الفصل الحادي عشر
يوستينوس ويوستنيانوس
٥١٨–٥٦٨
أَصْلُ هذه الأسرة
وقد كان السائدُ حتى أواخر القرن الماضي أن هذه الأُسرة تَحَدَّرَتْ من أصل
صقلبيٍّ، والذي حمل على هذا الاعتقاد ما ورد من أسماء صقلبية دُعِيَ بها يوستنيانوس
وأنسباؤه، في ترجمة لهذا الإمبراطور نسبت إلى معلمه ثيوفيلوس. ولكن المؤرخ
الإنكليزي جايمس برايس أثبت في أواخر القرن الماضي أن هذه الترجمة هي من نتاج القرن
السابع عشر وأنها — بالتالي — لا تستحق عناية المؤرخ واعتماده،
١ والذي يراه رجال الاختصاص اليوم أن يوستينوس ويوستنيانوس تَحَدَّرَا من
أصلٍ إيليريٍّ أو ألبانيٍّ، وأن يوستنيانوس وُلد في إحدى قُرى مقدونية العُليا في
جوار أسكوب على حُدُود ألبانية، أما يريشيك فيرى أنهما من أصلٍ رومانيٍّ،
٢ ومما لا شك فيه أنهما تكلما اللغة اللاتينية.
يوستينوس الأول (٥١٨–٥٢٧)
وتُوُفي أنسطاسيوس في التاسع من تموز سنة ٥١٨ بدون عَقِب، فتولى العرش بعده
يوستينوس أحد قادة الحرس الإمبراطوري
٣ بتدبيرٍ لا يزال غامضًا، وكان يوستينوس هذا وضيعَ الأصل، مغمورَ الذكر،
جاءَ العاصمة مُغامرًا يمشي على القدمين من مقدونية، إلا أنه كان جنديًّا باسلًا
فألحق بالحرس الإمبراطوري، وظَلَّ يتقدم حتى أصبح قومس إحدى فرق الحرس، على أنه —
في الواقع — لم يكن شيئًا، غير جنديٍّ باسلٍ، وقد رأى فيه المؤرخون المعاصرون له
أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، متطفلًا على السياسة وأهلها، جاهلًا علم اللاهوت،
ويقولون: إنه لولا مساندة ابن أُخْتِهِ يوستنيانوس له لناءَ بحمله وضاع في متاهات
الإدارة والسياسة.
وكان يوستينوس قد استقدم يوستنيانوس إليه في حداثته، وعُني بتثقيفه وتهذيبه،
فأصاب يوستينيانوس شطرًا وافرًا من العلم في مدارس العاصمة، فلما تَبَوَّأَ خاله
عرش القسطنطينية كان يوستنيانوس قد أَنْهَى عُلُومَه وخبر الحياة السياسية وتحلى
بالنضج والاتزان.
وكان الاثنان كاثوليكيَّين أرثوذكسيين يقولان بقرارات المجامع المسكونية الأربعة،
فأنهيا ما كان قد وقع من شقاق بين القسطنطينية ورومة من جراء إينوتيكون (٤٨٢)
زينون، وأقصيا أصحاب الطبيعة الواحدة عن المراكز الهامة، وربما أنزلا ببعضهم شيئًا
من العذاب. وكان هؤلاء كثرًا في أرمينية وسورية ولبنان وفلسطين ومصر، فنفرت هذه
الأقطار من سياسة الأسرة الجديدة، وشعر يوستنيانوس بهذا النفور، وخشي سُوءَ العاقبة
في حقل السياستين الداخلية والخارجية في الشرق، فكتب رسالته الشهيرة إلى البابا
هورميزداس في السنة ٥٢٠، مقترحًا استعمال اللطف مع أصحاب الطبيعة الواحدة «كي يتم
الشفاء بدون تفتح جروح جديدة.»
٤
يوستينوس وكالب
وكانت قد تسربت النصرانية إلى بلاد اليمن بعد انتشار اليهودية فيها، وكان آخر
ملوك حمير ذو نواس يهوديًّا — فيما يظهر — واشتدت المنافسةُ بين النصارى العرب
واليهود العرب، وانقلبت عداءً مريرًا، وكان ذو نواس يرى في النصرانية ما يذكره
بالأحباش واحتلالهم، فأوقع بالنصارى في السنة ٥٢٣ مذبحة نجران الشهيرة، ثم جمع من
نجا منهم وخيَّرهم بين القتل واليهودية، فاختاروا القتل، فخدَّ لهم أخدود
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ،
٥ وجاء في الطبري
٦ أن دوس ذا ثعلبان أفلت ولجأ إلى إمبراطور الروم يستنصرُهُ على ذي نواس،
وأن يوستينوس قال له: «نَأَتْ بلادُك عنا فلا نقدر أن نتناولها بالجنود، ولكني
سأكتب إلى نجاشي الحبشة وهو أقرب ملوك النصرانية إلى بلادك.» ومما يروى أيضًا أن
النجاشيَّ انتصر على ذي نواس مرتين متواليتين في السنة ٥٢٣ وفي السنة ٥٢٥، وهنا
ربَّ معترض يقول: كيف اضطهد يوستينوس أصحاب الطبيعة الواحدة في بلاده ثم تعاون مع
النجاشي كالب الذي كان يقول هو أيضًا بالطبيعة الواحدة؟ والجواب: أن صاحب
القسطنطينية كان يَعتبر نفسه حاميَ ذمار النصرانية في كل المسكونة.
وتحدث الأحباش طويلًا بهذا التعاون بين يوستينوس وكالب وتناقلوا الخبر جيلًا بعد
جيل ودَوَّنُوه في القرن الرابع عشر في تاريخهم القومي الكبير: «كبرى نجشت»، ومعناه
فخر المُلُوك، فقالوا: إن أسرتهم المالكة تَحَدَّرَتْ من سليمان وبلقيس وإن دولتهم
أشرفُ من دولة الروم وإنه كان ليوستينوس ولكالب أن يلتقيا في أوروشليم؛ ليقتسما
الأرض بأجمعها.
٧
يوستنيانوس وثيودورة
وتحفظ لنا فسيفساءُ سان فيتالي في رابينة قسماتُ وجه يوستنيانوس كما رسمها رسام
في السنة ٥٤٧، ويقول معاصروه: إنه كان يميل إلى البساطة في العيش، والتودد في
معاملة الناس، وأنه كان يواصل العمل ليل نهار حتى لقبه أحد رجال بلاطه ﺑ
«الإمبراطور الساهر»؛ إذْ كان يحرص أن يعلم كل شيء، وأن يدقق في كل شيء، وأن يقرَّ
كل شيء، والواقع أن يوستنيانوس كان شديد الإعجاب بمواهبه ومؤهلاته، لا يَسمح لأحد
من رجاله أن يُعارضه في أمر، ولا يثق بأحد منهم، حتى ولا بقائده الأمين بليساريوس
العظيم، وعلى الرغم من تظاهره بالعزم والحزم والثبات؛ فإنه كان في قرارة نفسه
مترددًا شديدَ التأثُّر بآراء الحاشية ولا سيما زوجته ثيودورة.
٨
ويقول بروكوبيوس المؤرخ في كتابه عن أسرار هذه الحقبة: إن ثيودورة هذه تلطخت منذ
حداثتها بفساد المحيط حولها، فإنها نشأت ابنةً لمروض الدببة في مسارح القسطنطينية،
وشبت على شيءٍ من الإباحية، وما طال الأمر حتى احتقرها سكان العاصمة، فكانوا إذا
التقوها في شوارع المدينة ابتعدوا عنها خوفًا من ملامستها والتلوث بها،
٩ ويقول شارل ديل الإفرنسي: إن ثيودورة شغلت العاصمة فألهتها، لا بل
فتنتها، ثم جرَّت الخزي عليها،
١٠ ولكن يجب ألا يغيب عن البال أن بروكوبيوس إنما كتب ما كتب ليحطم به
يوستنيانوس وزوجته، وهو والحالة هذه راوٍ مغرضٍ لا تُقبل شهادتُهُ بدون تَبَصُّر
وروية وجرح وتعديل، ويجب ألا ننسى أن ثيودورة ترصنت بعد طيشها وذهبتْ إلى أفريقيا
فبقيتْ فيها بضع سنوات عادتْ بعدها إلى القسطنطينية متعقلةً متزنةً مهتمةً بالقضايا
العامة ولا سيما الدينية منها، منهمكةً بغزل الصوف في ساعات الفراغ. وأن يوستنيانوس
لم يعرفها قبل دُخُولها في هذا الدور من حياتها، وأُعجب يوستنيانوس بجمالها، فنقلها
إلى القصر وجَعَلَ منها بِطْريقةً ثم تزوج منها، وشعرت ثيودورة بالمسئولية المُلقاة
على عاتقها، فتعاونتْ وزوجها في سبيل العرش والدولة، وأخرجته في كثير من الأحيان من
مآزق حرجة — كما سَيَمُرُّ بنا.
