أسس الدولة ونظمها في القرنين العاشر والحادي عشر
المسيح هو الملك
وتنصرت الحكومة وفاخرتْ بنصرانيتها واعتَزَّتْ بها، وأصبح السيدُ في نظر الحكومة والشعب هو الملك، وأصبح الإنجيلُ دستورَ الدولة، فكنت إذا قصدت القصر الملكي وذهبتَ إليه ماشيًا متريثًا تقرأ على جدران بعض البنايات العمومية العبارة: «المسيح الفسيلفس» أو «المسيح الإمبراطور»، وقد تسمع — وأنت في طريقك إلى القصر — جماعاتٍ يُرَتِّلُون، فإذا ما اقتربوا منك وجدتهم جنودًا حاملين الصليب عاليًا هاتفين: «المسيح المنتصر.»
وإذا ما وصلت إلى مداخل القصر وجدتَ فوق العتبة أيقونةً مقدسةً تُمثل المسيح مرتديًا لباس الملوك متوجًا، وإذا ما تابعتَ السير وصرتَ إلى داخل القصر ظننتَ أنك في كنيسةٍ لا في قصرٍ ملكيٍّ، فمن أيقونة للعذراء والدة الإله حامية العاصمة، إلى ذخيرة تَضُمُّ عود الصليب، إلى أيقونة عجائبية تمثل السيد مصلوبًا كان قد ظفر بها يوحنا جيمسكي في أثناء مروره في بيروت، إلى زاوية مكرمة تحفظ حذاء السيد الذي وجده يوحنا هذا في جبيل، إلى المنديل الذي كان لا يزال يحمل رسم وجه السيد وقد احتفظت به الرها أكثر من تسعة قرون. وقد تقف قليلًا متأملًا مصليًا، فيدخل القاعة رئيس أساقفة تتبعُهُ حاشيتُهُ، وقد جاء خصيصًا لتكريم هذه الآثار وتجديد تكريس المكان.
وقد تكون أحدَ أعضاء الوُفُود العربية المفاوضة في تبادُل الأسرى، فيتاح لك الدخولُ إلى قاعة العرش، فتجد العرشَ عرشين أحدُهُما عليه الإنجيلُ المقدس وهو عرش المسيح الملك، والثاني لنائبه على الأرض الفسيلفس، فإذا قابلت العرش الأول أو مررت مِنْ أمامه رسمتَ شارة الصليب وانحنيت.
الفسيلفس نائب المسيح
ولَمَّا كان الملك الحقيقيُّ روحًا غير منظور، أصبح الملك الملموس رمزَ الملك السيد ونائبه على الأرض: ثوبه ثوب الأيقونات، وتاجُهُ وصولجانُهُ مشرَّفان بالصليب المقدس، ولما كانت ثيابه هذه هبةً ربانيةً حَمَلَها الملائكةُ إلى قسطنطين الكبير؛ أصبح المحل الوحيدُ اللائقُ بحفظها هو الكنيسةُ، وأَمْسَى قصرُ الفسيلفس من حيث التخطيط وهندسة البناء وتزيين الزوايا والقبب والجدران أَشْبَهَ بالكنيسة مِنْ أي بناءٍ آخر، وأمستْ أبوابُ قاعة العرش تُفتح وتغلق في أوقاتٍ معينة كأبواب الأيقونسطاس في الكنيسة، وقام العرشُ في حنية تشبه حنية الهيكل، وقضت هذه الصلة بين الفسيلفس وبين السيد الروح غير المنظور أن يظهر الفسيلفس ظهورًا على عرشه في الاستقبالات الرسمية دون أي كلام أو تبادُل أفكار، وتغرد الطيور الذهبية وتزأر الأسود المصطنعة ويسجد الحاضرون ثلاث سجدات، وما هي إلا لحظة حتى يرتفع الفسيلفس بعرشه نحو السماء فيختفي.
وإذا دخل الفسيلفس الكنيسة ليصلي استوى على عرشٍ خاصٍّ واعتُبر ممسوحًا من الله؛ لينوبَ عن المسيح في الأرض، واستحق التناوُل بيده من المائدة المقدسة، ولكنه لم يرأس الكنيسة — كما توهم البعض.
