ظهور النصرانية وانتشارها
الرسل والتلاميذ والإخوة
تُوُفي السيد في السنة ٣٠ بعد الميلاد، وتابع أتباعُهُ الطقوسَ الإسرائيلية الشائعة آنئذٍ، فتعبدوا في هيكل سليمان، وتجمعوا في أَرْوِقَته، وكانوا جميعهم يهودًا من الطبقات الوضيعة تجمعوا من أورشليم ومن الجليل ومن سائر أنحاء فلسطين، وكان بعضُهُم من يهود البونط ومن قبدوقية ومصر وليبية والقيروان، وكان بينهم بعضُ اليهود العرب أيضًا، وكانوا يعقدون — من آنٍ إلى آخر — اجتماعاتٌ خاصةٌ تغمرُهُم فيها محبةٌ قويةٌ، ويتناولون في أثنائها طعامًا مشتركًا. وكانوا رُسُلًا وتلاميذَ بالنسبة لمعلمهم، وإخوة بالنسبة للمحبة المتبادلة بينهم. ولم يعتبروا أنفسهم في هذه المرحلة الأولى مذهبًا خاصًّا من مذاهب اليهود ولا كنيسة من كنائسهم. والكنيسة في عرف اليهود آنئذٍ جماعةٌ قليلةٌ من اليهود، يتعبدون مستقلين عن الجماعة الكبرى.
وجاء في الفَصْل الرابع من سفر أعمال الرسل أيضًا أنه كان لجمهور الذين آمنوا قلبٌ واحدٌ ونفسٌ واحدة، وأنه لم يكن أحدٌ يقول: إن شيئًا من أمواله له، بل كان عندهم كُلُّ شيء مشتركًا، وأنه لم يكن فيهم أحدٌ محتاجًا لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها ويأتون بأثمانِ المبيعات ويضعونها عند أَرْجُل الرسل، فكان يوزع على كل واحد كما يكون له احتياج.
اليهود
أنطاكية
بولس
وبدأ بولس عمله التبشيري بين يهود دمشق، فضجوا وطلبوا حبسه، ولكن إخوانه في النصرانية عاونوه على الفرار، فقضى ثلاث سنوات أو أكثر في البادية يتأمل رسالتَه الجديدة ويبشر العرب، ثم عاد إلى أورشليم يستغفر الرسل ويبشر في الأوساط اليهودية اليونانية، ولكن هؤلاء حاولوا قتله، فأشار عليه الرسلُ بوجوب الابتعاد والإقامة في طرسوس مسقط رأسه، وكانت الدعوة قد لقيتْ نجاحًا في أنطاكية — كما سبق أن أشرنا — فذهب كبير المسيحيين فيها برنابا إلى طرسوس، وجاء ببولس إلى أنطاكية، فتَعَاوَنَا في الخدمة (٤٢–٤٥ب.م).
وقام بولس بعد هذا برحلتين تبشيريتين الثانية والثالثة، وشملت الثانية (٥٠–٥٢ب.م) غلاطية وفيليبي وثيسالونيكية وأثينة وكورنثوس وإفسس وأنطاكية، وشملت الثالثة (٥٣–٥٨ب.م) إفسس وكورنثوس وبعض جُزُر الأرخبيل اليوناني وصور وعكة وقيصرية فلسطين فالقدس، وكان بولس يبشر اليهود أولًا فالوثنيين، فيلقى صعوبات واحدة لم تتغير: إما مقاومة عنيفة مِنْ بعض الأوساط المتمسكة، يهودية كانت أو وثنية، وإما تحريضًا مِنْ تُجَّار المواشي المعَدة للذبح في الهياكل أو من تجار الأصنام، ولكنه كان يتغلب عليها بشجاعته وصبره وإيمانه، وقدر له — في هذه الآونة — أن يكسب عددًا من الرجال والنساء الأطهار الذين عملوا معه بكل غيرة ونشاط، فكانوا له شبه أركان حرب يقومون بأهم الخدمات، وبين هؤلاء تيموثاوس ومرقس ولوقا الطبيب وليدية وبريسلة.