سياسة يوستنيانوس الداخلية
وَجُوبِهَ يوستنيانوس في أول عهده بثورةٍ داخلية كادت تَدُكُّ عرشه دكًّا، وهي
التي عُرفت بثورة النصر «نيكا» باليونانية، ولا بأس في تفصيل نبأ هذه الثورة من
التوقُّف والرجوع قليلًا إلى الوراء؛ ذلك أنه كان يقوم في قلب العاصمة ملعبٌ فسيحٌ
لسباق الخيل يُدعى اﻟ
Hippodrome، وارتاحت نفوسُ
سكان العاصمة إلى سباق الخيل في الهيبودروم ونشِطوا لمراقبة هذه السباقات
وتَحَمَّسُوا لها، وكان على سائِقِي عربات السباق أن يتزيَّوْا بواحدٍ مِن أربعة
ألوان: إما الأخضر أو الأزرق أو الأبيض أو الأحمر، فانقسم النظارة مِن سُكَّان
العاصمة إلى أحزابٍ رياضية أربعة: الخضر والزرق والبيض والحمر، وانتظمتْ هذه
الأحزابُ، وتكتل أفرادها وتكاتفوا، فأنشئوا لكلٍّ منها صندوقًا خاصًّا؛ لتشجيع
السائقين وشراء الجياد السبَّاقة والعناية بها، ولا نعلم بالضبط كيف وقع الاختيار
على هذه الألوان التي تسمت بها هذه الأحزاب، ولكننا نعلم أنها قديمةٌ جدًّا وأن
رومة الجديدة ورِثَتْها عن رومة القديمة، ويرى بعضُ رجال الاختصاص أنها رُبَّما
أشارت — في الأصل — إلى العناصر الأربعة: الأرض والماء والهواء والنار، الأرض
الخضراء، والماء الأزرق، والهواء الأبيض، والنار الحمراء،
١١ ثم نتج عن هذا التضامُن في حقل الرياضة تضامنٌ في السياسة والاجتماع،
وانضم البيضُ إلى الخُضرِ والحمرُ إلى الزرق، فأصبح في العاصمة حزبان سياسيان
اجتماعيان، حزب الخضر وحزب الزرق، وأيَّد الزرق الأرثوذكسية فأيد الخضر القول
بالطبيعة الواحدة، وكان قد سبق في عهد أنسطاسيوس أن حلَّ بالزرق اضطهادٌ شديدٌ؛ لأن
هذا الإمبراطور كان يَميل إلى القول بالطبيعة الواحدة، فهرع الزرق إلى الهيبودروم
ونادَوا بسقوط أنسطاسيوس، وكاد أن يتم ذلك لولا اتزان الإمبراطور واستعطافه الرأي
العام، فلما رقي يوستينوس ويوستنيانوس العرش دَبَّ إلى عُرُوق الزرق النشاط ولكن
ثيودورة عطفت على الخضر، فانقسم البلاطُ نفسُهُ إلى أزرق وأخضر،
١٢ ويجوز القول أيضًا إن الزرق كانوا في الغالب من طبقات الشعب العُليا،
وأن الخضر جاءوا من الطبقات السفلى بحيث أصبح الصراعُ بينهما في بعض الأحيان صراعًا طبقيًّا.
١٣
وقد تعددت أسباب ثورة النصر التي نشبت في السنة ٥٣٢، فبعضها كان دينيًّا
عقائديًّا نشأ عن اضطهاد من قال بالطبيعة الواحدة، وبعضها كان مَرَدُّهُ إلى تنافُس
الأسر على العرش وحرمان أقارب أنسطاسيوس من الملك، وبعض هذه الأسباب كان عموميًّا،
وهو الأقوى.
وتفصيل الأمر: أن يوستنيانوس اعتمد في أول عهده على تريبونيانوس في القضاء، وعلى
يوحنا القبدوقي في الإدارة، وطغى الاثنان وتجاوزا الحد في ابتزاز المال وفي القسوة،
فهبَّ الزرق والخضر معًا وهرعوا جميعًا إلى الهيبودروم، ثم انطلقوا منه يخربون
ويحرقون، وسادت كلمة النصر على أفواههم «نيكا» فسُميت بها حركتُهُم هذه، وفاوضهم
يوستنيانوس فلم يرضوا ونادَوا بأحد أنسباء أنسطاسيوس إمبراطورًا، فخشي يوستنيانوس
العاقبة وجمع أخصاءه وشاورهم في الفرار من العاصمة، وكادوا يجمعون على ذلك ولكن
ثيودورة انتصبتْ بينهم وقالتْ كلمتَها التاريخية: «يستحيل على امرئٍ يجيء هذا
العالم ألَّا يموت، ولكنَّ مَنْ يُمارس السلطة لا يُطيق النفي، وإن تشأ أيها
الإمبراطور أن تنقذ نفسك فلن تجد صعوبة والبحر قريب، والمراكب مجهزة، والمال موفور،
ولكن تريثْ قليلًا، وسَلْ نفسك: ألن تندم بعد فرارك ووصولك إلى ملجأ أمين فتود لو
كنت آثرت الموت على الأمان؟ أما أنا فأرى أن الأرجوان لا بأس به كفنًا.»
١٤ فانتعش يوستنيانوس، وأمر بليساريوس أن يُخضع الثائرين بالقوة بعد أن
مضتْ على ثورتهم ستةُ أيام، فأحاط بهم بليساريوس بجنوده ولزَّهم حتى أكرههم على
اللجوء إلى الهيبودروم، ثم فتك بهم فتكًا، فقتل ثلاثين أو أربعين ألفًا بينهم
أنسباءُ أنسطاسيوس وثبَّت هيبة السلطة.
١٥
وكان قد ظهر في آسية الصغرى ومصر وغيرهما من أجزاء الإمبراطورية عددٌ مِنْ أصحاب
العقارات الكبيرة الذين استغلوا الظروفَ السياسيةَ والإداريةَ، ففرضوا ملكيتهم
فرضًا، واغتصبوا أملاك الدولة، وعبثوا بالسلطة المركزية فأحاطوا أنفسهم بالحراس،
وجرُّوا وراءَهم الجماهير، وسَدُّوا أفواه الولاة بالذهب،
١٦ وأشهرُ مَن اشتهر من هؤلاء في مصر أسرة الأبيون، فكان الواحدُ منهم
يملك القرية بعد القرية، ويفرض ضرائبه الخاصة ويجبيها على يد جباته ويعيش عيشة الملوك،
١٧ واتسعت كذلك أملاك الأديرة والكنائس وتَمَتَّعَ أصحابُها بسلطة
واسعة.
ورأت الحكومة في هذا كله تحديًا لا مبرر له، فقاومتْه مقاومة طويلة الأمد، تذرعتْ
في أثنائها بشتى الوسائل، كأنْ تتدخل في حق الإرث أحيانًا، أو أن تُكره أحيانًا
أخرى بعضَ الكبار على وقف أملاكهم على الإمبراطور، أو أن تُصادر بعض الأملاك بداعي
عدم الدليل على الملكية، أو أن تتهم ديرًا من الأديار بالزندقة فتحوِّل أرزاقه إلى
الدولة، ولكن برغم هذا كله لم يتمكن يوستنيانوس من القضاء على هذه الطبقة.
ولمس يوستنيانوس عيوب الإدارة ومواطن الخلل فيها كبيع الوظائف وتبديد الأموال
والسرقة والبلص، وعلم — حق العلم — أن هذه النقائص تؤدي حتمًا إلى الفقر والخراب،
وإلى إثارة الفتن والمشاكل، ورغب كل الرغبة في إزالة الضرر وإصلاح الحال، وشعر
بالمسئولية المُلقاة على عاتقه، وكان يقول بالحُكم المطلق، فرأى أَنَّ أفضل الوسائل
لمُداواة الحال هي السعي لتقوية الحكومة المركزية وانتداب رجال أكفاء للقيام بمهام
الحكم.
