باسيليوس الأول (٨٦٧–٨٨٦)
وكان باسيليوس طويل القامة مفتول العضل جميل الطلعة، جنديًّا شجاعًا وفارسًا
مغوارًا، ومما يروى عنه أنه كان أَقْدَرَ أهل زمانه في ترويض الخيل وتذليلها، وأنه
استرعى نظر ميخائيل الثالث حينما ذَلَّلَ مُهرًا جامحًا له بسهولة فائقة، وكان قد
سبق له أن قهر جبارًا بلغاريًّا فرماه عن ظهر جواده إلى الأرض في حفلة أقامها ابن
برداس خال ميخائيل الثالث،
٣ فأحبه الفسيلفس وجعله أمير إخوره
Protostrator، وكان ذكيًّا نشيطًا قديرًا،
ولكنه كان طموحًا، فما إن أصبح عالمًا بأحوال البلاط وبالنزاع بين ثيودورة وابنها
ميخائيل الثالث وأخيها برداس، حتى بدأ يترقب الفُرص لينتفع منها، فأَيد برداس ضد
أخته ثيودورة ليذكي النفور في البلاط ويجرد القيصر من ذويه. وأَيد ارتقاء فوطيوس
العرش البطريركي؛ ليؤجج الغيظ ضد البلاط في صدور أعوان إغناطيوس وليبعد عن الفسيلفس
كاتم أسرارٍ اشتهر بعقله وفضله وحسن إدارته، ثم بعد ارتقاء فوطيوس أخذ يحرك حزب
إغناطيوس ليزيد النفور والغيظ، وبعد أن أصبح رئيس القصر في السنة
٨٦٥ وسوس لسيمباتيوس صهر برداس لابنته أن الفسيلفس عزم على أن يرقيه إلى رُتبة معاون
له وأن برداس منعه، فغضب سيمباتيوس من
حميه، وبالاتفاق مع باسيليوس وشى للفسيلفس أن برداس عازمٌ على قتله، فأمر ميخائيل
الفسيلفس برداس أن يجمع جيشًا ليتوجه به إلى أقريطش لمحاربة العرب.
وفي صباح الثاني والعشرين من نيسان سنة ٨٦٦ جاءَ برداس إلى خيمة الفسيلفس لابسًا
حلته الرسمية؛ ليستأذنه بإخراج الجيش إلى الجزيرة، فَلَاقَاهُ ستة أشخاص من الذين
تعلموا في مدرسته، وفي مقدمتهم صهره سيمباسيوس وباسيليوس المقدوني، فرسم صهره
الصليب إشارةً للهجوم عليه، وللحال طعنه باسيليوس بضربة قاتلة سقط على إثرها مضرجًا
بدمائه، ثم انكب الباقون عليه وأكملوا ذبحه أمام الفسيلفس، ورجع الفسيلفس ميخائيل
الثالث إلى العاصمة وتبنى باسيليوس وجعله وَلِيَّ عهده، وأقامه فسيلفسًا معاونًا،
وتوجَّه في يوم العنصرة في السابع والعشرين من أيار بيد البطريرك فوطيوس، وكان
ميخائيل لا يزال طائشًا وكان باسيليوس أدرى الناس به لقربه منه، ولكونه قد تزوج من
خليلته إفذوكية إنغرينة، فأدرك أَنَّ عطف الفسيلفس قد بدأ يتحول عنه، فهجم عليه
وقتله في قصره في الرابع والعشرين مِنْ أيلول سنة ٨٦٧، ثم طلب إلى البطريرك أن
يمسحه فسيلفسًا، ففعل لرضاء الشعب عنه.
٤
وعلى الرغم من هذا كله فإن جمهرة من المؤرخين يرون في باسيليوس — على ضوء ما تمَّ
على يده — بعد أن انفرد بالحكم، رجلًا إداريًّا قادرًا، وسياسيًّا داهيةً، مفطورًا
على السُّلطة والحكم، راغبًا في إعادة النظام، طامحًا إلى إعلاء شأن الإمبراطورية
وإعادة مجدها.
٥
باسيليوس والعرب والأرمن
وكانت الدولة لا تزال في سِلْمٍ مع البلغار، وكانت علاقتُها ودية مع البندقية ومع
خليفة كارلوس الكبير في إيطالية، وكانت الدولة العباسية قد دخلت في طور ضعف
وانحلالٍ اشتدَّ فيه نُفُوذُ الأتراك، وعَلَتْ أصواتُ الجواري أمهات الأمراء، وثار
العلويون مطالبين بالعرش، ونفر العرب من بني العباس، فتصرف طاهر بن الحسين وخلفاؤه
في النفوس لمصلحتهم في خراسان، واستقل حسن بن زيد الديلم في طبرستان وجرجان، ثم
تغلب الصفَّارية في سجستان وغيرها وأرادوا مهاجة بغداد (٨٧٤)، واستطاع أفَّاقٌ أن
يصبح سيد البصرة وأن يمد سلطانه إلى أبواب بغداد، وسلخ أحمد بن طولون التركي مصر
والشام وأخذ يجمع الضرائب لحساب نفسه (٨٧٧)، واكتفتْ بغدادُ بتحريض بعض أُمراء
الشام عليه، ثم اعترفتْ دمشقُ بسلطة خمارويه بن أحمد بن طولون، فقضى على الأحزاب
المُعادية في الشام (٨٨٩) واتخذ دمشقَ قاعدةً لملكه.
