الفصل الحادي والعشرون
العلم والأدب والفن في القرنين الثامن والتاسع
إحياءُ الجامعة
وقد يكون برداس — أخو ثيودورة وخال ميخائيل الثالث — وصوليًّا في السياسة طامعًا
في الحكم، ولكنه كان — دون ريب — ذكيًّا مفكرًا، محبًّا للعلم والأدب والفن، حاميًا
لها مشجعًا عليها، وإليه يعود الفضل والشرف في إحياء الجامعة في القسطنطينية،
والعودة إلى العلوم العالية — النصرانية منها والوثنية — فإنه استدعى إلى القصر
أَعْلَمَ علماء زمانه، وجمعهم في مدرسة عالية «الماغورة» وعهد برئاستها إلى فخر
ثيسالونيكية لاوون الرياضي الطبيب الفيلسوف،
١ وكان بين أساتذتها فوطيوس البطريرك وقسطنطين رسول الصقالبة وقد سبقت
الإشارةُ إليهما، وكانا يدرِّسان اللغة والفلسفة، وعلَّم غيرهما الهندسة والفلك،
واشتد عطفُ برداس على الجامعة فتردد إليها واحتك بأساتذتها وطلابها، وحَضَّهُم على
السير في سبيل العلم والفكر.
ولم يرضَ بعض رجال الدين عن هذه العناية بالعلوم القديمة؛ لأنها صدرت عن
الوثنيين، فاتهموا لاوون بالسحر وأذاعوا ضده المناشير، وأكدوا أنه سيرافق سقراط
وأفلاطون وأرسطو في جهنم، ولكن برداس مضى في عمله العلمي غير مبالٍ بهذا كله، فنفخ
في عاصمة الروم روحًا علميةً مباركةً مهدت السبيل لوثبة القرن العاشر، وخلَّدَت
ذكرى الأسرة العمورية في تاريخ الحضارة إلى ما شاء الله.
نادي فوطيوس
وجعل فوطيوس (البطريرك فيما بعدُ) بيته ناديًا أدبيًّا علميًّا، ودعا إليه
أصدقاءَه الأدباء والعلماء للمطالعة والبحث، وجمع إليه عددًا كبيرًا من المؤلفات
المسيحية والوثنية، ونزولًا عند طلب أصدقائه هؤلاء دوَّن خُلاصة ما كان يقرأ في
النادي من المؤلفات فصنف بذلك كتابه البيبليوتيكه
Bibliotheca أو الميريوبيبلون
Myriobiblon — كما تسمى أحيانًا — ومعناه: «ألوف الكتب»، فحفظ
لنا بمجموعته هذه أشياء وأشياء من مؤلفات فُقدت فيما بعد، فنَجِد في مجموعته كلامًا
مفيدًا من أقوال رجال اللغة والخطباء والمؤرخين وعلماء الطبيعة والأطباء والآباء
المجامع، وصنف فوطيوس كثيرًا في اللاهوت واللغو وخلَّف مواعظَ عديدةً ورسائلَ كثيرةً.
٢
دير الأستوديون
وعاد ثيودوروس الراهب من منفاه، فأقام في دير أستوديون في العاصمة ورَمَّمَه
وأصلحه، ثم هَبَّ لإصلاح الرهبنة فقدَّم الحياة المشتركة الكينوبيوس
Koinos bios على الاعتزال الفردي وأوجب تهذيب
الرهبان، ففرض القراءة والكتابة، ونسخ المخطوطات، ودرس الأسفار المقدسة، ومؤلفات
الآباء، ونظم الترانيم وترتيلها، ونظم هو — بالاشتراك مع أخيه يوسف رئيس أساقفة
ثيسالونيكية — معظم كتاب التريوذيون الخشوعي، وكتب في أُصُول الإيمان كتابَي
الكتاكيزموس الكبير والصغير، فلقيا رواجًا كبيرًا. وله رسائلُ عديدةٌ في الدفاع عن
الأيقونات وفي الناموس والاجتماع، وتُوُفي في الحادي عشر من تشرين الثاني سنة ٨٢٦
وتلاميذه حوله يرتلون المزمور «طوبى للذين»، وتناول هو الأسرار وأخذ يرتل هذا
المزمور، فلما بلغ إلى القول: «إلى الدهر لا أنسى حقوقك؛ لأنك بها أحييتني.» أسلم
الروح وله من العمر سبعٌ وستون سنة.
