سياسة ميخائيل الثامن الداخلية
وعني ميخائيل بإقالة عثرة العاصمة وإعادتها إلى سالف مجدها، فترتب عليه ترميم
الأحياء التي كانت قد التهمتْها النار، وتشييد المؤسسات الخيرية من جديد، واستهواء
السكان للعودة إلى المدينة وضواحيها، وتوزيع ممتلكات البنادقة، وإيواء تجار جنوى،
وتعهد الأسوار بالإصلاح، وإنشاء أُسطول حربي جديد.
واشتدت رغبتُهُ في توطيد سلطته وحقه في الملك، فسمل عَيْنَي الولد يوحنا الرابع،
وشَوَّهَ كاتم أسراره عمانوئيل هولوبولس؛ لأنه شهد بأم عينه الجريمة التي ارتُكبت
بحق الفسيلفس الولد، وهال البطريرك أرسانيوس الأمر فوضع ميخائيل تحت الحرم
الكنائسي، فأُنزل عن عرشه البطريركي ونفي، وتسنم هذا العرش جرمانوس رئيس أساقفة
أدرنة، فدخلت الكنيسة في أزمةٍ شديدة دامت زمنًا طويلًا.
١
ومال ميخائيل الثامن إلى الأشراف، وربط بالتزاوج بين كثير من أفرادهم وأفراد
أسرته، وخصَّ أنسباءه بالوظائف الكبرى فجعل أخاه يوحنا القائد الأعلى للجيش،
فامتعضت الأوساطُ الشعبيةُ، ومالت عنه وأيدت البطريرك أرسانيوس وانضمت إلى حزبه،
وفي السنة ١٢٧٢ أشرك ميخائيل ابنه البكر أندرونيكوس في الحكم فتوَّجه فسيلفسًا في
السادسة عشرة من عمره وأزوجه من مريم ابنة أسطفان الخامس ملك المجر.
٢
وقضت ظروفُ ميخائيل العسكرية والسياسية الدولية بالإنفاق، وقطعت المعاهدة مع جنوى
موارد ثمينة، ففرغت خزينة ميخائيل من المال وتَعَسَّرَ عليه إسعادُ الدولة وتَعَذَّرَ،
٣ وظهر النقص في أمانة أبناء جنوى فتألبوا على ميخائيل في السنة ١٢٦٤
وتآمروا مع مانفرد عدو ميخائيل على تسليم القسطنطينية إلى الإفرنج، فتقرب الفسيلفس
من البنادقة،
٤ فخشي الجنويون سُوءَ العاقبة وقبلوا أن يتخلَّوا عن حيِّهم في داخل
العاصمة، وأن يُقيموا خارجها عبر القرن الذهبي، فقامت غَلَطة مدينةً أجنبيةً عند
مدخل العاصمة! (١٢٦٥).
سياسته الخارجية
وتلخص سياسة ميخائيل الثامن الخارجية في أنه سالم المغول في آسية ليتسنى له فرضُ
سُلْطَتِهِ على جميع ممتلكاتِ الروم السابقة في شبه جزيرة البلقان، وفي أنه بذل
جهده للحيلولة دون قيام حملة صليبية جديدة لاحتلال القسطنطينية، فاضطر اضطرارًا إلى
أن يَتَوَدَّدَ لحبر رومة، فيُعيد اتحاد الكنيستين ليضمن معارضته لكل مشروع صليبي
يؤدي إلى السيطرة على القسطنطينية.
ففي السنة ١٢٦٢ أَطْلَقَ من الأسر وليم فيلهردوان الذي كان قد وقع في يد الروم
سنة ١٢٥٩ بعد موقعة بالاغونية؛ لقاء يمين الطاعة والولاء للفسيلفس، ولقاء تحويل
ثلاث قلاع من قلاعه في أقصى المورة إلى الروم، وكان قد وصل البابا أوربانوس الرابع
إلى السدة الباباوية في السنة ١٢٦١ وبعد سقوط القسطنطينية في يد الروم، وكان هذا
البابا يرغب رغبة شديدة في إعادة اللاتين إلى سابق حكمهم في القسطنطينية فحلَّ وليم
فيلهردوان من يمينه، فحاول ميخائيل التقرب من مانفرد ملك صقلية فلم يُفلح، فتقرَّب
من البابا الجديد وأغراه باتحاد الكنيستين، فعدل أوربانوس الرابع عن فكرة الحملة
على القسطنطينية، وبدأت المفاوضاتُ في اتحاد الكنيستين، ولكن أوربانوس تُوُفي في
الثاني من تشرين الأول سنة ١٢٦٤، وخلف أوربانوس الرابع إقليمس الخامس، فعضد هذا
البابا كارلوس آنجو في مطامعه في صقلية، وكانت حرب بين كارلوس ومانفرد
انتهت في السنة ١٢٦٦ بسُقُوط مانفرد في ميدان
القتال، فعاد ميخائيل الثامن يُفاوض هذا البابا الجديد في أَمْرِ اتحاد الكنيستين؛
خوفًا من مطامع كارلوس، وغدا هذا البابا أَشَدَّ اندفاعًا من سلفيه في إعادة
الإمبراطورية اللاتينية في الشرق، فصارح ميخائيل مهددًا بأنه لا يضمن له شيئًا قبل
أن يخضع الفسيلفس وكنيسته وإكليروسه لسلطته دون قيد أو شرط (١٢٦٧).