وأُثيرتْ قضية الاختتان مرة ثانية فعاد بولس إلى أورشليم في السنة ٥٨ بعد الميلاد، وما إن ظهر في الهيكل حتى ثار ثائر اليهود، فأمسكوا به وجروه إلى خارج الهيكل وحاولوا قتله، ولكن الجنود تدخلوا وسَاقُوه إلى الحبس، واتهمهُ اليهودُ بالتشويش والتفرقة بين الصفوف، فأبقاه الحاكم الرومانيُّ في السجن سنتين متتاليتين، وأَلَحَّ بولس بِأَنْ تُرفع قضيتُهُ إلى القيصر؛ لأنه يتمتع بحقوق المواطن الروماني، فكان له ذلك وأرسل إلى رومة في السنة ٦١ بعد الميلاد، فأوقف في بيت بحراسة الجُند، وبات ينتظر محاكمته أمام نيرون، ويرجح أنه قضى شهيدًا في السنة ٦٤ مع بطرس وغيره من ضحايا نيرون، ويعتقد البعض أنه لم يلقَ حتفه قبل السنة ٦٦. وجاء في التقليد أنه أطلق سراحه — بادئ ذي بدء — وأنه بشر في إسبانية وآسية قبل أن يقتل في رومة في السنة ٦٦. ولكنه قولٌ ضعيف.
يوحنا
وليس بين الرسل الآخرين مَن نعلم عنه شيئًا بقدر ما نعلم عن يوحنا، فإننا نجده حوالي السنة ٦٧ في إفسس محبوبًا محترمًا، ويبدأ دوميتيانوس اضطهاده فيقاسي يوحنا عذاب الزيت الحامي ويخلص بأعجوبة ليُنقل إلى جزيرة باتموس محكومًا عليه بالأشغال الشاقة فيكتب فيها رؤيا يوحنا، ثم يطلق سراحه في عهد نرفه فينتقل إلى إفسس مبشرًا بالمحبة مجددًا، مؤسسًا، مدونًا إنجيله في السنة ٩٠ بعد الميلاد.
مرقص وتوما وغيرهما
ومما حفظه لنا التقليدُ ودوَّنه القديسُ يوسيبيوس في تاريخه أن مرقس الإنجيلي أسس كنيسة الإسكندرية ولقي حتفه فيها، وذلك في السنة ٦٢ أو ٦٨ بعد الميلاد، ومما يُروى أيضًا أَنَّ القديس أندراوس أسس كنيسة القسطنطينية، وأن القديس توما بشر في فارس والهند وأسس كنيسة الرها. وعلى الرغم من اجتهاد صديقنا المرحوم إغناطيوس رحماني بطريرك السريان الكاثوليك؛ فإنه لا يمكننا القول معه إن كنيسة الرها أُسست في عهد السيد المسيح بناءً على طلب ملكها العربي أَبجر الخامس الذي اتصل بالسيد طالبًا الشفاء من مرض ألمَّ به. ومما جاء في التقليد أيضًا أن القديس كوارتوس أحد التلاميذ السبعين أسس كنيسة بيروت.
ولم ترق مباحثُ أفلاطون كثيرًا في عين اليونان ولم تعجبهم حكمةُ أرسطو، بل صبتْ عقولهم على نوع من الفلسفة يكسبهم هناء المعيشة وراحة البال، فنادى زينون الصوري بالفضيلة غايةً للحياة يستوي لديها الألم واللذة، وعلم أبيقوروس أن الخيرَ الأعظمَ هو اللذة، سواء أكانت عقليةً أَمْ جسدية شرط ألا تخرج عن دائرة الفضيلة. وشاعتْ قصة أَهميروس أن آلهة اليونان كانت في الأصل ملوكًا بشرًا أُلهوا بعد وفاتهم وصدق الناس هذه القصة، ففقدت الآلهة القديمة ما كان لها من الاحترام في عيون المتعبدين، ولم يكن محظورًا على أحد أن يصرح بما كان يُكِنُّهُ قلبه نحو الآلهة مهما كان اعتقادُهُ فيها.
