الفصل العاشر
تَمَشْرُق الفكر والفن والدولة
الدولة تتطور فتتحول إلى دولة شرقية
وانتهى أمرُ الإمبراطورية الغربية بسقوط رومة في السنة ٤٧٦، واستقر البرابرة في
غالية وإسبانية وأفريقية وإيطالية، وفي جزء من إيليرية، فأصبح ما بقي من الدولة
الرومانية شرقيًّا صرفًا. واشتمل على شبه جزيرة البلقان ما عدا أطرافها الشمالية،
وعلى آسية الصغرى حتى جبال أرمينية وعلى سورية حتى الفرات وعلى مصر والقيروان،
وقَلَّ اهتمامُ الأباطرة بالغرب وشئونه، فنودي بمرقيانوس إمبراطورًا في السنة ٤٥٠
دون استشارة الإمبراطور الغربي في رابينة، وجرى مثل هذا في السنة ٤٥٧ عندما تبوأ
لاوون الأول عرش القسطنطينية.
ولم تعبأ حكومة القسطنطينية بما حل برومة من كوارث، فلم يحاول مرقيانوس بذل أي
مساعدة عندما دخل الوندال إلى رومة في السنة ٤٥٥، واختط لاوون
الأول لنفسه سياسة سلم ومسالمة في علاقاته مع
البرابرة في الغرب، وزاده تَمَسُّكًا بهذه
السياسة فشلُهُ في حملته على أفريقيا في السنة
٤٦٨. ولم تكن محاولة التوحيد بين الشرق والغرب — تلك المحاولة التي قام بها زينون في
السنة ٤٨٨ — سوى حلم طارئ لا قيمة له.
وتطور في هذه الآونة نفسها نظامُ الحكم في الداخل، فأصبح شرقيًّا أكثر من ذي قبل،
فتسلَّم مرقيانوس في السنة ٤٥٠ تاجه من يد بطريرك القسطنطينية لأول مرة في تاريخ
الدولة، وحذا حذوه لاوون الأول في السنة ٤٥٧، فاتخذ التتويج صفة دينية، وأصبح الحق
في الحكم إلهيًّا شرقيًّا، واستعاضت العامة عن اللقب إمبراطور باللقب فسيلفس، وبدأت
اللغة اليونانية تنتشر في الدوائر الرسمية، وظهر الفسيلفس وبلاطه وعماله بمظاهر
الأبهة والجلال الشرقيين، إِنْ في الملابس، أو في الأثاث، أو في العربات. يؤيد ذلك
ما رواه صاحبُ سيرة بورفيريوس أسقف غزة.
ذكر عن هذا الأسقف أنه عندما دخل إلى القصر واشترك في حفلة عماد الطفل ثيودوسيوس
الثاني في السنة ٤٠١ خَالَ أنه في الجنة لا على الأرض،
١ واسترعى هذا التزيد الشرقي في البذخ والترف أنظارَ يوحنا الذهبي الفم
وسيناسيوس، فحملا عليه بشدة.
وتمشرقت الكنيسة أيضًا، وأصبح الشرق هو الحيِّز الذي تدور فيه حوادثُها الكبرى،
وتنطلق منه حركاتها الفكرية، فأعظم المشاكل التي اعترضت تاريخ الكنيسة قد حدثتْ في
الشرق، وكذلك مجامعها المسكونية كلها انعقدتْ في الشرق، وهذا ما خوَّل بطريرك
القسطنطينية، وهو يُناظر زميله بابا رومة، بعد خضوع الغرب لملوك من الآريوسيين
البرابرة، أن يقول: «لم يبقَ سوى إمبراطورية مسيحية واحدة هي إمبراطورية الشرق، ولم
يبقَ سوى كنيسة مسيحية واحدة هي كنيسة الشرق.»
٢
الفكر والفن والثقافة
وكانت حضارة الإمبراطورية الرومانية قد تأثرت منذ زمان بعيد بنفوذ المدنية
اليونانية الهلينية، ولكن هذه الحضارة في القرنين الرابع والخامس ألقتْ مقاليدها
إلى الشرق واتخذته إمامًا تَأْتَمُّ به في الفكر والثقافة. ومع أن اللغة اللاتينية
بقيت اللغة الرسمية في الشرق؛ فإن اللغة اليونانية أصبحت — دون ريب — هي اللغة
السائدة.
وأصبح النتاج الفكري والفني في الشرق آسيويًّا أفريقيًّا أكثر منه أوروبيًّا،
ويذهب الأستاذ كرومباخر الاختصاصي الألماني إلى أَنَّ مبلغ النتاج الفكري الذي كانت
تُنتجُهُ الولاياتُ الأوروبيةُ في الدولة الرومانية الشرقية لم يكن يتجاوز العشرةَ
في المائة من مجموع النتاج،
٣ وكانت أهم مراكز هذا النتاج: الإسكندرية وأنطاكية، وبيروت وقيصرية
فلسطين، وقبدوقية والرها.
الإسكندرية
ولا يخفى أن أساتذة المتحف الإسكندري العظيم كانوا قد حُرموا المخصصات اللازمة
لأعمالهم منذ أوائل عهد كركلا (٢١١)، وأن هذا الإمبراطور الغاشم كان قد طَرد من
الإسكندرية العلماءَ الغرباء عنها، ولا يخفى أيضًا أن جنود زينب الزباء عندما دخلوا
إلى الإسكندرية ظافرين (٢٧٠) نهبوا وأحرقوا المباني العمومية التي كانت تُحيط بقبر
الإسكندر، واتسع هذا التخريبُ حتى لم يَنْجُ منه المتحفُ العظيم.
ومع أن هذه المؤسسة بقيت تعمل بعد القرن الثالث فإن نتاجها بات نزرًا ضعيفًا، فلم
يشتهرْ مِن أساتذتها شهرة واسعة سوى إِباتية الفيلسوفة (٣٧٠–٤١٥) بنت ثيون الرياضي،
وكانت جميلة الخَلْق والخُلُق، ترتدي زِيَّ الفلاسفة وتلقي الدروس في الأفلاطونية
الجديدة في بعض مدارس الإسكندرية، وفي باحاتها العمومية، وعرف مِن تلامذتها
سيناسيوس القيروني وأورستيوس الحاكم، وهو الذي كان سببًا في هلاكها، فقد زجر
أورستيوس الجماهير المسيحية عندما صخبت على اليهود في السنة ٤١٥، وقبض على أحد
الرهبان المتهورين وشدد عليه في التعذيب فتُوُفي بين يديه، فثار عليه سخط الجماهير،
ولما كانت إباتية معلمة وصديقة لاورستيوس فقد هاجمها الجمهور؛ إذ صادفها خارجة من
بيتها وانهال عليها حتى ماتت تحت الضرب.
٤
وأدى الصراع بين الوثنية والنصرانية إلى الاجتهاد في التاريخ والمنطق والفلسفة،
وكان من الطبيعي جدًّا أن يحتدم الجدل في أمهات المُدُن ولا سيما الإسكندرية، وأن
تعنى الكنيسة فيها بهذه العلوم العالية في سبيل الدفاع عن الإيمان، ولا نعلم بالضبط
متى نشأت مدرستُها اللاهوتية الفلسفية التي عُرفت بالاسم اليوناني الذيذاسقاليون،
والذيذاسقالية عند اليونان طريقةُ الشعراء في تدريب الممثلين، ويقول يوسيبيوس
المؤرخ: «اشتهرت كنيسة الإسكندرية منذ عهد قديم بمدرسة للعلوم المقدسة، كان يتولى
أمرَها رجالٌ عُرفوا بقوة العارضة وتميزوا بالاجتهاد في الصلاح والحَثِّ على
التقوى، وكان أطولهم باعًا بنطينس النابغة في أدب الحكمة.»
