شخصه
وجاء في كتاب الأليكسياذة لِحنَّة ابنة أليكسيوس كومنينوس، أن والدها الفسيلفس
تَبَوَّأَ العرش في الثالثة والثلاثين من عمره، وأنه كان قصيرًا، ممتلئ الجسم، قاسي
الوجه، أسود اللحية، برَّاق العينين، ثاقب النظر، وتعترف حنَّة بأنه كان ينقص
والدها شيءٌ من الهيبة والوقار حين يخالط القوم ويمتزج معهم، ولكنه كان جليلًا
عظيمًا عندما يستوي على عرشه ويتولى السلطة ويحكم بين الناس.
١
ويُستدل من هذه الأليكسياذة أيضًا ومن غيرها من المراجع الأولية، أن أليكسيوس
الأول كان مهذبًا مثقفًا، متضلعًا من الفلسفة واللاهوت، سريع الخاطر، فصيح اللسان
خطيبًا، وأنه كان دمث الأخلاق سلسًا حلو المعشر، عطوفًا رءوفًا، رحيمًا سموحًا في
كل شيء، ما عدا العقيدة الدينية؛ فإنه كان — فيما يظهر — شديدَ التَّمَسُّك
«بالعبادة الحسنة الأرثوذكسية»، مندفعًا في سبيلها، محاربًا الهرطقة والخروج على
مقررات المجامع المسكونية.
وظل أليكسيوس يتعشق الحرب ويَحِنُّ إليها، وبقي طوال عهده يعطف على الجُنُود
ويرعاهم بعنايته، وظل هؤلاء — بدورهم — متعلقين به متفانين في سبيله، وكان الفسيلفس
الجديد مفاوضًا من الطبقة الأُولى، يخاطب كلًّا باللغة التي يفهم. كما كان سياسيًّا
محنكًا يُجيد فَنَّ التفرقة، ويحسن أساليبَ التقريب والجمع. وكان لبقًا للغاية، لا
كذوبًا كما اتهمه بعض المتطفلين على التاريخ من كتَّاب الفرنجة الذين لا يدرون، ولا
يدرون أنهم لا يدرون.
٢
مطامع النورمنديين الإيطاليين
وكان ميخائيل السابع — كما سبق أن أشرنا — شديد الرغبة في التحالف مع البابا
والنورمنديين الإيطاليين للصمود في وجه الأتراك السلاجقة، وكان قُبيل نُزُوله عن
العرش قد خطب ابنة روبر غيسكار النورمندي الإيطالي لابنه وولي عهده قسطنطين
واستقدمها إلى القسطنطينية، وكان روبر غيسكار يطمع في توسيع دولته الإيطالية عبر
الأدرياتيك، فلما أُنزل ميخائيل عن العرش أعلن روبر غيسكار نفسه مدافعًا عن حُقُوق
هذا الفسيلفس، وكان ما كان من أمر نيقيفوروس الثالث ومِن أمر الفوضى التي عمَّت
جميع أنحاء دولة الروم، فعمد روبر في ربيع السنة ١٠٨١ إلى تحقيق مطامعه عبر
الأدرياتيك، فأنفذ ابنه بوهيموند بطلائع الجيش إلى أفلونية
Avlona وقام هو بنفسه على رأس الجيش إلى إبيروس.
٣
وكان أليكسيوس الأول يخشى الأتراك السلاجقة في آسية الصغرى، وينظر بعين الحذر إلى
مطامع البتشناغ عبر الدانوب، ولم تكن نفسُهُ مطمئنةً لموقف السكان في شاطئ
الأدرياتيك الشرقي، أما خزينته فقد كانت خالية، وجيشُهُ كان مضطربًا ضعيفًا لا
يُعتمد عليه، وكان يعلم أن إمبراطور الغرب هنريكوس الرابع كان لا يزال معوزًا فأرسل
وفدًا يقدم إليه مبالغ من المال كبيرة ووعودًا سياسية عظيمة، ويطلب في الوقت نفسه
تدخلًا في إيطالية ضد العدو المشترك روبر غيسكار،
٤ ثم اتصل بالبنادقة وأبان لهم الخطر المحدق بهم وبتجارتهم من احتلال
النورمنديين لشاطئ الأدرياتيك عند مداخله، ووَعَدَهم بفتح جميع مرافئ الدولة
لمراكبهم وتجارتهم ما عدا البحر الأسود، وأعفى جميع بضاعتهم الداخلة إلى هذه
المرافئ والخارجة منها من جميع الضرائب، فدخل البنادقة معه في حلفٍ عسكريٍّ شاملٍ
ضد النورمنديين.
٥
وكان روبر قد احتل جزيرة كورفو وفرض الحصار على مدينة ديراتزو، وذلك في حزيران من
السنة ١٠٨١، فعزم أليكسيوس على أن يقوم بنفسه إلى منطقة القتال لِفَكِّ هذا الحصار،
فأَسْنَدَ الحُكم إلى والدته حنَّة دلسانة وعين لوغوثيتًا قديرًا يعاونها في ذلك،
٦ وقام إلى جبهة القتال.