وعني — بادئ ذي بدء — بمالية الدولة فذكَّر بنفقات الحرب وطلب إلى الرعايا أن
يؤدوا ما وجب دفعُهُ بإخلاصٍ وعلى الوجه الأكمل، وأمر الموظفين أن يعاملوا الرعايا
بعطفٍ أُبَوِيٍّ وأن يرفعوا عنهم الظلمَ ويمتنعوا من الرشوة ويعدلوا،
١٨ ثم عاد فذكَّر الموظفين بوجوب السعي لتغذية الخزينة،
١٩ واجتهد يوستنيانوس اجتهادًا حثيثًا في سبيل الإصلاح على أساس هاتين
القاعدتين: أمانة الموظف وإخلاص المكلف، ولكنه رأى — بعد وقت —
أَنَّ ذلك لم يَكْفِ لتغذية الخزينة، فلجأ إلى
إنقاص النفقات بإنقاص الجيش وابتياع رضا الخصم على الحدود، ولم يفطن إلى أَنَّ مثل
هذه الخطة يؤدي إلى الاضطراب في الداخل وضعف الهيبة في الخارج، فضلًا عن نقص
الموارد وازدياد النفقات.
ومما زاد في الطين بلة انتشارُ الأوبئة في عهده وحلول الزلازل، وأشهر الأوبئة:
طاعون السنة ٥٤٢، فإنه ظهر في مصر وانتقل إلى سورية ولبنان، فالقسطنطينية، فبَرِّ
الأناضول، فما بين النهرين، ففارس. ثم عبر البحر إلى صقلية وإيطالية، ودام
انتشارُهُ في العاصمة أربعة أشهر، وتزايد فَتْكُهُ، فهجر السكان المدن والقرى ووقف
الحرث والزرع وعمَّ الجوع فاضطربت الدولةُ بأسرها.
٢٠
وتعددت الزلازل، وأشهرها زلزال السنة ٥٥١، وفيها اهتز الساحل اللبناني من أرواد
حتى صور وعمَّ الخراب، وأصاب بيروت السهم الأوفر، وقيل إن البحر فيها ارتد ميلًا ثم
عاد بطغيان هائل فأغرق سفنًا عديدةً وألوف الناس. ويقول أغاثيوس المؤرخ: «إن بيروت
زهرة فينيقية ذوت بعد هذه الزلزلة العظيمة، وتقلص ظل جمالها، ودُكت أبنيتها الشامخة
البديعة، فتقوضت، ولم يبقَ منها إلا ردم وخراب، وهلك تحت أنقاضها جمٌّ غفيرٌ من
الأهلين والأجانب، واختطف الموت نخبة الشبان الأشراف الذين كانوا قد قدموا بيروت
لدرس الحقوق الرومانية في مدرستها الشهيرة التي كانت فخرًا لها وتاجًا على مفرقها
تباهي بها أخواتها من المدن العظمى.»
٢١
واتخذ يوستنيانوس الفسيلفس ما بين السنة ٥٢٥ والسنة ٥٣٦ طائفةً من الإجراءات؛
لتعزيز السلطة المحلية، مع تثبيت نفوذٍ للسلطة المركزية، وكان
قسطنطين الكبير — كما سبق أن أشرنا — قد جزَّأ
الولايات الكبيرة إلى ولايتين أو أكثر وفصل السلطة الإدارية في الولايات عن السلطة
العسكرية؛ ليأمن شَرَّ التمرد والعصيان، ولكن يوستنيانوس أراد أن يبسِّط الأمور
ليسهِّل عمل الإدارة، فقلَّل عدد الولايات وأنقص عدد الموظفين وزاد في رواتبهم ووضع
السلطتين العسكرية والإدارية في يدٍ واحدةٍ،
٢٢ وأنعم باللقب «يوستنياني» على الحكام فزادهم فخرًا ووقارًا.
وعني يوستنيانوس عنايةً خاصةً بإدارة العاصمة، فعين عددًا من الحكام «برايتوريوس
الشعب» في السنة ٥٣٥ للنظر في السرقات والاغتيالات وحوادث الزنى، وفي السنة ٥٣٩
أنشأ وظيفة الكوايسيتور
Kuaesitor لمراقبة الذين
كانوا يفدون على العاصمة من أبناء الولايات بلا موجب فيعقدون أحيانًا مشاكلها
بتصرفهم، ونزولًا عند رغبة ثيودورة أعاد تنظيم وظيفة المحافظين على الآداب العامة
وأمرهم بالتشديد على المقامرين والمجدفين وعلى «أولئك السفلة الذين لم ينتظروا سدول
الليل ليستروا بها معاصيهم»، واهتمت ثيودورة لأمر الزانيات فجعلت من قصر قديم على
ضفة البوسفور الآسيوية ديرًا للتائبات منهن أسمته دير التوبة، ومنع يوستنيانوس سباق
الخيل في الهيبودروم وأمر بمراقبة الأحزاب الرياضية السياسية مراقبةً شديدةً.
٢٣
وحضَّ يوستنيانوس الحكام وألزمهم أن يُحافظوا على الطرقات والجسور وأقنية المياه
والأسوار وأمدَّهم بالمال، فنشطوا لتحقيق هذا الواجب وأنشئوا طرقات جديدة وشيدوا
لها الجسور وحفروا الآبار والأحواض على جوانبها؛ ليؤمنوا المياه للقوافل وأبناء
السبيل، وجرُّوا المياه إلى المدن وبنَوُا الحمامات. وعملًا برغبة يوستنيانوس قامت
مُدُنٌ جديدةٌ في بعض الأنحاء، تحمل لقب يوستنيانة، اعترافًا بفضل
الإمبراطور.
وبذل يوستنيانوس بذلًا سخيًّا لإغاثة أنطاكية بعد الكارثة التي حَلَّتْ بها في
السنة ٥٤٠، فجدد الأقنية والمجارير وأنشأ الحمامات ودُور اللهو والساحات العامة،
ولم يُقَصِّرْ في البذل عندما حلَّت الكارثة في السنة ٥٥١ ببيروت وغيرها من مُدُن
لبنان وسورية، وفي السنة ٥٣٢ بدأ بتشييد كنيسة الحكمة الإلهية في القسطنطينية
بإشراف إسيدور الملطي وأنثيميوس الترلِّي، واستمر العمل فيها خمس سنوات حتى تم
بناؤها في السنة ٥٣٧، فجاءت آية من بدائع الآيات أتحف بها يوستنيانوس عالم الفن،
وهي ما زالت قائمة راسخة موطدة بارزة جريئة واضحة نقية.
وأنشأ في السنة ٥٣٨ القصر المقدس بمدخله الفخم وقاعة عرشه العظيمة
Consistorium التي بهرت العيون بألوان معادنها
الثمينة ودقائق فنها الخالص، وعنيت ثيودورة بكنيسة الرسل وبعدد كبير من المستشفيات
للمرضى والأنزال للمسافرين، ولا تزال أحواض بره بتان سراي «القصر الغائر» وبيك بر
ديرك «ألف عمود وعمود» تنطق بالعمل الجبار والجهود المتواصلة التي بذلها يوستنيانوس
لتوفير المياه على العاصمة.
يوستنيانوس والاقتصاد
وأراد يوستنيانوس أن يُحرر تُجار الإمبراطورية ورجال الصناعة فيها مِن تحكُّم
الفُرس في مقدراتهم؛ فإنه لم يكن بإمكان الروم في القرن السادس أَنْ يبتاعوا
مباشرةً من الصين والهند بعضَ المواد اللازمة للبذخ والتعظم والتعظيم، كالحرير
والحجارة الكريمة والأطايب والأفاوية؛ ذلك أن هذه المواد كان محتومًا لها أن تمر
عبر فارس؛ إذ كان الفُرس يبتاعونها في أسواق بُخارى، وعند تُخُوم الصين وفي جزيرة
سيلان، ثم ينقلونها إلى حدود الروم عند الفُرات، ولا يرضون بيعها إلا بأغلى
الأسعار، أَوْ لا يسمحون بتصديرها إلا بكميات محددة، فسعى يوستنيانوس للوصول إلى
بخارى عن طريق البحر الأسود، فلزيقة، فبحر قزوين، متحاشيًا الدخول في حدود
فارس.