٥ وخلف بنطينس هذا في رئاسة ذيذاسقاليون الإسكندرية في السنة ٢٠٠ تلميذة
إقليمس الإسكندري
٦ (١٤٥–٢٢٠)، ولد وثنيًّا أيضًا في آثينة وتميَّز في الفلسفة وطاف بلادًا
كثيرةً حتى «ألقى عصاه في الإسكندرية»، وكان يجتمع حول منبره طبقات الناس من علماء
وأغنياء وغيرهم، وكان هو يحرِّض الوثنيين على هَجْر خرافاتهم، ساخرًا من آلهتهم،
ويعلِّم المهتدين مبادئ الرسالة المسيحية، وأفضل ما اشتهر به في تاريخ الفكر قوله:
«إن الفلسفة تقود إلى الكمال من يلبي دعوة المسيح.» وقوله: «إن الفلسفة في نظري
ليست الرواقية، ولا الأفلاطونية، ولا الابيقورية، ولا الأرسطوطاليسية، وإنما هي كل
ما تعلِّمه هذه المذاهبُ؛ للوصول إلى العدل والحقيقة.»
٧ وكان هدفه الأساسي — فيما يظهر — أَنْ يُبرهن للملأ أن العقيدة
المسيحية لم تكن لِتَقِلَّ شأنًا عَنْ أَيِّ فلسفةٍ زمنية، وهكذا يكون إقليمس
الإسكندري أولَ مَنْ حاول أَنْ يعطي العقيدة المسيحية المرتبةَ اللائقة بها، ويكون
أيضًا في مقدمة الآباء الذين حاولوا التوفيقَ بين النصرانية والفلسفة، وأشهر
مؤلفاته كتاب إرشاد اليونانيين، وكتاب المعلم، وكتاب الاسترومات أو «الوشاء»، كما
اقترح غبطة البطريرك إغناطيوس أفرام، وهو مجموعة آداب وتأملات وتفسير وتأويل لبعض
ما جاء في التوراة،
٨ ولما أغلقت مدرسة الإسكندرية، لِما حلَّ بالنصارى من الاضطهاد في السنة
٢٠٢، لجأ إقليمس إلى قبدوقية وأقام عند تلميذه ألكسندروس أسقف قيصرية، ثم انتقل إلى
أنطاكية في السنة ٢١١، وكانت وفاته في السنة ٢١٥ أو ٢٢٠.
على أن أشهر من علَّم في ذيذاسقاليون الإسكندرية: أوريجانيوس العظيم، ولد في مصر
في بيتٍ مسيحيٍّ في السنة ١٨٥ أو ١٨٦، وتلقى مبادئَ علومه عن أبيه ليونيذاس وأخذ عن
إقليمس أيضًا، واستُشهد والده في السنة ٢٠٢ وصُودرت أموالُهُ وأوريجانيوس لا يزال
في السابعة عشرة، فشملتْه سيدة مسيحية بعطفها، فتابع دروسه في الفلسفة والدين،
وأنجز علومه الفلسفية وهو في الخامسة والعشرين في مدرسة أمونيوس صقاس
٩ الأفلاطوني الجديد، ودرس العبرية ليستعينَ بها على فَهْم التوراة،
ودرَّس في الذيذاسقاليون وأدخل إليه العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية، وعلَّم
الشبان والشابات معًا.
ودفعًا للريبة وزيادةً في التعبد والتقشف؛ عمل بمنطوق الآية الثانية عشرة من
الفصل التاسع عشر من إنجيل مَتَّى، ولم يؤثر عمله هذا في تعلق طلابه به واحترامهم
له، وفي السنة ٢١٢ ذهب إلى رومة لزيارة الكنيسة «العريقة في القدم»، وفي السنة ٢١٥
لجأ إلى فلسطين من شدة الاضطهاد الذي أنزله كركلا بالمسيحيين في مصر، وأقام في
قيصرية، فوَكَلَ إليه أسقفُها وأسقف أوروشليم شرح الأسفار المقدسة، ثم عاد إلى
الإسكندرية واستأنف التدريس حتى السنة ٢٣٠.
وفي أثناء هذه الحقبة عاد فمرَّ بقيصرية فلسطين فاحتفى به أسقفا قيصرية وأوروشليم
وساماه قسًّا، فاغتاظ أسقف الإسكندرية وأسقطه من وظيفة التعليم وحرمه، ولكن ذلك لم
يَنَلْ مِن سمعته، وبقيت الكنيسة تحترمُهُ لسيرتِهِ النقية وعلومه الجَمَّة، فخرج
من الإسكندرية إلى فلسطين وأقام في قيصرية وأسس فيها مدرستها اللاهوتية. وفي السنة
٢٤٠ زار آثينة، وزار في السنة ٢٤٤ بلاد العرب، وتُوُفي في السجن في صور ضحية اضطهاد
الإمبراطور داقيوس.
ويقول أبيفانيوس القبرصي: إن أوريجانيوس ألَّف ستة آلاف كتاب، وأثبت يوسيبيوس
المؤرخ ألفين منها، أو ما يناهز هذا العدد، ومن مؤلفاته الهكسبلة،
١٠ أي ذو الأعمدة الستة، وهو مؤلَّفٌ كبيرٌ اشتمل على سِتِّ ترجمات
للتوراة في سِتَّةِ أَعْمِدَة. وخص المزامير بثماني ترجمات في أعمدةٍ ثمانية، فعرف
مؤلفه هذا بالأوكتابلة،
١١ وشرح أسفارَ التوراة والإنجيل برسائلَ عديدة، فعمد إلى الاستعانة
بالمعاني الرمزية والتأويل، ورد على قلسوس الفيلسوف الوثني مدافعًا عن النصرانية،
١٢ وكتب في المبادئ
١٣ في اللاهوت، وفي القيامة، وفي الصلاة، وفي التحريض على الاستشهاد، وما
إلى ذلك.
ويرى الأستاذ بركت أن ما ذهب إليه أوريجانيوس من تأويل في كتاب المبادئ لم يُثِرْ
ضجةً كبيرةً عند ظهوره، وأن قطع أوريجانيوس فيما بعد إنما نشأ عن عواملَ شخصيةٍ،
أهمها الحسد،
١٤ ومما احتُجَّ به عليه فيما بعد قولُهُ بخلق النفوس خلقًا سابقًا على
الأجساد، وقوله بأن العذاب في الآخرة مُنْتَهٍ إلى نهاية وبأن العفو سيشمل حتى
الشياطين، ثم قولُهُ بالتَّنَاسُخ وتَقَمُّص النفوس وبالتطهير بالنار في الآخرة
وبالتفاوُت بين الأقانيم الثلاثة، عدا ارتيابه في حقيقة جسد المسيح ودمه،
١٥ ومكانة أوريجانيوس في تاريخ الفكر تَستند إلى أنه سَبَقَ غَيْرَهُ من
الآباء في تأسيس عِلْم اللاهوت علمًا قائمًا بذاته.
