التأريخ
وعني جاورجيوس باخيميريس
Pachimeres (١٢٤٢–١٣١٠)
بتأريخ الفترة بين السنة ١٢٦١ والسنة ١٣٠٨ فصنَّف
ثلاثة عشر كتابًا حفظ بها الشيء الكثير من محتويات المفاوضات الرسيمة ونقل إلينا
حرارة المشادة حول اتحاد الكنيستين الشرقية والغربية، كما دوَّن أخبار الهجوم
التركي ومغامرات الحملة القطلونية الأسبانية، وهو والحالة هذه مرجعنا الأكبر لتاريخ
الروم في عهد ميخائيل الثامن وأندرونيكوس الثاني.
٤
ولمع في النصف الأول من القرن الرابع عشر نيقيفوروس
غريغوراس
Grégoras، فإنه بعد أن أَتْقَنَ اللغة اليونانية الكلاسيكية، وبرع
في اللاهوت والفلسفة والتاريخ والفلك؛ انخرط في عِدَاد المجاهدين ضد تعاليم برلام
الراهب، ثم مال إلى اتحاد الكنيستين فلقي عذابًا أليمًا، ومن أجَلِّ آثاره فائدةً
مصنفُهُ في تاريخ الروم، ويقع في سبعة وثلاثين كتابًا، وفيه إجمالٌ واختصارٌ قبل
السنة ١٢٠٤ وتفصيلٌ وتوسعٌ في ما جرى بين السنة ١٢٠٤ والسنة ١٣٥٩، وله أيضًا
مراسلاتٌ ومكاتباتٌ تُلقي ضوءًا قويًّا في بعض الأحيان على تاريخ عصره.
٥
ودوَّن جاورجيوس فرانجيس
Phrantzes تاريخين:
الأصغر والأكبر، فشمل الأصغر حوادث السنوات ١٤١٣–١٤٧٣، أما الأكبر فإنه ضم أخبار
الفترة ما بين السنة ١٢٥٨ والسنة ١٤٧٨، ورافق فرنجيس عمانوئيل الثاني بضع سنوات، ثم
رحل إلى المورة في خدمة الأمير توما والأمير قسطنطين الذي أصبح فيما بعد قسطنطين
الحادي عشر، وشاهد حصار القسطنطينية بأم عينه، وذبح الأتراك أولاده الذكور وسَبَوْا
ابنته فقضت حياتها في الحرم السلطاني، وأُسر فرنجيس ثم افتدي فأقام في ميسترة حتى
سقوطها في يد الأتراك، ثم رحل عنها إلى جزيرة كورفو وتقبل النذر باسم غريغوريوس
ودوَّن تاريخه فيها.
٦
وقضى دوكاس
Doukas معظم حياته في خدمة حاكم
جزيرة لسبوس الجنوي، فدوَّن أخبار السنوات ١٣٤١–١٤٦٢ باللغة اليونانية المحكية
آنئذٍ وأظهر اعتدالًا في القول وعدلًا في الرواية جعلاه مرجعًا هامًّا لكل مَنْ
أَحَبَّ الاطلاع على الحقيقة، ونُقل تاريخ دوكاس إلى الإيطالية وحفظ بها، فإن بعض
ما نجده مختصرًا في الأصل اليوناني نقرأه مفصلًا في الترجمة الإيطالية.
٧
ولنا في صاحب «القلم الرنان»
Chalcocandyles
مثالٌ ناطقٌ لإنصاف العدو، ولد لايونيكوس
خالقونذيلس
Laonikos Chalcondyles في آثينة وعني بتاريخ أَلَدِّ أعداء شعبه وهم الأتراك
العثمانيون، فدوَّن تاريخهم منذ السنة ١٢٩٨ حتى السنة ١٤٦٣ وذلك في كتب عشرة وفي
جزيرة أقريطش، وحذا حذو ثوقيذيذس فجعل أبطال روايته ينطقون بما أراده هو لهم،
وقلَّد هيرودوتس فوصف عادات الشعوب المجاورة وتقاليدهم.
٨
وخرج في هذه الحقبة عددٌ من المؤرخين على التقاليد المتبعة في التأريخ عند الروم،
فصنفوا في مواضيعَ خاصة، فكتب أليكسيس
مكرمبوليتيس
Macrembolites في حرب السنة ١٣٤٨ بين الروم والجنويين، وصنَّف
يوحنا كنانوس
Cananos في حصار القسطنطينية سنة
١٤٢٢، وألَّف يوحنا أنغنوستيس
Anagnostes في
استيلاء الأتراك على ثيسالونيكية سنة ١٤٣٠، ولمع سيليفستروس سيروبولوس
Syropoulos بعدالته في تدوين أخبار مجمع فلورنزة.