وكان على الفسيلفس أن يراعي هذا التقليد في حياته الخاصة أيضًا، فكان كلما انتهى من الطعام كسر الخبز وشرب الخمر، وإذا ما جلس إلى المائدة، جلس حواليه اثنا عشر شخصًا، وعند كثرة الضيوف كانت تُقام اثنتا عشرة مائدة، وفي ليلة عيد الميلاد، كان عليه أن يدعو أَفْقَرَ الفقراء لتناوُل الطعام معه، فالكل إخوان في المسيح، وكان يضيءُ غرفةَ نومه صليبٌ أخضرٌ وعددٌ من الكواكب، وكان يطل عليه من فسيفساء الجدران باسيليوس الأول المقدوني وعائلته، في أيديهم الأناجيل!
ولما كان الفسيلفس نائب المسيح على الأرض، كانت إرادتُهُ مطلقةً وكان الشعبُ عباده، وكان هو مصدرَ جميعِ السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، فهو يُعَيِّنُ الوزراء ويَعْزِلُهُم، ويسن الشرائع ويلغيها، ويوافق على انتخاب البطريرك المسكوني ويعزله إذا شاء، وكانت سلطتُهُ — بطبيعة الحال — مسكونيةً، تشمل العالم بأسره فلا تقف عند حدٍّ من الحدود ولا يَعترض عليها معترض. وأصبح البطريرك الجالس إلى يمينه الثاني بعده في الدولة بطريركًا مسكونيًّا أيضًا له حق التقدُّم على سائر البطاركة بعد بطريرك رومة.
وضاقت، لا بل تضاءلتْ صلاحياتُ مجلس الشيوخ مصدر السلطة في رومة القديمة، فأضحى في هذين القرنين متفرجًا يُشاهد الحوادثَ الجسامَ دون أن يشترك فيها، وأَمْسَى الشعبُ بعيدًا عن المشاوَرَة، وبات الزرقُ والخضرُ في جملة المتفرجين، لا مجالس لهم ولا صلاحيات، واستبدلوا أهازيجَ القتال بتراتيل الصلاة، يأتمرون بإشارة الموسيقار بدلًا من سيف القائد المغوار.
البطريرك المسكوني
وكان البطريرك بموجب نص الأباناغوغ (٨٨٤–٨٨٦) صورةَ المسيح على الأرض وراعي نفوس المؤمنين وحامي العقيدة، وكان أيضًا صاحب السلطة الروحية العُليا؛ ولذا أُحيط بهالةٍ من الاحترام، لا تُمس كرامته ولا يُعتدى عليه. ولَمَّا كانت الدولة والكنيسة متحدتين متفقتين، كان للمقام البطريركي نفوذٌ كبيرٌ في شئون الدولة، فأصبح لزامًا عليه إذن أن يعاون الفسيلفس في إدارة دفة الأمور، فكانت الأوامرُ العُليا والبيانات تصدر، في بعض الظروف الهامة، باسم الاثنين معًا.
الفسيلفس والكنيسة
الإنجيل دستور الدولة
وقضت هذه الفلسفة الدينية السياسية بأن يُعترف بقدسية الإنجيل الطاهر ووجوب تطبيق أحكامه، فأصبحت دولة الروم ديموقراطية في تساوي أبنائها، مطلقة مستبدة في تنفيذ مبادئ الإنجيل وأحكامه، فلم يبقَ فيها أي تفوُّق نظري لطبقةٍ على سواها، وأصبح بإمكان أَوْضَعِ الرجال أن يتسنم أعلى المراتب، أولم يكن لاوون الأول لحَّامًا، ويوستينوس الأول راعيًا للخنازير، وفوقاس قائد مائة، ولاوون الثالث شحاذًا متسولًا، وباسيليوس الأول فلاحًا، ورومانوس ليكابينوس أفَّاقًا؟ أولم يُنعت قسطنطين الخامس بالزبلي، وميخائيل الثالث بالسكير، وميخائيل الخامس بالقلفاط؛ أي نقَّال البضائع؟ والفسيلسات ألم تكن إحداهن خزرية، وأخرى مغنية، وغيرها مروِّضة للدببة، أو عمومية؟ أولم يكن عددٌ كبيرٌ منهن بنات موظفين عاديين؟
وترفع الفسيلفس، عملًا بتعاليم الإنجيل، عن الشموخ والتكبر، فدعا إلى مائدته البؤساء والمتشردين، وفتح بابه لجميع الرعايا من عباد الله يلجونه أنى شاءوا.