وكذلك سعى لتشجيع الروس الجنوبيين على الاتصال بتخوم الصين للغاية نفسها، ثم دفع
تجار بيروت وصيدا والإسكندرية إلى استيراد هذه البضائع عن طريق البحر الأحمر ومرافئ
حمير الجنوبية، وجعل من مرفأ آيلة بالقرب من العقبة ومرفأ قلزم بالقرب من السويس
قاعدتين تجاريتين، كما أنشأ على جزيرة تيران في خليج العقبة جمركًا إمبراطوريًّا
لهذه الغاية نفسها،
٢٤ وكانت مراكب الأحباش وعرب الجنوب تجوب بحر العرب والمحيط الهندي حتى
سيلان، فاتصل يوستنيانوس في السنة ٥٣٠ أو ٥٣١ بالنجاشي «ملك ملوك» الأحباش وحسَّن
له نقل سلع الهند والصين من سيلان إلى مرافئ البحر الأحمر، فاقتنع النجاشيُّ بالأمر
وحضَّ عليه تُجَّاره. ولكن الفرس كانوا في مرافئ الهند أوسع نفوذًا من الأحباش
فقاوموا تجار الأحباش مقاومة شديدة، وفي السنة ٥٣٢ جاء السلم بين الفرس والروم
فعادت الأمور إلى مجاريها الطبيعية وعاد الروم إلى الاستيراد عن طريق فارس.
غير أن العلاقات عادت فتأزمت في السنة ٥٤٠ — كما سنرى — فلجأ يوستنيانوس إلى
تحديد سعر الحرير وأكره التجار على قبول تعرفة حكومية، فشلَّ بذلك نشاط التاجر
الفرد ولحق بالتجار اللبنانيين خسارة فادحة كادت تقضي على صناعاتهم، ثم أفلت سرُّ
تربية دود الحرير من الصين، نقله قسيسان مسيحيان بين السنة ٥٥٢ والسنة ٥٥٤ إلى
الروم، فتلقاه اللبنانيون بالتهليل وأقبلوا على تربية دود الحرير في لبنان، وفعل
مثلهم يونان المورة وبعض الجزر، فأصبح لدى الروم إنتاجٌ محليٌّ من الحرير استعاضوا
به مما كان قد لحق بهم من خسارة وباتوا بمأمنٍ من تحكم الفُرس في مقدراتهم،
واستطاعوا هم — بدورهم — أن يحافظوا على سرِّ تربية دود الحرير زمنًا
طويلًا.
واتسع نطاق عمل اللبنانيين بنوعٍ خاصٍّ فراجتْ بضائعُهُم الحريرية في جميع أسواق
البحر المتوسط وفي فرنسة وألمانية وبريطانية، ونشطوا في تصديرها إلى الشرق الأقصى،
فكثر طلابها في الصين نفسها، وعظمت تجارة القسطنطينية، فتقاطرت إليها المراكبُ من
كل حدب وصوب من مرافئ المتوسط والبحر الأسود؛ لتحمل إليها المواد الخام على
أنواعها، وتنقل منها إنتاجها الصناعي، وأصبحت — بفضل هذه التجارة واهتمامها بالفضة
— المركزَ الأعظمَ للتحاويل المالية وللصرافة أيضًا. والإسكندرية بفضل موقعها وعظم
مرفأها ظلت تنعم بدخل موفور، وكان أهم ما تتجر به حبوب مصر ومعادن أفريقيا ونفائس
الشرق الأقصى، وقامت فيها جاليةٌ لبنانيةٌ هامةٌ تستغل سوقها العظيمة.
وسُرَّ يوستنيانوس بازدهار التجارة، وهنأ نفسه أنه استطاع — بسعيه وحُسن تدبيره —
أن يقدم «زهرة أُخرى» إلى الدولة التي أحب والتي وكل الله إليه أمرها، وليس في
كلامه هذا ما لا يتفق والحقيقة؛ فأعمال الحفر والتنقيب في السبعين السنة الأخيرة قد
دلت على هذا الازدهار دلالةً واضحة.
٢٥
يوستنيانوس والقضاء
وأحب يوستنيانوس النظام، ورغب رغبة أكيدة صادقة في تأمين «العباد الذين وكل الله
أمورهم إليه»، وفي نشر لواء العدل بينهم، وتاقت نفسه إلى المجد الروماني السابق،
وأراد أن يعيد إلى الإمبراطورية الرومانية سابق وحدتها، وعلم العلم اليقين أن هذا
يتطلب أموالًا لا حصر لها، فرأى — بنظره الإداري الثاقب — أن أفضل الوسائل لجمع
المال من الرعايا هو حمايتُهُم من ظُلم الحكام وتصلفهم، وهكذا عُني منذ بداية عهده
بجمع القوانين المتراكمة وتنسيقها وتعديلها وفوَّض أَمْرَها إلى مدبِّره الكبير
تريبونيانوس، فدعا تريبونيانوس هذا لجنة من كبار رجال القانون في الإمبراطورية،
وذلك في ١٣ شباط سنة ٥٢٨ ووكل إليهم
العمل.
وكان أهم هؤلاء — بطبيعة الحال — أساتذةُ مدرسة بيروت الشهيرة: أناطوليوس بن لاونطيوس،
وتلالاوس، وإسطفانوس، ويوليانوس، ودوروتاوس، وإذوكسيوس، وتمَّ الجمع
والتنسيق والحذف وما إلى ذلك على يد هذه اللجنة، فظهرت مجموعةُ القوانين اﻟ Code في
السابع من نيسان سنة ٥٢٩.
وفي الخامس عشر من كانون الأول سنة ٥٣٠ عنيت لجنةٌ ثانيةٌ باستخلاص قوانين
الأحوال الشخصية
Pandectae وكان ألمع أعضاء هذه
اللجنة وأكثرهم نشاطًا الأستاذ البيروتي أذوكسيوس، فتمَّ العمل في ١٥ كانون الأول
سنة ٥٣٣ وظهر الديجسته
Digesta إلى حيز الوجود،
ووضعت هذه اللجنة كتاب الأنظمة
Institutes لتسهيل
درس الحقوق، فظَهَرَ في الحادي والعشرين من تشرين الثاني من السنة نفسها ٥٣٣، وفي
السنة ٥٣٤ ظهرت مجموعةُ القوانين بحُلة جديدة، وهي المجموعةُ التي لا يزال
يتداولُها رجالُ القانون حتى يومنا هذا، فأما مجموعةُ السنة ٥٢٩ فلم يبقَ منها
أَيُّ أثر.
٢٦
يوستنيانوس والكنيسة
وكان يوستنيانوس يرى أن واجبه يقضي بالمحافظة على حُرمة الكنيسة والدفاع عنها ضد
المعتدين، وكان يقول إن انتظام الكنيسة هو دعامةُ الملك، وكان يرى في نفسه رئيسًا
للدولة وللكنيسة في آن واحد، فيتدخل في المناظرات والمشاحنات اللاهوتية ويبدي رأيه
فيها، ويقطع الأساقفة ويعين غيرهم في مناصبهم ويدعو إلى المجامع ويدير أعمالها
ويوافق على قراراتها أو يعدلها أو يلغيها، ومن هنا هذه الفصول في مجموعة قوانينه
الكبرى، وفي قوانينه المستجدة في نظام الإكليروس، وفي إدارة الأديرة والأوقاف وغير
ذلك مما كان يلحق بشئون الكنيسة.
وكان يوستنيانوس في مقابل هذا أبدًا مستعدًّا للدفاع عن الكنيسة ورَفْع الضيم
والأذى عنها؛ تأييدًا لها بالمال والنفوذ كيما تقضي على الهرطقة في صفوفها، وكان
أيضًا يبذل — بسخاءٍ — لتشييد الكنائس والأديرة والمقامات في طول الإمبراطورية
وعرضها.
وكان يوستنيانوس أرثوذكسي العقيدة — كما سبق أن أشرنا — فأصدر في السنة ٥٢٧ وفي
السنة ٥٢٨ قوانينَ صارمةً ضد الهرطقة، فأبعد الهراطقة عن الوظائف والمهن الحرة ومنع
اجتماعاتهم، وأغلق كنائسهم. ثم حرمهم حقوقهم المدنية قائلًا: يكفي هؤلاء أن يؤذن
لهم بالعيش.
واضطهد الوثنيين وحملهم على التنصُّر جماعاتٍ جماعاتٍ، ورأى ضروريًّا أن يقضي على
عقائدهم وفلسفاتهم فأمر في السنة ٥٢٩ بإقفال جامعة آثينة، ودمَّر هياكل إيسيس
وعمُّون في مصر، ولم يكن أقل شدة في موقفه من اليهود، فنشبت ثورة السامرة في السنة
٥٢٩ وجرَّت عليهم ضيقًا وخوفًا فوق ما كانوا يكابدون، ولم يَنْجُ من الاضطهاد سوى
أصحاب الطبيعة الواحدة؛ لأنهم كانوا أقوى الهراطقة وأكثرهم عددًا، فرهبانُهُم في
مصر كانوا يُؤَلِّفون جيشًا متراصًّا مستعدًّا لتنفيذ أوامر بطريركهم وأعيانهم،
وكانوا في سورية وفلسطين ولبنان والرها وأرمينية؛ لا يزالون يتربعون في أعلى
المراكز، ويتمتعون بعطفٍ وتأييدٍ في قلب العاصمة نفسها.