٩
اللاهوت
وقضت ظروفُ الروم في هذا الدور الأخير من تاريخهم بأنْ يلجئوا إلى الغرب في طلب
المعونة ضد الطامعين في ملكهم من رجال الغرب وضد الأتراك العثمانيين، ورأوا أن لا مفرَّ
من استرضاء رومة واستعطافها؛ لكثرة تدخل أحبارها في السياسة وانغماسهم فيها،
فكانت محاولات ومحاولات لتوحيد الكنيستين الشقيقتين الكاثوليكية الغربية
والأرثوذكسية الشرقية، وأثار هذا الموضوعُ عناية رجال الدين في الشرق فصنفوا فيه
واختلفوا فيما بينهم.
وكان أكثر رجال الدين استعدادًا لغض النظر عن قرارات المجامع المسكونية السبعة
الأولى لإرضاء أحبار رومة في هذا الدور واستدرار مساعدتهم في السياسة والحرب: يوحنا
فِقُّس أو بكوس
Veccos، وكان هذا الإكليريكي من
أَقْدَر أهل زمانه علمًا وثقافةً وحجةً وفصاحةً، وبدأ أرثوذكسيًّا متمسكًا بقرارات
المجامع الأولى محاربًا النزول عند مطالب الغرب، فاضطهده الفسيلفس ميخائيل الثامن
وحبسه، ثم قال باتحاد الكنيستين، فرقي السدة البطريركية المسكونية في عهد ميخائيل
الثامن «يوحنا الحادي عشر» وظل يدير شئونها حتى أيام أندرونيكوس الثاني، فأنزل به
هذا عقابًا صارمًا؛ لأنه قال بالاتحاد، وأشهر ما صنَّفَ فِقُّس كتابه «الاتحاد
والسلم بين الكنيستين: كنيسة رومة القديمة وكنيسة رومة الجديدة».
١٠
وحذا حذو فِقُّس ديمتريوس قيذونس
Cydones الذي
عمَّر طويلًا (١٣١٠–١٤١٠) فتعلم اللاتينية في رومة، وقال باتحاد الكنيستين بشروط
رومة، وصنَّف كثيرًا، وأشهر ما فعل في حقل اللاهوت أنه نقل إلى اليونانية مصنَّف
توما الأكويني
Summa Theologiae، وأجلُّ ما دوَّن
لنا مراسلاته مع عمانوئيل الثاني ويوحنا كنتاكوزينوس وغيرهما.
١١
وبين هؤلاء الذين قالوا باتحاد الكنيستين الأنسني الشهير بيساريون
Bessarion، وُلد في طرابزون حوالي السنة ١٣٩٥
وأمَّ القسطنطينية لمتابعة دروسه، ثم أنهاها في ميسترة في المورة على يد بليثون
الفيلسوف، ورافق يوحنا الثامن إلى مجمع فلورنزة وخرج عن أرثوذكسيته وأصبح
كردينالًا. وأشهر ما كتب في اتحاد الكنيستين رده على مرقس رئيس أساقفة إفسس ودفاعه
عن فِقُّس ضد هجمات بلاماس،
١٢ وسنعود إليه في الكلام عن اليقظة في إيطالية.
وأشد الأرثوذكسيين تَمَسُّكًا بقرارات المجامع المسكونية وأقواهم شكيمةً مرقس
إفجنيكوس
Eugenicos رئيس أساقفة إفسس، فإنه
حضر مجمع فلورنزة وأبى أن يوقع مقرراته، ثم عاد إلى القسطنطينية ينادي بالمحافظة
على العقيدة وعلى تنظيم الكنيسة كما أقرتهما المجامع المسكونية السبعة، وأشهر ما
صنَّف كتابه في تفنيد العقيدة اللاتينية، وأجلُّ ما خلَّفه لنا مراسلاته.