وكان السوادُ الأعظمُ من الشعب اليوناني غير متعلم، وكان لا بد لهم من آلهة، فمالوا إلى تكريم الآلهة الشرقية، فاجتازت الديانة المسيحية من بلاد إلى بلاد في سهولة ويسر، ولم تتعرض الديانةُ الرومانيةُ القديمةُ لمسلك الشخص أو لسيرته الخاصة، ولم تَعِد العبادَ بالسعادة المستقبلة. وانشق المجتمع الروماني — كما سبق أن أشرنا — إلى طبقتين متباغضتين: طبقة المتمولين أصحاب الأراضي الفسيحة، وطبقة الأرقاء المستعبَدين والفقراء المساكين، وكثر عدد هؤلاء وساءت أحوالُهُم وثاروا وتمردوا، فجاءهم بولس الخيَّام الطرسوسي مناديًا بتعاليم سيده، معلنًا أُبُوَّة الله وأُخُوَّة البشر، مرددًا تعاليم السيد: «تعالوا إليَّ يا جميع المتعَبين.» فكان لكلامه أثرٌ بليغٌ وفعلٌ عظيمٌ في قلوب الرومانيين التُّعابى.
الدولة الرومانية والنصرانية
وكانت الدولة الرومانية قد بسطت سلطتها على جميع أنحاء حوض البحر المتوسط وربطت أجزاء إمبراطوريتها بشبكة واسعة من الطرقات وفرضت شرائعها ولغتها، فبلغ بذلك عالم البحر المتوسط درجةً من التوحيد لم يبلغها من قبل، وبهذا التوحيد سهلت رومة انتشار الدين الجديد. ولكن كبار الرومانيين لمسوا في تعاليم هذا الدين نفسه خطرًا يهدد سلامة الدولة، وتفصيل هذا أن اليونانيين والرومانيين لم يفرِّقوا بين الوطنية والدين، فالمواطن عندهم كان مواطنًا بقدر اشتراكه في التعبُّد لإله المدينة، وباتساع أُفُق المدينة السياسي اتسع كذلك أُفُق دينها.
فلما تمَّ لرومة بَسْطُ سلطانها في حوض البحر المتوسط، اعتبر رجالها إلهتهم رومة إلهة الإمبراطورية بأسرها، وبهر أوغوسطوس رعايا رومة في الشرق بقوته وتدبيره وعظمته، فرأوا في شخصه مخلِّصًا إلهيًّا يمنع الحروب ويُوَطِّد السلم، وهو ما تنص به جملة نقوش في نواحي متعددة من آسية الصغرى ترقى إلى القرن الأول قبل الميلاد.
الاضطهاد
وفي عهد نيرون (٥٤–٦٨ب.م) اتهم المسيحيون بإحراق رومة سنة ٦٤، فكان ما كان مِنْ شَتَّى ألوان العذاب، واستشهد الرسولان بطرس وبولس. ويرى بعضهم أن بولس قضى حوالي السنة ٦٧. وفي أيام دوميتيانوس (٨١–٩٦ب.م) على إثر ثورة اليهود حلَّ بالمسيحيين دورٌ آخرُ من العذاب؛ فاستشهد في رومة عددٌ من الأشراف لأول مرة، وذاق يوحنا الإنجيلي آلام الحرق بالزيت الحامي، ونُفي إلى جزيرة باتموس، واستشهد تيموثاوس في آسيا الصغرى، وألقي القبض على أقارب السيد في فلسطين ثم أُطلق سراحهم، وجاء دور تريانوس (٩٨–١١٧) فلقي أسقف أورشليم القديس سمعان حتفه مصلوبًا (١٠٧)، وقضى أسقف أنطاكية إغناطيوس الشهير في رومة في السنة نفسها، وأُعدم كثيرون في بيثينية ومقدونية، وكتب طيباريوس حاكم فلسطين إلى الإمبراطور يقول: إن المسيحيين في أنطاكية ازدحموا مستميتين في سبيل الرب، وفي عهد أنطونينوس (١٣٨–١٦١)، في السنة ١٥٥ استُشهد بوليكاربوس أسقف أزمير ومرقس أسقف أورشليم، وقضى في رومة حوالي السنة ١٦٥ القديس يوستينوس النابلسي الفيلسوف المعلم، وذلك في عهد مرقس أوريليوس.