٥
وتابع كارلوس آنجو ملك صقلية استعداداته للعمل السياسي الحربي في الشرق، فاستمال
زعماء عساكر مانفرد في إبيروس، وحالف أمير المورة اللاتيني، ووَقَّعَ معاهدةً مع
بلدوين الثاني إمبراطور القسطنطينية السابق، حَدَّدَ فيها توزيعَ الغنائم (١٢٦٧)،
وتُوُفي إقليمس الرابع في ٢٩ من تشرين الثاني سنة ١٢٦٨، وانقسم الكرادلة على بعضهم،
فغَدَت السدة الباباوية شاغرةً سنتين وتسعةَ أَشْهُر، فخشي ميخائيل سُوءَ العاقبة،
فلَجَأَ إلى لويس التاسع ملك فرنسة راجيًا وَضْعَ حَدٍّ لمطامع أخيه كارلوس آنجو في
ممتلكات الروم، مؤكدًا استعدادَه للاعتراف بسلطة البابا وقرب اتحاد الكنيستين،
٦ فأحال لويس هذا الاقتراح إلى مجمع الكرادلة وأوقف أخاه عن القسطنطينية
ووجهه نحو تونس.
٧
محاولة توحيد الكنيستين (١٢٧٤)
وتُوُفي لويس التاسع في السنة ١٢٧٠ فعاد كارلوس آنجو من تونس إلى صقلية وعادت
مطامعُهُ في الشرق، فأزوج أحد أبنائه من ابنة أمير المورة فيلهردوان وأَمَدَّ هذا
الأمير بالعساكر فحَنَثَ بيمينه وحارب الروم، وقدر له النصر في إحدى المواقع (١٢٧١)،
٨ ثم اتفق الكرادلةُ وانتخبوا غريغوريوس العاشر رئيسًا على الكنيسة
الغربية، وكان غريغوريوس شديدَ الحرص على نجاح الصليبيين في الأراضي المقدسة، وكان
يرى أَنَّ هذا النجاح لم يتم دون تفاهمٍ تامٍّ بين الكنيستين اللاتينية واليونانية،
فلم يرضَ عن مطامع كارلوس آنجو في الشرق،
٩ ولكن هذا لم ينثنِ عن غيه فمد أصابعه إلى البانية وثيسالية وبلغارية
وحرَّض وألَّب، فقابله ميخائيل الثامن بتحالف مع ألفونس العاشر ملك كستيلية
«قشتالة» وعدو كارلوس، ومع إسطفانوس ملك المجر، ومعه الجنويين للمرة الثانية.
١٠
وجاءت معونة البابا غريغوريوس العاشر أكثر جدوى وأنفع من كل هذا، فَقَبْلَ أن
يغادر عكة ليتسلم رئاسة الكنيسة؛ كتب إلى ميخائيل الثامن يؤكد رغبته في اتحاد
الكنيستين، وبعد وصوله إلى رومة أرسل أربعة رهبان فرنسيسكانيين؛ ليؤكدوا حمايةَ
البابا في حال الاتحاد،
١١ فدخل الفسيلفس والبابا في طور من الصداقة والإخلاص المتبادل، وكان
غريغوريوس أرحب صدرًا من سلفه إقليمس الرابع فلم يطلب إلى الإكليروس سوى الاعتراف
بسلطته القانونية والفعلية والعودة إلى درج اسمه في الذبتيخة، وهبَّ ميخائيل يبث
الدعاية في الأوساط الإكليريكية اليونانية للاعتراف بسلطة البابا مبينًا علاقة هذا
الاعتراف الأكيدة بخلاص القسطنطينية وسلامتها، ولكن هذه الدعاية قُوبلت بمقاومةٍ
شديدةٍ ومكابرةٍ لا تَقبل النقص،
١٢ ولا سيما من البطريرك والأساقفة وبعض أعضاء الأسرة المالكة، وجُلُّ ما
توصل إليه ميخائيل أنه استمال أحد علماء اللاهوت يوحنا فِقُّس وعددًا قليلًا من
الأساقفة.
ودعا غريغوريوس العاشر إلى مجمع مسكوني في ليون في السنة ١٢٧٤ فحضره وفدٌ روميٌّ
شرقيٌّ مؤلفٌ من البطريرك المستقيل جرمانوس، واللوغوثيتوس جاورجيوس أكروبوليتة،
ورئيس أساقفة نيقية، وحمل أعضاء هذا الوفد كتابًا من الفسيلفس إلى البابا يعترف فيه
بمطالب غريغوريوس العاشر، وبعد تلاوة هذه الرسالة ورسالة غيرها من نوعها مُوَقَّعة
من بعضِ رجال الإكليروس الأرثوذكسي أُعلن رسميًّا اتحادُ الكنيستين في السادس من
تموز سنة ١٢٧٤،
١٣ ووقع كارلوس آنجو وميخائيل مهادنةً
في الحادي عشر من كانون سنة ١٢٧٥،
١٤ وأقام ميخائيل حفلةً دينيةً؛ ابتهاجًا بهذا الاتحاد، ولكنه خشي الغوغاء
والضوضاء في شوارع العاصمة، فأقام حفلته هذه في كنيسةٍ في القصر لا في كنيسة الحكمة
الإلهية.