ورأى كبار القادة أن يُحصر النورمنديون المحاصرون بين أسوار ديراتزو والبحر، وأن
يضيَّق عليهم هذا الحصار فتضطرهم قلة المؤن إلى طلب الصلح،
ورأى غيرُهُم — ممن كانوا دونهم سنًّا وخبرةً —
أن يصار إلى القتال حالًا، فأصغى أليكسيوس إلى هؤلاء فأخفق إخفاقًا ذريعًا وسقطت
ديراتزو في يد النورمنديين في الحادي والعشرين من شباط سنة ١٠٨٢، وكان من الطبيعي
أن يتجه روبر بجيشه نحو القسطنطينية، وما إن وصل إلى كستورية حتى تسلم رسالة من
البابا غريغوريوس السابع ينبئه فيها بقدوم الإمبراطور هنريكوس الرابع إلى إيطالية
ويرجو معونته. وعلم روبر أيضًا أن بعض زعماء النورمنديين في إيطالية شَقُّوا عصا
الطاعة، فوكل أمر القيادة إلى ابنه بوهيموند وعاد إلى إيطالية.
ولم يتابع بوهيموند الزحف على القسطنطينية، بل اتجه جنوبًا وحاصر ينينة، وجيَّش
أليكسيوس جيشًا جديدًا وقام إلى الجبهة يُعيد الكرة في أيار السنة ١٠٨٢ ولكنه أخفق
مرة ثانية، فاحتل بوهيموند منطقة البحيرات وسيطر على جميع مقدونية الغربية، ثم نزل
إلى ثيسالية وحاصر لاريسَّة، فجاءَه أليكسيوس في ربيع السنة ١٠٨٣، وأتاه بالحيلة،
فألبس ميليسنوس أحد رجاله ثياب الفسيلفس وأحاطه بالهيبة والوقار وجعله ينازل
بوهيموند، وتخاذل ميليسنوس أمام بوهيموند، فلحق به القائدُ النورمنديُّ، فابتعد عن
قاعدته، فسطا عليها أليكسيوس وأتلف ما فيها، فاضطر بوهيموند إلى أن يتراجع نحو
الشاطئ، وكانت مراكب البنادقة قد أوقعت بمراكب النورمنديين خسارة كبيرة في بحر
الأدرياتيك، وتأخرت جماكية العساكر والضباط، فاستغل أليكسيوس هذا الموقف وأَوغر
صدور هؤلاء الضباط كما أغدق على بعضهم المال ليعودوا إلى إيطالية، فاضطر بوهيموند
إلى أن يذهب إلى إيطالية بنفسه لتأمين أُعطيات الجند وضباطهم، فاضطربت أحوال الجيش
النورمندي، واستعاد أليكسيوس كستورية في خريف السنة ١٠٨٣.
وعاد روبر إلى القتال في السنة ١٠٨٤ وأنزل بالبنادقة خسائرَ كبيرةً واحتل كورفو
ثانية، ولكنَّ وباءً حَلَّ في صفوف الجيش فشلَّ كل حركة عسكرية. وأعاد روبر الكرة
في صيف السنة ١٠٨٥ ولكنه تُوُفي في الجبهة، وكان روبر قد خص ابنه الأصغر روبر الملك
بعده فنشبت حربٌ أهليةٌ أوقفتْ كل عمل عدائي ضد الروم.
٧
ثورة مانوية بتشناغية (١٠٨٤–١٠٩١)
وكان يوحنا جيمسكي قد سبا جماعاتٍ من المانويين من حدود الدولة الشرقية الجنوبية
إلى منطقة فيليبي في البلقان، وحافظ هؤلاء على عقيدتهم الخاصة فلم ينسجموا مع الروم
وأصبحوا مشكلةَ سياسية داخلية، وفي الحرب النورمندية اقترفوا خيانة ضد الدولة
وانسحبوا من ساحة القتال في أَحْرَجِ الأوقات، فاغتاظ أليكسيوس واستدعى زعماء
المانويين إليه وأَنْزَلَ به أَشَدَّ ألوان العذاب، فغضب قومهم لهم وأعلنوها ثورةً
على الحُكم (١٠٨٤) واستعانوا بالبتشناغ، فعبر هؤلاء الدانوب مخرِّبين محرِّقين، وما
فتئوا كذلك حتى مداخل أدرنة وإلى مسافة قصيرة من شاطئ مرمرة، وقُدر للروم أن يصمدوا
في وجههم في السنة ١٠٨٦ والسنة ١٠٨٧ فارتدوا على أعقابهم إلى ما وراء
الدانوب.
ورأى أليكسيوس أن يستغل هذين النصرين فأعد حملة كبيرة، وقطعت جيوشه البلقان إلى
الدانوب، وقام أسطوله عبر البحر الأسود إلى مداخل هذا النهر، وكانت موقعة كبيرة
أمام دريسترة في صيف السنة ١٠٨٦، فانكسر الروم وخسروا رداء العذراء العجائبي، واضطر
البتشناغ إلى أن يحاربوا مَنْ جاورهم من القبائل عبر الدانوب، فلم يعودوا إلى الحرب
مع الروم قبل السنة ١٠٨٩، وفيها وصلوا ثانية إلى مداخل أدرنة، فاضطرَّ الفسيلفس إلى
أَنْ يشتري السِّلْمَ شراءً، ولكن البتشناغ عادوا إلى الحرب في السنة ١٠٩٠ وهددوا
العاصمة نفسها، واشتد القتال وطال أمدُهُ، فاستعان الروم بأعداء البتشناغ: قبيلة
البولوف
Polovtzes، وكانت موقعة حاسمة في
التاسع والعشرين من نيسان سنة ١٠٩١ عند نهر اللابورنيون
Leburnion فانهزم البتشناغ وتراجعوا ليقعوا في قبضة البولوف،
فكانت مجزرة كبيرة.