٣
يوحنا الدمشقي (٦٧٦–٧٦٠)
«كوكب الكنيسة ومعلمها، ومقاوم الأعداء يوحنا الحكيم المتأله اللب.» وُلد يوحنا
من أبوَين غنيَّين تقيَّين في دمشق، وافتدى أبوه راهبًا اسمه قوزما كان قد وقع
أسيرًا في يد المسلمين في إيطالية، وكان قوزما الراهب على شطرٍ وافرٍ من العلم
فعُني بتعليم يوحنا وتثقيفه، وخلف يوحنا أباه وجده في إدارة المال في عهد
الأُمويين، وما فتئ مشرفًا عليها حتى خلافة هشام (٧٢٤–٧٤٣). ثم اعتزل الإدارة وتقبل
النذر في دير القديس سابا في فلسطين، وتُوُفي فيه حوالي السنة ٧٦٠، وكانت حرب
الأيقونات فأثرت في نفس يوحنا، فاجتهد في أمر الأيقونات وكتب ورحل في سبيل ذلك حتى
القسطنطينية، فعرفه الآباء وقَدَّرُوا مواهبه، فأطلقوا عليه لقب خريسورواس ومعناه
دَفَّاق الذهب، وخريسورواس عندهم نهر بردى بلد يوحنا.
٤
وأفضل الآثار التي خلفها هذا العالم الحكيم وكوكب الكنيسة ومعلمها؛ هو مؤلَّفُهُ
«ينبوع المعرفة»، وهو سفر جليل عرض به يوحنا العقيدة المسيحية عرضًا منطقيًّا على
طريقة أرسطو معتمدًا في ذلك على مقررات المجامع وأقوال الآباء منذ المجمع المسكوني
الأول حتى يومه، فوضع بيد مُحِبي الأيقونات سلاحًا قاطعًا لم يكن لديهم مِن قبل،
وأصبح مؤلفه — فيما بعد — مرجعَ الآباء الأرثوذكسيين والكاثوليكيين في علم اللاهوت،
وهو دونما ريب الينبوعُ الأكبرُ الذي استقى منه ونسج على منواله توما الإكويني
عندما وضع في القرن الثالث عشر مؤلَّفه الشهير في اللاهوت
Summa
Theologiae. ونظم يوحنا التراتيل الروحية ولَحَّنَها، ولا سيما
ما يُرَتَّل منها يوم عيد الفصح، وجاءَت هذه التراتيل أَعْمَقَ وأقوى من منظومات
رومانوس البيروتي الذي سبقت الإشارة إليه.
٥
ومما يُنسب إلى القديس يوحنا الدمشقي قصة برلام الزاهد ويوصافات الأمير الهندي
التي راجتْ كثيرًا في العُصُور الوُسطى، وبرغم أَنَّ العالم الإفرنسي زوتنبرغ قد
نفى علاقتها بيوحنا الدمشقي،
٦ وبرغم أَنَّ كثيرًا من المؤرخين قد تقبلوا استنتاجاته؛ فإن بعض العلماء
المحدثين لا يزالون يرغبون في إسنادها إلى يوحنا نفسه،
٧ ومن المحتمل أن يكون راهبٌ آخرُ من رهبان دير القديس سابا يحمل اسم
يوحنا أيضًا هو الذي نقل هذه القصة.