وجُل ما فعله غيره من الآباء الذين سبقوه كإقليمس ويوستينوس؛ هو أنهم حاولوا أن
ينقلوا المبادئ المسيحية إلى الأوساط العلمية بثوبٍ فلسفيٍّ يونانيٍّ، أما
أوريجانيوس فإنه سخَّر الفلسفة اليونانية — ولا سيما الأفلاطونية الجديدة — لتشييد
بناءٍ فلسفيٍّ نصرانيٍّ على دعائمَ من الأسفار المقدسة.
١٦
وبما أَنَّ مُعظم كتب أوريجانيوس مفقودةٌ فليس مِنَ الميسور بحثُ آرائه لمن شاء
ذلك، ويَزيد في الطين بلة ما تعرضتْ له مصنفاته من تَحريف وما نُسب إليه من أضاليلَ
لم يكن هو صاحبها، «وصفوة القول إن هذا العلامة أَحَبَّ الحقيقة المسيحية حبًّا
صادقًا، ووقف عليها حياتَه وقريحتَه وقواه بأسرها، فصحة دينه ورسوخ تقواه تعدلان
سمو علمه، بالرغم عما هفا فيه من السقطات التعليمية.»
١٧
وخلف أوريجانيوس في رئاسة مدرسة الإسكندرية هيرقليوس ثم ديونيسيوس البطريرك
(١٩٠–٢٦٥)، ولد ديونيسيوس في مصر من أُسرة وثنية، وتنصر، وقرأ على أوريجانيوس،
وعَلَتْ منزلتُهُ فسِيم بطريركًا على الإسكندرية وتوابعها في السنة ٢٤٨، وله
مؤلفاتٌ منها كتابٌ في الطبيعة نَقَضَ فيه نظريةَ آتوميستيك في خلق العالم، وكتابٌ
في المحن والاضطهادات، وآخرُ في المواعيد الإلهية نقض فيه الاعتقاد بالملك ألف سنة،
وغير ذلك.
وليس لنا أَنْ نذكر هنا جميعَ مَنْ لمع من رجال هذه المدرسة في القرن الثالث،
ولكن لا بد من القول إنها قد عظم شأنُها منذ أيام أوريجانيوس، وأصبح رئيسها هو
الثاني بعد البطريرك في كنيسة الإسكندرية، وقد رقي أغلب رؤساء هذه المدرسة السدَّة
البطريركية.
فأما في القرن الرابع فكان أشهر رجالها القديس أثناسيوس البطريرك الإسكندري، وُلد
وثنيًّا حوالي السنة ٢٩٥ في الإسكندرية، وقرأ ودرس في مدرستها، وسامه البطريرك
الإسكندري ألكسندروس شماسًا في السنة ٣١٨ واستصحبه إلى مجمع نيقية المسكوني الأول
سنة ٣٢٥، فأظهر من الذكاء والعلم والمعرفة ما جَذَبَ إليه القلوب، وخلف معلمه في
بطريركية الإسكندرية في السنة ٣٢٨، فناضل في سبيل «المساوي في الجوهر» نضالًا
طويلًا ونفي خمس مرات.
ولم يكن ذلك الكاتب الأديب الكامل، ولا ذلك الفيلسوف الدقيق العميق، ولكنه كان
محاميًا واضحَ التفكير قويَّ الحُجَّة واسع الاطلاع، كتب في تَجَسُّد الكلمة، وفي
لاهوت الابن وفي الآريوسية، وأَشْهَرُ مؤلفاته وأكثرها انتشارًا وأقواها أثرًا؛
كتابُهُ في سيرة الأب أنطونيوس مؤسس الرهبانية في مصر؛ فقد ظل هذا الكتاب مدةً
طويلةً أَفْعَلَ الكتب في تحبيب الترهُّب في الشرق والغرب معًا، وتُوُفي البطريرك
آثانسيوس في السابع عشر نيسان، سنة ٣٧٣.
وولَّى أثناسيوسُ ذيذيمسَ الأعمى رئاسةَ المدرسة حوالي السنة ٣٥٠، وما زال ذيذمس
رئيسًا عليها حتى وفاته في السنة ٣٩٨، وكان أوريجانيًّا معتدلًا، على أن تآليفه لم
يَبْقَ منها سوى كتابيه في الروح القدس والثالوث الأقدس.
ومن أشهر تلاميذ مدرسة الإسكندرية في هذه الحقبة الأخيرة من القرن الرابع:
سيناسيوس القيروني، ولد وثنيًّا ودرس في الإسكندرية على إباتية الفيلسوفة وغيرها،
فتقبل الأفلاطونية الجديدة ومارس أسرارها المصرية، ثم استبدل أفلاطون بالمسيح وتزوج
من مسيحية، وفي أواخر حياته سيم أسقفًا على بتوليمايوس، وكان شديد الاهتمام
بالسياسة — كما تدل على ذلك رحلته إلى القسطنطينية (٣٩٩–٤٠٢) — وقد سبقت الإشارةُ
إليها، ولم يكن سيناسيوس مؤرخًا، ولكن رسائله المائة والست والخمسين تشتمل على
معلوماتٍ تاريخية هامة، وتظهر درجةَ تقدُّمه في الفلسفة وعلوم اللسان، وأصبحتْ هذه
الرسائلُ — فيما بعد — نموذجًا مثاليًّا يَقتدي به كل أديب وخطيب، أما ترانيمه
فإنها مزيج غريب من الفلسفة والنصرانية.
١٨
وتضعضعت مدرسة الإسكندرية بعد وفاة ذيذيمس الأعمى، ونقلها رودون إلى سِيدَة في
بامفيلية، ثم انقرضت حوالي السنة ٤١٠، وجاء ذلك موافقًا لما حدث في مصر من عدول
الأكثرية إلى القول بالطبيعة الواحدة، ما أدى إلى انفصال الكنيسة المصرية عن
الكنيسة الأُمِّ بعد المجمع الرابع (٤٥١) انفصالًا صَرَفَها إلى الاهتمام بالقبطية
والابتعاد عن اليونانية لغة الفكر والبحث.
أنطاكية
وأخطب خطباء هذا العصر وأفصحهم أنطاكيَّان: أحدهما وثنيٌّ ليبانيوس، والآخر
مسيحيٌّ يوحنا الذهبي الفم، وقد يكون ليبانيوس لبنانيًّا وقد لا يكون، ولد في
أنطاكية في السنة ٣١٤ بعد الميلاد وتُوُفي فيها في السنة ٣٩٣، وتعلم في أنطاكية ثم
في آثينة، وعلم في نيقية ونيقوميذية والقسطنطينية، وعاد إلى بلده في الأربعين من
عمره وما فتئ فيها يعلِّم ويخطب ويكتب حتى قضى نحبه بعد أربعين عامًا، ولا يزال قسم
كبير من خطبه ورسائله محفوظًا حتى يومنا هذا، وفيها صورٌ رائعةٌ لحياة ذلك العصر،
وكان ليبانيوس يعتز باليونانية ويزدري اللاتينية، فلا يتنازل لتعلمها، واحتقر
النصرانية واعتبرها عدوةَ الحضارة وحَزِنَ لموت يوليانوس الجاحد فقال قوله المأثور:
«إني ذاهبٌ إلى الحُقُول لأتحدث إلى الحجارة.» ولما شُرع في هدم الهياكل الوثنية
قال: «إن هدم الهيكل كقلع العين؛ فالهياكل روح المناطق وأعرق المباني فيها.»
