الأرض والسكان
وكان من جراء حروب القرن السابع أن تقلَّص ظل الروم عن قسم من أرمينية وعن
الجزيرة والشام ومصر وأفريقيا، وفقد الروم معظم البلدان التي فتحها يوستنيانوس في
الغرب وتراجعوا عن خط الدانوب إلى الجبال بين ميسية وتراقية، فنقصت إمبراطوريتهم
نصفها.
وكان الآفار والصقالبة قد بدءوا منذ أواخر القرن السادس يعبرون الدانوب فيعيثون
فسادًا في إيليرية وتراقية، فلما حلَّت الفوضى في عهد فوقاس ونشبت حروبُ هرقل
الطاحنة في آسية تعددت هجمات هؤلاء البرابرة وأصبحت إلى هجرة شاملة أقرب منها إلى
غزو، واضطر الروم أن يذعنوا للواقع في بعض الأحيان فيعترفوا لبعض هذه القبائل
كالكرواتيين والسرب بكيانٍ خاصٍّ في داخل حدودهم، ولئن وفقوا في بعض الأحيان إلى
ردِّ القبائل الزاحفة عبر الدانوب؛ فإنهم لم يستطيعوا المحافظة على هذا الحدِّ
دائمًا، فكانت تعود القبائل، فتتسلل جماعات في الخُفية وبالتدريج، فتستقر داخل
الحدود؛ حيث تسمح لهما بذلك الظروف، ومن هؤلاء الصقالبة.
ويُستدل من بعض المراجع الأولية أن قبائل الكروات والصرب عبروا الدانوب في الربع
الأول من القرن السابع، واحتلوا بالقوة جميعَ إيليرية حتى شاطئ الأدرياتيك، وأن
هرقل اعترف بوجودهم في هذه الأراضي لقاء معونة يقدمونها له ضد الآفار شرط أن
يتقبلوا النصرانية،
١ وفرَّ سكان البلاد أمام تلك القبائل، فالتجأ أبناء سالونة إلى حصن
ديوقليتيانوس وأسسوا مدينة إسبالاتو، ونزح أبناء أبيدورة فأقاموا في منطقة راغوزة،
وفرَّ غيرهم إلى كاتارو وإلى جزر الشاطئ إلى برازا ولاسينة وغيرهما.
٢
وهكذا لم يشرف القرن السادس على أواخره حتى كانت جماعات من الصقالبة قد استقرَّت
في ميسية السفلى بين الدانوب وجبال الهاموس، وفي عهد فوقاس وهرقل سارت جماعات أخرى
من الصقالبة في موكب الآفار فنزلت بنسائها وأطفالها وجميع ما ملكت إيمانها في
مقدونية وتراقية وغشيت الأرياف بكاملها،
٣ ومما جاء في أعمال القديس ديمتريوس أن الصقالبة في السنوات ٦١٧–٦١٩
ركبوا البحر في قواربَ نقرت في جذوع الشجر ففتكوا بسكان ثسالية وآخية وإيبيروسة
وبعض آسية، وانتشروا في جميع جزر الأرخبيل. وجاءَ أيضًا أنهم في السنة ٦٢٣ بلغوا
إلى جزيرة أقريطش فقتلوا وسَبَوْا، وأن الذعر شمل الجبناء والشجعان على حدٍّ سواء،
فأيقن الجميعُ أَنْ ليس أمامهم إلا الموت أو عذاب الأسر.
٤
وبقيت هذه القبائلُ طوال القرن السابع تغزو في البر والبحر ولا يقر لها قرار،
وسعت حكومةُ العاصمة بما لديها من وسائلَ لإخضاع هذه القبائل ولكن دون جدوى، وفي
السنة ٦٥٧ جَرَّدَ قسطنطين الثالث حملةً عسكرية عليهم فهزمهم واشتقَّ لنفسه طريقًا
إلى ثيسالونيكية وأرغمهم أن يخلدوا إلى السكينة، ولكنهم عادوا إلى سابق نزعاتهم
فحاصروا هذه المدينة نفسها ما بين السنة ٦٧٧ والسنة ٦٨٠، فقاد يوستنيانوس الثاني في
السنة ٦٨٩ حملة أُخرى عليهم وأخضعهم ونقل منهم ثلاثين ألفًا إلى شاطئ الدردنيل الآسيوي.