وأراد باسيليوس الأول أن يستغل هذا الظرف لصالحه وصالح شعبه، فقام يحارب على طول
الجبهة الإسلامية من شاطئ قيليقية حتى أرمينية وطرابزون، ونجح في دفع المسلمين إلى
الوراء في حروبٍ متتاليةٍ بين السنة ٨٧١ والسنة ٨٨٢، فاحتل الممرات الرئيسية عبر
طوروس، وقاتل البولسيين بين سبسطية على الهاليس وملاطية على الفرات، ودخل عاصمتهم
تفريقية عَنْوَةً في السنة ٨٧٢ فدمرها تدميرًا وذبح خريسوخيروس صاحبها وعرض رأسه في
موكب النصر في القسطنطينية، وفي السنة ٨٧٣ احتل زبطرة وسميساط.
ومع أنه لم يستولِ على ملاطية فإنه قطعها عن دولة العباسيين باحتلاله ما حواليها،
وعند السنة ٨٧٧ كان قد احتل لؤلؤة وجميع ما وقع بين قيصرية ومرعش وأصبح سيد جبال
طوروس بسلسلتيها وممراتها.
٦
وسرَّه أن الخليفة المعتمد اعترف في السنة ٨٨٥ بدولة أرمينية مستقلة بزعامة آشوت
بغرتوني،
٧ فأسرع يعترف هو بدوره بالملك الجديد مقدمًا له تاجًا مخاطبًا إياه
بالعبارة «الابن الحبيب»، مؤكدًا أن أرمينية ستظل أَعَزَّ حُلفاء الإمبراطورية،
ولكنه في الوقت نفسه بَقِيَ على اتصال وثيق بأمراء الابساك والكرج؛ كي لا يستفحل
أمرُ آشوت الملك الجديد.
٨
وأدرك الفسيلفس الجديد خُطُورةَ الموقف في البحر المتوسط وفي الغرب، فإن السيادة
على هذا البحر كانت قد استقرتْ في يد المسلمين، وكان هؤلاء قد استقروا في صقلية وفي
باري وتارنتوم، وكانوا يُغيرون من هذه القواعد على سواحل الأدرياتيك الشرقية وسواحل
إيطالية الجنوبية فيُرعبون سكانها ويعرقلون تجارتها، وما فتئوا حتى ظهروا أمام روما
نفسها، وكان قد تبين جليًّا أن أمراء سلرنو وكابوة وبنفنتوم اللومبارديين لا يقوون
على الصمود في وجه العرب المسلمين؛ لانقسامهم على أنفسهم انقسامًا لا وحدة بعده،
وأن الإمبراطور الغربي لويس الثاني كان قد أصبح ضعيفًا.
وكان قد أمَّ القسطنطينية وَفْدان، أحدُهُما يمثل هذا الإمبراطور والثاني يمثل
البابا؛ ليَحُثَّا الفسيلفس الجديد على صيانة النصرانية في الغرب ودَفْع خطر
المسلمين عنها، فهبَّ باسيليوس لمعونة إخوانه في النصرانية وأنفذ في السنة ٨٦٨ مائة
بارجة حربية بقيادة نيقيطاس أوريغاس إلى الأدرياتيك، وقُدِّر النجاح لهذا القائد
البحري فَفَكَّ حصار راغوسة، ثم تَعَاوَنَ مع البنادقة فأعاد النظام والسِّلْم إلى
بحر الأدرياتيك، وعادت مدن دلماتية إلى حوزة الفسيلفس، واعترفت دويلات الصرب
والكروات بسيادة القسطنطينية.
٩
وأدى اندفاع باسيليوس الأول في درء الخطر الإسلامي إلى تقرُّبٍ من البابا
وتعاوُنٍ مع الإمبراطور لويس الثاني، وبفضل هذا التعاون تَمَكَّنَ لويس الثاني من
الاستحواذ على باري في السنة ٨٧١، وبعد وفاته أخذ باسيليوس الأُمُور على عاتقه،
فاحتل باري في السنة ٨٧٦ وأَبْقَى فيها حاميةً
بيزنطيةً وقائدًا إمبراطوريًّا، وفي السنة ٨٨٠ دخل ترنتوم عنوةً، ولكنه لم يتمكن من
فرض سلطته على صقلية.
وسقطت سرقوسة في يد العرب المسلمين في السنة ٨٧٨، وكان في أثناء هذا كله نصر
السوري يجول جولات موفقة في مياه إيطالية الغربية، فيضرب بوارج المسلمين ضرباتٍ
أليمة، وما فتئ حتى أحرز نصرًا كبيرًا بالقُرب من جزائر ليباري، فدخلت كابوة وسلرنو
ونابولي وبنافنتوم في حماية الروم ودخل البابا يوحنا الثامن في حلفٍ مع
الفسيلفس.
وجاءَت السنة ٨٨٥ فأحرز القائد نيقيفوروس فوقاس انتصاراتٍ بريةً عديدةً،
تَمَكَّنَ بها من استعادة أمانتة وتروبة وسانتا رفرينة من يد المسلمين كما أخضع
جميع ما وقع بين كوسنزة وبرنديزي، فأنشأ في السنة ٨٨٦ ثيمة لانغوبردية وثيمة
كلابرية.