١٣
وأوسعهم اطلاعًا وأقواهم حجةً وأعلمهم؛ البطريركان المسكونيان غريغوريوس القبرصي
وجناديوس الفيلسوف، تولى الأول السدة البطريركية المسكونية في عهد أندرونيكوس
الثاني في السنة ١٢٨٩ فجادل فِقُّس، وصنَّف في «الإيمان» وفي «الانبثاق»، وكان
خطيبًا مُفَوَّهًا وكاتبًا كبيرًا، فألَّف في اللغة والأدب، وخلَّف رسائلَ كثيرةً
هي من أكثر مراجع المؤرخ فائدةً،
١٤ وأما الثاني جناديوس
سكولاريوس
Scholarios أول بطريرك مسكوني في عهد الأتراك العثمانيين؛ فإنه
اشتهر في حقلَي اللاهوت والفلسفة، واشترك في أعمال مجمع فلورنزة، وأظهر ميلًا نحو
الاتحاد، ولكنه أصبح فيما بعد من أشهر خصومه، فكتب عددًا كبيرًا من الرسائل في
موضوع الاتحاد والانشقاق، وجادل بليثون الفيلسوف حول أرسطو وأفلاطون فأيد الأول
تأييدًا كبيرًا. وخير ما خلَّف لنا كتابه «المراثي» وقد ضمنه معلوماتٍ مفيدة جدًّا
لتاريخ الكنيسة الأرثوذكسية في أول عهد الأتراك العثمانيين في القسطنطينية.
١٥
وقضى اهتمام الرهبان ورجال الفكر الديني في هذا الدور الأخير بالزهد والتصوف
وبالتأمل «والصمت» إلى التأليف، فكتب غريغوريوس بلاماس، المدافع الأكبر عن حركة
الصمت، سبعين عظةً لا تزال غيرَ منشورة، كما خلَّف رسائلَ عديدةً مفيدةً، وصنَّف
البطريرك فيلوثاوس مؤلفًا هامًّا فَنَّدَ فيه آراء نيقيفوروس غريغوراس، كما صنَّف
نيقولاووس قباسيلاس متروبوليت ثيسالونيكية رسالةً هامةً في الطقس البيزنطي.
١٦
الفلسفة والبيان وفقه اللغة
ولم ينقطع الروم عن أرسطو طوال عهودهم، واستمر اهتمامُهُم بأفلاطون منذ القرن
الحادي عشر حتى آخر أيامهم، فكلٌّ من ميخائيل بسلُّوس في القرن الحادي عشر، ويوحنا
إيطالوس في القرن الثاني عشر، ونيقيفوروس البلميدي؛ كرَّس نفسه للفلسفة وعكف عليها،
وأحب بسلوس أفلاطون، ودعا له، ولكن الآخرين عشقا أرسطو وأَيَّدَا قوله.
وأبصر النور في ميسترة «المورة» في منتصف القرن الرابع عشر جاورجيوس غميستوس Gemistus ودرس في القسطنطينية، ثم عاد
إلى ميسترة ليقضي حياةً طويلةً ناهزت المائة، وعُني بالفكر الكلاسيكي وتعشقه
فاستبدل كنيته بما قابلها في اللغة اليونانية القديمة فدعا نفسه بليثون Plethon، ومعنى اللفظين واحدٌ: «الملآن»، وامتلأ
بليثون أَنسنةً وتعشق أفلاطون عن طريق الأفلاطونية الجديدة فقَدَّمَه إلى الروم
واللاتين معًا، وروَّج لفكرة إنشاء أكاديمية أفلاطونية في فلورنزة، ووافقه على ذلك
كوزيمو مديتشي وغيره من عشاق الأنسنة في إيطالية.
ومال بليثون أيضًا إلى إحياء الآلهة اليونانية القديمة بإنشاء دينٍ أفلاطوني
جديد، وصنَّف في المفاضلة بين أفلاطون وأرسطو، كما كتب في النواميس، وتُوُفي في
ميسترة في السنة ١٤٥٠، وفي السنة ١٤٦٥ استولى على أسبارطة قائدٌ إيطاليٌّ من أُسرة
ملاتيستة فنقل رفات بليثون إلى ريميني في إيطالية وواراه التراب في كنيسة القديس فرنسيس.
١٧
وعني رجال الفصاحة والبلاغة والخطابة بالفلسفة كالعادة، وأشهرهم في هذا الدور
نيقيفوروس خومنوس
Chumnos تلميذ غريغوريوس
القبرصي، فإنه خلَّف عددًا من الرسائل في اللاهوت والفلسفة والبيان وما لا يقل عن
مائة واثنتين وسبعين رسالة، وقد يختلف البعضُ في تقدير أهمية نتاجه الفكري، ولكن
حبه للقديم القديم وعودته إليه واندفاعه في سبيله بشَّرت بالأنسنة في إيطالية
وبيقظة الغرب.
١٨
ويشكو علماء اللغة اليونانية الكلاسيكية اليوم زملاءَهم في هذا الدور الذي نحن
بصدده، في أن هؤلاء اتخذوا لأنفسهم الحق في تعديل بعض النصوص القديمة، فخرجوا في
ذلك من أمانة سلفائهم في أزمنة الروم، وعلى الرغم من أن الأمانة هي الأصل في مثل
هذه المواقف، فإننا نرى في خروجهم محاولة للتحرر ومظهرًا من مظاهر الابتكار.