٨
ثيوفانس المعترف (٧٤٨–٨١٨)
ولد في القسطنطينية من والدين تقيين عريقين في الشرف؛ فوالدُهُ إسحاق كان واليًا
على جزر الأرخبيل ووالدته ثيودورة كانت أيضًا شريفة من شريفات القسطنطينية، وتُوُفي
والده وهو لا يزال في الثالثة من عمره، فأشرفت والدتُهُ البارة على تربيته واستعانت
بأحد العلماء الأتقياء على تهذيبه وإرشاده، ثم أكرهه الفسيلفس على الزواج من ابنة
لاوون أحد كبار الموظفين في القصر، فأرشد عروسته إلى الصلاة والتأملات الروحية وطلب
إليها أن يعيش معها كشقيق لها لا كزوج، فقبلت. وبعد وفاة الفسيلفس وحميه لاوون أطلق
هو وزوجته عبيدهما ووزعا أكثر ما يَمْلِكَان على الفقراء، وفي السنة ٧٨٠ تقبل كلٌّ
منهما النذر وافترقا ليلتقيا في الحياة الأبدية.
وانعقد المجمع المسكوني السابع فدعي ثيوفانس للاشتراك في أعماله فلبى، ثم حاول
لاوون الخامس اجتذابه إليه فما استطاع، ورد عليه ثيوفانس موجبًا تكريم الأيقونات،
فاشتعل لاوون غيظًا وأنفذ إلى الدير السغرياني مَنْ ألقى القبض على الراهب البار
وقيده بالسلاسل، ثم أدخله لاوون السجن وأمر بتعذيبه، وبعد سنتين نفاه إلى جزيرة
قفر، فتُوُفي فيها بعد وصوله إليها بثلاثة أسابيع. وأول من عني بتدوين سيرة هذا
الرجل البار هو ثيوذوروس الأستوديتي.
وأنفع ما خلَّفه ثيوفانس خرونيقونه الشهير، بدأه من عهد الإمبراطور ديوقليتيانوس
ووقف به عند نهاية حُكم الفسيلفس ميخائيل الأول (٢٨٤–٨١٣)، وخرونيقون ثيوفانس هذا
مفيدٌ جدًّا؛ لأنه يحفظ لنا بعضَ ما ورد في مصنفات فُقدت مِن بعده، ولأنه أَسْهَبَ
فيما دوَّن عن حرب الأيقونات. وقد نقل أنسطاسيوس قيِّم مكتبة الفاتيكان هذا
الخرونيقون إلى اللاتينية في النصف الثاني من القرن التاسع، فزاد في فائدته؛ إذ
اعتمد عليه عددٌ كبيرٌ مِنْ مُؤَرِّخِي العُصُور الوسطى في الغرب.
٩
نيقيفوروس المعترف (٧٥٨–٨٢٨)
ولد في القسطنطينية، وأبوه هو ثيوذوروس كاتم أسرار الفسيلفس قسطنطين الزبلي
«الخامس» وأمه هي إفذوكسية. احتمل الاضطهاد الشديد في حرب الأيقونات، وتُوُفي
ثيوذوروس في المنفى، فعادت إفذوكسية بولدها نيقيفوروس إلى القسطنطينية، وعُنيت
بتربيته وتعليمه، وكان نيقيفوروس ذكيًّا جدًّا فبرع في «العلوم البشرية» وقد أظهر
ما دلَّ على حُسن شمائله وخصاله، فأحبه عظماء العاصمة، وأمرت إيرينة الوصية بترقيته
إلى الوظيفة نفسها التي شغلها والده، وهكذا أصبح كاتمًا لأسرار المملكة، وحينما رأت
والدته إفذوكسية أنه لم يعد بحاجة إلى مساعدتها أهملت كل شيء وانفردت في دير
الراهبات.