واستقال البطريرك المسكوني يوسف احتجاجًا على ما جرى، وتولى الرئاسة بعده يوحنا
فِقُّس نفسه، وقرَّعت أفلوجية أخاها ميخائيل الثامن على ما جرى، وضَجَّ بعضُ
الأمراء، فأمر ميخائيل بحبسهم، فانعقد مجمعٌ أرثوذكسيٌّ في ثيسالية لتوبيخ الفسيلفس
وتكديره ولقطع فِقُّس،
١٥ ويرى كلٌّ من المؤرخ الإفرنسي الأستاذ لويس برهييه والأب جوغي أنه لم
يشترك في أعمال مجمع ليون سوى إكليريكيين أرثوذكسيين فقط، وأن اتحاد الكنائس لا يتم بالقوة.
١٦
وواصل غريغوريوس العاشر اتصالاته بالفسيلفس، وفاوضه في حملة صليبية جديدة؛ تطرد
الأتراك من آسية الصغرى، وتثبت أقدام الصليبيين في الأراضي المقدسة،
١٧ وأعلن غريغوريوس أنه سيتولى بنفسه قيادة هذه الحملة ولكنه تُوُفي في
مطلع السنة ١٢٧٦، فخلفه في رئاسة الكنيسة الغربية
باباواتٌ ثلاثةٌ في خلال سنتين، كانوا كلهم من رجال كارلوس آنجو، فأفسدوا على
ميخائيل سعيه، وجاء نيقولاووس الثالث في أواخر السنة ١٢٧٧ يُطالب بخُضُوع الكنيسة
اليونانية خضوعًا تامًّا، واستعفى فِقُّس من مهام البطريركية، ووفد على ميخائيل
وفدٌ باباويٌّ يتثبت من واقع الحال، فاضطرب ميخائيل وأَكَّدَ إخلاصه وقال إنه في
حال إخفاقه تجاه مناوئيه في القسطنطينية ينفصم ما تم من اتحاد الكنيستين.
فأثر كلامه هذا في نفس البابا نيقولاووس الثالث وهبَّ — لساعته — يتوسط بين
كارلوس آنجو وابن بلدوين الثاني وبين ميخائيل الثامن، وسعى وميخائيل في الوقت نفسه
لتثبيت حق بطرس الثالث زوج ابنة مانفرد في الملك في صقلية، ووافق البابا على هذا
الحل ولكنه تُوُفي في صيف السنة ١٢٨٠، وقضتْ مصلحةُ كارلوس بأن يوصل إلى السدة
الباباوية رجلًا يثقُ في إخلاصه ومحافظته على مصالحه، فأيد الكردينال الإفرنسي
سمعان ده بري
Simon de Brie وتدخل تدخلًا
فعليًّا في الانتخاب، فنجح مرشحه وتَبَوَّأَ السدة باسم مرتينوس الرابع (٢١ شباط
١٢٨١)، فذهبتْ آمال ميخائيل أدراج الرياح، «وكان قد عمل ما لا يعمل لتثبيت الاتحاد
فغشَّى الدولة بالجواسيس وسمل أَعْيُن بعض كبار رجال الإكليروس الأرثوذكسي، وحمل
رعاياه بمختلف الأساليب ليوصلهم إلى طاعة رومة، لكن مرتينوس الرابع افترى على
الفسيلفس فاتهمه بالغش والخداع ثم وضعه تحت الحرم»،
١٨ وقام مرتينوس بعدئذٍ يدبر حلفًا جديدًا لإخضاع الروم وإقامة
الإمبراطورية اللاتينية، فوفق بين كارلوس وفيليب ترنتوم والبندقية، وتمَّ الاتفاقُ
على أَنْ تقوم الحملةُ في نيسان السنة ١٢٨٣ للاستيلاء على القسطنطينية والأراضي
المقدسة، ولكن مؤامرة ميخائيل وحليفه ملك أراغونة قضت على آمال البابا وعلى ملك
كارلوس بمأساة صقلية في الحادي والعشرين من آذار سنة ١٢٨٢، وأنزل بطرس الثالث
جُنُوده في صقلية، وأعلن نفسه ملكًا عليها في صيف هذه السنة نفسها.
١٩
ميخائيل في الشرق
وتطورتْ أحوالُ الشرق في أثناء هذا كله تَطَوُّرًا خطيرًا، فأسس المماليكُ في مصر
في السنة ١٢٥٠ دولةً عسكريةً فتيةً، واستولى على
فارس منكو الخان المغولي الأكبر، واستحوذ على بغداد في السنة ١٢٥٨ هولاغو المغولي
وأزال خلافتها واستولى على مُعظم سلطنة الروم، ولم يَقْوَ ميخائيل على مقاومته
ومُعاضدة أتراك إيقونية؛ لانشغاله بأمور داخلية وخارجية هامة، ولم يكن هولاغو
مسلمًا ولم يرضَ عن الإسلام وأَحَبَّ المسيحيين وعطف عليهم، ولكن ركن الدين بيبرس
البندقداري الملك الظاهر (١٢٦٠–١٢٧٧) اعتبر نفسه زعيم الإسلام والمسلمين.