واعترف عددٌ كبيرٌ من الأمراء اللومبارديين بسلطة الروم، وأصبح الفسيلفس باسيليوس
الأول «صاحب الشوكة المعظم» في جميع أنحاء إيطالية الجنوبية، وأنشأت الكنيسة
الأرثوذكسية عددًا لا يستهان به من الأبرشيات في هذه المنطقة عينها.
١٠
باسيليوس والكنيسة
وقضت هذه المطامع السياسية الإيطالية عينها بوجوب التفاهُم بين رئاسة الكنيسة في
الغرب وبين الرئاسة في الشرق، ومما زاد في رغبة باسيليوس في إزالة الانشقاق في
الكنيسة، أَنَّ أنصار إغناطيوس، مناظر فوطيوس، كانوا لا يزالون كثرًا في
القسطنطينية وما جاورها، وأن باسيليوس كان يكره فوطيوس ويخشى نُفُوذَه في الأوساط
العلمية والعالية.
وهكذا، فإننا نرى باسيليوس يخلع فوطيوس عن العرش البطريركي المسكوني في الثالث
والعشرين مِن تِشْرين الثاني سنة ٧٦٧، ويُعيد إليه إغناطيوس نفسه ويطلب إلى البابا
أَنْ يُعيد توحيدَ الصفوف وأَنْ يُرسل إلى القسطنطينية مَنْ يمثله في مجمع مسكوني
يعقد لهذه الغاية،
١١ ووافق البابا أدريانوس الثاني (٨٦٧–٨٧٢) وأرسل رُسُله إلى القسطنطينية،
فوصلوا إليها في السنة ٨٦٨، واستُقبلوا فيها بحفاوةٍ فائقة.
وفي الخامس من تشرين الأول سنة ٨٦٩، التأم مائة أسقف في مجمعٍ عدَّ مسكونيًّا
وروقب مراقبة شديدة من قبل الفسيلفس، فطلب أعضاؤُهُ فوطيوس للمثول أمامهم، ففعل،
فطُلب إليه أن يجيب عما وُجِّهَ إليه مِنَ انتقادٍ فرفض بعزة وأنفة وكبر، فقُطع هو
وجميعُ أتباعِهِ وكُسرت قرارات بطريركيته، وفرض رسل البابا الطاعة على الشرقيين.
١٢
ولم يدم هذا الانتصار إلا قليلًا، ففي غد اليوم نفسه الذي انتهت فيه أعمال هذا
المجمع (٢٨ شباط ٨٧٠) تقدم بوغوريس ملك البلغار بطلبٍ إلى المجمع؛ يرجو فيه البَتَّ
فيما إذا كانت الكنيسةُ البلغاريةُ تابعةً لرومة أو للقسطنطينية، فعقد أعضاء المجمع
اجتماعًا خاصًّا لهذه الغاية، ووجد رسل رومة أن باسيليوس وإغناطيوس لم يكونا أقل
تمسكًا بالكنيسة البلغارية وبوجوب دوام خضوعها لكرسي القسطنطينينة من برداس
وفوطيوس، وعلى الرغم من احتجاج رسل البابا، فإن باسيليوس أقر خضوع الكنيسة
البلغارية لسلطة البطريرك المسكوني، وأسرع إغناطيوس فسام عليها رئيس أساقفة
يونانيًّا يعاونُهُ عشرةُ أساقفة يونانيين أيضًا، واضطر الكهنة الرومانيون
ورؤساؤُهُم أن يغادروا بلغاريا.
ولدى وفاة إغناطيوس البطريرك المسكوني في السنة ٨٧٧ طلب باسيليوس إلى فوطيوس أن
يخلفه، وكان فوطيوس قد نجا من المنفى وعاد إلى القسطنطينية؛ ليهذب أولاد الفسيلفس،
وفي السنة ٨٧٩ عاد الفسيلفس فطلب إلى حليفه في السياسة البابا يوحنا الثامن
(٨٧٢–٨٨٢) أن يشترك في مجمع مسكوني يُعقد في القسطنطينية للنظر في قضية فوطيوس
البطريرك، فأوفد يوحنا الثامن من مثَّله في هذا المجمع، والتأم لهذه الغاية واحدٌ
وثمانون رئيس أساقفة «متروبولبيت» ومئتان وسبعون أسقفًا.
واحتج فوطيوس احتجاجًا شديدًا على قرارات المجمع السابق، فوافق المجمع الجديد على
براءة فوطيوس مما نسب إليه، وكسر قرارات مجمع السنة ٨٦٩-٨٧٠، وأعلن فوطيوس رئيسًا
للكنيسة الشرقية، واعتبره ممثلو البابا «صاحب قداسة»، وفي يوم عيد الميلاد من السنة
٨٧٩ قدم فوطيوس الذبيحة الإلهية يعاونُهُ جميعُ أعضاء المجمع، وأصدر المجمع قوانين
ثلاثة أهمها: أن البطريرك فوطيوس يحرم من يحرمه البابا يوحنا من رجال إكليروسه أو
أبناء رعيته المقيمين في آسية أو أوروبة أو أفريقيا، وأن البابا يوحنا يقابله
بالمثل، وأن «التقدُّم» الذي للكنيسة الرومانية يبقى على حاله بلا إحداثٍ ولا
تغييرٍ إن في الحاضر أو المستقبل، وعقدت الجلسة السادسة قبل الأخيرة في الثالث من
آذار سنة ٨٨٠ في البلاط لا في آجيا صوفيا، وحضرها
الفسيلفس وأولادُهُ، ونصح الفسيلفس أن يكتب دستور إيمان عام، فأجاب نائب بطريرك
أنطاكية «أن دستور الإيمان في كل المسكونة هو هو لا يتغير والمجمع الحاضر يصدق
عليه.» ثم قال نواب رومة: إنه يجب أن لا يسنَّ قانون جديد بل إن يصدق على دستور
الإيمان القديم النيقاوي، فأمر البطريرك فوطيوس رئيس الكتاب الشماس بطرس أن يقرأ
اعتراف الإيمان، ففعل.