وكان يوستنيانوس شديدَ الإيمان بكنيسةٍ واحدةٍ جامعةٍ مقدسةٍ رسوليةٍ، فما إن
تبوأ خاله عرش الإمبراطورية حتى عمد إلى إزالة الانشقاق بين كنيسة القسطنطينية
وكنيسة رومة، على أنه لبث يواجه مشكلةً أُخرى، ذلك أن ولاياته الشرقية كانت تشتمل
على عدد كبير من القائلين بالطبيعة الواحدة، فوجد نفسه بين شرَّين: شرِّ الابتعاد
عن رومة وعن الكنيسة الأرثوذكسية، وشرِّ انفصال الولايات الشرقية عنه أو شر القلاقل
فيها واستعداد أهلها لمناوأته في كل فرصة تنتهز. فأحب — بملء الإخلاص — أن يضع
حلًّا وسطًا يُرضي به أصحاب الطبيعة الواحدة ولا يحيد به عن أرثوذكسيته.
وهكذا نراه في السنة ٥٢٩ يُلغي قرارَ النفي عن بعض الرهبان من أصحاب الطبيعة
الواحدة، ونراه يَستقدم إلى القسطنطينية سويروس بطريرك أنطاكية المقطوع عن وظيفته؛
ليتداول معه في طريقةِ الوصولِ إلى حَلٍّ وسط، ونراه — كذلك — يُطلق لأصحاب الطبيعة
الواحدة حرية الوعظ والإرشاد.
ولما تُوُفي أبيفانيوس بطريرك القسطنطينية في السنة ٥٣٥ أقنعت ثيودورة زوجها
الإمبراطور بإقامة أنثيميوس متروبوليت طرابزون وصديق سويروس بطريركًا في العاصمة،
وكان أنثيميوس يقول بالطبيعة الواحدة سرًّا، ولكن ما لبث أن قدم العاصمة البابا
أغابيتوس في السنة ٥٣٦ فعلم بما في الزوايا من خبايا، فدعا أساقفة القسطنطينية
ومقدمي الكهنة فيها إلى مجمعٍ محليٍّ برئاسته قطع فيه أنثيميوس ومَنْ شاركه رأيه.
ثم انتخب الإكليروس والإمبراطور والشعب ميناس بطريركًا على القسطنطينية.
وفي هذه الآونة وصل إلى العاصمة رهبانٌ من فلسطين وسورية ولبنان ليَشْكُوا سويروس
وغيره من أصحاب الطبيعة الواحدة، ورفعوا بذلك لوائح إلى يوستنيانوس والبابا، على أن
البابا أغابيتوس سرعان ما تُوُفي في القسطنطينية، ومع ذلك فقد انعقد مجمعٌ برئاسة
البطريرك ميناس وعضوية أساقفة القسطنطينية والأساقفة الذين كانوا صحبة البابا
أغابيتوس ووكلاء البطاركة الشرقيين المقيمين في العاصمة وشجبوا الهرطقة
شجبًا.
وبعد وفاة البابا أغابيتوس، انبري في رومة إيبوذياكون اسمه سيلباريوس، وطمع في
منصب الباباوية، فَرَشا الملك ثاواذاتوس، فأكره ثاواذاتوس المجمع على قبول
سيلباريوس، مهددًا كل معارض بالقتل، وكتبت ثيودورة إلى هذا البابا أن يُساعد
أنثيميوس على ميناس فرفض، فاتفقت ثيودورة مع فيجيليوس
Vigilius وكيل البابا في القسطنطينية ووعدتْه بالكرسي الباباوي،
وزودته بتحارير إلى بليساريوس القائد، شرط أن يطعن فيجيليوس بالمجمع الرابع ويساعد
سويروس وأنثيميوس على ميناس، فقبل ذلك وسافر إلى رومة، فخلع بليساريوس المنتية
والأوموفوريون عن البابا سيلباريوس وألبسه ثوب الرهبنة ونفاه، وأقام فيجيليوس محله
بابا على رومة، فثبَّت فيجيليوس المعتقد بالطبيعة الواحدة وفنَّد قرارات مجمع
خلقيدونية ورسالة لاوون الكبير، وحرم كل من يقول إن في المسيح المخلص طبيعتين وكل
من يقول: إنه صلب من حيث هو إنسان ولا يعترف أن ابن الله هو نفسه الذي صلب، ثم ندم
فيجيليوس على ما قال وفعل، فأخذت ثيودورة ترتقب فرصة تستدرجه فيها إلى القسطنطينية
لتنتقم منه، فتمَّ لها ذلك في السنة ٥٤٧ بمناسبة البحث في الفصول الثلاثة.
٢٧
الفصول الثلاثة
وكان لا يزال أوريجانيوس الإسكندري ومؤلفاته موضوعَ جدل ونزاع بين علماء الكنيسة
وأساقفتها: فريقٌ منهم يَحترمه لعلمه واجتهاده وطهارته، وفريق آخر يكرهه؛ لأن بعض
آرائه كانت قد أصبحتْ حُجَّة لِمَنْ قال بالطبيعة الواحدة، وبرغم أن أحد المجامع
كان قد أصدر حُكْمًا على أوريجانيوس ومؤلفاته؛ فإن عددًا كبيرًا كان لا يزال
يحترمه، فيدعي أن الهراطقة عبثوا بمؤلفاته ليستندوا عليها، ولكن في السنة ٥٣٩ أصدر
أفرام بطريرك أنطاكية حُكْمًا جديدًا بتحريم أوريجانيوس ومؤلفاته، فطلب بعض رهبان
فلسطين إلى بطرس بطريرك أوروشليم قطع البطريرك أفرام، فلم يُعِرْهُم سمعًا، إلا إنه
أرسل وفدًا إلى القسطنطينية يبين واقع الحال ويرجو اتخاذ موقفٍ واضحٍ من أوريجانيوس
ومؤلفاته، فكان من بطريرك القسطنطينية ميناس أن عقد مجمعًا محليًّا بموافقة
الإمبراطور حكم فيه على أوريجانيوس وتعاليمه.
واتفق أن كان في البلاط ثيوذوروس أسكيضاس، أسقف قيصرية، وكان هذا يحترم
أوريجانيوس وتعاليمه ويقول بالطبيعة الواحدة ويتقرب إلى ثيودورة، ومثله كان
دوميتيانوس كاتم أسرار الإمبراطور، فتقدم الثلاثةُ، ثيودورة وثيوذوروس ودوميتيانوس،
من يوستنيانوس وأقنعوه بأن انضمام أصحاب الطبيعة الواحدة إلى الكنيسة يسهل جدًّا
متى حرمت الفصول الثلاثة، وهذه الفصول هي: مؤلفات ثيوذوروس الموبسوستي، ورسائل
ثيودوريطس ضد كيرلُّس، والرسالة المنسوبة إلى الأسقف إِيبا،
ورأى هؤلاء — في ذلك كله — وسيلةً لتجريح قرارات
المجمع المسكوني الرابع ولإرضاء أتباع أوريجانيوس بالحكم على مَن كتب ضده ولإغضاب
الأرثوذكسيين، فوافق يوستنيانوس وأصدر في السنة ٥٤٤ تحريمًا للفصول الثلاثة وطلب
إلى الأساقفة أن يوافقوه عليه، وهدد المعارضين بالعزل، فلم يخضع أساقفة الغرب لأمر
الإمبراطور وجاراهم في ذلك البابا فيجيليوس، وكتب أسقف قرطاجة إلى الإمبراطور أنه
لا يجوز إيقاعُ الحرم بشخص بعد موته، فاستدعى يوستنيانوس البابا فيجيليوس إلى
القسطنطينية، فحضر إليها، وانتهى بالنزول عند إرادة الإمبراطور فأنشأ رسالته
المعروفة بالجوديكاتوم Judicatum وفيها شجب الفصول
الثلاثة.
ولكن أساقفته انتقضوا عليه وعينوا له وقتًا للندامة، فلبث فيجيليوس في
القسطنطينية، ورجع عن قوله في الجوديكاتوم، ثم أصدر يوستنيانوس أمرًا ثانيًا بشجب
الفُصُول الثلاثة وطلب الموافقة عليه مرة أُخرى، فأبى البابا فيجيليوس ودخل كنيسة
واحتمى بها وربط نفسه بعمود المائدة، فسحبه الجنود بالقوة فانسحب العمود معه وسقطت المائدة،
٢٨ ومما يجدرُ ذكرُهُ أن الأصل في تسمية الفصول الثلاثة بهذا الاسم هو أن
الأمر الذي أصدره الإمبراطورُ بالشجب حَوَى فقراتٍ ثلاثًا تتعلق بمؤلفات ثيودوروس
وثيودوريطس وإيبا، ثم تُنُوسي ذلك فأصبحت الفصولُ الثلاثة تَدُلُّ على أشخاص
ثيودوروس وثيودوريطس وإيبا أنفسهم.