٨
ازدياد نفوذ الأتراك السلاجقة
وفي أثناء هذا كله، بينما كان أليكسيوس يحارب النورمنديين في الغرب، والبتشناغ في
الشمال؛ كان الأتراكُ السلاجقة يزدادون نفوذًا وسلطانًا في آسية الصغرى وفي شمالي
سورية، فأصبح حق الفسيلفس في السيادة على سليمان بن قطلمش حقًّا نظريًّا لا فاعلية
له، واتخذ هذا لقب سلطان، وشرع يوسع حُدُود منطقته ويعمل وكأنه دولةٌ مستقلة، فاحتل
أنطاكية في كانون الأول من السنة ١٠٨٤ دون أن يُبدي أليكسيوس أية حركة، ثم تطاول
على فيلرتة وبسط سلطته على جميع إمارته،
٩ وعبثًا حاول فيلرتة أن يحتفظ بسلطته بتقبل الدين الإسلامي.
١٠
وما إن طالب أمير حلب سليمان بالمال الذي كان يدفعه فيلرتة له حتى قام إليه بجيشه
وفرض سلطته عليه، فدب الذعر في نفوس سائر أمراء سورية، وجيَّش تتش أمير دمشق وقام
إلى حلب فنازل سليمان بالقرب منها في شهر تموز من السنة ١٠٨٥ وقضى عليه، وما إن
تُوُفي سليمان بن قطلمش حتى رفض معظم الأمراء الذين كانوا قد دخلوا في حكمه أن
يُقِرُّوا بالطاعة لابنه وولي عهده قلج أَرسلان، فسادت الفوضى جميع أرجاء سلطنة
سليمان (سلطنة الروم فيما بعدُ)، وأنفذ ملكشاه قوة إلى سورية، وأعاد توزيع الأقطاع
والسلطة فيها.
وغضب جلال الدولة ملكشاه على وزيره الكبير نظام الملك ودسَّ إليه من قتله، ثم
تُوُفي هو في التاسعة والثلاثين من عمره (١٠٩٢)، فاضمحلتْ عظمةُ الدولة السلجوقية
وتَفَكَّكَت أواصرُها، وكان الخليفةُ المستظهر قد أقر ابن ملكشاه الرضيع في السلطنة
فطلبها أخوه بركياروق فقام عليه عمه تتش، فبذر التشويش وعمَّت الفوضى سورية
والعراق، وأحب أليكسيوس الفسيلفس أن يستغل الموقف لصالحه وصالح الروم، ولكن الغرب
كان قد بدأ يتمخض بالحروب الصليبية.
الروم والصليبيون
ولم يكن أَمْرُ الجهاد في سبيل الدين أمرًا مستحدثًا جديدًا؛ فمنذ أن تَنَصَّرَت
الدولة الرومانية أصبح رئيسها حامي الدين مجاهدًا ومبشرًا أيضًا، ولم تنطبع حروب
النصارى وحدهم بهذا الطابع الديني؛ فحروب الفُرس ضد الروم كانت تحمل أيضًا طابعًا
دينيًّا خاصًّا، وحروب العرب كانت في أساسها حروبًا دينية لا قومية — كما سبق أن
أشرنا — ولكن الجديد في الحروب الصليبية كان
اشتراك جميع الطبقات فيها لغرض ديني معين، ولا يختلف اثنان — فيما نعلم — في أن بعض
الصليبيين اندفع بدوافعَ ماديةٍ غير دينية، ولكن التيار الجارف ظل دينيًّا في
الدرجة الأولى.
١١
والحروب الصليبية كانت حُرُوبًا غربية قبل أن تكون حروبًا شرقية، والمحرك الأكبر
فيها كان البابا أوربانوس الثاني (١٠٨٨–١٠٩٩)، فإنه خشي — فيما يظهر — تَجَدُّدَ
النشاط الإسلامي بظهور الأتراك السلاجقة وبانتصاراتهم المتواترة، وآلمه ضغطُهُم
المتزايد على الكنائس الشرقية، فأَحَبَّ أن يتحد جميعُ ملوك النصارى وأمراؤهم
وشعوبهم في حملة واحدة لتحرير هذه الكنائس الشرقية ولحماية القبر المقدس وتأمين
سُبُلَ الحجاج؛ فسعى منذ أن تَبَوَّأَ السدة الرومانية لتقريب القلوب بين فرعي
الكنيسة الأم، ورفع الحرم الذي كان قد وضعه سلفه غريغوريوس السابع على أليكسيوس
فسيلفس الروم، وأرسل وفدًا إلى القسطنطينية يعلن هذه السياسة الجديدة ويرجو السماح
باستعمال الفطير في كنائس القسطنطينية اللاتينية وإعادة اسمه إلى الذبتيخة،
١٢ وتقبل أليكسيوس الفسيلفس والبطريرك المسكوني هذه البادرة الطيبة
بحرارة، وأرسلا وفدًا إلى رومة يرجو حبرها العظيم أن يشرِّف القسطنطينية ويرأس
مجمعًا مسكونيًّا يعيد المياه إلى مجاريها، وهب إكليريكي أمالفي اللاتيني ورئيس
أساقفة أخريدة الأرثوذكسي يُبيِّنان خسة التخاصم حول «الطقوس» عندما تكون العقيدة «واحدة»،
١٣ وعلم مناوئ أوربانوس الثاني وخصمه إقليمس الثالث بهذا كله، فعرض على
الفسيلفس أن يوقع هو صك الاتحاد بين الكنيستين، ولكن أليكسيوس آثر الأمانة
لأوربانوس لأن الفضل في ذلك عائدٌ إليه، فشاغل البابا المناوئ، فلم يتمكن أوربانوس
من القيام إلى القسطنطينية،
١٤ وهكذا يكون الواقعُ التاريخيُّ، أن أليكسيوس لم يَتَلَمَّسْ حربًا
صليبية ولم يَحُثَّ الغرب عليها «ليقلب لها ظهر المجن» —
كما جاء في بعض المؤلفات الحديثة.