ومما يروى عن ثيوفيلوس الفسيلفس أنه خرج في يوم أحدٍ من الآحاد في موكبٍ رسميٍّ ممتطيًا جوادًا، فاعترضت سبيلَه بائعةُ سمك وأمسكت بمِقْود الجواد وقالت: «هو لي وقد صادره أحد عمالك فأعده إلي.» فنزل ثيوفيلوس عن ظهر الجواد وقَدَّمَه لها، وتابع سيره مشيًا على الأقدام! وشخص أمامه في الملعب مهرِّجان وهزَّ كلٌّ منهما قاربًا صغيرًا بيده، وقال أحدهما للآخر: أبلعني هذا القارب، فقال الآخر: أبدًا لا يمكنني ذلك، فقال الأول: وكيف؟ أولم يبلع مدبِّر القصر مركبًا بكامله محملًا بضائع؟ فأدرك الفسيلفس معنى التلميح واستدعى المدعى عليه وقابله بالمدعيين، وظهر له الحق، فأمر بحرق الجاني ببزته الرسمية في الهيبوذروم.
وساوتْ نصرانيةُ الدولة بين الرجل والمرأة، فكان للنساء شأنٌ كبيرٌ في الحياة الاجتماعية ولا سيما بعد الزواج، وشاطرن أزواجهن السلطة في كثير من الأحيان، ولم يتناول الطعام ذيجانس أكريتاس قبل حضور والدته، وقاسى تورمارخوس بزية نقدًا شديدًا واعتُبر مسيحيًّا مقصرًا؛ لأنه حبس زوجته في خِدْر الحريم يوم الاستقبال، وتَكَنَّى الأولاد — في بعض الأحيان — بأمهاتهم، فعائلة دلسانة تحدرت من أبٍ اسمه شارون، ولكن والدتهم حنة دلسانة فاقت زوجها شهرةً واحترامًا.
وأهم من هذا وذاك في التدليل على تحرر المرأة عند الروم، حقوق الفسيلسة زوجة الفسيلفس؛ فإنها شاركتْ زَوْجَها حق السيادة والسلطة ونيابة المسيح على الأرض، وسبقتْه إلى تَقَبُّل طاعة الشعب وولائه، فالسجود وتعفير الرءوس بالتراب وتقديم الأعلام كانت لها وحدها قبل أن تكون للفسيلفس، وكان الشعبُ لدى خروجها من الكنيسة يهتف لها وحدها: «أهلًا بالأوغسطة المنتقاة من الله، أهلًا بالأوغسطة المحمية من الله، أهلًا بلابسة الأرجوان، أهلًا بمحبوبة الكل.» وقضى العُرف بأن تشترك في جميع المآدب وجميع الحفلات في القصر، وأن تطل على الشعب في الحفلات العمومية.
وكانت لها موازنةٌ خاصةٌ تتصرف بها كيف تشاء ودون استئذانِ الفسيلفس، ومما يُروى من هذا القبيل أَنَّ ثيوفيلوس الفسيلفس رأى يومًا مِن نافذة القصر مركبًا تجاريًّا فخمًا يدخل الميناء، فهَبَّ لساعته إلى المرفأ ليتفرج على السفينة، ولدى وُصُوله إليه سأل عن صاحبها فقيل له هي الفسيلسة! وكانت هذه السفينة محملةً بضائعَ ثمينة استقدمتها الفسيلسة للاتجار بها.
والواقعُ هو أن هذه الديموقراطية البيزنطية لم تكن في أي وقت من الأوقات وليدة نضحٍ سياسيٍّ أو فلسفيٍّ، ولكنها تَأَتَّتْ بطبيعة الحال عن تَقَبُّل الإنجيل واتخاذه دستورًا للدولة، فالدافع نفسُهُ الذي جعل من الفسيلفس نائبًا للمسيح على الأرض أَدَّى إلى السعي لجعل المجتمع الأرضي مماثلًا بقدر المستطاع للمجتمع الرباني، ومن هنا أيضًا هذه القسوةُ في العقوبات: في قطع يدي التاجر المزوِّر، وزَجِّ الخباز الذي تقاضى أكثر مما سمح به القانونُ في الفرن نفسه الذي كان يخبز فيه عجينه، وحرق المدبِّر المرتشي حيًّا في الهيبوذروم، فالقانون إلهيٌّ في مصدره والخروجُ عليه خطيئةٌ تستوجبُ نار جهنم!