١٩ وأما يوحنا الذهبي الفم فقد سبق لنا عنه الحديث، ولعل أفضل ما يعبر عن
أثره في النفوس ومنزلته في التاريخ ما قاله نيقوفوروس كاليستوس في القرن الرابع
عشر: «لقد قرأتُ أكثر من ألف عظة له تتدفق حلاوة، ولقد أحببته منذ حداثتي وأصغيت
إلى صوته كأنه صوت الله، وإني مَدِينٌ له بجميع ما أَعْرِفُهُ، وبنفسي أيضًا.»
٢٠
واشتهرت أنطاكية أيضًا بأميانوس مرسلوس (٣٣٠–٤٠١)، وُلد في أنطاكية من أبوين
يونانيين عريقين في الشرف، والتحق بالجيش وتَوَلَّى القيادة العامة، ولمع في غالية
وفي ما بين النهرين، ثم تقاعد فعُني بالتأريخ فكتب تكملة لتاريخ تاسيتوس، وذلك
بعبارةٍ لاتينية متينة فصيحة،
٢١ ولم يكن يرى فضلًا في النصرانية، ولكنه كان أَقَلَّ تعصبًا من
ليبانيوس، وأَحَبَّ أنطاكية وسورية ولبنان، وفاخر بها: «أنطاكية لا مثيل لها،
وفينيقية عند قدم لبنان فَتَّانة جميلة.»
٢٢
وكان طبيعيًّا جدًّا أَنْ تَهْتَمَّ الأوساطُ النصرانيةُ في أنطاكية في القُرُون
الأولى اهتمام الإسكندرية للدفاع عن النصرانية، وأن تنشأ فيها مدرسةٌ من طراز
ذيذاسقاليون الإسكندرية، فنحن نقرأُ أنه في السنة ٢٦٩ اتخذ مجمع أنطاكية المحلي
قرارًا بقطع بولس السميساطي أسقف أنطاكية وصديق زينب التدميرية، ونقرأ أَنَّ الذي
تولى أمر تفنيد أضاليل هذا الأسقف كان الأب ملكيون «رئيس مدرسة العلوم اليونانية»
في أنطاكية، ثم نقرأُ أنه في السنة ٢٩٠ اتفق القسان لوقيانوس ودوروثاوس وجماعة من
الأساقفة والقسوس على جَعْلِ دَارِهِمْ مدرسةً لتدريس الأسفار المقدسة
وشرحها.
وكان لوقيانوس (٢٣٥–٣١٢) سميساطي الأصل درس على الأسقف بولس السميساطي الذي علَّم
أن الآب والابن والروح القدس ليسوا سوى أقنوم واحد، وأن المسيح لم يكن ابن الله —
على الحقيقة — وإنما كان إنسانًا حَلَّ فيه اللاهوت، وتشرَّب لوقيانوس شيئًا من
تعاليم معلمه، فأصابه حكم المجمع الذي قطع أستاذه، وبقي مبعدًا عن الكنيسة حتى نكل
عن بعض ما قاله فرَدَّهُ البطريرك كيرلُّس (٢٧٧–٢٩٩) إلى درجته في الكهنوت، وعني
لوقيانوس بِتَحَرِّي نص التوراة السبعينية ونص الإنجيل، فضبط لهذين السفرين الترجمة
التي عَمَّ استعمالُها الكنائسَ الشرقية، وتُوُفِّيَ لوقيانوس وزميلُهُ دوروثاوس
شهيدين في نيقوميذية «أزميد» في السنة ٣١٢.
وأشهر الآباء الأنطاكيين في تاريخ الفكر الديني العقائدي: ديودوروس الطرسوسي
(+٣٩٤) ويوحنا الذهبي الفم (+٤٠٧) وثيودوروس المبسوستي (+٤٢٩) وثيودوريطس القورشي
(+٤٥٧)، ولد ديودوروس في أنطاكية في بيتٍ عريقٍ في الشرف والنفوذ، ودرس في آثينة ثم
في أنطاكية، وقام بأعباءِ الخدمة في أنطاكية في أثناء المحنة التي أَدَّتْ إلى
نَفْيِ سيده البطريرك ملاتيوس الشهير (٣٦٠–٣٧٨)، وسيم أسقفًا على طرسوس في السنة
٣٧٨.
وبوصفه أسقفًا اشترك في أعمال المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية سنة ٣٨١،
وكتب في الفلسفة واللاهوت وفي تفسير الأسفار، وأما ثيودوروس المبسوستي أو الأنطاكي،
فإنه أَبْصَرَ النور في أنطاكية في السنة ٣٥٠ أو ما يقاربها، في بيت وفرٍ ويسارٍ
ونفوذٍ واقتدارٍ، ودرس على ليبانيوس، ثم اجتذبه يوحنا الذهبي الفم إلى الدين
المسيحي، فتقبل النعمة وتَنَسَّكَ وجاور ديودوروس الطرسوسي، وكان هذا لا يزال في
أنطاكية، ولم يقدر على متابعة الزهد فعاد إلى أنطاكية ليتزوج، فوجه إليه يوحنا
الذهبي الفم رسالته
Ad Theodorum Lapsum فعاد إلى
الرهبانية والزهد، وما فتئ يدرس العلوم الدينية على ديودوروس حتى السنة ٣٧٨ سنة
سيامة أستاذه أسقفًا على طرسوس، فأما ثيودوروس فإنه سِيمَ كاهنًا في السنة ٣٨٣،
ورحل بعدها إلى طرسوس والتحق بمعلمه، وما زال فيها حَتَّى سيم أسقفًا على مبسوستي
في جوار طرسوس، وتُوُفي في السنة ٤٢٨، وهو أكبر مَن صَنَّفَ في اللاهوت من رجال
أنطاكية، ولم يبق من تآليفه إلَّا نزر يسير؛ نظرًا لموقف المجمع المسكوني الخامس من
تعاليمه، وهو أستاذ نسطوريوس، ويروى أن نسطوريوس زاره في مبسوستي، وهو في طريقه إلى
القسطنطينية لِيتبوأ كرسيها البطريركي، فرحب به ثيودوروس وأوصاه بالاعتدال،
٢٣ أما ثيودوريطس القورشي فإنه أنطاكيٌّ أيضًا، ولد في أنطاكية سنة ٣٩٣،
وبشَّر بولادته مقدونيوس الناسك مُعلنًا استعدادَ المولود الجديد لتكريس نفسه لخدمة
المسيح، فنشأ ثيودوريطس راهبًا، وأخذ كثيرًا عن يوحنا الذهبي الفم وعن ثيودوروس
المبسوستي، ورافق في عهد التلمذة نسطوريوس ويوحنا الأنطاكي، وقد سيم أسقفًا على
قورش في السنة ٤٢٣، وكانت وفاته في السنة ٤٥٧، وكتب كثيرًا، وأنفع ما صنف تكملة
تاريخ يوسيبيوس.