وفي أوائل تموز من السنة ١٠٩٦ وصلت إلى البلقان جموعُ بطرس الناسك ناهبة مقتلة
مخرِّبة، وتقدمت هذه الجموع نحو القسطنطينية فرحَّب بها الفسيلفس وأكرمها، واستقبل
بطرس الناسك وأوضح له وجوب الانضباط واحترام حقوق السكان، وكان أتباع بطرس قد
أقاموا خارج أسوار المدينة، فعاثوا في الضواحي فسادًا وخرقوا حرمة الكنائس، فرأى
أليكسيوس أن يجابههم بجيرانه الأتراك السلاجقة عبر البوسفور لعلهم يفقهون، وما إن
حطت رحالُهُم في آسية حتى هاجموا الأتراك، فبدد هؤلاء شملهم، فَارْعَوَوْا وكَفُّوا
عن القبيح ورضُوا أن يعودوا إلى ضواحي القسطنطينية عُزَّلًا.
وفي صيف هذه السنة نفسها قذف البحر إلى شاطئ إبيروس أخا ملك فرنسة هوغ دي فارمندوي Hugues de Vermandois، فوقع في أيدي الروم
ونقل إلى القسطنطينية، فأحاطه أليكسيوس بشيءٍ كثيرٍ من الإكرام والاحترام، ورأى فيه
خير وسيط بينه وبين زعماء الصليبيين القادمين، وزاد في إكرامه فتعلق الأمير
الإفرنسي بالفسيلفس وبايعه على الطاعة والولاء.
ثم جاء في كانون الأول من هذه السنة نفسها غودفروي دي بويون Godefroy de Bouillon بجُمُوعه، وكان
أليكسيوس قد سمع بشجاعته وثرائه وكرمه فأكرمه، ولكن غودفروي رفض مبايعة الفسيلفس،
فتوترت العلاقاتُ بين الاثنين، وقلت المئونة لدى أتباع غودفروي خارج أسوار العاصمة،
فلجئوا إلى العنف وأرادوا اقتحامَ أحد مداخل القسطنطينية، فصدهم الرومُ بالقوة
وتغلبوا عليهم، فأخلدوا إلى السكينة، ودعا الفسيلفس الزعيم الصليبي إلى مأدبة
أقيمتْ في القصر المقدس على شرفه، فبايع غودفروي الفسيلفس على الطاعة والولاء، ومضى
في نيسان سنة ١٠٩٧ بجموعه إلى آسية.
وفي ربيع السنة ١٠٩٧ أطلَّ بوهيموند النورمندي الإيطالي، فأعلن فور وصوله
استعداده لمبايعة الفسيلفس على الطاعة والولاء ورغبته الأكيدة في التعاون مع الروم
إلى أقصى الحدود، وكان بوهيموند قد حارب أليكسيوس في ألبانية
وفي اليونان — كما سبق أن أشرنا — فاعتور علاقاته
مع الروم في بادئ الأمر شيءٌ من الحذر والبرودة، ولكن شخصيته الجذابة ومواهبه
الكبيرة ونجاحه في التظاهر بالصدق والإخلاص؛ عاونتْ على إزالة هذا الحذر وذلك
الفتور، فقد قالت ابنة الفسيلفس صاحبة الأليكسياذة: إن بوهيموند فاق جميع رجال عصره
في جميع أنحاء الإمبراطورية جسمًا وروحًا ومقدرةً، وأُعجبت — على الرغم من كرهها
للعنصر اللاتيني — بِلِينِهِ ومرونته ولباقته ومقدرته في التعبير وفصاحته، ولم ترَ
أفضل منه سوى والدها العظيم.