المجمع المسكوني الخامس في القسطنطينية
ولكي يضع الفسيلفس حدًّا لهذا النزاع الجديد دعا إلى مجمع مسكوني ينعقد في السنة
٥٥٣ في القسطنطينية، وقد اشترك في أعمال هذا المجمع مائةٌ وخمسةٌ وستون أسقفًا،
بينهم أفتيشيوس بطريرك القسطنطينية وأبوليناريوس بطريرك الإسكندرية وذمنوس بطريرك
أنطاكية ونائبان عن بطريرك أوروشليم، وكان البابا فيجيليوس لا يزال في القسطنطينية
مع عدد من أساقفة الغرب، فدُعي للاشتراك في المجمع وترأُّس الجلسات ولكنه امتنع،
فترأس المجمع بطريرك القسطنطينية وأقر جميع قرارات المجامع المسكونية السابقة، ثم
دَقَّقَ في الفصول الثلاثة، فحكم برفضها ورفض كل من يدافع عنها
ad defensionem eorum،
٢٩ وفي جلسته الثامنة والأخيرة وجه المجمع لومًا شديدًا لبابا رومة؛ لأنه
امتنع عن الاشتراك في جلساته، واعتبر يوستنيانوس قرارات هذا المجمع ملزِمة وأكره
الأساقفةَ على قبولها، ونفى من عارضها، وفي طليعة هؤلاء البابا فيجيليوس، فقد أُكره
على الإقامة في إحدى جُزُر مرمرا.
ثم وافق فيجيليوس على قرار المجمع فأذن له بالعودة إلى رومة، ولكنه تُوُفي في
سرقوصة قبل أن يصل، وأصر أساقفة الغرب على موقفهم المؤيد للفصول الثلاثة، وامتنعوا
عن الخُضُوع لقرار المجمع الخامس، وظلوا متمسكين بذلك حتى عهد البابا غريغوريوس
العظيم (٥٩٠–٦٠٤)، فإنه أعلن في إحدى رسائله أَنْ ليس في قرارات المجمع الخامس مما
يتعلق بالفصول الثلاثة أي تغيير في الدين أو خروج عنه.
٣٠
ولكن رغم هذا كله أصرَّ أصحاب الطبيعة الواحدة على متابعة الانفصال، غير أن
يوستنيانوس لم يكن يتغير عليهم حتى يعود إلى التقرب منهم والعطف عليهم إلى أن
أدركته المنية في السنة ٥٦٨، وإذا كان يوستنيانوس قد أخفق آخر الأمر في تحقيق وحدة
الكنيسة، فمن الواجب أن يُعترف له باهتمامه البالغ لنشر النصرانية وراءَ حُدُود
الإمبراطورية، فقد نصَّر قبائل الهرولي على الدانوب وقبائل القوقاس وأفريقية
الشمالية والنيل الأوسط.
٣١
سياسة يوستنيانوس الخارجية
وأحب يوستنيانوس — منذ بدء عهده — أن يُعيد إلى الدولة الرومانية مَجْدَها
الغابر، وأن يُحقق فعلًا ما كان له مِن سيادةٍ اسمية على إيطالية وأفريقية وإسبانية
وفرنسة، ولو أدى به ذلك إلى الحرب والفتح، ولكن لم يتسن له شيءٌ من ذلك قبل منتصف
السنة ٥٣٣ لاشتغاله بجارته الكبيرة فارس الساسانية.
الحرب الفارسية الأُولى (٥٢٧–٥٣٢)
وناهز قباذ الثمانين، وأحب أن يضمن المُلك من بعده لابنه الأصغر كسرى أنو شروان،
ففاوض يوستينوس في ذلك وطلب إليه أن يتبنَّى كسرى وأن يدافع عن حقه في الملك، ونظر
يوستينوس في الأمر، وشاور فيه رجالَهُ، ثم أجاب قباذ أنه مستعد للقيام بتلك المهمة،
شرط أن يكونَ التبني على الطريقة العشائرية الألمانية. ولا نعلم بالضبط شُرُوط هذا
النوع من التبني، ولكن يلوح لنا أنه كان أيسر مما أراده قباذ.
وكان الوفد الفارسي في الوقت نفسه يُفاوض للوصول إلى تفاهم بين الدولتين حول قضية
لازيقة «لازستان»، فلما عاد الوفدُ إلى عاصمة فارس وأَطْلَعَ قباذ على اقتراح زميله
يوستينوس، حقد قباذ وأضمر السوء، وكان يفتش عن ظرف يستعين به للظهور بمظهر المدافع
عن الدين الفارسي القديم، فأمر جرجان ملك إِيبيرية في القوقاس أن يمتنع هو وشعبُهُ
المسيحي عن دفن الموتى، وأن يَتَّبِعُوا في ذلك الطريقةَ الفارسيةَ القديمةَ،
فيعرضوا الجثث لطيور السماء، ولكن جرجان أبى واستنصر يوستينوس فنصره، وهكذا دخلت
الدولتان: دولة الروم ودولة الفرس، في حالة حرب منذ السنة ٥٢٧.
٣٢
وصمد بليساريوس قائد الروم في وجه الفرس عند دارا في السنة ٥٣٠، وفي السنة ٥٣١
أقبل المنذر اللخمي من الحيرة وأَغَار على خلقيس «قِنَّسرين» ثم سار إلى أنطاكية
وعاث في ضواحيها وغنم مالًا وافرًا وأسر كثيرين وعاد إلى الفُرات، ثم عاود الكَرَّة
والفرس من ورائه وأغار على اليهود، فهب بليساريوس لصده، وانتصر عليه وعلى أسياده
عند الفرات في كلينيكوم Callinicum فردهم بذلك عن
غزو سورية الشمالية.
وتُوُفي قباذ في السنة ٥٣٢، فعرض خلفه كسرى أَنو شروان صلحًا دائمًا قَبِله
يوستنيانوس دونما تردد بالنظر لما كان يفكر فيه من انصرافٍ إلى العمل في الغرب
لإعادة وحدة الإمبراطورية، وقبل أن يتجه نحو الغرب أنشأ حلفين شرقيين: حلفًا مع
أُمراء القوقاس في الشمال، والآخر مع نجاشي الحبشة في الجنوب؛ ليأمن بهما شَرَّ
حربٍ ثانيةٍ مع الفُرس.
٣٣
وعني يوستنيانوس في هذه الآونة نفسها بتوطيد علاقاته مع القبائل العربية الضاربة
في بادية الشام؛ ليوازن بنفوذها نفوذَ شقيقاتها في بادية العراق وهُنَّ عمَّال
كسرى، وكان بنو غسَّان قد وفدوا إلى سهول حُوران من اليمن أو ما يليها في فترة من
الفترات التي تَصَدَّعَ فيها سَدُّ مأرب، وحلوا بين عشائر قضاعة وسُليح، ثم سيطروا
عليها وجمعوها في كيانٍ سياسيٍّ، فاستعان بهم الروم في القرن الخامس لمراقبة غيرهم
من القبائل العربية التي كانت تَجُوبُ أَطْرَافَ الجزيرة المتاخمة لبادية الشام
واستعملوهم لِصَدِّ هذه القبائل إذا هي حاولت الانصباب على أراضي الإمبراطورية،
ووجد الروم في الغساسنة أيضًا خير معوان لهم على عرب الحيرة أنصار فارس، وبلغ
الغساسنة الأوج في أوائل القرن السادس، فانضوى تحت لوائهم جميعُ شيوخ العشائر
العربية من لبنان شمالًا حتى الحجاز جنوبًا.
ورأى يوستنيانوس أَنْ يَزيدهم هيبة فَرَفَعَ أميرَهم الحارث بن جبلة إلى رُتبة
فيلارخوس وبطريق، وبذلك جعله يوازن في اللقب أمراء الحيرة عمَّال فارس.
٣٤
الحرب في أفريقيا وإيطالية (٥٣٣–٥٤٠)
وثار غلمار على هيلدريخوس الوندالي في شمالي أفريقية، وكان غلمار آريوسيًّا،
فاستغل يوستنيانوس المناسبة وتدخل باسمِ الدين القويم، كما كان قد استغل إقدامَ
ثيوداتيوس على خنق ابنة عمه وريثة ثيودوريخوس في إيطالية.