٢٤
وكانت مبادئ مدرسة أنطاكية تُوجب في كل موضوع بساطةً في المنهج وكمالًا في
الإيضاح وإدراكًا في تعليم الإيمان، وكانت تؤثر الأخذ بظاهر النصوص المقدسة، فتبتعد
كل الابتعاد عن التأويل، وكانت تعتمد أرسطو أكثرَ من أفلاطون، ومِنْ ثَمَّ كانت هذه
الفروقُ بينها وبين مدرسة الإسكندرية.
ولهذا السبب كانت تميز مدرسة أنطاكية بين اللاهوت والناسوت في شخص المسيح واحد،
ومع أنها كانت تعتقد بأن المسيح واحدٌ وليس اثنين، فإنها كانت ترفض التعليمَ
بالاتحاد الطبيعي وبالمزج بين الطبيعتين، وكانت تعتبر اتحادهما إضافيًّا بمعنى
السكنى والارتباط حفظًا لكمال الطبيعة البشرية التي زعم أبوليناريوس أنها كانت
ناقصةً، وشهد بذلك يوحنا الإنجيلي بقوله: إن الكلمة «سكن فيها»، وبقول بولس الرسول
إن الكلمة «ظهر بها»، وكانت تنكر على الناسوت خواصَّ اللاهوت، كالحضور في كل مكان
والقُدرة على كل شيء، وعلى اللاهوت أهواءَ الناسوت وآلامه، كالولادة والتألُّم
والموت.
ولهذا السبب كان مُعَلِّمُوها يتجنبون كُلَّ تعبير يؤدي إلى مِثْلِ ذلك المعنى
كتسمية العذراء بوالدة الإله، ومع اعتقادِهِم بكمال الطبيعة الإلهية كانوا يعتقدون
بوجوب كمال الطبيعة البشرية أيضًا؛ لأن لوقا الإنجيلي يقول في الإصحاح الثاني: إن
يسوع «كان يتقدم بالحكمة والقامة.» وهذا لا يُقال إلَّا في طبيعةٍ بشريةٍ، وكانوا
يعلمون «بوجوب السجود للناسوت، بمعنى أنه إناءٌ للكلمة، فيقولون: إننا نسجد
للأرجوان من أجل المتردي به، وللهيكل من أجل الساكن فيه، ولصورة العبد من أجل صورة
الله، وللحمل من أجل رئيس الكهنة، وللمتخذ من أجل الذي اتخذه، وللمكوَّن في بطن
البتول من أجل خالق الكل.»
على أنهم ما كانوا يعلمون بأقنومين بل بأقنوم واحد ذي طبيعتين متحدتين، بلا
انمزاج ولا اختلاط ولا تشويش، ولهذه الأسباب كانوا يقدمون للمخلِّص سجودًا واحدًا
من الجهة الواحدة، ويرفضون من الجهة الأُخرى الاعترافَ بالاتحاد الطبيعي أو
الجوهري؛ حذرًا من حَصْرِ اللاهوت أو مِنْ تأليه الناسوت.
«فينتج مما تقدم أن معلمي أنطاكية والإسكندرية كانوا يعلمون التعليم المستقيم على
مناهجَ مختلفةٍ، مع محاذرة استعمال عباراتٍ مستقيمة، أو مع استعمال عبارات أَشَدَّ
من المستقيمة تحصينًا للتعليم القويم بحسب اقتضاء مراكزهم، فكان المصريون يشدُّون
العبارات المتعلقة بإيضاح كمال طبيعة اللاهوت حذرًا من بدعة آريوس التي ظهرت في
إقليمهم ضد التعليم بكمال اللاهوت، وكان الأنطاكيون يطلبون إيضاحَ كمالِ طبيعةِ
الناسوت؛ حذرًا من بدعة أبوليناريوس التي ظهرتْ في إقليمهم ضد التعليم بكمال طبيعة
الناسوت.
ولكنه قام في المدرستين أناسٌ تطرفوا في التعليم فسقطوا في الضلال، فقام في مدرسة
أنطاكية مَنْ تَطَرَّفَ في التعليم بالطبيعتين إلى التعليم بشخصين أو أقنومين حتى
أنكر الاتحاد الحقيقي، وهذا هو نسطوريوس وأتباعه، وقام في الإسكندرية مَنْ تطرف من
التعليم باتحاد الطبيعتين إلى التعليم باختلاطهما طبيعة واحدة، ولم يعد يميز بين
اللاهوت والناسوت، وهذا هو أفتيشيس أو أوطيخة وأنصاره.»
٢٥
قيصرية فلسطين
واشمأز أوريجانيوس ونفر من ديمتريوس بطريرك الإسكندرية، فخرج منها في السنة ٢٣٢
وأَمَّ قيصرية فلسطين المدينة التي رحبت به من قبل وأصغتْ إليه وسامتْه كاهنًا
مسيحيًّا، فأقام فيها وأسس مدرسة جديدة، وقرأ عليه فيها غريغوريوس العجائبي وأخوه
اثينادوروس ويوسيبيوس المؤرخ وغيرهم، وفيها جمع مكتبته الشهيرة وصنف الهكسبلة في
شرح الأسفار المقدسة، ومنها خرج لزيارة آثينة سنة ٢٤٠ وبلاد العرب سنة ٢٤٤، وفيها
أذاقه داقيوس الإمبراطور مُرَّ الاضطهاد (٢٥٠) فخرج منها رغم أنفه وسِيقَ إلى صور؛
حيث سُجن وتُوُفي في السنة ٢٥٤ أو ٢٥٥.
وبعد أوريجانيوس أمَّ قيصرية بمفيليوس البيروتي، وكان هذا قد وزَّع أمواله على
الفقراء والمساكين ورحل إلى الإسكندرية، فدَرَسَ فيها على خلف أوريجانيوس، ثم
استوطن قيصرية فلسطين وأنشأ فيها مدرسة لتدريس العلوم الدينية، وجمع ما كان قد
تَبَعْثَرَ من كُتُب أوريجانيوس ونسخ ما لم يتمكن من ابتياعه منها بخط يده، وكان
يستنسخ الكتب الإلهية مستندًا إلى ما أَوْرَثَه إياه أوريجانيوس، فينثرها في البلاد
نثرًا، وكان يوسيبيوس تلميذَه يعاونُهُ في عمله هذا على ما تشهد به بعضُ
النسخ.
وممن اشتهرتْ بهم قيصرية فلسطين يوسيبيوس المؤرخ، ولد يوسيبيوس في قيصرية أو في
مكانٍ قريبٍ منها، في حدود السنة ٢٦٥، وقرأ العلم على بمفيليوس البيروتي وعلى
دوروثاوس الأنطاكي، واتخذ بمفيليوس خدينًا له وتَسَمَّى باسمه وتقلَّد الكهنوت من
يد سلفه الأسقف أغابيوس، وسيم أسقفًا على قيصرية في حدود السنة ٣١٣، ووعى علوم
زمانه فبرع — بحسب مقياس ذلك العصر — في تاريخ الأسفار المقدسة وفي تاريخ الوثنية
وتاريخ الشرق القديم وفي الجغرافية والفلسفة والفَلَك وحساب التقويم، فشرح أشعيا
والمزامير وغيرها.
وحسب لعيد الفصح مع ما في ذلك من عقد ومشاكل، وعرف جغرافية فلسطين وتاريخها معرفة
جيدة، فتمكن مِن إرشاد الحجاج الذي بدءوا منذ عهده يزورون الأماكن المقدسة، وكان
خطيبًا حَسَنَ اللفظ أنيق اللهجة فصيحًا بليغًا. ومن مواقفه الخطابية المأثورة
خطبته في مجمع نيقية، وذاع صيته فحظي عند قسطنطين بمكانة سَنيَّة وأعد لهذا
الإمبراطور خمسين نسخة من الكتاب المقدس بناءً على طلبه.