وزال الشك وتفاهم الكبيران، واستقبل الفسيلفس ضيفه وأهدى إليه شيئًا كثيرًا من
الذهب والدراهم والأقمشة النفيسة، ثم أرسل أكثر منها إلى محل إقامته، فاغتبط
بوهيموند بما أُوتي من نعمة وطلب إلى الفسيلفس أن يدخل في خدمته ويتولى قيادة
جيوشه، فأجابه أليكسيوس أن كل آتٍ قريب وأنه بانتظار ذلك سيقطعه أراضي فسيحة في
منطقة أنطاكية، ولم يتردد بوهيموند في دخوله في طاعة الفسيلفس فأقسم يمين الولاء،
١٥ ثم جاء روبر دي
فلاندر
Robert de Flandre فدخل في طاعة الفسيلفس، أما ريموند دي سان جيل
Raymond de Saint-Gilles فإنه وصل
مُكدَّرًا مستاءً غير مستعد لمبايعة أليكسيوس، فأقنعه بوهيموند النورمندي بوجوب
الدخول في طاعة الفسيلفس، ففعل وأصبح مِن أخلصِ أصدقاء أليكسيوس وأشدهم وفاءً له،
وأُعجب أليكسيوس بحكمة هذا القومس واتزانه وصدقه وإخلاصه واستقامته، أما
تنكريد الصقلي
Tancrede نسيب بوهيموند فإنه لم
يرضَ أن يمر بالقسطنطينية أو أن يقسم يمين الولاء والطاعة لفسيلفس الروم، وأعلن أن
هذا القسَم لا يفرض عليه إلا نحو سيده بوهيموند.
١٦
وكان ينقص هؤلاء جميعًا — فيما يظهر — الشيء الكثير من آداب السلوك وحسن
المعاشرة، فكانوا يدخلون على الفسيلفس في الصباح الباكر ولا يُفارقونه إلا في نهاية
المساء، متطلبين متطاولين أو مسترشدين أو متحدثين مسامرين، وكانوا في كثيرٍ من
الأحيان متهتكين سفهاء، خالعين برقع الحياء، ضعفاء الإرادة، لا يَمتنعون عن شيءٍ
مما يرغبون فيه، متكلمين بما لا ينبغي متشدقين،
١٧ وكان أليكسيوس مثال الدماثة واللُّطف والصبر، فأحبوه وأعجبوا به، وتمكن
— بصبره ودهائه ولطفه وكرمه — من التوصل إلى تفاهمٍ تامٍّ معهم؛ ففي شهر أيار من
السنة ١٠٩٧ وَقَّعَ الطرفان معاهدة قضت بأن يرفع الفسيلفس علم الصليب، وأن يضع تحت
تصرُّف الزعماء فرقةً محاربةً، وأن يحمي طريقَهم في أثناء مُرُورِهِمْ في أراضي
الدولة البيزنطية، مقابل دخول هؤلاء في طاعته ومبايعته.
١٨
وقام الزعماءُ الصليبيون من القسطنطينية بما لديهم من رجال وعبروا البوسفور
وانضموا إلى جموع غودفروي دي بويون، وحاصروا نيقية فسقطتْ في يدهم، فاستولَوا على
الغنائم وأعادوا المدينة إلى الفسيلفس، ثم اتجهوا جنوبًا مذللين الصعاب في قلب دولة
السلاجقة، متعاونين في ذلك مع فرقة بيزنطية بقيادة تتيكيوس
Tatikios أحد كبار قادة الروم، وجَهَّزَ أليكسيوس حملةً بريةً
بحريةً بقيادة يوحنا دوقاس، فاستولى على إفسس وساردس وأزمير وأضالية، وقام الفسيلفس
بنفسه على رأس قوةٍ ثانيةٍ، فأخضع جميع بيثينية، وغُلب قلج أرسلان وتَقَوَّضَتْ
أركان سلطته، واستعاد أليكسيوس قلب آسية الصغرى وشواطئها الغربية.
١٩
مشكلة أنطاكية
ونفَّذ كلٌّ من الطرفين المتعاقدين ما نَصَّتْ عليه المعاهدةُ وساد الحب والوئام،
وقام أليكسيوس من القسطنطينية على رأس جيشٍ قويٍّ؛ ليلتحق بالصليبيين، ولكن بودوان
استأثر بالرها وجهاتها ولم يُعِدْها إلى الفسيلفس، وطغى بوهيموند وتجبر وطمع
بأنطاكية وملحقاتها، وكذب على تتيكيوس القائد الرومي فقال له: إن زعماء الصليبيين
لا يُضمرون إلا السوء له ولسيده وحرَّضه على الخروج ثم وصمه بالجبن، وقام كربوقا
أمير الموصل لصد الصليبيين، فخشي أليكسيوس هجومًا تركيًّا جديدًا على فُتُوحاته في
آسية الصغرى فعاد إلى عاصمته.