الدولة ومَنْ لا يدينون بالنصرانية
وأما التجار والأسرى من المسلمين المقيمين في هذه الدولة المسيحية؛ فإنهم كانوا أحرارًا طلقاء يتمتعون بقسط وافرٍ من الحقوق المدنية والاجتماعية، وكان لهم في عاصمة الدولة مسجدٌ يقيمون فيه الصلاة كأنهم في بلادهم، وكان شغل الروم الشاغل إقناع هؤلاء بتقبل الدين المسيحي؛ فالسلطات صارحت أمير أقريطش الأسير أنه إذا تنصر أصبح فور تَنَصُّرِهِ عضوًا في مجلس الشيوخ، ولكنه لم يفعل، وقبل ابنه النصرانية فرقي المراتب العسكرية بسرعة، وقاد الروم إلى النصر أكثر من مرة.
الإدارة
وبقيت الإدارة المركزية رومانية لاتينية في جوهرها وألقابها حتى نهاية القرن السادس، فكان يُحيط بالإمبراطور الشرقي عددٌ قليلٌ من كبار الموظفين يحملون ألقاب الرومانيين القدماء، ثم تمشرقت الدولةُ فكثرت الوظائفُ وكثر عددُ الكبار في الدولة وقَلَّتْ صلاحياتُهُم وصغرت أدوارُهُم وأمست ألقابُهُم يونانية.
الأحزاب السياسية
واختلفت الآراء في لاهوت السيد وناسوته وفي العذراء وتباينت، فانقسم رجال الدين والشعب أحزابًا وتخاصموا؛ فمنهم من قال بخلق الابن في الثالوث، ومنهم من قال بمساواته للآب في الجوهر، ومنهم من قال بالطبيعة الواحدة، ومنهم من قال بالطبيعتين، ومنهم من قال بالمشيئة الواحدة، ومنهم من قال بالمشيئتين، ومنهم من كَرَّمَ الأيقونات، ومنهم مَنْ حَرَّمَها، وما إلى ذلك من اختلافات لاهوتية نشأت عن هذه المحاولة الأساسية لجعل الدولة تتفق — قدر المستطاع — والوضع الذي يريده لها السيدُ المخلص ملكها وراعيها.
وهكذا، فإنك كنت ترى وتسمع الجدل في اللاهوت أَنَّى وُجدت، إن في الحانات والخمارات، أو في الملاهي والملاعب، أو في المشاغل والمصانع، أو في القصور والمجالس، أو في الأديرة والكنائس؛ فالبيزنطي لم يكن ذاك التقي الضجور، الذي لا يرى في هذه الدنيا إلا حياة فانية يتبرم بطولها وينتظر نهايتها للتخلص من متاعبها ومشكلاتها، وإنما كان تَقِيًّا متحمسًا مندفعًا في سبيل تطبيق الدين القويم قَدْرَ المستطاع ليرثَ ملكوت السماوات.
نزاع الطبقات
والغريب المستغرَب ألا يكون هذا الاستمساك الشديد بالإنجيل قد أثر في نفوس الأفراد؛ فهذه الدولة المسيحية المتطرفة في مسيحيتها عانت نزاعًا شديدًا وغيظًا متطايرًا وحقدًا ضغونًا بين الفقراء والأغنياء، ولم يَدُرْ هذا النزاع — كما هي الحالة بيننا اليوم — على مثالٍ أَعْلَى يعترف بصحته الطرفان ويحاول كلٌّ منهما أن يُقنع الآخر بأن الوصولَ إليه هو عن هذه الطريق لا تلك، وإنما كان نزاعًا فَجًّا حاول فيه القويُّ أن يبتلع الضعيفَ ابتلاعًا.
ولم يَقُمْ هذا النزاع في المصانع وبين المداخن، وإنما دارتْ رحاه في الحُقُول الباسمة والمراعي الضاحكة في الريف لا في المدن، فالمُزارع الصغير كان يقاسي الأَمَرَّين من الحُرُوب الطاحنة والغزوات الخاربة والضرائب الفادحة والوسائل الزراعية الغاشمة، وكان جارُهُ الكبيرُ الطامع كبيرًا في المال والجاه والنفوذ، ومما زاد في الطين بلة أَنَّ العُرْف السياسيَّ في الدولة قضى بِأَنْ يَتَرَبَّعَ المُزارع الكبير على كراسي الحكم، وأن يسعى كل موظف كبير إلى استملاك الأراضي.