واستشهد في أيام هذا الإمبراطور نفسه أيضًا بوبليوس أسقف أثينة، وحكم على كثيرين بالعمل الشاق في المناجم، واهتم سبتيموس سويروس (١٩٣–٢١١) لانتشار النصرانية في مصر، فملأ السجون بالنصارى ودفع ببعضهم إلى الجلادين في الإسكندرية، وببعضٍ إلى الحيوانات المفترسة في مدرج قرطاجة، ولكن خلفاءَه أباطرة السلالة السورية اللبنانية لم يَقْتَفُوا أثره في شيء من هذا، بل قام أحدُهُم سويروس ألكسندروس يحاول إنشاء هيكل لعبادة المسيح في رومة، وجاء فيليبوس العربي (٢٤٤–٢٤٩) يلاطف ويهادن، فحمل ذلك خلفه داسيوس (٢٤٩–٢٥١) أن يُكره جميع السكان في المدن والأرياف أن يمثلوا أمام رجال السلطة في وقت محدد ليقدموا الذبيحة لشخص الإمبراطور، فارتد عن الدين الجديد عددٌ من الأغنياء والوجهاء واستُشهد في سبيله عددٌ كبيرٌ من المؤمنين، وبين هؤلاء أوريجانيوس اللاهوتي الفيلسوف الذي سُجن في قيصرية فلسطين وعذب فيها ومات من جراحه في صور (٢٥٤)، وألكسندروس أسقف أورشليم، وبابيلاس أسقف أنطاكية، ونسطوريوس أسقف مجدُّو.
ولاحق الإمبراطور فاليريانوس (٢٥٣–٢٦٠) الزعماء المسيحيين والكهنة، فأمر هؤلاء في السنة ٢٥٧ أن يقدموا الذبيحة للآلهة الوثنية وحرَّم على المسيحيين الاجتماعَ في المقابر ومحلات العبادة، وأكد أنهم إن فعلوا أُعدموا إعدامًا، فدُهم القديس ترسيسيوس وجماعة من المؤمنين وهم يصلون في سرداب سلارية، فماتوا خنقًا. واستشهد سيكستوس أسقف رومة وكبريانوس أسقف قرطاجة، واستشهد في فلسطين الإخوة الثلاثة، وفي قبدوقية الطفل كيريلوس، وفي الإسكندرية عددٌ كبيرٌ من المؤمنين.
وأعظمُ الاضطهادات وأَفْظَعُها ما جاء منها على يد ديوقليتيانوس الإمبراطور (٢٨٤–٣٠٥ب.م) ويَصْعُبُ القولُ في حقيقة أسبابها، فلم يكن لهذا الإمبراطور شيءٌ مِن شُذُوذ نيرون أو دوميتيانوس، ولا كان ظنونًا ولا قاسيًا ولا متدينًا أو داعيًا لدين جديد كأورليانوس. وقد انقضى على حُكمه عشر سنوات قبل أن بدأ بالاضطهاد، وليس لدينا من النصوص ما نستطيع معه أن نتوسع في الاجتهاد مطمئنين، ولكن هنالك أمران لا بد من الإشارة إليها؛ أولهما: أن ديوقليتيانوس الإمبراطور أراد أن يعيد إلى الإمبراطورية وحدتها ومناعتها. والثاني: أنه كان يعاني الصعاب في وقف البرابرة عند الحدود، وفي كبت عدوه ملك ملوك الساسان، ولعله رأى في انتشار النصرانية عاملَ تفكُّك في الداخل، وخطرًا على سلامة الدولة؛ وخصوصًا لأن النصرانية كانت قد دخلت فارس وأن المانوية كانت تمتُّ إليها بِصِلَة قوية.
ولم يكن بإمكان ديوقليتيانوس أن يبيد جميع المسيحيين ويقطع دابرهم؛ لأنه لو فعل لَجعل مناطق ومناطق في الشرق قفرًا من السكان، فآثر — فيما يظهر — تدمير الكنيسة وإخفاء معالمها وتحقير المؤمنين والهبوط بهم إلى أسفل الطبقات. وهكذا، نراه في الرابع والعشرين من شباط سنة ٣٠٣ يأمر بمنع الاجتماعات المسيحية، وبتخريب الكنائس، وحرق الكتب، وبنُكْرَان الدين المسيحي، مُوعدًا الأشراف المسيحيين والوجوه والأعيان بالخَلع والإذلال، مهددًا الوضعاء بالعبودية المؤبدة.
ثم عاد في السنة نفسها فأمر بسجن الكهنة وبإعدامهم إن هُمْ أَبَوا أن يشتركوا في الذبيحة الوثنية. وزاد فأمر بوجوب نُكران الدين الجديد، فكانت مذابح ومذابح لم ينجُ منها إلا الأقاليم الغربية التي كانت آنئذٍ في عُهدة قسطنس والد قسطنطين الكبير، ويقال إن الفضل في ذلك يعود إلى زوجته الأولى هيلانة التي كانت قد تقبلت النصرانية قبل زواجها منه.
