الوحدات وأَمَّنَ العدلَ بينهم وأَقْطَعَهم الأرضَ عند الحدود وزَوَّدَهم بالمواشي والأرقاء لحراثتها وزرعها؛ شرط أن يدخلوا أبناءهم في الخدمة بعدهم، ولكنهم لم يرضوا عن المفاوضات التي أجراها مع القبائل الألمانية عبر الرين في السنة ٢٣٥ وأخذوا عليه انقيادَه لوالدته، ففاوضوا مكسيميانوس مدرب الجيش وكانوا قد أحبوه لشجاعته وكرمه، وقتلوا الإمبراطور ووالدته، ونادَوا بمكسيميانوس إمبراطورًا، فدخلت الإمبراطورية الرومانية في أزمة سياسية مخيفة كادتْ تمزقها تمزيقًا وتهوي بها إلى الحضيض، وانكشف ضعفها وتبين أن أوغوسطوس قيصر ذاك المصلح الكبير لم يوفق إلى طريقة قانونية لانتقاء الإمبراطور تنتقل بموجبها سلطته من سلف إلى خلف دونما خلل يقطع الاستمرار. وتبين أيضًا أن الجيش بعد أن انفصل عن الشعب الروماني وأصبح خليطًا من كل مَنْ هَبَّ ودَبَّ بقي يمارس سلطة هائلة في انتقاء الإمبراطور بالاشتراك مع مجلس الشيوخ، وأن هذه السلطة أصبحت غاشمة بعد انحطاط الجيش — كما سبق أن أشرنا.
أزمة القرن الثالث
وهبَّ مكسيميانوس (٢٣٥–٢٣٨ب.م)، وكان عملاقًا في جسمه؛ يتابع الحرب فيما وراء الرين، ولكن الجنود في إفريقية لم يرضوا عنه فأعلنوا غورديانوس الأول إمبراطورًا في السنة ٢٣٧ وكان هذا قد ناهز الثمانين من العمر فأشرك ابنه غورديانوس الثاني في الحكم معه، وقاومهما والي موريتانية «الجزائر» فقُتل غورديانوس الثاني في ميدان القتال وانتحر والدُهُ العجوز، وثار جُنُود مكسيميانوس في وجهه فقتلوه في أثناء حصار أكريلية في ولاية البندقية.
وتدخل مجلس الشيوخ فانتخب بوبيانوس وبلبينوس فغورديانوس الثالث حفيد الأول؛ نزولًا عند رغبة الشعب، ولكن الحرس الإمبراطوري قتل الأولَين وأبقى غورديانوس الثالث حفيد غورديانوس الأول وكان لا يزال في الثالثة عشرة من عمره (٢٣٨–٢٤٤) ثم خَرَّ صريعًا في السنة ٢٤٤ بيد قائد الحرس. وكان قد اضطر غورديانوس الثالث أن يشرك فيلوبوس العربي معه في الحكم في السنة ٢٤٣؛ نزولًا عند رغبة جنود الشرق، فعقد هذا صلحًا مع الساسانيين وهرول إلى رومة، وتَسَلَّمَ أزمة الحكم فيها (٢٤٤–٢٤٩ب.م).
ومما يروى عنه أنه تَقَبَّلَ النصرانية سرًّا، وفي السنة ٢٤٩ انتقض الجند في مناطق الدانوب، فأرسل فيلوبوس العربي القائد ديقيوس ليخمد ثورتهم، وما إن وصل إليهم حتى نادَوا به إمبراطورًا (٢٤٩–٢٥١) فحارب فيلوبوس وقتله في موقعة فارونة، وقام ديقيوس يُحارب القوط في البلقان في السنة ٢٥١ فسقط في ميدان القتال في ما وراء الدانوب، فنادى الجند بغالوس إمبراطورًا (٢٥١–٢٥٣) وأشرك هذا هوستيليانوس بن ديقيوس في الحكم معه ثم قتله، وعَمَّ داء الطاعون في أثناء حكمه جميع أنحاء الإمبراطورية فزاد في الطين بلة.
ثم عمد إميليانوس هذا، وهو قاهر القوط، إلى خلع الإمبراطور في السنة ٢٥٣ فحلَّ محله، ولكن الجنود قتلوه بعد أربعة أشهر من الحكم ونادوا بفاليريانوس إمبراطورًا بعده (٢٥٣–٢٦٠ب.م) فأشرك هذا ابنه غاليانوس في الحكم معه، وقاما يحاربان قبائل الإفرنج في غالية والألماني في شمالي إيطالية، والقوط عند الدانوب، والساسانيين عند الفرات، وفي أثناء حصار الرها في السنة ٢٦٠ وقع فاليريانوس أسيرًا في يد شابور وتُوُفِّيَ أسيرًا، وتابع غاليانوس الحكم بعد أبيه (٢٦٠–٢٦٨) وجَابَهَ ما كان أشد هولًا: ضغط البرابرة، ولا سيما القوط الذين انقضوا من البحر الأسود بمراكبهم الخاطفة، وظهور عدد كبير من المنافسين، فدخلت الإمبراطورية في فترة الطغاة الثلاثين وأشهرهم تتريقوس في غالية وإسبانية.