وكان يُقال فيما مضى: إن رومة لم تعترف بقرارات هذا المجمع المسكوني الثامن، وإن
البابا يوحنا الثامن — لَدَى اطلاعه على قرارات هذا المجمع المسكوني الثامن — أرسل
مارينوس سفيرًا إلى القسطنطينية؛ ليقنع الفسيلفس والبطريرك بوجوب تعديل بعض قرارات
هذا المجمع وإنه أَخفق في هذا، فصعد على الآمبن وفي يده الإنجيل ونادى: «كل من لا
يعتبر فوطيوس المفروز بحكمٍ إلهيٍّ كما تركه الباباوان نيقولاووس وأدريانوس
القديسان ليكن أناثيما؛ أي مفروزًا»، وإن الفسيلفس غضب فألقاه ثلاثين يومًا في السجن،
١٣ ولكن جمهرة العلماء اليوم — وبينهم الكاثوليكيون أمثال دوفورنك
وغرومِّل — يرون أن هذا كله كان ضربًا من الدعاوى الإغناطيوسية التي اختُلقت
اختلاقًا في أيام البابا فورموسيوس (٨٩١–٨٩٦) وأن كل ما نعلمه عن علاقات فوطيوس
بالبابا يوحنا الثامن يكذب هذه الدعاوى تكذيبًا،
١٤ وأنه لم يقم بين خلفاء البابا يوحنا الثامن وحتى انتهاء بطريركية
فوطيوس الثانية في أيام لاوون السادس؛ مَنْ قطع علاقاته مع هذا البطريرك العالم
التقي العظيم.
١٥
سياسة باسيليوس الداخلية
وكان باسيليوس يَشعر بالواجب الملقَى على عاتق الفسيلفس، فيراه يقضي بالعدل
والاستقامة والمحبة والرأفة والإحسان،
١٦ ولذا فإنه سعى سعيًا حثيثًا لرفع شأن العرش بعظمة البناء وكثرة البذخ
والفخفخة وبحسن الإدارة، وقال بوُجُوب السهر لرفع الظلم فجلس على منصة الحكم يُصغي
للتظلُّم من الحُكَّام ورجال الإدارة، وأعلن نفسه حاميًا للفقراء والوُضَعاء
والتُّعَساء، وجعل بمقدور رعاياه أَنْ يَتَثَبَّتُوا من صحة الضرائب المفروضة
عليهم، وعُنِيَ عناية فائقة بانتقاء الموظفين وحَضِّهِم على العدل وعلى سياسة
الرعايا بأياد طاهرة غير ملوثة،
١٧ وبذل وسعه للحد من جشع أصحاب الأملاك الكبيرة ولتقليم أظافر هؤلاء
الذين «طمعوا بما ليس لهم.»
ثم رغب في توضيح القوانين والشرائع وتدقيقها،
١٨ فأمر بوجوب «تطهير» الشرائع القديمة منذ عهد يوستنيانوس، وجعلها
تتلاءَم وتطوُّرات المجتمع، وأمر أيضًا بنقلها إلى اليونانية، وكان يَهدف مِن وراء
هذا — فيما يظهر — إلى إلغاء التشريع الإسوري، إلى «إسقاط هذه الإكلوغة الهدَّامة
وإبطال أحكامها الرديئة»،
١٩ وعيَّن لجنة لهذه الغاية، ولا يستبعد أبدًا أن تكون هذه اللجنة قد عملت
بإشراف فوطيوس البطريرك المسكوني، فظهر في السنة ٨٧٩ البروخيرون في أربعين فصلًا
وفيه أفضل ما جاء في مجموعة يوستنيانوس الكبيرة
Corpus Juris
Civilis، وبانت في السنة ٨٨٦ الإباناغوغوة
Epanagogè في أربعين فصلًا خلاصة وافية في أيدي القضاة
والطلاب والأساتذة.