وفي حزيران من السنة ٥٣٣ أقلع بليساريوس القائد على رأس قوة مؤلفة من خمسة عشر
ألف رجل ومن اثنتين وتسعين ذرومونة إلى جوار قرطاجة، فوصلها في أيلول من السنة
نفسها وتَغَلَّبَ — في غير مشقة — على غلمار ودخل قرطاجة منتصرًا فصادف فيها
استقبالًا حارًّا، وعيَّن يوستنيانوس أحد القادة — سليمان — حاكمًا على أفريقية
الشمالية، وأشار على بليساريوس بالانتقال حالًا إلى صقلية فإيطالية، ولكن سليمان
لَاقَى مقاومة شديدة من البربر الذين لم يسبق لهم أَنْ خضعوا للوندال، فاضطر
بليساريوس أن يعود إلى قرطاجة لينتصر على هؤلاء، ولم تهدأ الأحوالُ في أفريقية
الشمالية قبل السنة ٥٣٩، وجعل يوستنيانوس من أفريقية برايفتورة جديدة وأنشأ — في
وجه البربر — ليموسًا جديدًا.
وتمَّ الاستيلاء على إيطالية بالسياسة والحرب معًا، فبعد أن استمال يوستنيانوس
بعض العشائر القوطية، أنفذ إلى إيطالية حملتين، إحداهما عن طريق إيليرية بقيادة
مندوس والأُخرى إلى صقلية فإيطالية، بقيادة بليساريوس نفسه. وأجلى بليساريوس القوط
عن صقلية في يسر وسهولة، ثم اجتاز مضيق مسينة في ربيع السنة ٥٣٦ فحاصر نابولي عشرين
يومًا وأخذها عنوةً، وفرَّ منها ثيوداتيوس والتجأ إلى رومة فاغتاله أحدُ رجاله، ثم
انتخب القوط ملكًا عليهم جنديًّا نكرةً لم يقوَ على صد بليساريوس عن رومة.
ودخل الروم رومة في العاشر من كانون الأول سنة ٥٣٦، فأحاط بهم القُوطُ وحصروهم
فيها سنة كاملة، ثم ارتدوا عنها، فخرج بليساريوس إلى شمالي إيطالية وتابع فيها
الحرب، ولكن مناظرة نرسه الخصي له عَوَّقَتْ سير الحرب أشهرًا، ولم يدخل بليساريوس
رابينة قبل أيار السنة ٥٤٠، وأعاد الإمبراطور برايفتورة إيطالية واتخذ لنفسه لقب
قاهر القوط Gothicus.
الحرب الفارسية الثانية (٥٤٠–٥٦٢)
وأَقَضَّتْ هذه الانتصارات مضجع كسرى أنو شروان، وجاءَه رُسُلُ القوط يحثونه على
القتال،
٣٥ فجهز جيشًا كثيفًا وأغار فجأةً على سورية، واحتل ثغورها على الفرات،
وأباح لعساكره النهب والسبي، ففعلوا، ثم تقدم نحو منبج
Hierapolis فاشترى أهلها الأمان بألفي دينار
فضة، ونهض كسرى إلى أنطاكية، وكان جرمانوس أحد أنسباء يوستنيانوس قد رابط فيها
بثلاثمائة جندي، وأقام ينتظر وُصُول بقية الجيش الإمبراطوري، وكان منذ أن دخلها قد
باشر تحصينها وترميم أسوارها وقلاعها، وكان موقع أنطاكية عند العاصي، بما يحيط بها
من صخور وحواجز طبيعية أُخرى فضلًا عن الحصون الصناعية؛ معقلًا منيعًا، ولم يكن في
جهاز الدفاع عنها إلا ثغرة واحدة عرفها جرمانوس وأراد تلافيها، غير أَنَّ الضباط
الذين كانوا حوله اشتدَّ بهم الخوف لَدَى وصول كسرى فهربوا إلى قيليقية، وهبَّ
الأهلون لجمع المال يشترون به الأمان من العدو، ولكن وفدًا إمبراطوريًّا وصل إلى
المدينة، وقال: لا يليق بالحاضرة الثانية في الإمبراطورية أن تشتري أمانًا من
غُزاتها، فعزمت المدينة على المقاومة، فضرب كسرى عليها الحصار، ولم يلبثْ أَنِ
اهتدى إلى الثغرة في السور فدخل منها، فدافع الأنطاكيون ما وسعهم الأمر ثم فرُّوا
إلى دفنة يحتمون بها، فسيطر كسرى على أنطاكية وأباحها للنهب والحريق، ثم انحدر إلى
سلوقية وذبح عند شاطئها ضحية للشمس، ومنها سار إلى أبامية فدخلها وسلب كنيستها ونهب
الدور والمباني، وكان الوفدُ الإمبراطوري قد فاوضه بالكف عن القتال؛ لقاء قَدْرٍ من
المال يُدفع إليه في كل سنة، فقبل كسرى وارتد عبر الفرات بألوف الأسرى إلى عاصمته
طيسفون، وبنى لأولئك الأسرى مدينة خاصة سماها أنطاكية كسرى.
٣٦
وفي السنة ٥٤١ هجم كِسرى على لازيقة «لازستان» وإيبيرية في القوقاس، وفي السنة
٥٤٢ دخل قوموجينية وأخرب وأحرق وسبى، وظهر في السنة التالية على حُدُود أرمينية
البيزنطية، ثم عاد في السنة ٥٤٤ إلى حُدُود الفُرات وحاصر أورفة حصارًا شديدًا،
وكان قادةُ الروم مشغولين عنه بمشاغلَ داخليةٍ شخصيةٍ، فغضبتْ ثيودورة على
بليساريوس وخذلتْه، إلا أن يوستنيانوس أَنْفَذَ في السنة ٥٤٣ ثلاثين ألفًا إلى
أرمينية الفارسية، غير أَنَّ حملته رُدَّتْ ومنيت بالفشل، وما لبث الطرفان
المتحاربان أن شعرا بصعوبة القتال في القوقاس؛ نظرًا لطبيعة البلاد الجبلية ووعورة
مسالكها وكثرة أحراجها، فتهادنا في السنة ٥٤٤ وجَدَّدَا الهُدنة مرتين ثم جعلاها
معاهدةً دائمةً في السنة ٥٦١.
وقضتْ شروطُ هذه المعاهدة أن يفصل السلم بين الطرفين خمسين سنة، على أن تجلو قوات
الفرس عن اللازستان، ويدفع يوستنيانوس إلى كسرى ثلاثين ألف أوري في السنة، ويمتنع
عن التبشير بالنصرانية في الأراضي الفارسية، وفي مقابل ذلك يحترم كِسرى حقوق
النصارى من رعاياه؛ فيرفع عنهم الاضطهاد.
٣٧
توتيلة
وعاد القوط إلى المقاومة في إيطالية، وبايعوا توتيلة أحد زعمائهم، ووافق ذلك أَنْ
دَبَّ الشقاق إلى صُفُوف زُعماء الروم في إيطالية، فانطلق توتيلة برجاله من الشمال
بالغًا إلى أقصى الجنوب، واحتل في السنة ٥٤٣ نابولي، فهرع بليساريوس لقتاله ولكنه
لم يتمكن مِن صده؛ لقلة العُدد والعَدد، وهكذا دخل توتيلة رومة في السابع عشر من
كانون الأول سنة ٥٤٦، ثم أنشأ أُسطولًا وغَزَا صقلية، فاستولى عليها في السنة
٥٤٩-٥٥٠، فثارتْ ثائرةُ يوستنيانوس فجَهَّزَ قوةً كبيرة وأَمَّرَ عليها نرسيس، ودفع
بها إلى إيطالية عن طريقِ الشمال، فتَمَكَّنَ نرسيس في السنة ٥٥٢ من القضاء على
توتيلة في موقعة بوستة في أومبرية
٣٨ Busta Gallarum.
الدانوب
والمشاكل التي عاناها يوستنيانوس في الغرب والشرق معًا قضت عليه بسحب جُنُوده من
ضفة الدانوب واستعمالهم في جبهاتٍ أُخرى واضطرتْه إلى الاستعاضة عنهم بسلسلةٍ
كبيرةٍ من الحُصُون والقلاع، فأنشأ ورَمَّمَ وحصَّن أكثر من أربعمائة مدينة في
البَلْقَان، ثم تذرع بسياسة «فرِّق تسد» فحالف اللومبارديين ضد الغبيد Gepides في المجر وصادق الهون الأوتيغور Outigours في شرقي آزوف ضد الهون الكوتريغور Koutrigours بين الدون والدنيستر، واستعان
بالأفار Avars ضد عشائر الدانوب، ولكن هذا كله
لم يمنع البرابرة من التسرُّب خلال حصون البلقان؛ نظرًا لصِغَر الحاميات، فكان في
السنة ٥٣٩-٥٤٠ أن انتشر مئاتٌ من الصقالبة والبلغار والهون في قُرًى عديدة من
الأدرياتيك حتى القسطنطينية، ينهبون ويخربون ويحرقون ويذبحون، وفي السنة ٥٥٨ تحرك
سبعةُ آلاف كوتريغور من الدانوب، فاتجهوا جنوبًا وعَبَرُوا سُورَ أنسطاسيوس،
وألقَوُا الرعبَ في أوساط القسطنطينية نفسها. وظل ذلك دأبهم حتى جمع بليساريوس بضع
مئاتٍ من الأبطال المجريين مِن سُكَّان العاصمة، وانقض بهم على العدو، فَوَلَّوُا
الأدبار.