وسعى نيقيفوروس إلى عقد المجمع المسكوني السابع سنة ٧٨٧ وحضره بشخصه من قِبَل
الفسيلفس؛ لكي يشرف على حفظ النظام والترتيب، ثم اعتزل العمل في البلاط، وأهمل كل
شيء وانفرد في البوسفوروس بالقرب من القسطنطينية وعمَّر ديرًا وضمَّ إليه طائفةً من
الرهبان. وكان إذا أكمل واجباته الرهبانية انصرف إلى العلوم التي برع فيها، وفرغ
الكرسي البطريركي في العاصمة بوفاة طراسيوس في السنة ٨٠٦ فدعا الفسيلفس نيقيفوروس
سميَّه نيقيفوروس إليه وحثه على قبول الرتبة البطريركية ولكن نيقيفوروس اعتذر وتوسل
إلى الفسيلفس أن يعفيه؛ لأنه كان لا يزال علمانيًّا، ولأنه غير كفؤٍ لهذه المنزلة
الجليلة، ولكن الفسيلفس أصرَّ على رأيه وما لبث حتى انتصر على إرادة سميِّه.
وتبوأ نيقيفوروس العرش البطريركي المسكوني في منتصف السنة ٨٠٦، ثم هَبَّ «ينقي
حقل الرب من زوان الأراسيس والضلالات والغلطات والبدع، ولا سيما هرطقة محاربي
الأيقونات.» واتجه بعد ذلك إلى تهذيب الإكليروس ملزمًا كلًّا منهم بالسلوك في
الحدود التي ترسمها له القوانين، وفي السنة ٨١٣ حينما استولى لاوون الأرمني على تخت
الملك؛ عاد فضيَّق على من قال بإكرام الأيقونات فسجن نيقيفوروس، ثم نفاه فتُوُفي في
المنفى في السنة ٨٢٨.
١٠
وألف نيقيفوروس كُتُبًا في الرد على مُحَارِبِي الأيقونات، وأَشْهَر آثاره في هذا
الموضوع «دحض ما هذر فيه مأمون»، والإشارةُ هنا إلى قسطنطين الخامس،
١١ وكتب أيضًا في التاريخ، فأَرَّخَ الفترة التي امتدت من أيام موريقيوس
في السنة ٦٠٢ إلى السنة ٧٦٩، فأَجَادَ، وحفظ لنا أشياءَ وأشياءَ عن السياسة وعن
الكنيسة في تلك الحقبة، والتشابُهُ بين تاريخه وبين خرونيقون ثيوفانس يعود إلى
أَنَّ الكاتبَين كليهما أَخَذَا في بعض الأحيان عن مرجع واحد.
١٢
جرجس الراهب
وقد صنَّف خرونيقونًا كالمعتاد، فابتدأ بالخلق وسقوط آدم، ووقف عند انتصار
الأيقونات في السنة ٨٤٢، ومصنفه هذا هامٌّ جدًّا؛ لأنه المرجع الوحيد لتاريخ الروم
بين السنة ٨١٣ والسنة ٨٤٢، ولأنه يُبين — بوضوحٍ — مشاغل زملائه الرهبان، وما
اهتموا به في الرهبانية، وفي حَرْبِ الأيقونات، وفي انتشار الإسلام،
١٣ واعتمد المتأخرون مِن مُؤَرِّخِي الروم هذا الخرونيقون في ترتيب
الحوادث العالمية وتصنيفها، كما أن مؤرخي الروس الأولين رجعوا إليه وأَفَادُوا
منه.
كاسية الشاعرة
ولَمَّا أَهمل ثيوفيلوس الفسيلفس كاسية في عرض الجميلات — كما سبق أن أشرنا —
اتجهتْ أنظارُها نحو جمال النفس والروح، ثم عزفت عن الدنيا عزوفًا تامًّا، فأسست
ديرًا والتجأتْ إليه متعبدةً، وعُنيت في أثناء عزلتها بالتراتيل الروحية، فنظمت
فيها ما خلَّد ذكرها، وقد كرَّس المؤرخُ الألماني كرومباخر شيئًا من وقته لدراسة
شعرها، فألفاها امرأةً فَذَّةً، جمعت حساسية المرأة، إلى شدة تَدَيُّن، إلى صراحةٍ نادرة.