غزوات الشعوب الجرمانية
وكان يقطن ألمانية وسائر أوروبة الشمالية برابرةٌ مِنَ الجنس الهندي الأوروبي، شُقْرُ الشعور زُرق العينين طوال القامة، لم يرتقوا كثيرًا منذ عهد إنسان العصر الحجري. وكانت كل قبلية منهم تُقيم في منطقة محدودة لا يتجاوز قطرها ستين كيلومترًا، ولا يَزيد عدد نفوسها عن خمسة وعشرين ألفًا أو ثلاثين، وكانوا يقيمون في قُرًى تضم كل واحدة منها مائة عائلة، وكانت المنازلُ التي يسكنونها أكواخًا حقيرة يَسْهُلُ نقلها. وكان السكان — على وجه الجملة — لا يرغبون في الفلاحة والزراعة، بل كانوا يُؤْثرون رعاية المواشي وتربيتها، وكانوا يجهلون الكتابة تمامًا ولا يتعاطون التجارة إلا قليلًا. وكانوا أقوياء البنية ذوي بأس وجلد، يميلون إلى الحرب والغزو والنهب، ويتنقلون من مكان إلى آخرَ يتبعهم نساؤُهُم وأولادهم في مركبات ضخمة، وكانوا يُجيدون ركوب الخيل ويعتنون بها عناية فائقة.
وكانت رومة قد جعلت من الرين والدانوب وما بينهما حدودًا فاصلة بينها وبين هذه القبائل، وحَصَّنَتْ هذه الحدود وأقامت عليها فرقًا تحميها، لكن هذا كله لم يمنع تسرُّب جماعات من الجرمان إلى داخل حدود الإمبراطورية. وأغوسطوس نفسه كان قد أذن لبعض هؤلاء بالبقاء داخل الحدود، وكان يوليوس قيصر مِنْ قَبْلِهِ قد أدخل الجرمان في خدمة الجيش، لا سيما فِرَق الخيالة. وكان قد أدى التقهقر الاقتصادي وقلة اليد العاملة إلى قبول بعض العناصر الجرمانية في المزارع الكبيرة، كما أدى ضعف الحكم عمومًا إلى التساهُل مع بعض القبائل الجرمانية تدخل برمتها البلاد ويستخدم رجالها في الجيش جنودًا مرتزقة.
وفي أوائل القرن الثالث بعد الميلاد كانت قبيلة الإفرنج لا تزال مُرابطة عند ضفاف الرين الأسفل، ووراءها إلى الشرق قبيلة السكسون السويفي فالفندال، وجميعها في شمال ألمانية، وكانت قبائل الألماني مرابطة بين الدانوب والرين الأعلى، وكانت قبائل القوط قد نزحت عن البلدان الاسكندنافية منذ نهاية القرن الثاني بعد الميلاد وحلت ضيوفًا ثقيلةً على الألاني والسرامطة في جنوب روسية، فأقام القوط الشرقيون بين نهري الدنيبر والدنيستر والقوط الغربيون في ما نسميه اليوم رومانية والمجر، وأدى ضعف الدولة الرومانية واضطراب أحوالها إلى تيقُّظ هذه القبائل واشتداد طمعها، فحاول بعضها قطع الحدود الرومانية فزادوا الإمبراطورية بعملهم هذا انهماكًا وتعبًا وتقهقرًا.
الأفلاطونية الجديدة
وأدى تقهقُر رومة الداخلي إلى نزعات جديدة في الفكر، فدفعت الفوضى والحروب والأوبئة وما تبعها؛ بعضَ رجال الفكر إلى الابتعاد عن هذا العالم الفاني والتأمُّل في عالم أزلي ملؤُهُ الخير والجمال، فعكف عددٌ مِنْ رجال الفلسفة على فيثاغورس زاهدين ورعين مستوحين، قائلين بالسحر والعرافة، جاعلين مِنْ بعض حلقاتهم انتداءات سحرية، فظهرتْ فيثاغوريةٌ جديدةٌ قال بها فلاسفةٌ في الشرق والغرب معًا.
Leemans, E. A., Numenius (Collection of Fragments) Brussels, 1937.