وكان باسيليوس قد طلَّق زوجته الأولى ماريا في السنة ٨٦٥ وتزوج من إفذوكية خليلة
ميخائيل الثالث، فلما رقي باسيليوس العرش سَرَتْ إشاعةٌ في العاصمة أن لاوون بن
باسيليوس الأكبر من زوجته إفذوكية هو ابن ميخائيل لا باسيليوس، وعلم الفسيلفس بذلك
في حينه، ودبرت عدة مؤامرات لاغتياله، فرأى من المناسب أَنْ يوطد سلطته بتبيان أصل
العائلة المالكة وحقها بالملك، ففعل، وأطلق على كل عضو من أعضاء عائلته اللقب
Porphyrogenetes؛ أي الذي أبصر النور
بالأرجوان، فَنَشَأَ عن هذا إخلاصٌ واحترامٌ ووفاءٌ للأسرة المالكة أهابت
بالمغتصبين أنفسهم إلى احترام مَنْ بيده السلطة الشرعية وإلى التدليل بشرعية
اغتصابهم، وأصبح شَقُّ عصا الطاعة — بحد ذاته — جُرمًا وجَهلًا في نظر الشعب، وساد
الاعتقاد أن من بيده الحق في الملك يغلب في النهاية،
وتمكن النسوة — من جراء هذا كله — من الجلوس على
العرش والتحكُّم في مقدرات الشعب، وهي ظاهرةٌ اجتماعيةٌ سياسيةٌ لا أثر لها في
الغرب المعاصر.
٢٠
لاوون السادس (٨٨٦–٩١٢)
وتُوُفي باسيليوس من جراء جرح أصابه في أثناء الصيد في التاسع والعشرين من آب سنة
٨٨٦، وكان قد أوصى بالملك لولديه لاوون وإسكندر، وكانا قد أشركا في الحكم في عهد
والدهما، واستأثر لاوون بالسلطة ولم يُعَارِضْه في ذلك أخوه إسكندر؛ لأنه كان خفيفَ
العقل طائشًا، فاستصبى واستهتر.
ولم يكن لاوون رجل حرب كوالده؛ لأن صحته لم تكن تساعده على ذلك، فلازم القصر
واهتم بآداب المُعاشرة والتشريفات، وحارب في أكثر الأحيان بالمنظار من قصره بعيدًا
عن ساحات الوغى، ولم يكن والدُهُ ذا علمٍ فأحب أن يتلقن أولاده علوم العصر، فوكل
أمر تهذيب لاوون إلى فوطيوس البطريرك، فنشأ لاوون محيطًا بجميع علوم عصره، فادعى
المنطق والفلسفة واللاهوت والقضاء والتكتيك في الحرب والشعر والسحر والتنبؤ وفاخر
بها جميعًا، وأثرتْ هذه الإحاطةُ في أَوْسَاطِ العاصمة فلقب بالحكيم، وكان متعبدًا
متدينًا يَعِظُ المؤمنين في الأعياد ويُجالس الرهبان ورِجال الدين، ولا سيما معلم
ذمته أفثيميوس، وأوصى في قوانينه الصادرة عنه بدرجة من المحافظة على الأخلاق لم يصل
هو نفسه إليها.
٢١
لاوون والكنيسة
وكان قد وشي لباسيليوس بابنه لاوون؛ بأنه ينوي قتله، فسجنه وعزم على قلع عينيه،
ولكن فوطيوس البطريرك توسط في أمره وخلصه من الخطر. ولدى ارتقاء لاوون العرش دسَّ
أعداء فوطيوس الوساوس للفسيلفس الجديد وأقنعوه أن الواشي به لأبيه كان ثيوذوروس
الساحر، وأشركوا مع هذا بالتهمة فوطيوس نفسه، فعزل لاوون فوطيوس؛ إما لأنه صدَّق
الوشاية، أو لأنه أحب أن يُجلس أخاه إسطفانوس بطريركًا أو للأمرين معًا، ونفاه في
أواخر السنة ٨٨٦، وحبس ثيوذوروس وجلده، ورقى أخاه السنكلس إسطفانوس كرسي
البطريركية.
وتُوُفي فوطيوس في السادس من شباط سنة ٨٩١، ولا يزال الدير، الذي أقامه في جزيرة
خالكي بالقرب من القسطنطينية على اسم الثالوث المقدس، وقد أصبح مدرسة إكليريكية
عالية، يحتفل بتذكاره في السادس من شباط حتى يومنا هذا، كما لا تزال الكنيسة
الأرثوذكسية تَعتبره قديسًا عظيمًا مساويًا للرسل.
وتُوُفي البطريرك إسطفانوس أخو لاوون في السنة ٨٩٣ وقام بعده البطريرك أنطونيوس
الملقب بكاولياس
Cauleas أحد رهبان أوليمبوس، وكان
رجلًا فاضلًا أيضًا، فحاول بإخلاص إصلاحَ العلاقات بين أتباع فوطيوس وأتباع
إغناطيوس، ولكن دون جدوى، وتُوُفي سنة ٨٩٥ فقام بعده البطريرك نيقولاووس ميستيكوس
Mysticos؛ أي المكاتم، وكان رجلًا
عالمًا، فاضلًا، تقيًّا، تقبل النذر بعد أن كان قد أصبح كاتم أسرار لاوون الفسيلفس،
ورقي في درجات الكهنوت إلى أن انتُخب بطريركًا، وما فتئ حتى نفاه لاوون في السنة
٩٠٦، فجلس على كرسي القسطنطينية أفثيميوس السنكلُّس.