«وكان يوسيبيوس من المنتصرين لأوريجانيوس، وقد وافق آريوس في أسلوبه دون نظرياته،
ومما يستدعي الأسف أنه بعد ما وقَّع أعمال المجمع النيقاوي واطأ خصوم هذا المجمع
على مقاومة أُصُوله، فشارك الآريوسيين في مجامعهم وعدَّه بعضهم من أنصاف الآريوسية
مع أنك لا تجدُ في تاريخه البيعي وكتابه الظهور الإلهي إلَّا إجهارًا صريحًا للاهوت
السيد المسيح.»
٢٦
وتعددت مصنفاتُ يوسيبيوس؛ لأنه ظل يكتب حتى الثمانين، ومصنفاته تشكل محاولة جبارة
لإحلال النصرانية المَنْزِلَة اللائقة بها، وللرد على مَن استخف بها وطعن فيها
أمثال بورفيريوس الفيلسوف، فالنصرانية في نظر يوسيبيوس قُدِّر لها — منذ الأزل — أن
ترث الأرض وما نشأ عليها مِنْ حضارة، وما تمَّ السلم الروماني في عهد أوغوسطوس إلا
ليمهِّد السبيل للرسل في عملهم التبشيري، وبورفيريوس لم يضع ضد النصرانية تصانيفه
اﻟ Historia واﻟ Philosophos إلَّا ليفسح في المجال ليوسيبيوس
أن يعد مؤلفه الكبير Historia Ecclesiastica وكذلك
خرونيقون بورفيريوس أفسح المجال أيضًا لخرونيقون أوسع وأكبر لتمجيد
النصرانية.
وقد بدا يوسيبيوس خرونيقونه بسيرة إبراهيم ولم يتجاوزها إلى الخليقة كما فعل
يوليوس أفريقانوس، وخص القسم الأول منه بأهم الحوادث في تاريخ الشعوب بالغًا في ذلك
إلى السنة ٣٢٥. ثم جعل من القسم الثاني جداولَ متوازية تَشتمل على أَهَمِّ الحوادث
مرتبةً حسب سني وقوعها، وما قصده من وراء ذلك إلا أن يورد حوادثَ معينة وقعت في
أماكنَ مختلفة في وقتٍ واحدٍ، ثم يَستعملها لتأييد نظريته في أن هذه الحوادث إنما
تلازمتْ في الزمن واختلفتْ في المكان لتتم بها غايةُ الخالق.
وأهم ما حدث من هذا القبيل — في نظره — وقوعُ إحصاء كويرينيوس في عين الوقت الذي
وُلد فيه المسيح، ومما أَثْلَجَ صَدْرَ يوسيبيوس أَنَّ موسى سبق هوميروس وأن حوادث
التوراة جاءت أساسًا سابقًا لغيرها من حوادث العالم القديم، ولا يزال خرونيقون
يوسيبيوس مرجعًا حتى يومنا هذا لتعيين تواريخ قسم كبير من حوادث الرومان
واليونان.
ووضع يوسيبيوس اﻟ Praeparatio ليظهر أباطيلَ
الوثنية وأضرارها، وليبين تَفَوُّق التوحيد العبري عليها، ثم صنف اﻟ Demonstratio Evangelica ليرد التهمة التي
وجهها اليهود إلى النصارى في قولهم: إن هؤلاء إنما تَهَوَّدُوا ليخرجوا على
اليهودية، فهو يرى في اﻟ Demonstratio أَنَّ شرائع
موسى إنما أُنزلتْ لتكون حلقةَ وصل بين عهد البطاركة الأولين وعهد المسيح، ولم يكن
التثليثُ في نظره وما يتبعه من خلاص سوى تتمة طبيعية لعقيدة اليهود ونبوات الأنبياء
مع إيضاح كامل لبعض ما جاء غامضًا ناقصًا في الفلسفة الأفلاطونية.
وبعد أن طهَّر يوسيبيوس عقول قُرائه من أدران الوثنية، وأبان قدم عهد النصرانية
ومكانتها في تاريخ العالم وسمو منزلتها في منهاج الخالق؛ وضع تاريخًا خاصًّا
للكنيسة
Historia Ecclesiastica منذ ظهور السيد
ليبين أمانتها لتعاليمه وأنها واسطةٌ لخلاص الأنفُس من الخطيئة، وما عذاب اليهود في
نظره وتشردهم بعد ظهور السيد سوى برهانٌ ساطعٌ على تَخَلِّي الخالق عنهم، ولم تحبط
مساعي الأباطرة مضطهدي النصرانية في نظر هذا المؤرخ إلا بقوة الإيمان وعظمتِهِ، وما
انتصار قسطنطين على مكسنتيوس أولًا وعلى ليكينيوس ثانيًا سوى إتمامٌ ساطعٌ باهرٌ
لوعود الله — عزَّ وجلَّ.
٢٧
وفي هذا القرن اشتهر عددٌ من المؤرخين غير يوسيبيوس، فكان سقراط القسطنطيني الذي
أكمل عمل يوسيبيوس ﺑ Historia Ecclesiastica أخرى
أوصل فيها تاريخ الكنيسة إلى السنة ٤٣٩، وكان أيضًا صوزومانيوس الغزِّي فألف كتابًا
مماثلًا وقف فيه عند السنة ٤٣٩، وثيودوريطس القورشي الذي سبقتْ إليه الإشارةُ وإلى
تاريخه، وهو يعنى بالمدة بين السنة ٣٢٥ والسنة ٤٢٩.
بيروت
وكانت بيروت قد أصبحت منذ أوائل القرن الثالث مركزًا لتعميم القوانين
ونشرها، وكانت تجارتُها واسعةً ودخلها كبيرًا فاستهوت دعاويها القائمة أمام محاكمها
أكبرَ المحامين وأشهر الأساتذة، وبالطبع استتبع ذلك نُشوء مدرسة الحقوق وازدهارها
فيها، ونبوغ طائفة من أساتذة القانون اشتهر منهم على تعاقُب العصور أولبيانوس
الصوري (١٧٠–٢٢٨)، وبابنيانوس (+٢١٢)، ثم غايوس ومرقيانوس وتريفونيوس في القرن
الثالث ودومنيونوس في القرن الرابع، وهو الذي راسله ليبانيوس فأوصاه ببعض طلاب
أنطاكية.
ولمع في القرن الخامس افذكسيوس وابنه لاونطيوس (+٥٣٠) الذي تولى برايفاكتورة
الشرق في عهد أنسطاسيوس، ويمبليخوس وكيرلُّس صاحب كتاب «التعريفات» وباتريقيوس
الأستاذ الكبير، واستحقَّ هؤلاء لقب «أساتذة العالم» وشهروا بيروت حتى رفعها
الإمبراطوران ثيودوسيوس الثاني وفالنتنيانوس الثالث إلى شرف الحواضر «متروبوليس»
فأصبح أسقفها متروبوليتًا ولا يزال.