وأصل بيبرس وغيره من هؤلاء المماليك من قبائل القبجاق Kiptchak المغولية الضاربة آنئذٍ في جنوبي روسية، فقضت مصلحةُ
بيبرس وغيره من كبار المماليك أن يظلوا على صلة بأنسبائهم في جنوبي روسية. ولما كان
هولاغو قد فصلهم عن أبناء جنسهم باحتلال العراق وقِسْم كبير من آسية الصغرى، فاتح
بيبرس ميخائيل الثامن في إبقاء المضيقين مفتوحين له وللقباجقة؛ لتتم الصلة بين مصر
وجنوبي روسية عن طريق البحر، وكان خان القباجقة في روسية قد سبق له أن تدخل في شئون
البلقان، فوافق ميخائيل على اقتراح بيبرس وأزوج خان القباجقة من إحدى بناته غير
الشرعيات.
وفي السنوات العشر ١٢٦٢–١٢٧٢ تبادل ميخائيل وبيبرس الوفود السياسية، فوافق
الفسيلفس في السنة ١٢٦٢ على مرور المماليك المنتقلين من روسية إلى مصر في المضايق
مقابل إقامة بطريرك أرثوذكسي في الإسكندرية، وفي السنة ١٢٦٣ انتهز ميخائيل فرصة
مرور المماليك بالقسطنطينية فطلب إلى السلطان المصري أن يُقنع خان القباجقة بالتزام
الحياد تجاه الوضع في البلقان، وفي السنة ١٢٦٨ استولى بيبرس على أنطاكية فضعفت
شوكةُ الصليبيين ولم يَبْقَ في أيديهم سوى طرابلس وصيدا وعكة، فحالف ميخائيل
القباجقة في روسية والمماليك في مصر ضد كارلوس آنجو.
٢٠
وقضتْ مطامعُ كارلوس في القسطنطينية، وتأييد بعض الباباوات له بعدم التفات
ميخائيل إلى مصير آسية الصغرى، فأهمل الدفاع عن حُدُوده فيها، وألغى امتيازات فرق
الأكارتة Akritai الذين كان قد وكل إليهم
السهر على الحدود، فتوغلتْ جماعاتٌ من الأتراك والمغول في أراضي الروم وأَقَضُّوا
مضجع المزارعين وسكان القرى، فالتجأ سُكَّان الأرياف إلى المدن المحصنة، وأمست
أراضي الروم مقفرة، وتَعَذَّرَ — بعد هذا — الاتصالُ بإمارة طرابزون برًّا، وحاول
ميخائيل في السنة ١٢٦٥ أن يصد هؤلاء، فأنفذ يوحنا باليولوغوس على رأس حملة لإقصائهم
بالقوة، وعلى الرغم من انتصار يوحنا عليهم فإنه اضطر إلى أَنْ يَشْتَرِيَ
سُكُونهم.
وفي السنة ١٢٨١ قام أندرونيكوس بن ميخائيل بقوة عسكرية إلى وادي الميندر وكارية
ليُبْعِدَ عنها جماعات الأتراك والمغول، ففعل ورَمَّمَ مدينة ترالس Tralles وأطلق عليها اسمه، ولكنه لم يُحكم تحصينها
ولم يمونها بالمياه، فعاد الأتراكُ فاستولَوا عليها، وعلى الرغم من أن أندرونيكوس
كان لا يزال في نمفية فإنه لم يحرك ساكنًا لإنقاذها، وقُدِّرَ لهذه المدينة، التي
دعاها الأتراك آيدين، والتي أصبحتْ مَقَرَّ أمير تركي مستقل؛ أن تلعب دورًا هامًّا
في مقدرات الروم في أواخر أيام حكمهم، وكان العملُ الإيجابيُّ المفيد الوحيد الذي
قام به ميخائيل في آسية الصغرى تفاهُمُه ويوحنا الثاني كومنينوس فسيلفس
طرابزون.
ففي آخِرِ سنةٍ مِنْ حكم ميخائيل الثامن أَمَّ يوحنا كومنينوس القسطنطينية، وتزوج
من أميرة باليولوغية ودخل في تعاون أكيد مع الأسرة المالكة في القسطنطينية، ولكن
هذا التحالف بين هاتين الدولتين جاء متأخرًا؛ لأن معظم آسية الصغرى كان قد أفلت من
يد الروم؛ فالعنصرُ التركيُّ كان قد طرد الروم من الأرياف وحل محلهم، وكان قد استقر
في المُدُن متحضرًا بأدبٍ فارسيٍّ تركيٍّ وفنٍ ساسانيٍّ بيزنطيٍّ، وما بقي من الروم
في آسية كان قد انحصر في نقاط معينة على شاطئ الأرخبيل وفي بيثينية وطرابزون، أما
قيليقية فإنها كانت قد أصبحت مستعمرة أرمنية.