ويقول القديس سيبيوس المعاصر: إن الرءوس بُترت في العربية «البادية المتاخمة للشام»، وإن السيقان قطعت في قبدوقية، وإن المؤمنين عُلِّقوا على الأخشاب بين نهرين وأشعلت تحتهم النيران. ومما يقوله أيضًا: إن عُمَّال ديوقليتيانوس قطعوا الأنوف والآذان والألسُن وغرزوا القصب تحت الأظافر ودَقُّوا الحديد في البطون.
والثابتُ الراهنُ في عُرف البشر أجمعين أن الاضطهاد يُقَوِّي النفوس ويشدد العزائم، فيُثير في المؤمن صاحب العقيدة شعورَ التحدي، ويحمله على التفنُّن في أساليب الوقاية والدعاية، ويزوده بمُثُل عُليا يُفاخر بها ويَسعى لتحقيقها، وليس أبلغ أثرًا في تفتير الحماسة الدينية وتحويل الغيرة على الدين إلى تنازُع على المراكز وإحداث الشقاق؛ من تكريس الدين سياسيًّا وجعله دينًا رسميًّا.
النظام والتنظيم
وفي أغلب الأحيان نجد أساقفة الكنائس التي كانت مبعث الحركة في عهد الرسل يتقدمون على غيرهم مِن أساقفة الولاية أو الولايات المحيطة بهم، شأن أساقفة رومة في إيطالية، وأساقفة قرطاجة في أفريقية الشمالية، وأساقفة الإسكندرية في مصر وليبية والحبشة، وأساقفة أنطاكية في سوريا ولبنان وفلسطين وغيرها، وأساقفة كورونثوس في اليونان وما جاورها. أما في آسية الصغرى فإن كثرةَ الكنائس التي فاخرت بشرف الانتساب إلى الرُّسُل قد حالتْ دون تَزَعُّم كنيسة واحدة على جميع الكنائس.
وقدَّس المسيحيون في عهدهم الأول السبت لا الأحد، ولم يصبح الأحدُ يومَ الرب قبل القرن الثاني، وكانوا يَشتركون جميعًا في عشاء واحد مرة في الأسبوع أو أكثر، فيستمعون لقراءة الأسفار وينتهون بعد العشاء بقبلة المحبة «الأغَبة». وكان على المؤمن أن يمتنع عن التقبيل إذا شعر باللذة، وكان على المؤمنات أن يسترن شعورهن بِغِطَاءٍ أو أن يقصصن شعورهن إذا استثقلن الغطاء. وكانوا إذا اجتمعوا للصلاة استمعوا لقراءة الأسفار للعظة الأسبوعية، واشتركوا في ممارسة الأسرار وتنبئوا — رجالًا ونساءً — وكان للكاهن أو أحد المتقدمين بينهم يفسر هذه النبوءات على ضوء الدين والخلاص.
وقبيل انتهاء القرن الثاني اتخذت العبادة المسيحية شكلًا منظمًا، مع ما في ذلك القراءات والصلوات والذبيحة الإلهية، وبقي هذا النظام معمولًا به على سبيل العُرف حتى صَاغَهُ القديس باسيليوس الكبير (٣٢٩–٣٧٩) والقديس يوحنا الذهبي الفم (٣٤٧–٤٠٧)، فتبلور وأخذ شكله الحالي، وثمة خدمة خاصة بيومي الأربعاء والجمعة في أثناء الصوم يعود الفضل في إعدادها إلى القديس غريغوريوس الذيالوغوس (٣٤٠–٤٠٠)، ونجد المسيحيين الأولين يقولون بالأسرار الثلاثة: المعمودية والتناول والكهنوت، فالسبعة: المعمودية والمسحة والتناول والتوبة والكهنوت والزيجة والزيت المقدس، وعني المسيحيون الأولون بالموتى لأنهم قالوا بقيامة الجسد، فمارسوا طقوسًا معينة لهذه الغاية، وتولى الإكليروس الدفن بإشراف منهم.