وتوالت عليها الألقابُ فأصبحت «أُمَّ العلوم» و«موطن العلماء» و«ظئر الشرائع»،
وكان الأساتذة يعيَّنون في أول الأمر بموافقة مجلس شيوخ المدينة، ثم اشترط
ليوليانوس الجاحد (٣٦٢) أن يكون التعيينُ بموجب صكٍّ يوقعه القائد المحليُّ ويوافق
عليه مجلس شيوخ المدينة، ثم فرض ثيودوسيوس أن يعرض عليه قرار القائد والشيوخ قبل
التنفيذ، وكانت السلطةُ منذ السنة ٤٢٥ تقوم بجميع نفقات الأساتذة.
وتَقَاطَرَ الطلاب إلى هذه المدرسة من كل صوب، فحفل معهدها بأبناء غزَّة وعسقلان
وأنطاكية والرها وسميساط وغيرها من مدن الشام وفلسطين، وأَمَّهَا غيرُهُم من مصر
وإسبانية وإيطالية والبلقان وبر الأناضول، وكان لا بد لهؤلاء الطلاب من دروس
تمهيدية في اليونانية واللاتينية، وفي الخطابة والفصاحة؛ يتهيأون بها لدرس القانون،
فكانوا يُحصلونها إما في مدنهم أو في بيروت نفسها بطرق خاصة.
وكان نظام المدرسة يحدد سِنَّ الطلاب، فلا يجيزهم إلا بين الخامسة عشرة والخامسة
والعشرين، ولم يستثنَ من هذا إلا الطلاب العرب الذين كانوا يصلون متأخرين في
ثقافتهم، وكان الطلابُ في أول عهد الكلية من الطبقة الوُسطى في المجتمع؛ لانصراف
أبناء العائلات الكبيرة إلى درس اللغة والخطابة، ثم تَحَوَّلَ هؤلاء أيضًا إلى درس
الحقوق، فأبدى ليبانيوس أسفه؛ لأن العدد الغفير من أبناء الأعيان في أنطاكية أصبحوا
يهجرون الخطابة.
وبقيت اللاتينية لغة التعليم حتى أواخر القرن الرابع، ثم حَلَّتْ محلها اللغة
اليونانية، وكان الأستاذ يفتتح درسه بتلاوة بعض النصوص، ثم يفسرها معلِّقًا عليها،
ثم يُفسح في المجال للسؤال والجواب، وكانت مدة التدريس أربعَ سنواتٍ، ثم أُضيف
إليها سنةٌ خامسةٌ للتخصص.
٢٨
واشتهر في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس شماس بيروت رومانوس المرتل،
وهو أول ناظم للقنادق، وأشهر ما نظم ورتل القنداق: «اليوم تلد العذراء الفائق
الجوهر، فتقدم الأرض المغارة للذي لا يُدنى منه، والملائكة يمجدونه مع الرعاة،
والمجوس يسيرون إليه مع النجم، فإنه ولد من أجلنا صبيٌّ جديدٌ، هو الإله الذي قبل
الدهور.» وقد أجاد لفظًا ومعنًى واستعارةً وتشبيهًا، فأصبح «بيندار» الروم على ممر
العصور، وموضع إعجاب رجال الاختصاص في عصرنا هذا.
قبدوقية
ولمع في سماء آسية الصغرى في قبدوقية في القرن الرابع أقمارٌ ثلاثةٌ، أكسبوا
قبدوقية شُهرة واسعة وعظمة ليس بعدها عظمة، والإشارة هنا إلى غريغوريوس الثاولوغوس،
وباسيليوس الكبير، وأخيه غريغوريوس النيساوي.
ولد غريغوريوس الثاولوغوس (اللاهوتي) في قرية أريانزوس بالقرب من نزينزوس في
السنة ٣٢٨، وكان أبوه قد تَنَصَّرَ بتأثير زوجته نونَّة ثم سقِّف على نزينزوس أو
نازيانزة، وقد ترعرع غريغوريوس على المبادئ الصالحة، وتَلَقَّى مبادئ علومه في
قيصرية قبدوقية ثم في قيصرية فلسطين، فالإسكندرية، فآثينة. وفي آثينة انعقدتْ أواصر
الصداقة بينه وبين باسيليوس الكبير، وتلقى المعمودية حوالي السنة ٣٦٠، ثم أعرض عن
الدنيا ومَالَ إلى النسك، فترهب مع باسيليوس الكبير في البونط، وعاد إلى بلده
فشرطنه والده كاهنًا لكنيسة نازيانزة في السنة ٣٦٢، فأقام في خدمتها حتى السنة ٣٧١
أو ٣٧٢ فسامه باسيليوس الكبير أسقفًا على ساسيمة أو زاسيمة، ولكنه لَازَمَ خدمةَ
والده حتى وفاته في السنة ٣٧٤، وفي أوائل السنة ٣٧٩ استقدمه أرثوذكس القسطنطينية
لمساعدتهم ضد الآريوسية، فسار إليهم وجمعهم في دار رجلٍ من أصدقائه جعلها كنيسة
صغيرى وأسماها أنسطاسية، «وفيها ألقى خطبه الرنانة في الثالوث الأَقْدَس، ومنها
تدفقت سيول الفصاحة على أسماع المؤمنين.»
٢٩ فنما عددهم على حساب الآريوسيين، وفي السنة ٣٨٠ أَقَرَّ الإمبراطور
ثيودوسيوس الأول رئاسته على القسطنطينية، وأيد ذلك المجمع المسكوني الثاني في السنة
٣٨١ فرَعَاهَا حتى السنة ٣٨٢، وكان حساسًا جدًّا فلم يوافق جو القسطنطينية مزاجَه،
فقال قوله المأثور: «ردوني إلى الانفراد! ردوني إلى الله!» فكان له ذلك، وعَادَ
راجعًا إلى نازيانزة؛ حيث قضى فيها باقي عُمره، وتُوُفي في السنة ٣٩١.
وأشهرُ مصنفاته خُطَبُهُ في العقائد والأعياد والقديسين، وتآبينُهُ وأشعاره
اللاهوتية، وقصيدته الطويلة في تاريخ حياته، واهتدى في دقائق اللاهوت إلى عبارات
لطيفة موفقة، وتجلت في خطبه ومواعظه مقدرةٌ فائقةٌ في التعبير والإقناع، فلقب
بالثاولوغوس (اللاهوتي)، وأحيانًا بالثاولوغوس الثالوثي؛ لأنه تكلم كثيرًا في
الثالثوث وفي وحدانية جوهره وطبيعته.
٣٠
وأما باسيليوس الكبير
٣١ فقد سبق عنه الحديثُ، ويجدرُ بنا هنا أَنْ نُضيف أَنَّ جدته لأبيه
القديسة مقرينة تتلمذتْ لغريغوريوس العجائبي، وأَنَّ جَدَّهُ لأمه حاز شرف الشهادة،
وأن أُخته الكبرى مقرينة ترهبتْ، وأَنَّ والدته إميلية قضت أعوامَها الأخيرةَ في
العبادة، وأن أخويه بطرس وغريغوريوس كانا في مصاف الأساقفة، وأشهر الاثنين
غريغوريوس، ويعرف بالنيسي، وقد فاق أخاه باسيليوس الكبير وصديق أخيه غريغوريوس
الثاولوغوس في الدقة والتَّعَمُّق، ولد في قيصرية قبدوقية حوالي السنة ٣٣٥، وتأدب
فيها وعَلَّمَ الخطابة مدة من الزمن، ثم أثر الثاولوغوس في نفسه فتنسك، ثم سامه
أخوه باسيليوس أسقفًا على نيسة سنة ٣٧١، وعزله الآريوسيون سنة ٣٧٦، ولكنه عاد إليها
بعد سنتين، واشترك في أعمال المجمع المسكوني الثاني، فأحرز احترامًا عظيمًا؛
لتفوُّقه في جودة التفكير ووضوح التعبير، وصَنَّفَ كثيرًا. وأشهرُ مؤلفاته رَدُّهُ
على أنوميوس وأبوليناريوس، وكانت وفاتُهُ في السنة ٣٩٤ في الأرجح.