الفرات وسائر الحدود الشرقية
ولم يحصر يوستنيانوس أعماله التحصينية في منطقة البلقان؛ فإنه أنشأ
في أفريقيا — كما سبق أن أشرنا — ليموسًا جديدًا،
وأنفق أموالًا طائلة للغاية نفسها في آسية الصغرى وسورية وشرق الأردن.
وكانت حُدُودُ الإمبراطورية في الشرق تنبسط من البحر الأسود حتى البحر الأحمر
فتؤلف خطًّا طُولُهُ ألفا كيلومتر، ولم يسبق لرومة في الشرق أن شيَّدت في عصرٍ مِنْ
عُصُورها ليموسًا متصلًا على نحوِ ما فعلت في الشمال بين الرين والدانوب، أو في
الجنوب في أفريقيا الشمالية؛ ذلك بأن جبال آسية الصغرى الشرقية وبادية الشام شكلت
حاجزًا طبيعيًّا موافقًا يُمكنُ الانتفاعُ به في الحرب والدفاع، ومن هنا اكتفت رومة
في هذه المناطق بإنشاء قِلاعٍ موزعةٍ في مواقعَ معينةٍ تحمي بها الطرق الرئيسية
والجسور والممرات الطبيعية، وما إلى ذلك، فأصبح حَدُّها الشرقيُّ «منطقة مراقبة»
على حد تعبير ليون هومو أكثر منه ليموسًا أو إطارًا مانعًا.
٣٩
وكانت هذه المنطقة — ذات الحصون — تبدأ عند طرابزون فتتجه جنوبًا حتى مجرى
الفُرات الأعلى، فمصب الخابور، فحدود البادية حتى العقبة، وكان خط الدفاع الممتد
نحوًا من ثمانمائة كيلومتر بين قرقيسية Circesium
عند مصب الخابور وبين العقبة يَتَأَلَّفُ مِنْ طريقٍ مُعَبَّدَة مُوازية للحدود
محمية الجانبين، ولا سيما عند مَفَارِقِ الطرق بعدد كبير من الأبراج، وكانت تدمر
ودمشق والبتراء تدخل بقلاعها وحصونها والطرق الموصلة إليها في هذا الخط من
الدفاع.
وتدل أعمال التنقيب التي أُجريت في شرق الأردن بعد الحرب العالمية الأُولى أن
الطريق العسكريَّ الروماني الذي كان يمر بشرق الأردن كان يصلُ بصرى بمادبا
والبتراء، فالعقبة، وأن رومة قد أقامت على جانبَي هذا الطريق أبراجًا محصنةً، يبعد
الواحد منها عن الآخر ثلاثين كيلومترًا، وأنها أنشأتْ قِلَاعًا لحماية موارد المياه
إلى شرقي هذا الطريق في القسطل واللجون، وغيرهما.
٤٠
وجاءَ يوستنيانوس يؤمِّن «سلمًا وطمأنينةً» لشعبه، و«يزيل كل ما كان يُشَجِّع
البرابرة على الغزو والنهب»، فاهتم بحُصُون أرضروم وكيثاريزون ومرتيروبوليس وآمد
وقسطنطينة ودارا، وكانت دارا هذه تقعُ بين نصيبين وماردين وتُدعى «حصن الإمبراطورية
الرومانية»، وأظهر يوستنيانوس اهتمامًا مماثلًا بخطٍّ من الحصون جاء وراء هذه
الحصون الأمامية: ستالة وكولونية ونيكوبوليس وسبسطية وملاطية
Miletene ثم أورفة وحرَّان وكلينيكوم، ثم سورية على الفُرَات
وهيرابوليس «منبج» وزقمة فأنطاكية.
٤١
يوستنيانوس في دوره الأخير
وليس يختلف اثنان — فيما نعلم — أَنَّ مشاريع يوستنيانوس العظيمة لم تتناسبْ
وطاقته المالية، فالعظمة والبذخ واسترضاء زعماء البرابرة وحروب الفتح والإنشاء
والتعمير في طول البلاد وعرضها؛ كلها تتطلَّب إنفاقًا كبيرًا لم يكن آنئذٍ بوسع
الدولة. وكان أنستاسيوس قد خلَّف وفرًا قدره ٣٢٠٠٠٠ ليرة ذهبًا، أو ما تعادل قيمته
أربعة عشر مليونًا من الليرات الاسترلينية، فأنفقه يوستنيانوس في بضع سنوات وبات
يشكو قلة النقد. وقلة نقده أطالتْ حروبَه وزعزعتْ معنويات جيشه، وأوقفت إصلاحه
الإداري، أو عرقلتْه، ثم أَدَّتْ إلى زيادة الضرائب وإثقال كاهل الأهلين
بها.
وفي السنة ٥٤٨ تُوُفِّيَتْ ثيودورة بداءِ السرطان، ففقد يوستنيانوس بوفاتها
مستشارةً نشيطةً أمينةً، فانكشفت نقائصُهُ، وأهمها التردُّد والهوس باللاهوت، فأهمل
واجباتِهِ الإدارية وكرَّس معظم لياليه للجدل الديني، فصح فيه قول كوريبوس: «إنه
بات لا يُبالي شيئًا وإن رُوحه كانت كالتي انتقلت إلى السماء.»
وتضاءل جيشُهُ فتناقص من ٦٤٥٠٠٠ مقاتل إلى ١٥٠٠٠٠ وخَلَتْ حُصونُهُ من الرجال،
حتى قال أغاثيوس: إنها أصبحتْ خاليةً خاويةً لا يُسمع فيها نِبَاحُ كلبٍ واحدٍ،
وباتت العاصمةُ نفسُها مهددةً بالخطر؛ لأن سور أنستاسيوس كان قد تَثَلَّمَ في ألف
موضعٍ وموضع، ولأن الحَرَسَ الإمبراطوريَّ كان قَدْ قَلَّ وضَعُفَ، ولأنَّ الفسيلفس
كان لجأ إلى البلص والمُصَادَرة؛ للحصول على المال المطلوب. وعاد الخضرُ والزرقُ
إلى المناظَرة والمشاحَنة والمخاصمة، ونزلوا بذلك كله إلى شوارع العاصمة، فهاجوا
وماجوا مرارًا ما بين السنة ٥٥٣ و٥٦٤، وأدى تَرَدُّدُ يوستنيانوس في تعيين ولي عهده
إلى التخاصم والتآمر ولا سيَّما بين أنسبائه.
ولكن ليس من العدل في شيء أن نحكم على عهد يوستنياوس كلُّه حكمًا مبنيًّا على ما
آلتْ إليه الأُمُور في آخر سنواته، فالواقعُ الذي لا مندوحة عن الاعتراف به أن
أهداف الرجل كانت نبيلة، وأن سعيه لإعادة الإمبراطورية إلى ما كانت عليه من الاتساع
والمجد كان عظيمًا في حد ذاته لائقًا بالإمبراطور، وأن محاولته لتوحيد الكلمة في
الكنيسة كانت في مصلحة الدولة والكنيسة معًا، وأن إنشاءاته العسكرية على حدود
الدولة كانت في مصلحة الشعب، وأن اهتمامَه بالإدارة والقضاء والتشريع إنما نَجَمَ
عن رغبةٍ أكيدةٍ في ضمان الأمن ونَشْرِ لواء العدل. ولئن كان ثمن هذا كله باهظًا
فالعمل — في حد ذاته — كان كبيرًا، وهل أكبر من مجموعة القوانين وكنيسة الحكمة
الإلهية!