وأدى هذا التكالبُ على المراعي والمزارع إلى الغش والخداع، فقد يعرض مزارعٌ كبيرٌ على جار فقيرٍ استكراءَ أرضه لقاء مبلغٍ مُعَيَّنٍ من المال يغريه به، فيقبل الفقير وتتمُّ الصفقةُ ثم يمتنعُ المزارعُ الكبيرُ عن الدفع فيلجأ الفقير إلى القضاء، فيمتطي الكبيرُ جوادَه ويهدد ويعربد ويستخف بادعاء جاره ويؤكد أن المُلك له وأن مثله لا يلجأ إلى فقير يستكري أرضه، وإذا اضطر ابتاع ضمير القاضي.
وقد تمحل المواسم فيدسُّ هذا الطامع الكبير عملاءَه بين جيرانه الفقراء؛ يزيِّنون لهم بيع أملاكهم، فيبيعونها بأبخس الأثمان. وقد يشرف فقيرٌ ضعيفٌ على الموت ولا وريث له، فيطل عليه أحد أخصاء جاره الكبير يسأل عنه ويقدم له المعونة والهدايا ثم ينصح له أن يتبنى جاره الغني العظيم، فتأخذ الفقير العاطفة وتعتريه موجة من الكبرياء فيرضى، وقد يلجأ الكبير القوي إلى الاحتيال، فيحيط هذا المريض المحتضر برجاله فيشهدون لدى وفاته بأنه أوصى بممتلكاته إلى جاره الكبير، وكان القانون البيزنطي يجيز الوصية أمام شهود ثلاثة.
وقد يستهوي الكبير الطامع جابي الضرائب فينقده شيئًا من النقد ليتطلب من فريسة أخرى أكثر بكثير مما يجب، فيقضي على معنويات هذا المزارع الفقير، ويمهد الطريق لجاره الغني القوي؛ كي يستولي على أملاكه.
ولا نجد كبار الرهبان أَقَلَّ جشعًا من هؤلاء المزارعين الأقوياء؛ فإنهم رغبوا في الدنيا بقدر ما كان يجب عليهم أن يزهدوا فيها، وتعدوا على حقوق الجيران الفقراء فوسعوا حدود الأوقاف على حسابهم واستولوا في بعض الأحيان على المواشي وعلى الخيل والجِمال، وعاشوا عيشة هناء ورخاء، ودعوا لرهبانياتهم فتزايد عدد الرهبان تزايدًا مخيفًا، فأفرغوا الحقول من اليد العاملة وقطعوا عن صندوق الخزينة العامة دخلًا كبيرًا.
وتضاءلت الطبقة المتوسطة في الأرياف، وازداد الأقوياء قوة والضعفاء ضعفًا، وقلت الثقةُ بالحكومة، وأفظع ما هنالك أن نجاح الأقوياء في ابتلاع الضعفاء المدنيين شجع أولئك على مَدِّ الأيدي إلى مَزارع العسكريين الذين كانوا قد أُقطعوا الأراضي ليعيشوا منها ويتسلحوا بمدخولها.
الدولة ورجال الصناعة
وفي الوقت الذي كان فيه الفلاح الصغيرُ يعاني هذه المتاعب والمصاعب، كان الصانعُ في المُدُن منهمكًا في أشغاله ميسورًا، فدولةُ الروم لم تعرف عهدًا في تاريخها زَهَتْ فيه الصناعةُ والتجارةُ زهوهما في هذين القرنين، ولم تكن القسطنطينية في أي وقت من أوقاتها أكثر نتاجًا وأوفر ربحًا، وأصبحت بوفرة مالها وحذق صناعها أمَّ المال والذهب والفن والعجائب للعالم أجمع، وقصدها أمهر الصنَّاع وأطمع التجار من سواحل البلطيق حتى الأسود والأدرياتيكي، ومن أرمينية والقوقاس حتى إسبانية والبرتغال، وتمنى بذخها وثروتها أمراءُ الأقطاع في الغرب المسيحي وأسياد السياسة في الشرق الإسلامي.
ولمست الحكومة أهمية هذه الصناعات؛ فضبطت أحوالها وأَخْفَتْ أسرارها، وراقبتها مراقبة شديدة، فحددت مدى اختصاص كل حرفة، وعينت شُرُوط الانتماء إليها، وحَدَّدَت عدد الصناع فيها، ونوع النتاج وكميته، ومقدار الأُجُور، ودَقَّقَتْ في قيودها وحساباتها وموازينها، ونَهَتْ عن الغش في الصنع وأنزلت بالمرتكب عقابًا صارمًا، ثم حَمَتْ هذه الصناعات من مزاحمة الأجانب فحددت الاستيراد، أو مَنَعَتْه — كما جاء في كتاب البرايفكتوس عن صابون مرسيلية.