٥
وفي أواخر القرن السابع تدفق البلغار عبر الدانوب واستوطنوا، والبلغار من الشعوب
الطورانية أبناء عم الهون والأتراك، وكانوا من قبل يعبرون الدانوب غزاة مغيرين
ولكنهم لا يلبثون أن ينقلبوا إلى ما ورائه، وكان هرقل قد استعان بهم بين السنة ٦٣٥
والسنة ٦٤١ ضد الآفار مُنْعِمًا على زعيمهم بلقب بطريق مقدمًا له الهدايا، إلا أن
الخزر في السنة ٦٧٩ اضطروا هؤلاء البلغار أن يجلوا عن أراضيهم في ما وراء الدانوب،
فتدفقوا عبر هذا النهر بقيادة خاقانهم أَسبروخ واحتلوا ما تاخم النهر من الأراضي
حتى جبال البلقان، ثم أُكره قسطنطين الرابع أن يعترف بالواقع وأن يسترضيهم بمالٍ
محددٍ يدفعه كل سنة، فنشأتْ دولةٌ بلغاريةٌ فتيةٌ، تمكنت من الاندماج برعاياها
الصقالبة، فتقبلت لغتهم وتقاليدهم ووحدت كلمتهم، فأصبحت خطرًا كامنًا على دولة الروم.
٦
الإدارة
وأدت الحروب الطاحنة التي دارت رحاها في القرن السابع إلى تغييرٍ أساسيٍّ في
أساليب إدارة الولايات، وكانت القاعدة الأساسية المتبعة في تنظيم إدارة الولايات
منذ عهد قسطنطين الكبير توجب الفصلَ بين السلطتين العسكرية والمدنية في ولايات
الدولة وذلك خوفًا من تمرُّد الوُلاة أو قادة الجيش على السلطة المركزية، لكن هذه
القاعدة انقلبتْ عند نهاية القرن السابع رأسًا على عقب؛ إذ لجأ الأباطرةُ إلى دمج
السلطتين في يد قائدٍ عسكريٍّ في كل ولاية، فحُوِّلت الولايات إلى ثيمات أو بنود
كما أسماها العرب.
٧
وكان يوستنيانوس الكبير قد لجأ إلى مثل هذه الخطة في إدارة ولايتي قرطاجة
ورابينة؛ وذلك لتكرُّر هجمات اللومبادريين في إيطالية والمور في أفريقية، فأنشأ
وظيفة الإكسرخوس وجعله قائدًا عسكريًّا وحاكمًا مدنيًّا في آنٍ واحدٍ. إلا أن
العلامة الألماني الدكتور إرنست اشتاين يرى أن هرقل درس عن كثب نظام الحُكم عند
أعدائه الألداء الأكاسرة فأخذ عنهم دَمْج السلطتين العسكرية والإدارية في يد قائدٍ
عسكريٍّ يقوم على رأس جيشه في منطقة معينة، فكان أَنْ أنشأ نظام الثيمات،
٨ ويرى غيره من رجال الاختصاص أن هذا النظام الجديد لم يعمم دفعةً
واحدةً، بل نشأ بالتدريج في أرمينية أولًا ثم في سائر آسية الصغرة فأوروبة.
٩
والواقع الذي لا سبيل فيه إلى جدالٍ هو أن آسية الصغرى عند نهاية القرن السابع
كانت قد قسمت إلى أربع ثيمات أو بنود: (١) ثيمة أرمينية في شمالي شرقي آسية الصغرى،
(٢) ثيمة أناتوليكة،
١٠ (٣) ثيمة الأبسيق «أوبسيكيون» عند بحر مرمرا، (٤) ثيمة القبريوت وكانت
هذه تضم شاطئ آسية الصغرى الجنوبي والجزر المجاورة له؛ وذلك للصمود في وجه الأسطول
العربي، وكان قد نشأ أيضًا نظامٌ مماثلٌ في أوروبة، فظهرتْ ثيمة تراقية لِدَرْءِ
خطر الصقالبة، وثيمة هيلاس للغرض نفسه في بلاد اليونان، وثيمة في صقلية للدفاع ضد العرب.
١١
والأساس في نظام الثيمة كان — فيما يظهر — إقامة جيشٍ دائمٍ في منطقة معينة يسهر
على الدفاع عنها، ويُقطِعُ ضباطه وجُنُودَه أراضيَ معينة في المنطقة نفسها
يستثمرونها، وتمتزجُ هذه العناصر العسكرية بِسُكَّان المنطقة فتبث فيهم روح الشجاعة
والجرأة وتدرِّبهم على حمل السلاح والقتال.
١٢
وثمة ما يدل على أَنَّ هرقل لم يهمل التشريع، فهنالك قوانينُ أربعةٌ سَنَّهَا في
الفترة بين السنة ٦١٢ والسنة ٦٢٩ عُنِيَ فيها ببعض مشاكل الإكليروس، وتوجدُ كذلك
بقايا شرائع سنها هذا الفسيلفس لِلْحَدِّ مِنْ تزوير النقود والأختام والوثائق
الرسمية، وقد كان لهذه الشرائع — فيما يظهر — أثرٌ في ما شرعه الألمانُ في الغرب
والعرب في الشرق
١٣ في هذا الموضوع نفسه.