٢٢
وكان شغل لاوون الشاغل وهمه الأوحد أن يكون له ولدٌ ذَكَرٌ؛ يخلفه على العرش،
وماتت زوجتُهُ الأولى ثيوفانو في السنة ٨٩٣، وكانت له علاقاتٌ غيرُ شرعية مع زويه
ابنة إستيليانوس زاوتسه، وكانت هذه قد أماتت زوجها الشرعي مسمومًا، وتُوُفي والدها،
فأراد لاوون أن يتزوج منها زواجًا شرعيًّا، وطلب إلى كاهن البلاط أن يرفع يده
بالبركة ففعل، ولكن البطريرك أنطونيوس لم يرضَ عن هذا الإكليل، وبقيت زويه مع لاوون
سنة وثمانية أشهُر، ثم ماتت، فتزوج الفسيلفس من ثالثة إفذوكية الشهيرة بجمالها،
ولكنها ما لبثت معه إلا مدة الحمل، فإنها ماتت في أول ولادة هي وطفلها معًا.
وهكذا، فإن لاوون بقي بدون ولد ذكر يخلفه، فأقام فيما بعد مع سُرِّيَّة اسمها
زويه كاربونوبسينا Zoé Carbonopsina «أم
العيون السود!» وبعد أن خلَّف منها ولدًا ذكرًا هو قسطنطين السابع، طلب إلى
البطريرك نيقولاووس ميستيكوس أن يكلله عليها، فذَكَّرَه البطريرك بالمادة التسعين
من القانون الذي أصدره هو بصفته فسيلفسًا وقد ثبت فيها القانون الكنائسي بمنع
الزيجة الرابعة وشجب الثالثة، وذكره أيضًا بالمادة الحادية والتسعين من القانون
نفسه التي منعت اقتناء السراري، ثم قال: إنه يعمَّد المولود الجديد شرط أن يهجر
الفسيلفس أم الطفل، فقبل لاوون بذلك وطرد زويه من البلاط، فأقيم سرُّ العماد
باحتفال مهيب يوم عيد الظهور في السنة ٩٠٦، ولكن لم تمضِ ثلاثة أيام حتى عادت زويه
إلى البلاط، وعلم لاوون أنه ليس بين الكهنة ورؤساء الكهنة من يقبل أن يكلله عليها
فكلل نفسه عليها بنفسه، فكان هو العريس والقسيس معًا، ثم أغوى كاهنًا اسمه توما
فكلله، فقطع البطريرك الكاهن، وأخذ ينصح إلى لاوون، لا بل يتضرع إليه، ألا يكون
عثرة في سبيل الكنيسة، وأن يتصرف بما يشرف مركزه العالي؛ كي يصبح شخصه الشريعة
الناطقة، فلما أصرَّ الفسيلفس على موقفه منعه البطريرك من الدخول إلى الكنيسة، وسمح
له بأن يقف في المدخل مع الموعوظين، فسعى القيصر لدى بعض الأساقفة واستمالهم إليه،
كما استمال البابا سرجيوس الثالث (٩٠٤–٩١١).
وعقد مجمعًا في السنة ٩٠٦، وأنزل نيقولاووس عن كرسيه البطريركي، وجلس البطريرك
أفثيميوس السنكلُّس، فحل لاوون من حرمه وقبله في شركة الكنيسة، وعزم لاوون أن يسن
قانونًا يحلل به الزيجة الرابعة والخامسة والسادسة وهلم جرًّا، ولكن أفثيميوس منعه
من ذلك، وظل لاوون — فيما يظهر — غيرَ مُرتاح البال حتى ساعة وفاته، فإنه عندما
اقترب أجلُهُ في السنة ٩١٢، استدعى نيقولاووس من منفاه، وبكى وطلب الصفح، وأوصى
أخاه الوصي ألكسندروس أن يخلع أفثيميوس ويرجع نيقولاووس.
٢٣
سياسة لاوون الداخلية
وعني لاوون بالتشريع كما فعل والده من قبل، وأمر بتأليف لجنة من كبار رجال القضاء
لتعيد النظر فيما تم في عهد والده، فظهرت على يد هذه اللجنة ما بين السنة ٨٨٦
والسنة ٨٩٢ مجموعةٌ جديدةٌ للقوانين باللغة اليونانية، دعيت الباسيليكة. واللفظ
مشتقٌّ من كلمة فسيلفس، لا من كلمة باسيليوس، ومعناه: الشرائع الإمبراطورية،
٢٤ وليس لدينا نسخةٌ كاملةٌ تشمل الكتب السِّتِّين التي تألفت منها هذه
الباسيليكة، وجُلُّ ما وصل إلينا نُسَخ متعددةٌ ناقصةٌ، تضم بمجموعها حوالي ثلثي
هذا المؤلف النفيس، بيد أن القاضي باتزس
Patzes
الذي عاش إما في القرن السادس عشر أو الثاني عشر، صنَّف التيبوكيتوس
Tipucitus فجعله جدولًا كاملًا لمحتويات الباسيليكة.
٢٥
وقد يعود كتاب الأبارخوس الذي وجده العالم السويسراني نيقولا في أواخر القرن
الماضي في جنيف إلى عهد لاوون، والأبارخوس لقب حاكم القسطنطينينة أعلى الموظفين
الإداريين في الدولة، وكان عليه أن يوطد الأمن في العاصمة وأن يدبر شُئُون جميعِ
النقاباتِ الصناعيةِ والتجارية، ومن هنا كانت أهمية هذا الكتاب؛ فإنه يحفظ لنا ما
لا نجده في غيره من المصنفات، فهو يصف أنظمتها وسير أعمالها، ويبدأ بنقابة الكتَّاب
العدول، ثم يصف نقابات الصاغة، فرجال الحرير، فالكتان والشمع والصابون، والدباغين،
والخبازين، واللحامين وغيرهم،
٢٦ وهنالك أكثر من مائة قانون تعود إلى عهد لاوون أيضًا ولكنها لم تدرس
بعد درسًا وافيًا.