وتَضَلَّعَ جميعُ هؤلاء الأحبار الثلاثة من العلوم الكلاسيكية، واجتهدوا اجتهادًا
صالحًا في اللاهوت، وتوافقوا فشكلوا ما عُرف فيما بعد بالمذهب الإسكندري الجديد،
استعانوا بالفلسفة وأَصَرُّوا على تحكيم العقل في العقيدة، ولكنهم لم يتطرفوا في
التأويل تطرُّف أساطين الإسكندرية، ولم يَتَخَلَّوْا عن تقاليد الكنيسة الموروثة،
وأضافوا إلى تصانيفهم الكثيرة في العقيدة مجموعاتٍ من الخُطَب والرسائل تُشكل في حد
ذاتها موادَّ أولية هامة لتفُّهم الفكر والثقافة في هذه الفترة موضوع هذا الفصل،
ولم يقم بعدهم في قبدوقية من حافظ على هذه المكانة العالية التي أوصلها إليها في
تاريخ الفكر هؤلاء الأفاضل الأماثل.
واختلف الآباء فيما بعد في التفاضل بين باسيليوس الكبير وغريغوريوس الثاولوغوس
ويوحنا الذهبي الفم، ثم اتفقوا نحو السنة ١١٠٠ فأَقَرُّوا عيدًا تذكاريًّا للثلاثة
معًا عُرِفَ بعيد الأقمار الثلاثة، ورتب يوحنا أسقف أفخاطية خدمة كنائسية خاصة لهذا
العيد.
«هَلُمُّوا نَلتئم جميعًا ونكرم الثلاثة الكواكب العظيمة للاهوت المثلث الشموس
التي أنارت المسكونة بآشعة العقائد الإلهية، وأنهار الحكمة الجارية بالعسل التي
روَّت الخليقةَ كلها بسواقي معرفة الله، باسيليوس العظيم وغريغوريوس اللاهوتي
ويوحنا الشهير الذهبي اللسان، ونمتدحهم بالأناشيد يا عاشقي مواعظهم؛ فإنهم يتشفعون
إلى الثالوث فينا دائمًا» (٣٠ كانون الثاني).
الرها
وروى برحذبشابا العربي أسقف حلوان في النصف الثاني من القرن السادس آخذًا عن
التقليد الشائع أَنَّ أدَّى البشير أنشأ مدرسة في الرها لتدريس العلوم الدينية،
٣٢ وهي روايةٌ ضعيفةٌ؛ نظرًا لطريقة نَقْلها، ولبُعد برحذبشابا عن عصر
الرسل، وأول من ورد ذكره من طلاب الرها لوقيانس ثم يوسيبيوس الرهاوي أسقف حمص
(+٣٥٩)، ولما احتل الفرسُ نصيبين سنة ٣٦٣ في عهد يوفيانوس الإمبراطور جَلَا عنها
أفرامُ الكبير وأساتذة مدرستها وبعض الأشراف وساروا إلى آمد فالرها، وارتاح أفرام
إلى السكنى في الرها، فأقام فيها وزملاؤه وانضموا إلى مدرستها، فأطلق عليها اسم
مدرسة الفرس نسبةً إلى طُلَّابها والأساتذة النازحين إليها.
والقديس أفرام السرياني هو نفسه الذي قال عنه الذهبي الفم: «أفرام كنارة الروح
القدس ومخزن الفضائل معزي الحزانى ومرشد الشبان وهادي الضالين كان على الهراطقة
كسيفٍ ذي حدين.» وأشهر ما صنف ميامره الشعرية في الأسرار والبتولية والتوبة
والإيمان والكهنوت والرهبانية، وقد نقل جانب وافر من هذه الميامر إلى اليونانية،
وناظمها لا يزال في قيد الحياة، أما وفاتُهُ فكانت في السنة ٣٧٩.
٣٣
الفن البيزنطي
وتمشرقت الدولةُ بفنها أيضًا، وعلماءُ القرن العشرين ينقضون ما ذهب إليه
زملاؤُهُم في القرن التاسع عشر مِنْ أَنَّ الفن الروماني كان قد طغى على الفن
الهليني في الشرق في القرنين الأولين بعد المسيح، ويثبت أَينالوف في كتابه الأصول
الهلينية للفن البيزنطي،
٣٤ وإشتراجيكوفسكي في كتابه «الشرق أو رومة»،
٣٥ أن الشرق — لا الغرب — هو الذي لعب الدور الرئيسي في إنشاء الفن
البيزنطي، وأن هذا الشرق شمل، بالإضافة إلى آسيا الصغرى وسورية ومصر، بلاد فارس
وأواسط آسية، ويذهب إشتراجيكوفسكي إلى أَبْعَدَ من هذا فيجعل منزلة إيران في
التأثير على الفن البيزنطي كمنزلة بلاد اليونان الأُم في التأثير على الفن الكلاسيكي،
٣٦ ويرى بعض رجال الاختصاص تطرفًا ملموسًا في نظريات إشتراجيكوفسكي،
ولكنهم لا ينكرون عليه أن الشرق — لا الغرب — قد لعب الدور الرئيسي في تكوين خصائص
الفن البيزنطي،
٣٧ والواقعُ الذي لا المفر منه هو أَنَّ روائع الفن البيزنطي جاءتْ ثمرة
لامتزاجٍ وتفاعُلٍ موفقٍ بين عوامل ثلاثة: الدين المسيحي، والحضارة الهلينية،
وأوضاع الشرق.
وأشهرُ الآيات الفنية التي تعود إلى هذه الحقبة من تاريخ الروم: كنائس القدس وبيت
لحم والناصرة، وجميعها أُقيمت في عهد قسطنطين الكبير، ومن أشهر ما أنشئ في آخر
القرن الخامس دير مار سمعان العمودي — قلعة سمعان — بين حلب وأنطاكية،
٣٨ وتَعُودُ آثارُ قصر المشتَّى في شرقي الأردن إلى هذه الحقبة نفسها
أيضًا، وقد أَثْبَتَ العالِم الأثري كاوفمان الألماني أن آثار كنيسة القديس ميناس
في مصر تعود إلى عهد الإمبراطور أرقاذيوس،
٣٩ وفي القسطنطينية أقام قسطنطين الكبير كنيسة الرسل وكنيسة القديسة
إيرينة، كما شيَّد كنيسة الحكمة التي أعاد بناءَها يوستنيانوس — كما سنرى — ولا
تزال أسوار ثيودوسيوس ماثلةً لليوم بما فيها الباب الذهبي الرائع
Porta Aurea الذي كان يَلِجُهُ الأباطرةُ في
المواكب الرسمية.