٢٠
وما إن تربع بوهيموند في أنطاكية حتى بدأ يَطمع في توسيع إمارته، فحاول في
حُزيران السنة ١٠٩٩ أن يخرج الروم من اللاذقية، وفي السنة ١١٠٠ هجم على أبامية
وحلب، ثم مرعش، وكانت هذه قد أُعيدت إلى الروم بموجب شروط المعاهدة، وعلى الرغم من
وُقُوع بوهيموند في يد الأتراك أسيرًا في تموز السنة ١١٠٠، فإن نسيبه تنكريد الذي
تولى الحكم في أنطاكية في غيابه استولى على طرسوس وأدنة، ثم حاصر اللاذقية ثمانية
عشر شهرًا واستولى عليها في السنة ١١٠٢ وأخرج الروم منها،
٢١ وأفسد هذا الطمع السياسي مرة أُخرى العلاقة بين الكنيسة الأرثوذكسية
والكنيسة اللاتينية؛ فإنه على الرغم مما كان قد حدث في السنة ١٠٥٤ بين البطريرك
المسكوني وبابا رومة، ظَلَّ البطريرك الأنطاكي يذكر بابا رومة في الذبتيخة،
٢٢ ولكنَّ طمع بوهيموند دَفَعَهُ إلى طَرْدِ البطريرك الأنطاكي يوحنا
السابع من أنطاكية؛ لأنه كان يونانيًّا وإلى إسناد هذا الكرسيِّ الرسولي إلى القس
برناردوس فلانسية اللاتيني، ولا صحة في القول بأن يوحنا السابع استقال استقالةً
فشغر كرسيه فنُصب برناردوس؛ لأن يوحنا لم يَسْتَقِلْ قبل وُصُولِهِ إلى
القسطنطينية، ولأن استقالته هذه ارتبطتْ منذ لحظتها الأُولى بانتخاب خلف أرثوذكسي
له يوحنا الثامن (؟) وذلك بالطريقة القانونية المرعية الإجراء آنئذٍ.
٢٣
وعاد بوهيموند من الأسر في صيف السنة ١١٠٢، واستقر في أنطاكية، فطلب إليه
أليكسيوس الفسيلفس أن ينفِّذ شروط المعاهدة المعهودة ويعترف بسلطته على أنطاكية،
فرفض بوهيموند، فلجأ أليكسيوس إلى العنف والحرب، واحتل الروم طرسوس وأدنة ومميسترة،
وحاصروا اللاذقية وأنزلوا قواتهم في نقاط متعددة على الشاطئ السوري، وهَبَّ
السلاجقةُ للأخذ بالثأر وأوقعوا بالصليبيين هزيمة شنعاء عند الرقة، ثم حاصروا
الرها، وخشي بوهيموند سوء العاقبة فانسلَّ من بين قوات الروم البحرية ووصل إلى
كورفو وكتب منها رسالته الشهيرة إلى أليكسيوس الفسيلفس: «وسأصل إلى القارة
الأوروبية وسأجمع اللومبارديين واللاتينيين والألمان ومواطني الإفرنج فأعود إليك
مالئًا مدنك بجثث القتلى وبالدم، ولن أتوقف إلا بعد أن أكون قد غرزت رمحي في أرض بيزنطة.»
٢٤
ووصل بوهيموند إلى إيطالية في أوائل السنة ١١٠٥ واتصل بحبر رومة، فرحب به وعين
ممثلًا يطوف معه؛ ليستنهض الهمم، ثم زار فرنسة، فاستقبله مليكها فيليب الأول
بالإكرام والاحترام وأصهر إليه، وكان بوهيموند حيثما حلَّ يطعن بفسيلفس الروم ويلقي
على عاتقه مسئولية إخفاق الصليبيين في سورية الشمالية، فأوغر الصدور ضد الروم في
عواصم أوروبة وأمهات مدنها، ونشأ كرهٌ لأليكسيوس دام قرونًا طوالًا، وما فتئت
أوروبة تلوم هذا البطل الشرقي حتى قام علماؤها يبحثون ويدققون في النصف الثاني من
القرن الماضي، وفي خريف السنة ١١٠٧ أنزل بوهيموند أربعةً وثلاثين ألفًا في
أَفلونة.
ثم قام إلى ديراتزو وبدأ بحصارها، وما إن فعل حتى هَبَّ أليكسيوس لقتاله برًّا
وبحرًا، فقطع أُسطول الروم كل علاقة بين بوهيموند وأوروبة الغربية، وحصر الفسيلفس
بنفسه بوهيموند في البر، فقَلَّت المؤنُ لدى بوهيموند واضطربت جُموعُهُ، فاضطر إلى
أن يفاوض في الصلح، فأملى عليه الفسيلفس شروطًا أهمها أن يعتبر بوهيموند نفسه أحد
رجال الإقطاع في خدمة الفسيلفس، وأن يُقسم يمينَ الولاء والطاعة للفسيلفس ولولي
عهده من بعده، وأن يمتنع عن حمل السلاح في وجهه، وأن يحارب في صفوف الفسيلفس كلما
قضت الحاجةُ بذلك، وألا يطمع في توسُّع سلطته على حساب دولة الروم، وأن يُعيد إلى
الروم جميعَ الأراضي التي كان قد اقتطعها من جسم الدولة، وأن يُعيد إليها اللاذقية
وغيرها من شاطئ سورية، وأن يحكم أنطاكية باسم الفسيلفس، وأن يكون بطريركها
أرثوذكسيًّا من رجال كنيسة الحكمة الإلهية، ثم أنعم أليكسيوس على بوهيموند بالهدايا
وبلقب سفاستوس.
