الفصل الثامن عشر
الآداب والعلوم والفن في القرن السابع
وهو أشد القرون عقمًا في تاريخ الفكر البيزنطي، ولعل السبب في ذلك هول الأخطار التي
أحدقت بالدولة وتتابُع الحروب الطاحنة التي استنفدت جهودها، فشغلت أبناءَها عن العمل
في
حقل الفكر والفن.
وأفضل ما تبقى من آثار هذا القرن في التاريخ والأدب شعر جاورجيوس البسيدي شماس كنيسة
الحكمة الإلهية في القسطنطينية، عاصر هذا الشماس هرقل ونظم في حروبه الفارسية وفي حصار
القسطنطينية سنة ٦٢٦ قصائد خاصة بقيت موضع إعجاب الروم زمنًا طويلًا، ورجال الاختصاص
يُجمعون اليوم على أن جرجس البسيدي أفضل من نظم عند الروم في المواضيع الزمنية غير الدينية.
١
وقد عاصر هرقل مؤرخٌ آخرُ هو يوحنا الأنطاكي، فكتب تاريخًا عامًّا منذ آدم حتى آخر
أيام فوقاس (٦١٠)، ويرى فريقٌ أن ما يُنسب إليه هو في الحقيقة نتاج قلم يوحنا ملالاس
الأنطاكي، على أنه قولٌ ضعيفٌ؛ لأن ملالاس كتب بوصفه أنطاكيًّا ينظر إلى تاريخ العالم
من نافذة أنطاكية دون سواها، أما يوحنا الذي نحن بصدده، فإنه ينظر إلى الحوادث العالمية
بوصفه رجلًا عالميًّا لا أنطاكيًّا فقط، وهو أشد حذقًا في تناول مراجعه وتقديرها من
يوحنا ملالاس، وفي عصر هرقل أيضًا نشأ إكليريكيٌّ مجهولٌ فدون خرونيقون الفصح Chronicon Paschale وذكر حوادث العالم أيضًا
منذ آدم حتى السنة ٦٢٩، ولهذا الخرونيقون أهميته؛ لأن صاحبه يذكر فيه مراجع زملائه
المؤرخين ويدوِّن بعض ما شاهد أو عاصر من الأحداث والأشياء.
والجدل العنيف الذي نشب في القرن السابع حول المشيئة الواحدة؛ نشَّط التأليف في هذا
القرن، على أن ما صُنِّف في تأييد القول بالمشيئة الواحدة قد أهمل ففقد بعد انتصار
القول بالمشيئتين. ولا سبيل إلى تعرف من كتب في المشيئة الواحدة إلا بطريق من كتبوا
يردُّون على هذا القول، وأشهر أصحاب الرد على القول بالمشيئة الواحدة مكسيموس المعترف،
وهو قسطنطينيُّ الموطن، شريفُ النسب، فيلسوفٌ ولاهوتيٌّ مرموقٌ، كان في أول أمره كاتب
سر لهرقل الفسيلفس، فلما قال الفسيلفس بالمشيئة الواحدة خرج مكسيموس من البلاط الملكي
واعتزل في دير في خريسوبولي «أسكي دار»، ثم صار رئيسًا لهذا الدير، ومن هنا التعبير
الغربي Maxime l’Abbé، وقد دافع عن القول بالمشيئتين
والفعلين، وكتب الكتب متأثرًا بمؤلفات أثناسيوس الكبير، وغريغوريوس النزيانزي
وغيرهما.
وكان عهد قسطنطين الثالث، فأمره أن يكف عن الخطابة والكتابة فأبى، فأمر الفسيلفس بقطع
لسانه ويده اليمنى، ثم نفاه إلى لازقة، فتُوُفي في المنفى في السنة ٦٦٢، وأُعلن في
القديسين، ولا يزال الأرثوذكسيون، حتى يومنا هذا، يرتلون: «لنمتدحنَّ حق الامتداح
مكسيموس العظيم، عاشق الثالوث، الذي حكم بصراحة للإيمان الإلهي بأن يمجد المسيح
بطبيعتين ومشيئتين وفعلين، ولنهتفنَّ قائلين: السلام عليك يا كاروز الإيمان.»
ويرى بعض رجال الاختصاص أن مكسيموس المعترف جمع في رسائله ومؤلفاته بين التصوف النظري
الذي وضعه ذيونيسيوس الآريوباغوسي وبين مشاكل الرهبانية العملية، فاستحق بذلك أن يدعى
مؤسس التصوف البيزنطي.