وأشهر علماء اللغة في هذا الدور مكسيموس
بلانوذس Planudes معاصر ميخائيل الثامن وأندرونيكوس الثاني وسفير هذا
وممثله في البندقية، وأهم ما خلَّفه رسائل في غراماطيق اللغة اليونانية، ومختارات
تاريخية وجغرافية مأخوذةٌ من كتب الأقدمين.
وأجاد بلانوذس اللغة اللاتينية فنقل إلى اليونانية بعض مخلَّفات الغرب اللاتيني
أمثال أوغوسطينوس وتوما الأكويني وكاتون الأكبر وقيصر وشيشرون، ويستدل من عدد النسخ
الباقية من هذه الترجمات أن طلاب اليونانية في الغرب جعلوها أساسًا لِتَعَلُّم اليونانية.
١٩
وقام بعد بلانوذس تلميذه وصديقه عمانوئيل
موسكوبولوس
Moschopulos يؤدي رسالة أستاذه في تدريس اللغة اليونانية وجعلها في
متناول الغربيين المقبيلن عليها، فكان معجمه اليوناني اللاتيني ومؤلفه في غراماطيق
اللغة اليونانية لمدة طويلة، الكتابين الأساسين لتعلُّم اليونانية في إيطالية
وغيرها من بلدان الغرب.
٢٠
ثيودوروس ميتوخيتس
ولمع في النصف الأول من القرن الرابع عشر عالمٌ آخرُ، اشتهر بسعة اطلاعه
وبتعلُّقه بالأنسنة الكلاسيكية، هو ثيودوروس
ميتوخيتس
Metochites وزير أندرونيكوس الثاني ومدبِّر أُمُوره، جَمَعَ هذا
الرجلُ الفَذُّ بين السياسة والعلم، «فكان يقضي نهاره في إدارة أُمُور الدولة ولا
همَّ له سوى تدبيرها والنجاح فيها، ثم يسهر ليله منقبًا باحثًا كأنه لم يكن ذلك
السياسي المسئول»،
٢١ وكان شديدَ الإعجاب بأرسطو وأفلاطون وبلوتارخوس، كثير الانتباه إلى
آرائهم في السياسة، ولكنه لم يفاضل بين الديموقراطية والأرستقراطية بل نهج نهجًا
خاصًّا في الفلسفة السياسية، فقال بمَلَكية دستورية مقيدة، وذلك في عصرٍ كان فيه
الفسيلفس والكنيسة والشعب يقولون بالحق الإلهي في الملك.
٢٢
ثم جاءت الثورةُ فأنزلت أندرونيكوس الثاني عن العرش، فخسر ثيودوروس نفوذَه ومالَه
وبيتَه وزُجَّ به في السجن، فألمَّ به مرض عضال فسُمح له أن يقضي أيامه في دير خورة
الذي كان قد أنفق عليه بسخاء وزيَّنه بمكتبة فاخرة، ولا يزال هذا الدير، الذي أصبح
فيما بعد جامع القاهرية، يحفظ بالفسيفساء رسم ثيودوروس مرتديًا لباس الشرف حاملًا
نموذجًا مصغرًا للكنيسة في يده، وتُوُفي ثيودوروس في السنة ١٣٣٢.
٢٣
وأشهر مؤلفات ثيودوروس «كشكوله»،
٢٤ وقد ضمنه خلاصة اطلاعاته على سبعين مؤلفًا من مؤلفات القدماء، وأشهر
هؤلاء مصنفات سينيسيوس، وهي أَشْبَه بموسوعة عامة منها بأيِّ شيءٍ آخر، وفيها
آراؤُهُ في كثيرٍ من المواضيع الفلسفية والتاريخية، ونظم ثيودوروس في مواضيعَ
متعددة، وأشهر شعره ملحمتُهُ في تاريخ حياته، وقد جاءت في ١٣٣٥ بيتًا،
٢٥ ووصفه الشعري لدير خورة، وخلَّف ثيودوروس بعض الرسائل أيضًا.