ولا يختلف اثنان — فيما نعلم — أن المسيحيين الأولين كانوا مثال التقوى والصلاح، وأن الإيمان بالمسيح، وبقرب عودته ليدين الأحياء والأموات كان أعمق أثرًا في نفوس أهل ذلك العصر من الإيمان بالآلهة القديمة، وأن الرسل بلغوا النجاح حيث أخفق كبارُ الفلاسفة. ومما يَجدر ذِكْرُهُ بهذه المناسبة أن الآباء المؤسسين حرَّموا الإجهاض وقَتْل الأطفال، وأنهم لموا اللقطاء وعمَّدوهم باسم الرب وربوهم على نفقة الكنيسة، وأنهم حضوا المؤمنين على العفة والبتولية وأساغوا الزواج لمن خشي العنت فقط. وأنهم لم يرضوا عن زواج الأرامل ولم يأذنوا بالطلاق إلا بين الوثني والنصرانية.
ومما يُثبت استقامة المسيحيين الأولين وصلاحهم شهادات الوثنيين أنفسهم: فبلينيوس الأصغر وجد نفسه مضطرًّا أن يقول للإمبراطور تريانوس: إن المسيحيين عاشوا عيشة مثلية مسالمة، وقال غاليانوس العالم: إنهم توصلوا إلى درجة من ضبط النفس وسمو الأخلاق أصبحوا بعدها لا يقلون عن الفلاسفة الحقيقيين في شيء، وأدى الشعور بينهم بالخطيئة وبقرب انتهاء العالم ومجيء الديان؛ إلى رغبة في الطهارة وإلى اجتناب كل لذة من لذات الجسد، فكبحوا شهواتهم بالصوم ورياضة الجسم على العذاب، وصدفوا عن الموسيقى والمآكل الشهية والحمامات الساخنة، وأرسلوا الشعور واللِّحَى.
آثار المسيحيين الأولين
وحدَّث السيد ولم يدِّون، وآثر المسيحيون الأولون السماع على القراءة، ولا عجب، بيد أن ظروف التبشير قضت بالتدوين، فالمؤمنون تفرقوا منذ السنين الأولى وتباعدوا، واليونانيون وغيرهم ممن دخل في الدين الجديد لم يكونوا يفهمون الآرامية؛ فكان لا بد من التدوين، وأقدم ما دوِّن إنجيل متى، والإنجيل لفظ يوناني معناه البشرى، ومتى عشَّار يهوديٌّ تبع السيد وأصبح أحد الرسل الاثني عشر، ويستدل من أقوال بعض الآباء كإيريناوس ولا سيما بابياس (١٣٠) أن متى تولى تبشير اليهود، فكتب إنجيله لهم بالآرامية، وذلك بينما كان بطرس وبولس يعملان في رومة (٥٠–٥٥)، وفي تضاعيف هذا الإنجيل ما يدل على أنه كتب لليهود، فهناك سند طويل يصل نسب السيد بداود الملك، وثمة تفاصيل تجعل من سيرة السيد تكملة لنبوءات التوراة وما إلى ذلك، وقد ضاع الأصل الآرامي وبقيت ترجمته إلى اليونانية.
وكان بطرس يجهل اليونانية ولا يعرف سوى الآرامية، فلما قضت الظروفُ بذهابه إلى رومة وبإقامته فيها، استدعى إليه يوحنا الذي كان يدعي مرقس ليترجم له بين الرومانيين وسكان رومة، ومرقس هذا هو — في الأرجح — ابن مريم التي آوتِ المسيحيين في بيتها في القدس في السنة ٤٤ بعد الميلاد، وقد يكونُ هو الذي أُشير إليه في الإصحاح الخامس عشر من إنجيل مرقس: «وتبعه شابٌّ لابسًا إزارًا على عريه فأمسكه الشبان، فترك الإزار وهرب منهم عريان.»
وكان مرقس من يهود قبرص يتكلم اليونانية ويقرأ ويكتب فالتحق ببرنابا وبولس، وبعد وفاة الأول انتقل إلى رومة ليعمل مع هامة الرسل، ودوَّن سيرة السيد بطلبٍ من أهل رومة بين السنة ٥٥ والسنة ٦٠ وذلك كما سمعها من فم بطرس بدون زيادة ولا نقصان، ويقول القديس بابياس إن مرقس كتب جميع ما تذكَّره، ولكن ليس بالترتيب الذي اتبعه السيد في أعماله وأقواله، فبطرس الرسول تكلم بحسب ما دعت إليه الحاجة ودونما تقيد بتسلسل الأحداث.