وكانت هذه الفترةُ فترةَ إمارات تركية مستقلة كإمارة القرمان التي استولتْ على
إيقونية في السنة ١٢٧٨، وفي هذه الفترة أيضًا وصلت قبيلة كاي كان كلي التركية
الخراسانية بقيادة أميرها أرطغرل إلى ممتلكات سلطان إيقونية، فارةً من وجه المغول،
فضربت خيامها عند حدود الروم بين بروسة وكوتاهية في سكوت وما يليها.
٢١
أندرونيكوس الثاني (١٢٨٢–١٣٢٨)
ولا تجوز المبالغة في غباء أندرونيكوس الثاني وقلة حذقه في تدبير الأمور؛ فالدولة
التي تسنم عرشها هذا الفسيلفس كانت قد أصبحت صغيرةً في مساحتها، قليلةً في عدد
سكانها، ضعيفةً في مواردها، وكانت — على صغرها وضعفها — وريثةَ ماضٍ كبيرٍ جدًّا،
وكان فسيلفسها الأول ميخائيل الثامن قد اختط لنفسه مشروعًا يتفق وظروف سلفائه لا
خلفائه، وأفضل ما تَحَلَّى به أندرونيكوس أنه كان يشعر بالمسئولية المُلقاة على
عاتقه، وأنه كان رجلًا مثقفًا، يُحِبُّ العلم والفضيلة، ويعطف على العلماء الأفاضل.
٢٢
وأول ما عني به الفسيلفس الجديد المشكلة الدينية؛ فإن عمته أفلوجية التي
أَحَبَّهَا كانت قد نفيت في عهد والده لتمسكها الشديد بالأرثوذكسية واعتراضها على
الاعتراف بسلطة رومة، فلما تبوأ أندرونيكوس العرش قامت أفلوجية تحرِّضه على فسخ
الاتفاق الذي عقد مع رومة في عهد أخيها ميخائيل، وحذا حذوها مستشار الفسيلفس الجديد
ثيودوروس موزالن فإنه كان قد ذاق آلام «الفلق» في عهد ميخائيل لاعتراضه على
الاتحاد، وكان خطر كارلوس آنجو قد زال فرجع أندرونيكوس عن قول والده بالاتحاد
وَلَبَّى بذلك رغبات معظم الإكليروس والشعب،
٢٣ وأمر بدفن والده خارج العاصمة دون أن يصلى عن نفسه في أحد الأديار
وأبعد البطريرك فِقُّس وأعاد البطريرك يوسف إلى كرسي الرئاسة، وعلى الرغم من أن
البطريرك أرسانيوس كان قد تُوُفي في السنة ١٢٧٣ فإن أتباعه ظلوا متكتلين منفصلين عن
جسم الكنيسة، فحاول البطريرك غريغوريوس الذي خلف يوسف لدى وفاته في السنة ١٢٨٣ أن
يسترضيهم ولكن دون جدوى.
ثم سمح الفسيلفس بنقل جثمان أرسانيوس إلى العاصمة بموكب فخم، وَلَكِنَّ أتباعه
أَصَرُّوا على موقفهم، وازدادوا تَعَنُّتًا وصلفًا، فأدى هذا التفكُّك في الكنيسة
إلى الإنقاص من هيبة السلطة المدنية وإضعافها، ولم تُحدث هذه العودة إلى الانفصال
تأثيرًا ما في الأوساط الإكليريكية العالية في رومة؛ لأن الباباوات كانوا منهمكين
في نزاعٍ شديدٍ مع السلطات المدنية، ولأن الصليبيين كانوا على وشك الخروج نهائيًّا
من الأراضي المقدسة.
وكان بلدوين الثاني إمبراطور القسطنطينية اللاتيني قد تُوُفي في السنة ١٢٧٣،
فانتقل حَقُّهُ في الملك إلى ابنته كاترينا، وكانت هذه مقيمة في نابولي، فسعى
أندرونيكوس لتزويجها من ابنه ميخائيل، وطالت المفاوضات في ذلك واستمرت حتى السنة
١٢٩٦ ثم أخفقت، فتزوج شارل فالوي منها في السنة ١٣٠١.
٢٤
سياسة أندرونيكوس الداخلية
وكان أندرونيكوس في الرابعة والعشرين من عمره عندما تبوأ العرش، وكان قد تزوج من
حنة المجرية ورُزق منها ميخائيل وقسطنطين، ثم تزوج من بولندة الإيطالية حفيدة أمراء
ثيسالونيكية اللاتين، فخلفت له ذكورًا ثلاثة وابنة، وكرهت بولندة ابنَي ضرتها فسعت
سعيًا حثيثًا لإقطاع أبنائها مقاطعات كبيرة، وما فتئت تلح على زوجها حتى أتعبتْه،
فضجر منها وتَخَلَّى عنها، فلجأت إلى ثيسالونيكية وناصبتْه العداء والدس،
٢٥ ولم يرضَ أندرونيكوس عن أخيه قسطنطين لعجرفته وبذخه، فلما اتهم قسطنطين
بالخيانة والتآمر في السنة ١٢٩١ أمر أندرونيكوس بمصادرة أملاكه.
وكان يوحنا لاسكاريس الأعمى لا يزال حيًّا يُرزق مقيمًا في حصن في بيثينية،
فاضطره أندرونيكوس سنة ١٢٩٠ إلى أَنْ يعترف بشرعية سلطانه، ثم أشرك ابنه ميخائيل في
الحكم وتوَّجه في كنيسة الحكمة الإلهية، وذلك في الحادي والعشرين من أيار سنة ١٢٩٥،
وجعل بعد ذلك ابنه يوحنا من زوجته الثانية ديسبوتسًا.