١٤
الفكر اليوناني والأوساط العربية الإسلامية
وأدرك العرب المسلمون تَفَوُّقَ الروم في الفكر والحضارة؛ فقد جاء في مقدمة ابن
خلدون أن أبا جعفر المنصور بعث إلى ملك الروم يطلب كتبًا يونانيةً، وأن الملك أجابه
إلى طلبه، فأرسل إليه كتبًا من بينها كتاب إقليدس،
١٥ وترجم أبو يحيى بن البطريق كُتُب جالينوس وأبقراط، وفي عهد الرشيد نقل
يحيى بن ماسويه بعضَ الكتب الطبية إلى العربية، ولكن هذا النقل بَلَغَ أقصاهُ فِي
عَهْدِ الخليفةِ المأمون، فإنه كان من أنصار المعتزلة الذين عَزَّزُوا العقل
وتهافتوا على الفكر وآثاره.
وراسل المأمونُ زميله لاوون الأرمني وطلب إليه أن يأذن لبعثة إسلامية بالحصول على
بعض المصنفات اليونانية في الفلسفة والهندسة والطب، فأجابه لاوون إلى ذلك، فأتت
القسطنطينيةَ بعثةٌ ثقافيةٌ عباسيةٌ، كان أعضاؤها الحجاج بن قطر، وابن البطريق،
وصاحب بيت الحكمة، وعاد هؤلاء بكنوزٍ ثمينةٍ إلى بغداد، فأشرف قسطا بن لوقا على ترجمتها،
١٦ ولَمَّا ترامى إلى المأمون نبأ لاوون الرياضي راسله يستدعيه إلى بلاطه
وأغراه بالعطاء، ولكن ثيوفيلوس الفسيلفس علم بهذه الدعوة في حينها، فأبقى لاوون في
القسطنطينية وعَيَّنَه مدرِّسًا في إحدى الكنائس. ثم عاد المأمون يرجو ثيوفيلوس أن
يسمح بأن يزوره لاوون مدة قصيرة، «وذكر في رسالته أنه يعد قبول هذا الطلب عملًا
وديًّا وأنه يعرض لقاء ذلك ألف قطعة من الذهب وعقد صلح دائم، غير أن ثيوفيلوس رفض
واعتبر علم لاوون واختراعاته سرًّا لا ينبغي أن يطلع عليه المسلمون.»
١٧ وأحب الواثق بالله أن يستقصي أخبار أهل الكهف، فأرسل أحد العلماء
المسلمين إلى إفسس لمشاهدة كهوفها، وهي التي كانت تحفظ جثث الشبان السبعة الذين
استشهدوا في أيام ديوقليتيانوس، وأذن ميخائيل الثالث بذلك وأوفد مع العالم المسلم
دليلًا يرشده.
١٨
الجدل بين النصارى والمسلمين
ومن ظواهر الفكر في القرنين الثامن والتاسع التحاجُّ الديني الذي حصل بين بعض
العلماء الأرثوذكسيين الكاثوليكيين وبين بعض علماء المسلمين، وكان الداعي لهذا
الجدل أَنَّ الخلفاء كانوا إذا تَسَنَّمُوا عرشَ الخلافة يوجهون إلى الملوك
المعاصرين كتبًا يدعونهم فيها إلى الدخول في الإسلام، فلم يكن بدٌّ من الرد على هذه
الكتب، ومن أسباب هذا الجدل أيضًا أن خطر التحول عن المسيحية تزايد بتقدُّم العرب
في جميع نواحي حياتهم، فكان من الضروري أن تُنَظَّمَ مناعة في العقيدة للمسيحيين في
الثغور، وفي جميع الأقطار الشامية، وفي مصر أيضًا.