وفي السنة ٦٤ بعد الميلاد ساد الأوساطَ المسيحيةَ الموجهة شعورٌ بالحاجة إلى سيرة مرتبة منظمة، مكتوبة بلغةٍ واضحةٍ مضبوطةٍ، وبأسلوب رائق جذاب، يستهوي العقول، وينشط الهمم، وكان بينهم رجلٌ عالمٌ وُلِدَ في أنطاكية، ونشأ فيها، وتعلَّم الطب وعمل به، فأشاروا عليه بالأمر، فاطلع على ما كتبه مَتَّى ومرقس، وسمع وتحرَّى، ولعله اتصل بالسيدة نفسها وأخذ عنها، وكان قد رافق بولس في رحلاته وفهم منه أشياءَ وأشياء، فجاء إنجليه تاريخًا رسميًّا، وأثرًا أدبيًّا، هو لُوقا الطبيب الذي أشار إليه بولس في رسائله مرارًا، وكان قد جاء رومة بصحبة معلمه فرأى هذا أن توجه الكلمة إلى الأوساط العالية في رومة وأن تحبب إليها، فظهر هذا الإنجيل بحلته القشيبة بين السنة ٦٤ والسنة ٧٠ بعد الميلاد.
ومن هنا — في الأرجح — قول القديس إيريناوس: إن إنجيل لوقا هو إنجيل بولس، ويرى رجالُ الاختصاص علاقةً وثيقة بين هذا الإنجيل وبين سفر أعمال الرسل من حيث جوهر الرسالة واللغة والأسلوب، فينسبون سفر الأعمال أيضًا إلى لوقا الطبيب، ولما كانت أخباره تنتهي عند السنة ٦٣ إلى ٦٤ فإنهم يرون أنه كتب في هذا الوقت نفسه.
ومن آثار هؤلاء المسيحيين الأولين رسائل بولس الرسول إلى أهل رومية وكورنثوس وغلاطية وإفسس وفيليبِّي وكولوسي وثيسالونيكية، ثم رسائله إلى تيموثاوس وتيطس وفيليمون، وجميعها دوِّن ما بين السنة ٥٢ والسنة ٦٦ بعد الميلاد، وفيها الشيء الكثير من شرح رسالة السيد وتفصيل العقيدة، فأما الرسالة إلى العبرانيين فقد تكون له وقد لا تكون، ومن هذه الآثار التي تركها المسيحيون الأولون رسالة يعقوب أخي الرب وأسقف أورشليم، وهي تصور شدة إيمانه وسمو أخلاقه، ورسالتا بطرس الأولى والثانية، ورسائل يوحنا الرسول الثلاث، ورسالة يهوذا.
ويُجمِع علماء الكنيسة بفرعيها الرئيسيين الأرثوذكسي والكاثوليكي على أن الإنجيل الرابع هو ليوحنا الحبيب، ويرون في دِقَّة المعلومات الجغرافية التي وردتْ في هذا الإنجيل عن القدس وفلسطين كما يرون في شدة العاطفة التي تضمنها نحو شخص السيد؛ ما يؤيد التقليد الموروث أن كاتب هذا الإنجيل وسفر الرؤيا هو يوحنا الحبيب نفسه، كتب سفر الرؤيا في أثناء إقامته الجبرية في جزيرة باتموس بين السنة ٩٢ والسنة ٩٦، وكتب الإنجيل بعد انتقاله إلى إفسس بين السنة ٩٦ والسنة ١٠٤، وكان يوحنا قد أشرف على نهاية عمر طويل، وسَمِعَ انتقاداتِ الفلاسفة، ولمس بعض الشذوذ في العقيدة، فجاءت كتابتُهُ فلسفية مسيحية دوَّن فيها ذكريات شخصية صدر فيها عن حبٍّ خالصٍ للسيد. وما زالت عباراتُهُ المملوءة حبًّا وعطفًا تهز القارئ حتى يومنا هذا، «وهو أيضًا الذي اتكأ على صدر السيد وقت العشاء وقال: يا سيد من هو الذي يسلمك؟» وهو أيضًا ذاك الذي قال عنه يسوع مخاطبًا بطرس: «إن كنت أشاء أنه يبقى حتى أجيء فماذا بك؟»