وعلى الرغم من قوة أندرونيكوس الجسدية وشِدَّة إيمانه في الدين؛ فإنه كان مترددًا
ضعيفًا لا يَقْوَى على إرادة اللوغوثيت الأكبر ثيودوروس موزالن، ولا على رغبات معلم
ذمته أندرونيكوس رئيس أساقفة ساردس، فنفَّذ سياستهما الدينية بقسوة وتطرُّف، وزاد
الانقسامُ الدينيُّ الداخليُّ تَعَقُّدًا وحماسًا، وكان مِن جراء هذا الضعف
والتردُّد أن الفسيلفس لم يتمكن من تنفيذ رغباته وخططه في الإصلاح ولا سيما في حقل
المالية، ولم يوفق في تغذية الخزينة، فالقروض التي لجأ إليها، والضرائب الفادحة
التي فرضها على الحبوب، وإنقاص مرتبات الموظفين، وتزييف النقد؛ أثارت الاستياء،
وأَدَّتْ إلى نُشُوب الثورات، وأسوأ ما عمد إليه في سبيل الاقتصاد كان إلغاء
الأُسطول والاستعاضة عنه ببوارج القرصان ومراكب الطليان!
٢٦
جنوى والبندقية (١٢٩٣–١٢٩٩)
وآثر الفسيلفسُ الجنويين على البنادقة، ونهج سياسة التفرقة بينهم — كما
فعل والده — فاندلعت حربٌ بين الدولتين
التجاريتين دامت ست سنوات، ويرى رجال الاختصاص أَنَّ السبب الرئيسي لهذه الحرب كان
استيلاء الجنويين على كفة
Caffa المستعمرة
البيزنطية الخطيرة على الشاطئ الشرقي لشبه جزيرة القرم واستئثارهم بسوق القسطنطينية،
٢٧ وحالفت البندقيةُ خان التتر نوغاي، وفي تموز السنة ١٢٩٦ ظهرتْ بوارجها
ومراكبها أمام القسطنطينية، وأنزلت الرجال إلى البر وأحرقت بيرا وغلطة وحاولت
اقتحامَ القرن الذهبي، وانقضَّ الجنويُّون في القسطنطينية على البنادقة فذبحوهم
ذبحًا، ثم التقى الخصمان في موقعةٍ بحريةٍ فاصلةٍ في السابع من أيلول سنة ١٢٩٨ بين
شاطئ دلماسية وجزيرة كرزلة
Curzola كان النصر فيها
حليف الجنويين، ووَقَّعَ الطرفان صلحًا في ميلانو في أيار السنة ١٢٩٩، وما إن تم
هذا الصلح حتى قامت البندقية تطالب أندرونيكوس بالتعويض عما جرى لأبنائها في السنة
١٢٩٦ في القسطنطينية، فرفض الفسيلفس، فجاء أُسطولٌ بندقيٌّ يحاصر القسطنطينية،
ويطلق سهامه إلى داخل القصر المقدس، وفي السنة ١٣٠٢-١٣٠٣ اضطر الفسيلفس إلى أن
يُوقع صُلحًا مع البنادقة، وأن يرضي الجنويين بتوسيع حيِّهم في القسطنطينية،
وبالسماح لهم باحتلال جزيرة خيُّوس للدفاع عنها ضد مطامع الأتراك، وباستمرار مفعول
الامتياز الذي كان قد خصَّ به الجنويين لاستثمار مناجم حجر الشبِّ بالقرب من فوقية
في آسية الصغرى.
٢٨
الخطر التركي
وجاء في أحد المراجع الأولية أن أندرونيكوس أَظْهَرَ اهتمامًا بشئون آسية الصغرى
منذ بدء عهده، فعبر البوسفور في فصل الشتاء وصَدَّ الأتراك وطردهم من بيثينية
وميزية وفريجية وأعاد إنشاء المدن وحَصَّنَ الحدود،
٣١ ويلوح لنا أنه بعد أن أَتَمَّ عمله في بيثينية استقر مدة من الزمن في
نمفية في السنة ١٢٩٠ وتَوَدَّدَ إلى ملك أرمينية هاثوم الثاني، فأزوج ولي عهده
ميخائيل التاسع من شقيقة هذا الملك.
٣٢
والواقعُ أن ظروفَ آسية الصغرى آنئذٍ تطلبتْ أكثر بكثير مما بُذل من العناية،
فقبيلةُ كاي كان كلي التركية الخراسانية التي مرَّ ذكرُها كانت قد تقبلت الإسلام،
وكان قد تَوَلَّى زعامتها الأمير عثمان، وكانت مراعيها قد بدأتْ تتوسع على حساب
الروم، وفي السنة ١٣٠١ تمكنتْ هذه القبيلة
بخيولها المصفحة من اختراق صفوف الروم أمام نيقوميذية،
٣٣ ولم تكن هذه القبيلة سوى إمارة صغيرة بين عدة إمارات تركية كبيرة طامعة
جميعها في الغزو والفتوحات، وأشهر هذه الإمارات آنئذٍ إمارات صروخان وقرميان وقرمان
وآيدين، وكانت هذه الإمارات قريبة من الشاطئ الغربي فبدأت تضغط على ساحل الأرخبيل
وعلى مدن الروم في الداخل.