٢
واتصلت آراءُ مكسيموس بالغرب، فتأثر بها عددٌ من رجال اللاهوت، وفي طليعة هؤلاء
يوحنا الإريجيني
Johannes Scotus Eriugena من
أعيان القرن التاسع، وكان يوحنا هذا قد عشق مؤلفات ذيونيسيوس الآريوباغوسي فاعترف أنه
لولا مصنفات مكسيموس «الفيلسوف الإلهي الكلي الحكمة» لَمَا تمكن من فهم ذيونيسيوس.
٣
وعني صفرونيوس بطريرك المدينة المقدسة، الذي عانى متاعب حصارها من قِبَل العرب،
بأخبار القديسين، فكتب مطولًا في سيرة القديسين المصريين كيروس ويوحنا، فأتحفنا بفذلكات
مفيدة من جغرافية واجتماعية، ومما ينسب إليه أنه هذب صلاة الشكر المسائي: الأفشين «يا
نورًا بهيًّا.»
ومن أعيان هذا القرن أيضًا لاونديوس أسقف نيابوليس في قبرص، ألَّف في سير القديسين
ولا سيما سيرة يوحنا الرحوم بطريرك الإسكندرية، فأفادنا؛ لأنه اهتم في كتابته لناحيتي
الاقتصاد والاجتماع، ويختلف لاونديوس عن معظم من ألَّف في أخبار القديسين أنه كتب
متأثرًا باللهجة اليونانية الدارجة في عصره؛ إذ جعل هدفه إرشاد العامة قبل الخاصة.
٤
وممن اشتهر في هذا القرن أيضًا أندراوس الدمشقي الذي نشأ في دمشق وترعرع فيها، فعكف
منذ حداثته على العلم، ثم تقبل النذر في فلسطين، فصار كاتب ثيودوروس بطريرك المدينة
المقدسة، واشترك في أعمال المجمع المسكوني السادس الذي انعقد في عهد قسطنطين الألحى سنة
٦٨٠، ثم صار شماسًا للكنيسة العظمى، فرئيسًا لأساقفة أقريطش، وتُوُفي بين السنة ٧٢٠
والسنة ٧٢٣، أما أشهر آثاره فأناشيدُهُ الدينيةُ المعروفةُ بالقانون الكبير، ولعله أول
قانونٍ من نوعه، يشتمل على أهم حوادث الكتاب المقدس، ويتلى هذا القانون في الأسبوعين
الأول والأخير من الصوم الكبير.
وكان طبيعيًّا جدًّا أن تحول الحروب الطويلة التي نشبت في هذا القرن دون العناية
بإنشاء المباني الفخمة، ولكن القليل الباقي من آثار البناء التي ترجع إلى هذا القرن؛
يدل بوضوح على أن الأسس الفنية التي وضعت في عهد يوستنيانوس الكبير كانت ما تزال متبعة
في عهد هرقل وخلفائه. وتدل هذه الآثار نفسها على أن مدى تأثير الفن البيزنطي كان قد
تعدى حدود الإمبراطورية، فكتدرائية إيتشميازن الأرمنية التي رممت بين السنة ٦١١ والسنة
٦٢٨ تنطق بأثر الفن البيزنطي في أرمينية، وكذلك كنيسة قلعة عانة (٦٢٢) وبعض تصاوير
كنيسة القديسة مريم القديمة في رومة.
ويرى العلامة الفنان شارل ديل أن قبة الصخرة التي أنشأها الخليفةُ الأموي عبد الملك
بن مروان في بيت المقدس بين السنة ٦٨٧ والسنة ٦٩٠ بعد الميلاد، هي من حيث فنها نموذجٌ
مكمل للفن البيزنطي في القرن السابع، فشكلها المثمن الزوايا وقبتها ولا سيما تلبيس
جدرانها بالرخام وتزيينها بالفسيفساء المذهبة، جميع ذلك ينطق بأثر الفن البيزنطي، ويرى
هذا العلامةُ الرأيَ نفسه فيما يتعلَّق بالمسجد الأموي في دمشق، فيذكر أن الوليد، عندما
أراد أن يحوِّل كنيسة مار يوحنا المعمدان إلى جامع، استعان بزميله فسيلفس الروم فأرسل
له الصنَّاع لهذه الغاية، وأن الكنيسة هذه أصبحتْ بعد تحويلها تشبه من الجهة الفنية
بسيليقة بيزنطية ذات قبة، وأن الفسيفساء التي وشحت الجدران هي فسيفساء بيزنطية أيضًا.
٥