الدولة تصبح هيلينية
وكانت الدولة منذ تأسيسها قد اصطبغت بطابعٍ شرقيٍّ في مفهومها للسلطة والحكم، وفي
نظامها الرتبي وتسلسل الصلاحيات وفي التشريفات وتعظيم الإمبراطور، وما إلى ذلك،
وجاءَ القرنُ الخامس فتفككت عُرَى الدولة في الغرب ولم يبقَ منها صامدًا سوى
ولاياتها الشرقية، وبرغم نجاح يوستنيانوس في إيطالية وأفريقيا وإسبانية؛ فإن الربط
الذي أعاد إحكامه بين الشرق والغرب لم يثبت طويلًا. وجاءَ القرن السابع فانفصلت
إسبانية وأصبحت أفريقية مهددة، واضطربت إيطالية وسلخ العرب مصر والشام والجزيرة،
واحتلَّ الصقالبة والبلغار جزءًا كبيرًا من البلقان، فأصبح العنصرُ اليونانيُّ هو
العنصر السائد في الدولة، وأصبحت آسية الصغرى قلب الدولة ومركز الثقل فيها، فتهلنت
الدولةُ وبقيتْ يونانية حتى آخر عهدها.
اللاتينية تتوارى فتزول
وكانت اللغةُ اللاتينيةُ لا تزال في عهد يوستنيانوس الكبير لُغَةَ الدولة الرسمية
ولغة التشريع والإدارتين المدنية والعسكرية، وحتى أوائل القرن السابع كان
الإمبراطور لا يزال ينادَى بألقابه اللاتينية القديمة «التقيُّ، السعيد، الدائم، العظيم»،
١٤ غير أن انتصار هرقل على الفُرس جعله يزيد على ألقابه بصور رسمية اللقب
اليوناني «الفسيلفس»، وكان هذا اللقب شائعًا من قبل ولكن بصفة رسمية،
١٥ وكانت اللاتينية لغة الأسر الحاكمة، بقيت كذلك حتى انقطاع أسرة
يوستنيانوس، فأما الأسر التي عقبتها فإنها كانت أسوية كأسرة طيباريوس وموريقيوس
وهرقل، ولذا رأينا البابا غريغوريوس العظيم (٥٩٠–٦٠٤) يتذمر لانعدام وجود التراجمة
الأكفاء الذي يجيدون اللاتينية في العاصمة البيزنطية.
١٦
ولنا في التشريع شاهدٌ آخرُ على صحة ما نقول؛ فإن يوستنيانوس الكبير الذي تكلم
اللاتينية واشترع بها، وجد نفسه مضطرًّا أن يأذن باستعمال اللغة اليونانية في بعض
القوانين التي أصدرها،
١٧ وأن يغض النظر عن ظهور بعض الشروح باليونانية، حتى إذا أقبل القرن
السابع أصبح التشريع كلُّه باللغة اليونانية فقط.
ونلمس التطوُّر نفسه في لغة الإدارة؛ فإن يوحنا ليدوس الذي عاصر يوستنيانوس يُفيد
أن ترقِّيه في سلك الوظائف المدنية يرجعُ الفضلُ فيه قبل كل شيء إلى إلمامه
باللاتينية هذه اللغة النادرة.
١٨
وتطورتْ أسماءُ الوظائف، فأصبح معظمُها في القرن السابع يونانيًّا، وما بقي منها
لاتينيًّا لَحِقَ به التحويرُ فاتخذ شكلًا يونانيًّا، وحتى عهد هرقل كانت اللاتينية
لغة الجيش الوحيدة، وكان معظمُ كبار الضباط يتكلمون اللاتينية وهم من أبناء
الولايات الأوروبية ويحملون أسماء لاتينية،
١٩ وأما في أيام هرقل؛ فإن رجال الجيش أصبح معظمهم آسيويين من أرمينية
وسائر الولايات الآسيوية وأصبحت لغة الجيش اليونانيةَ، وإذا كان الروم قد لبثوا
يرددون بعض العبارات اللاتينية حتى القرن العاشر؛ فإنهم قليلًا ما كانوا يفقهون
شيئًا مما يلفظون.