٣٤
ورأى أندرونيكوس أن يستعين بالعنصر الآلاني القوقاسي لوقف هؤلاء الأتراك جميعًا
عند حدٍّ معقولٍ، فجيَّش فرقةً من هؤلاء وأَمَّر عليها ابنه ميخائيل التاسع وأنفذها
في السنة ١٣٠٢ إلى الجبهة في آسية، وكان ميخائيل قليلَ الخبرة فحصر نفسه في مغنيسية
فتمرد الآلان مطالبين بالتسريح، ففرَّ ميخائيل بجُمُوعه وسكان مغنيسية، فانقض عليهم
الأتراك وأعملوا السيف في رقابهم، فالتجأ ميخائيل إلى قيزيقة وأقام فيها،
٣٥ وضاق صدر أندرونيكوس وخشي سوء العاقبة فاستعان بغازان خان المغول في
فارس، وأزوجه من إحدى بناته غير الشرعيات، ولكن غازان تُوُفي في الحادي والثلاثين
من أيار سنة ١٣٠٢، فضاقت حيلة أندرونيكوس ويئس فاضطر أن يلجأ إلى المرتزقة.
فرقة المغاور الإسبانية (١٣٠٣–١٣١١)
وكانت الحربُ بين فريدريكوس الثالث الأرغوني وكارلوس آنجو الثاني قد وضعتْ
أوزارها، فأصبح الجيش الذي كان قد جُمع في قتلونية وأرغونة ونفار حُرًّا لا عمل له،
وكانت إحدى فرق هذا الجيش، فرقة المغاور الإسبانية، قد اتخذت روجه دي فلور
Roger de Flor قائدًا لها بعد تسريحها، وكان
روجه قد بدأ حياته راهبًا جنديًّا داويًّا من الداويَّة
Templier فاختلس وطرد، فعلم بحاجة أندرونيكوس
الملحة فاتصل به فاتفقا على شروط أهمها: أن يتقاضى المغاور ضعف ما كان يتقاضاه
المرتزقة العاديون، وأن تدفع الجماكية مسبقًا عن أربعة أشهر، وأن يطلق على القائد
لقب «الدوق الأكبر»،
٣٦ وفي أيلول السنة ١٣٠٣ أطلت مراكب
المغاور، وكان عددهم ستة آلاف فنزلوا بخيولهم ونسائهم وأولادهم إلى القسطنطينية،
وما إن استقروا فيها حتى طالبهم الجنويون بدين سابق فأطبقوا على أصحاب الدين
وأذاقوهم الموت.
وفي مطلع السنة ١٣٠٤ نزل المغاور في قيزيقة لفك الحصار الذي ضربه الأتراك حولها،
فذبحوا المحاصرين جماعات جماعات وأسروا الباقين وأقاموا في قيزيقة بانتظار الربيع
لمتابعة الحرب، وفي شهر نيسان قاموا إلى الجبهة فاكتسحوا الموقف اكتساحًا بسرعتهم
الخاطفة ووصولهم إلى صفوف أعدائهم وانقضاضهم عليهم بالسلاح الأبيض قبل أن يتمكن
هؤلاء من ردهم برماحهم وسهامهم، وما فتئوا كذلك حتى وصلوا إلى جبال طوروس في أقصى
الجنوب، وفي آب السنة ١٣٠٥ أوقعوا بالأتراك عند هذه الجبال خسارة فادحة أدت إلى
فرار الأتراك والتجائهم إلى أعالي الجبال.
٣٧
وكانت العلاقات قد توترت بين أندرونيكوس وثيودوروس سواتوسلاف ملك البلغار فاستقدم
المغاور إلى غاليبولي ليستعين بهم، ولكن جنوده المحاربين على حدود البلغار رفضوا
التعاون مع المغاور وهددوا الفسيلفس بالتمرد، فأمر بإبقاء المغاور في غاليبولي، ثم
علم أن فريدريكوس الثالث ملك صقلية سمع بظفر المغاور وبغنائمهم فحَدَّثَتْه نفسُهُ
بالقيام إلى الشرق في سبيل الكسب والمجد وأنه يفاوض المغاور في ذلك، فرقَّى روجه
زعيم هؤلاء إلى رتبة قيصر، وأقطعه جميع ممتلكاته في آسية، فسُرَّ روجه سرورًا
عظيمًا، وأحب أن يقدم احترامه لميخائيل ولي العهد على حُدُود بلغارية، فاستقبله هذا
بحفاوةٍ فائقةٍ ودبر له مكيدة أهلكه بها، ثم أرسل قوةً من الآلان إلى غاليبولي
ففاجأت المغاورَ وذبحت عددًا كبيرًا منهم وغنمت خيولهم (١٣٠٧)، فاستشاط المغاور
غيظًا وهبُّوا للدفاع عن أنفسهم وللأخذ بالثأر وانطلقوا في البلقان يخرِّبون
ويسلبون ويحرقون طوال سنوات ثلاث، فمهدوا بذلك السبيل لفتح تركي.