٢٧
وعلى الرغم من هذا الاهتمام بالاشتراع؛ فإن بلاط لاوون السادس الحكيم ظَلَّ
مسرحًا للمؤامرات والدسائس طوال مُدَّة حكم هذا الفسيلفس، وتفصيلُ ذلك أن لاوون آثر
الاهتمام بتنظيم القوانين على تطبيقها، وشغل بالاستقبالات والتشريفات عن الإشراف
على الإدارة، فنفذت كلمة استليانوس تزاوتزس الأرمني الموظف في بلاط باسيليوس الذي
كان قد أَيَّدَ لاوون في نزاعه مع والده، وتغاضى عن علاقات لاوون مع ابنته زويه،
وعندما أصبح لاوون فسيلفسًا جعل من استليانوس هذا لوغوثيتًا وأعطاه صلاحياتٍ واسعة
بحيث أصبح وزيره الأول، وكان استليانوس في نزاع دائم مع أفثميوس الراهب معلم ذمة
الفسيلفس، وأصبح الشغل الشاغل لكلٍّ منهما الدس على الآخر.
وتُوُفي استليانوس في السنة ٦٩٨ فنال الحُظوة عند لاوون خصيٌّ عربيٌّ اسمه
ساموناس، كان قد تقبل الدين المسيحي، وكشف للفسيلفس مؤامرةً مخيفة؛ فأحبه الفسيلفس
وقرَّبه وغمره بالمال، وأفاض عليه الرُّتَبَ والألقاب، وعلى الرغم مِن أنه حاول
الفِرار إلى بلاده بأمواله في السنة ٩٠٤ فإن لاوون اكتفى بإهماله بضعة أشهر، ثم
أعاده إلى سابق عِزِّهِ ونُفُوذِهِ، وما فتئ كذلك حتى السنة ٩١١، ففيها ثبت لدى
الفسيلفس أن هذا الخصي العربي هو الذي نظم الأهجية الفاضحة بحقه، فصادر الفسيلفس
أمواله وحبسه في أحد الأديرة،
٢٨ وأحل محله الخصي قسطنطين البافلاغوني.
ويعزو بعض رجال الاختصاص إلى لاوون الحكيم إنشاء سلسلة من القلاع المُحصنة في
أماكن متقدمة عند الحدود العربية الإسلامية دعيت كليسورات
Clisurae، وكانت الغاية من إنشائها، فيما يظهر، تدعيم الحدود وبث
الدعاية السياسية والدينية، وأهم ما أُنشئ منها قام في قبدوقية الشرقية وفي أعالي الفرات،
٢٩ وخسر الروم إكسارخوسية أفريقية؛ لوقوعها في يد العرب، وإكسارخوسية
رابينة لوقوعها في يد اللومبارديين أولًا، ثم الإفرنج بعدهم، وفي السنة ٧٥٤ كانت
هذه الإكسارخوسية قد أصبحت نواة مملكة البابا الزمنية، على إثر تنازُل بابينوس عنها
وإهدائها لحبر رومة، وفي أوائل القرن التاسع كان لدى الروم عشر ثيمات: خمسٌ في
آسية، وأربعٌ في أوروبة، وواحدةٌ بحرية، ويَرى رجالُ الاختصاص أن باسيليوس الأول
ولاوون السادس زَادَا عَدَدَ هذه الثيمات، فجَعَلاها خمس عشرة، وأضافا إليها دوقية
واحدة، وكليسوريتين، وإرخونيتين، ودليلهم على هذا مأخوذٌ من نص ابن خرداذبه المشار
إليه سابقًا، ومن بعض النصوص الأُخرى.
٣٠
لاوون الحكيم والعرب
وكانت قد أصبحت أقريطش العربية بلية الروم، وأضحت عاصمتها الخندق مأوى القرصان
المسلمين وملجأهم، فمنها ومن طرسوس وطرابلس كانوا ينتشرون في مياه الأرخبيل فيسطون
على التجارة ويَنْقَضُّون على الجزر مخربين مدمرين، فهجر الروم الجزر وفَرَّ سكان
سواحل إيجه إلى داخلية بلدانهم، وفي السنة ٩٠٤ قام لاوون الطرابلسي بهجوم جريءٍ
جدًّا على القسطنطينية نفسها، فدخل الدردنيل بأشرعته السوداء وأَحابيشه المردة، ثم
انثنى من تلقاء نفسه وانقضَّ على ثيسالونيكية أكبر مُدُن الروم بعد القسطنطينية،
وقدر له أن تكون هذه خالية من الحامية، فدخلها عَنْوَةً في بضع ساعات، وقتل ونهب،
ثم سبى اثنين وعشرين ألفًا من الشبان والشابات، فباعهم في أسواق الرقيق في الخندق وطرابلس،
٣١ فعظُم هذا الأمرُ على الروم وشَقَّ وصَعُبَ، وهب هيماريوس قائد البحر
في السنة ٩٠٦ فانتصر على المسلمين انتصارًا كبيرًا، وتَشَجَّعَ وتَقَوَّى، فقاد في
السنة ٩١٠ حملة بحرية كبيرة على أقريطش بسبعة آلاف فارس وأربعة وثلاثين ألف مقاتل
بحري، وخمسة آلاف من المردة، وسبعمائة مرتزق روسي، وأخفق هيماريوس فعاد عن أقريطش
فصده في البحر أسطولٌ عربيٌّ كبيرٌ في مياه ساموس فأنزل به خسارة كبيرة.