٢٠
تَزَايُد نُفُوذ الكنيسة
وتم اندحارُ الوثنية في القرن السادس، واكتمل انتصار النصرانية، ولكن النصارى
كانوا لا يزالون منقسمين شطرين رئيسين: أرثوذكسيين كاثوليكيين، ومونوفيسيين، وكان
هَمُّ الأباطرة الأكبر أن يوفقوا إلى إيجاد حلٍّ يجمع الشمل ويوحد الكلمة، فجاءَتْ
حُرُوب الفتح العربي فسلخت عن جسم الدولة كُلَّ من قال بالطبيعة الواحدة فأصبحت
الدولةُ البيزنطيةُ أرثوذكسيةً كاثوليكيةً موحدة، وأصبح الفسيلفس حُرًّا طلقًا يقول
بعقيدة يجمع عليها رعاياه، وينتحل نحلة دينية لا يختلف فيها من رعاياه اثنان، فيقسم
عند تقبله التاج من يد بطريرك العاصمة: «أنه سيكون ابن الكنيسة البار وخادمها
الأمين.» وأنه سيرعاها بعنايته ويدافع عنها جهده، ويحترم امتيازاتها وتقاليدها،
فيحرِّم كل ما تحرمه، ويؤيد كل ما أَقَرَتْهُ مجامعها.
٢١
وتزايد نُفُوذُ الكنيسة في الأوساط الشعبية، فبهرت عظمة طقوسها العقول، وحرَّك
وعظها الأفئدة والصدور، وتعلق الشعب برُهبانها وعقد على صلواتهم وتضرعاتهم الآمال
بالسعادة والنجاح، فأقبل الناس على الترهُّب زرافات زرافات، ورأوا في ارتداء الثوب
أفضل السبل إلى خلاص النفس، وتعددت الأديرة، فحَوَتْ منها العاصمةُ وحدها عددًا عظيمًا.
٢٢
وبسقوط الإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم في يد العرب، أصبح بطريرك القسطنطينية زعيم
الكنيسة الأوحد في الشرق، وكان بطريرك القسطنطينية قد أصبح بطريركًا مسكونيًّا منذ
السنة ٥٨٢ بقرار من مجمعٍ محليٍّ عقد في القسطنطينية للنظر في خصومة نشبت بين
غريغوريوس بطريرك أنطاكية وأستيريوس والي الشرق. وقد نشأ عن هذا القرار جدلٌ عنيفٌ
بين حامل هذا اللقب يوحنا الصوَّام وغريغوريوس الذيالوغوس بابا رومة،
٢٣ وبطبيعة الحال أيد الفسيلفس بطريرك عاصمته فبذرت بذور الشقاق والانفصال
بين فرعي الكنيسة الأم، وقضت ظروف — سبقت إليها الإشارة — بأن يهاجم ضباط الجيش
الإمبراطوري القصر الباباوي سنة ٦٣٩ وأن ينهبوا كُنُوزه، وفصل قسطنطين الثالث في
السنة ٦٥٩ كنيسة رابينة عن كنيسة رومة، وفي السنة ٦٥٣ أوقف إكسرخوس رابينة البابا
مرتينوس وأرسله إلى القسطنطينية، فتركت هذه الأعمال كلها أثرًا سيئًا في نفوس أبناء
رومة وغيرهم. ومما زاد في التباعد بين الفرعين الرئيسين للكنيسة الأم أن اللغة
اليونانية في رومة قَلَّ تداولها وتَفَهُّمُها بقدر ما قلَّ تداول اللاتينية
وتفهمها في القسطنطينية.
٢٤
وبرغم الاتفاق الذي ساد جو المجمع المسكوني السادس المنعقد في السنة ٦٨٠؛ فإن
شيئًا كثيرًا من الحذر وقلة الثقة بقي كامنًا في الصدور، ثم جاء المجمع البنثيكتي
في السنة ٦٩٢ فأكد مرة ثانية بأن يكون لكرسي القسطنطينية التقدم «أسوةً» بتقدم كرسي
رومة القديمة،
٢٥ فلم يكن ذلك مما ارتاحتْ إليه النفوسُ في رومة الارتياح كله.
وأدى تعاظُم أمر الرهبانية في الدولة إلى زيادةٍ كبيرةٍ في عدد الرهبان، وبالتالي
إلى نقصٍ في دخل الخزينة؛ لأن القانون أعفى الرهبان من دفع الضرائب، كما منع
جبايتها عن الأوقاف الدينية. وتوافرتْ ثروةُ الرهبانيات، فقوي نفوذها، وأصبحت
عنصرًا سياسيًّا هامًّا يتدخل في أحيان فيعرقل سير السياسة ويعقِّد مشاكلها، ومن
جراء الانسياق غير الواعي في موجة من التعبُّد الشديد؛ ساد النفوس ضربٌ من القدرية
الغاشمة أفضت بدورها إلى فُقدان النشاط والعزم والحزم وروح المبادرة، ولا سيما إزاء
الحوادث الكبرى.
٢٦