وكان سُكَّان هذه الأقطار من الأرثوذكسيين الكاثوليكيين وهم لا يزالون يستعملون
اللغة اليونانية في أرض الإسلام، في زمن يوحنا الدمشقي أيام الأُمويين، وفي زمن أبي قرة
في أوائل العهد العباسي، فجاءَتْ تآليفُ هؤلاء في الجدل باليونانية، ولكن أبا قرة في
ميماره بدأ استعمال العربية وكتب بها أبو كاليبس بحيرة الحوار بين
عبد المسيح الكندي وبين عبد الله الهاشمي.
أَمَّا يوحنا الدمشقي فإنه ناقش بعض الآيات القرآنية وانتقد وحي القرآن وعادات
المسلمين في العبادات والأخلاق، ورفض أبو قرة بعثة محمد رسولًا وجادل فكرة الخلق
المستمر ونصيب الله في أعمال المخلوقات، واعتبرها أقوالًا يجرُّ إليها الدخول في
الإسلام.
ومما قاله أبو قرة: إنه إذا قيل بخلق المسيح لزم أن يكون الله قد بقي زمنًا دون
كلمة وروح، وبالتالي لزم أن يكون القرآن الذي هو كلمة الله مخلوقًا، وظهرت رسالة
بحيرة الراهب في عهد المأمون، ثم كان هجومٌ إسلاميٌّ قويٌّ على إثر ما فعله ميخائيل
الثالث؛ إذ أرسل مقالتين احتج في إحداها بمبدأ السببية، فرفض المسلمون فكرة وجود
ابن لله مشارك له في الخلود وفي الصفات.
وظهرت رسالةٌ للجاحظ مَالَ فيها صاحبُها إلى تأييد سياسة المتوكل الشديدة نحو أهل
الذمة، وعرض أبو القاسم بن إبراهيم البلخي لفكرة البنوَّة، وألف أبو عيسى الوراق
كتابًا ضخمًا نقد فيه عقائدَ النصارى بمذاهبهم الثلاثة.
١٩
الفن
ويرى بعضُ رجال الاختصاص أن محاربي الأيقونات قضوا بتعصبهم على روائعَ فنيةٍ،
فحرموا بذلك الفن والعلم فائدةَ التَّلَذُّذ والانتفاع بهذه الروائع،
٢٠ ويرى غيرُهُم أَنَّ النزاعَ حول الأيقونات وتحطيمها نَفَخَ في الفن
البيزنطي رُوحًا جديدةً مستمدةً من الفن الهليني القديم ومن الفن الفارسي، كما يرون
أَنَّ تحريمَ تصويرِ المسيح والعذراء والقديسين؛ لم يشمل تصويرَ البشر العاديين،
فانطلقتْ يدُ الفنانين وغَدَتْ واقعيةً بتأثير المُثُل الهلينية الباقية. ومما يرى
هؤلاء أيضًا أن الفن البيزنطي اتجه في هذه الحقبة — نتيجةً لحرب الأيقونات —
اتجاهًا زمنيًّا واضحًا مستلهمًا الطبيعة والحياة اليومية العادية.
٢١
ومؤسف أن يكون معظمُ آثار هذه الفترة قد اندثر وسواءٌ منه ما كان دينيًّا أو
زمنيًّا، وقد يكون بعض الفسيفساء في كنائس ثيسالونيكية «سلانيك» من آثار هذه الحقبة
وقد لا يكون، وقُل القول نفسه عن بعض التصاوير المحفورة في العاج وهي التي
يُقَدِّرُ فريقٌ من الباحثين أنها تَرْقَى إلى عصر حرب الأيقونات. وثمة كُتُبٌ
دينيةٌ مزينةٌ ببعض الصور قد تكون من آثار هذه الحقبة نفسها، وأشهرُها مخطوطة
الخلودوف المحفوظة في موسكو.
٢٢