٣٨
تشويش وبلبلة (١٣٠٨–١٣٢١)
ولم يهنأ أندرونيكوس بزوال خطر المغاور، فما كاد هؤلاء يغادرون آسية حتى عاد
الأتراك إلى سابق طمعهم وغزوهم، ففي السنة ١٣٠٨ توغلوا في شبه جزيرة نيقوميذية
وقَضَوْا على مناوشات المغول أصدقاء الروم، ثم استولى الأمير سيسان حليف عثمان على
إفسس، فنهب مقام القديس يوحنا فيها،
٣٩ وكانت جزيرة رودوس قد أصبحت مركزًا للقرصنة، فلما اشتد الخلاف بين
الإسبتاليين
Hospitaliers والملك هنريكوس
الثاني في جزيرة قبرص، رغب الإسبتاليون في اتخاذ رودوس مقرًّا لهم، ففاوضوا
أندرونيكوس في تسلمها من يده إقطاعًا لهم، ولكن الفسيلفس أبى فسقطت في أيديهم
في الخامس عشر من آب من السنة ١٣١٠،
٤٠ فخسر الفسيلفس بذلك معاونة بحرية قيِّمة في نضاله ضد الأتراك.
وكان قد استعان المغاور — في إبان سخطهم على الروم — بجماعاتٍ من الأتراك، فلما
انتهى أمرُ المغاور بقيتْ هذه الجماعاتُ التركية في تراقية تنهب وتخرِّب وتدمر،
ففاوض الفسيلفس زعيمهم خليلًا في ذلك، وكاد يتوصل إلى شيءٍ من التفاهم معه، ولكن
أحد كبار الضباط طمع في بعض غنائم الأتراك فنشبت موقعةٌ حاميةٌ خسر فيها ميخائيل
التاسع كل متاعه، فبقي الأتراك في تراقية ثلاث سنوات أُخرى (١٣١١–١٣١٤)، وبقيت
تراقية أرضًا بورًا طوال هذه الفترة، واضطر أندرونيكوس إلى أن يدرب جيشًا جديدًا
وأن يستعين بالصرب قبل أن يتمكن من حصر هؤلاء الأتراك في شبه جزيرة غاليبولي
والقضاء عليهم،
٤١ ولم يرضَ بابا رومة عن نُفُوذ أوروش ملك الصرب في البلقان؛
لِتَمَسُّكِهِ بالأرثوذكسية، فحض ملك المجر شارل روبر ونسيبه فيليب عاهل ترنتوم على
محاربته، فخسر أوروش بلغراد وقِسْمًا من بلاد البوسنة، واضطر خَلَفُهُ إسطفانوس إلى
أن يطلب المعونةَ من الغرب؛ لعدم تَمَكُّن أندرونيكوس من تقديمها.
وكانت كنيسة القسطنطينية لا تزال منقسمة على نفسها، وكان أتباع أرسانيوس لا
يزالون مُصِرِّين على عدم تَدَخُّل السلطات المدنية في شئون الكنيسة، فتغيرت رئاسة
الكنيسة خمس مرات بين السنة ١٣١٢ والسنة ١٣٢٣ وشغر العرش البطريركي مرتين في هذه
الفترة.
ومما زاد في الطين بلة الاختلافُ الذي نشأ بين أفراد الأسرة المالكة؛ فإن
الفسيلفس أندرونيكوس الثاني كان قد تَعَلَّقَ بحفيده أندرونيكوس ابن ابنه ميخائيل
التاسع الذي ولد حوالي السنة ١٢٩٦، فشبَّ هذا الحفيد مدلوعًا مضطربًا فاسدًا، فأنفق
بغير حساب واستدان من الجنويين مبالغ طائلة، ثم تعلق بخليلة وغار عليها من شركة
شابٍّ آخرَ، وكمن له ليتخلص منه فأخطأه وقتل أخاه الديسبوتس عمانوئيل، فاغتاظ والده
ميخائيل التاسع وتُوُفي حزينًا كسير الخاطر في ثيسالونيكية (١٢٢٠)، فشقَّ هذا على
الجد أندرونيكوس الثاني وأحب أن يمنع حفيده من الوصول إلى العرش بعده، فأعلن ميله
نحو ولدٍ غير شرعيٍّ من ابنه قسطنطين، فتآمر أندرونكيوس الحفيد على جده وعاونه في
ذلك كلٌّ من الوزير الأول يوحنا
كنتاكوزينوس
Cantacuzenus وأوروش ميلوتين ملك الصرب، وأراد الفسيلفس أن يحكم
على حفيده بالسجن المؤبد، ثم عفا عنه، فطلب الحفيدُ العفوَ عن أعوانه، فأبى الجد،
فَفَرَّ أندرونيكوس الحفيد إلى أدرنة وانضم إليه أعوانُهُ، فدخلت الدولة في حرب
أهلية دامتْ سبع سنوات (١٣٢١–١٣٢٨) وأسفرت عن نجاح الحفيد ووصوله إلى العرش باسم
أندرونيكوس الثالث، وبقي الجد متمتعًا بجميع مظاهر الملك حتى وفاته في السنة ١٣٣٢.
٤٢