٢٥
وعاد بوهيموند إلى إيطالية وتُوُفي فيها بعد قليل فلم يبصر أنطاكية ثانية، ورفض
تنكريد أن ينفذ شُرُوطَ هذه المعاهدة، وعاد إلى التوسُّع على حساب الروم فاحتل
أبامية في السن ١١٠٦، فاللاذقية ومميسترة وجزءًا من قيليقية في السنة ١١٠٨، فجبلة في
السنة ١١٠٩، وجرتْ مفاوضاتٌ حول
هذه الأُمُور في طرابلس وفي مدينة القدس فلم تُسفر عن شيء، وتُوُفي تنكريد في السنة
١١١٢ وبقيت مشكلة أنطاكية تنتظر الحل طوال القرن الثاني عشر.
٢٦
السياسة الداخلية
وكانت الفوضى قد عَمَّتْ جميعَ دوائر الدولة، فعمل أليكسيوس الأول على إعادة
النظام وتوطيد الأمن وتوزيع العدل، ورأى أن شيئًا من هذا لن يكون إلا إذا استعاد هو
السلطةَ كل السلطة إلى يَدَيْهِ، ولم يرضَ بمجرد تسيير دفة الحكم، بل رغب في
السيطرة؛ كي يصبح سيدَ الموقف فيُعيد الهيبة والوقار اللازمين للحكم.
وبدأ بالجيش، ولمس نقصًا مخيفًا في عدد الخيالة ونوعهم، فأدخل تعديلًا على نظام
الإقطاع العسكريِّ وأنشأ البرونية، فأقطع الرجال عددًا من القُرى وسمح لهم بجباية
الضرائب فيها شرط أن يقدموا للجيش عددًا معينًا من الفرسان بخيولهم وأسلحتهم، وكان
النظامُ القديمُ يقضي بإقطاع الجنود أرضًا معينة يستغلونها للقيام بالخدمة العسكرية
في زمن الحرب، وأضاف إلى هؤلاء الخَيَّالة الجدد عددًا من الفرسان المرتزقة، وجاء
هؤلاء من شُعُوب أوروبة ولا سيما السكسون،
٢٩ فاستعاض بذلك عن النقص الذي حلَّ بفِرَق الخَيَّالَة مِنْ جراء
تَقَلُّص الدولة في آسية الصغرى، ثم التفت الفسيلفس إلى الأُسطول فرأى أن معونة
البندقية لم تكن كافية وأنه لا يجوز الاعتمادُ عليها وحدها، فعاد إلى إنشاءِ أُسطول
روميٍّ جديدٍ، ثم رأى أَنْ يعهد بقيادةِ قُوَّاتِهِ البرية والبحرية إلى أنسبائه
الأقرباء؛ ليضمن بذلك ولاءَ القادة للعرش.
وكانت طبقةُ الأشراف قد خسرت شطرًا كبيرًا من نفوذها واحترامها في القرن الحادي
عشر، وكان عددُ أعضائها قد قلَّ، فأنشأ أليكسيوس طبقةً جديدةً بألقابٍ أَفْخَمَ
وأعظم، كانت مخصصة من قبل لأفراد الأسرة المالكة، فمنح هذه الألقاب لعدد كبير من
أنسبائه وأقربائه، فأحاط نفسه بطبقةٍ جديدةٍ من الأشراف موالية له، وقلَّ اكتراثُ
الفسيلفس بمن بقي من أعضاء مجلس الشيوخ وأنشأ مجلسًا خاصًّا من الأشراف ذوي النسب
العالي ومن كِبَار الموظفين المدنيين والعسكريين، وامتعض بعضُ الشيوخ وبعض القادة
وبعض أفراد الطبقة الأرستوقراطية القديمة، وكثر التآمر فصادر الفسيلفس أموال
المتآمرين المنقولة وغير المنقولة وزاد هؤلاء ضعفًا على ضعف.
وكان دَخْلُ الخزينة قد نقص نقصًا فاضحًا لأسباب أهمها: كثرة الحروب الداخلية
والخارجية، وتَقَلُّص مساحة الدولة، وقلة النتاج في الأرياف، فأمر أليكسيوس بمسح
جديد وضمَّ إلى أملاك الدولة جميع الأراضي التي احتلها الكبار دون حقٍّ شرعيٍّ،
٣٠ ثم لجأ إلى تزييف النقد فَسَكَّ نُقُودًا لا تحمل القيمة نفسها من
معدنها التي كانت تحملها قطع العملة السابقة، وفرض الضرائب على أساس العملة الجديدة
ولكنه جباها بقيمة العملة الصحيحة، فأحدث عملُهُ هذا اضطرابًا في الأسواق وهياجًا
في النفوس مما حمله على إعادةِ النظر في الضرائب بين السنة ١١٠٦ والسنة ١١٠٩ وطُرُق
جبايتها، وعدل أليكسيوس في فرض الضرائب وجبايتها فقلَّ الإعفاء وتساوى القوم،
٣١ وكثر دخل الخزينة فأورث الفسيلفس ابنه جيشًا منظمًا مدربًا ومالًا وافرًا.
٣٢
أليكسيوس والدين والكنيسة
وكان أليكسيوس شديد الورع والتقوى، وكان يحب علم اللاهوت ويناقش فيه ويؤلف في بعض
مسائله، وكانت ابنتُهُ حنَّة صاحبة الأليكسياذة تعجب بسعة اطلاعه في هذا العلم
وبتقواه فجعلته «ثالث عشر الرسل»،
٣٣ ومما يروى عنه في هذا الشأن أن جنوده في إبان الثورة التي أوصلته إلى
العرش نهبوا العاصمة وسلبوا وسَبَوْا، فهبَّ أليكسيوس بعد أن استوى على عرشه يحمِّل
نفسه وأفراد أسرته صومًا وتقشفًا وغير ذلك؛ ليكفر عما جرى.