ولم يكن فوزُ العرب في الغرب أَقَلَّ منه في الشرق؛ ففي السنة ٩٠١ سيطر العرب على
مضيق مسينا، وفي السنة ٩٠٢ تم استيلاؤهم على صقلية بأكملها، وأعلن أمير القيروان
أنه «سوف يخرِّب مدينة الشيخ الهرم بطرس نفسها.»
٣٢ وقامت مشاغل جديدة في البلقان، فلم يتمكن لاوون من الدفاع عن رومة
وإيطالية كما فعل والده من قبل.
لاوون والبلغار
وكان قد تم الامتزاج بين البلغار الحاكمين ورعاياهم الصقالبة، فتوحدت الكلمة،
واشتدت المطامع وعظمت، وكانت بلغارية في عهد لاوون السادس قد شملت قسمًا هامًّا من
البلقان الغربي، ومعظم ما وقع بين الدانوب ومورافية وبولونية، وكان قد تولى العرش
بعد بوغوريس الأول ابنُهُ سمعان (٨٩٣–٩٢٧)، وكان سمعانُ قد نشأ في القسطنطينية
رهينةً، فتهذَّب فيها، وأَتْقَنَ اليونانية والخطابة والمنطق، وتذوَّق بذخ البلاط،
ونفائس الحضارة البيزنطية، فطمع في عرش الروم، وتَاقَتْ نفسُهُ إلى التاج البيزنطي،
وما إن تبوأ العرش البلغاري في السنة ٨٩٤ حتى وجد نفسه في حربٍ ضد الروم.
٣٣
والغريب في هذه الحرب أنها بدأت من جراء نزاع اقتصادي، فاختلفت عن سواها من
الحروب السابقة، وتفصيل ذلك أن التجار البلغاريين كانوا قد أنشئوا لأنفسهم وكالات
تجارية في القسطنطينية، زاحموا بها زملاءَهم الروم، وكان هؤلاء قد نجحوا فأكرهوا
البلغاريين، بتدبير خاص، على الخروج من القسطنطينية والاتجار في ثيسالونيكية،
ونجحوا أيضًا في أن يجعلوا الدولة تفرض على التجار البلغاريين ضرائبَ باهظة، وفاوض
سمعانُ زميله لاوون في أَمْرِ هؤلاء فنُكع في ذلك، فاغتاظ وأعلن الحرب،
٣٤ وانقضَّ سمعان على تراقية، وكان معظمُ جيش لاوون في آسية، فانتصر الملك
البلغاري، فاضطر لاوون أن يستعين المجر، فعبر هؤلاء الدانوب في الوقت نفسه الذي
شنَّ فيه الرومُ هجومًا جديدًا من البر والبحر، فقاتل سمعانُ متراجعًا، ثم فاوض
الروم في الصلح، فوقف القتال في الجبهة الجنوبية، وتَفَرَّغَ سمعان للمجر فسحقهم
سحقًا، ثم قطع مفاوضاته مع الروم وعاد إلى الحرب، وفيما كان المجر لا يزالون في
الأراضي البلغارية ما وراء الدانوب، والعرب لا يزالون يغيرون على شواطئ إيجه؛ توصل
الروم والبلغار في السنة ٩٠٤ إلى سِلْم بقي محترمًا مع الطرفين طوال عهد لاوون. وظل
الطمعُ في السيطرة على البلقان مشكلةً تَتَطَلَّبُ الحَلَّ طوال القرن العاشر.
٣٥
الروم والروس
ويرى عددٌ من علماء الروس أن علاقات الروس مع الروم بدأتْ في عهد لاوون السادس
حينما ظهر الأمير الروسي أولاغ في السنة ٩٠٧ عند أسوار القسطنطينية على رأس قُوَّة
بحريةٍ روسيةٍ، مطالبًا ببعض الامتيازات التجارية، وهم يرون أيضًا أن أولاغ لجأ إلى
العُنْف في ضواحي القسطنطينية، وأن ظروف لاوون اضطرتْه إلى عقد معاهدة مع أُولاغ في
السنة ٩١١ منح بموجبها الامتيازات المطلوبة.
٣٦
ويشك عدد لا يستهان به من علماء الغرب في صحة هذه الرواية، ويرون أن كل ما جاء عن
أولاغ وغيره من أخبار عن حوادث جرت قبل السنة ٩٤١ لا يزال مفتقرًا إلى الإثبات، وأن
قصة ظهور أولاغ عند أسوار القسطنطينية هي أسطورة من الأساطير،
٣٧ ويرى فازيلييف في نص المخطوطة اليهودية عن علاقات الخزر بالروس والروم
دليلًا مهمًّا على صحة خبر الحملة الروسية المشار إليها.
٣٨