وفي السنة الأُولى من ملكه استقال البطريرك المسكوني قزما الأوروشليمي؛ لأنه كان
قد قضى حياته كلها في الزهد بعيدًا عن العالم ومشاكله، فلم يرق له البقاءُ في سياسة
الكرسي؛ ففي الثامن من شهر أيار ١٠٨١ أكمل خدمة القداس ثم قال لخادمه «هات المزامير
واتبعني.» وترك الكنيسة وذهب إلى ديره ولم يعد، فتولى السدة المسكونية بعده
أفستراتيوس، وكان قليل الثقافة ضعيف الإرادة فسقط في بدعة يوحنا الإيطالي، وقال
بتقمُّص الأرواح، فأنزله المجمع القسطنطيني عن الكرسي الرئاسة وأقام بعده البطريرك
نيقولاووس الثالث الملقب بالغراماتيكوس، وكان عالمًا كبيرًا وراهبًا بارًّا وديعًا
تقيًّا، فساس السدة القسطنطينية سبعةً وعشرين عامًا، وتُوُفي شيخًا طاعنًا في السن
في السنة ١١١١.
وكان يوحنا الإيطالي الأستاذ الأول و«قنصل الفلاسفة» في جامعة القسطنطينية، وكان
أفلاطونيًّا في فلسفته يُكْبِر رجال الفكر الكلاسيكي فيقدمهم على بعض آباء الكنيسة،
وكان يقول — فيما يظهر — بأزليَّةِ المادة وأزليةِ الأفكار، وبتناسُخ الأرواح
وتقمصها، وفي السنة ١٠٨٢ شكاهُ البعضُ إلى الفسيلفس، فأمر بالتحقيق معه، ثم بمثوله
أمام المجمع المقدس، فاعترف يوحنا بركوبه متن الشطط في بعض النقاط، ولكنه أَصَرَّ
على غيرها، وامتنع عن التراجُع عما اعتقده حقًّا، فحرمه المجمع، ولكنه لم يضايق
تلامذتَه وأتباعَه فبقيتْ هذه الأفكار الأفلاطونية شائعةً في الأوساط العِلْمِيَّة
العالية في القسطنطينية، وظل اللقب «محب أفلاطون» لقبًا مشرفًا في عاصمة الروم،
٣٤ وقام بعد ذلك الراهب المصري نيلوس تلميذ يوحنا الإيطالي يعلم في
القسطنطينية أن جسد المخلص تَأَلَّهَ حالما اتحد باللاهوت فحرمه المجمع القسطنطيني
في السنة ١٠٩٤ وحرم أتباعه.
٣٥
وكان قد رغب بعضُ أسلاف أليكسيوس من أباطرة القرن الحادي عشر في إصلاح الرهبنات،
فأقطعوا بعض العلمانيين الأكفاء أديرةً معينةً وأوقافها ووكلوا إليهم أمر إدارتها
وذلك لكي ينقطع الرهبان والراهبات فيها للتعبُّد وعمل الخير، وعُرف هذا النوع من
الإقطاع بالخريستيخة، فعَمَّمَه أليكسيوس؛ ليرضي به بعض كبار الرجال من أهل السياسة
وليزيد دخل الخزينة، ولكن هذا التعميمَ أَدَّى إلى امتعاضٍ شديدٍ في بعض الأوساط
الدينية، فقد جاء في ذكريات يوحنا الأنطاكي أَنَّ هؤلاء الملتزمين العلمانيين أكلوا
الأخضرَ واليابس ومنعوا عمل الخير وقتَّروا على الرهبان فيما يأكلون ويشربون
وتصرفوا بالأوقاف كأنها أملاكُهُم الخاصة، وجاءوا بذويهم وأصدقائهم إلى الأديرة،
وأكلوا وشربوا وغنَّوا ما لا يليق، وأفسدوا حياة الرهبان وسلوكهم.
٣٦
وسمع أليكسيوس هذا وأكثر منه ولكنه أبقى على نظام الخريستيخة؛ لأنه أوقف
تَوَسُّعَ أوقاف الأديار، وزاد في دخل الخزينة، وحاول أن يُصلح الرهبان، وعلم
باندفاع أحدهم — الراهب خريستوذيلوس — في هذا السبيل، فقَرَّبَه إليه وشمله بعطفه،
وشَجَّعَهُ على إنشاء دير نموذجيٍّ في جزيرة باتموس، وفي السنة ١٠٨٨ وهب هذا الدير
الجديد جميع ما في الجزيرة وأَعْفَى جميعَ أوقافه من الضرائب ورفع عنه سلطة البطريرك،
٣٧ وأظهر الفسيلفس اهتمامًا مماثلًا في شئون الكهنة خدام الرعية، فأمر
بوُجُوب تَقَيُّدِهم بقواعدِ السلوك، وبانتقاء الصالحين من العامة؛ للقيام بهذه
الخدمة الشريفة، وبوجوب تثقيفهم وتنوير عقولهم.