٢٦
الروم وعصر اليقظة في إيطالية
ولا يجوز القول مع بعض علماء القرن التاسع عشر بأن رجال اليقظة في إيطالية مدينون
بنهضتهم هذه للروم الذين لجئوا إلى إيطالية بعد سُقُوط القسطنطينية في يد الأتراك؛
وذلك لسببين رئيسين: أولهما أن اليقظة كانت قد شملتْ إيطالية بأسرها قبل سقوط
القسطنطينية، وأن بطراركة وبوكاتشيو من أعيان القرن الرابع عشر لا الخامس عشر،
والثاني أن اليقظة في إيطالية كانت في حد ذاتها نتيجة تطوُّر بالغ في حياة
الإيطاليين قبل أن تكون مجرد اطلاع على مخلفات العُصُور الكلاسيكية عن طريق الروم
أو غيرهم.
وجُلُّ ما يجوزُ قولُهُ في هذا الموضوع هو أَنَّ الرُّومَ عاونوا رجال اليقظة في
إيطالية في تعلُّم اللغة اليونانية في بَدْءِ نهضتِهِم، وأن أثر الروم الحقيقي في
نهضة إيطالية جاءَ في أَوَاخِرِ القرن الرابع عشر وطوال القرن الخامس عشر بعد أن
بدأ التيقُّظ في إيطالية واشتدتْ رغبةُ أَهْلِهَا في الرجوع إلى الفكر
الكلاسيكي.
والواقعُ الذي لا مفر منه هو أَنَّ الدور الذي لعبه برلام في إيطالية في النصف
الأول من القرن الرابع عشر كان مجرد تعليم اللغة اليونانية لمن رغب في ذلك، وأن دور
ليونتيوس بيلاتوس تلميذ برلام الذي تُوُفي في العقد السابع من القرن الرابع عشر،
كان قد نشر اللغة اليونانية بين عشاق الأنسنة الكلاسيكية في إيطالية.
ثم كان ما كان من أمر رُجُوع الروم إلى تاريخهم القديم واعتزازهم به، فلمع في
القسطنطينية وفي ميسترة رجالٌ ثلاثةٌ أتقنوا علوم اليونان الأقدمين وتَغَنَّوْا
بأنسنتهم، فاشتهروا بذلك في إيطالية نفسها، عنيت بهم: عمانوئيل خريسولوراس وغميستوس
بليثون وبيساريون النيقاوي.
وذاع صيتُ خريسولوراس بما أُوتي من مقدرة في التعليم وفصاحة في الخطابة وعلوم
اللسان، وتعمُّق في الفلسفة، فجاءَه غارينو Guarino الأنسني الإيطالي يدرس عليه في القسطنطينية اللغة
اليونانية والمؤلفين اليونان، ثم قام خريسولوراس إلى إيطالية في مهمة سياسية
وَكَلَها إليه الفسيلفس، فرحب به الأنسنيون الإيطاليون أيما ترحيب وتباهَوا بذلك،
فأقام خريسولوراس عدة سنوات يعلِّم في جامعة فلورنزة، وأَصْغَى إليه فيها عددٌ من
عُشَّاق الأنسنة في إيطالية، ثم عاد خريسولوراس إلى القسطنطينية ليقوم مرة ثانية
منها إلى أوروبة الغربية في مهمة جديدة، فزار إيطالية وفرنسة وإنكلترة وإسبانية،
وطلب إليه البابا أن يزور ألمانية؛ لِيُمَهِّدَ السبيل لعقد مجمع جديد، فتُوُفي في
كونستانسة في السنة ١٤١٥.
وجاء دور بليثون الفيلسوف فعرفه الإيطاليون وأكرموه وتأثروا به، فعظَّموا أفلاطون
معه، وأنشئوا الأكاديميةَ الأفلاطونيةَ في فلورنزة.
وأشدُّ الروم أثرًا في تطوير اليقظة في إيطالية وفي تعزيزها وتقويتها: بيساريون
النيقاوي، وكان أول عهده باليقظة الإيطالية اتصالُهُ بالأنسني الإيطالي فيللفو
Filelfo الذي أَمَّ القسطنطينية للدرس والتبحُّر
عندما كان بيساريون يدرِّس فيها، وترهَّب وأصبح رئيس أساقفة نيقية ورافق الفسيلفس
إلى مجمع فراري ومال إلى توحيد الكنيستين، ثم عاد إلى القسطنطينية فلمس لمس اليد
معارضة الأكثرية الساحقة للاتحاد الذي نشد، فعاد إلى إيطالية ليصبح أحد كرادلة
رومة، وما كاد يقيم فيها ويستقر في بيتٍ خاصٍّ له حتى أصبح مقره مركز الأنسنة، ومما
قاله أحد أصدقائه الأنسني فالَّا
Valla في شخصه:
«أن بيساريون هو أقدر اليونانيين بين اللاتين وأقدر اللاتين بين اليونانيين.»
٣١ وأنفق الكردينال اليوناني بسخاء على اقتناء المخطوطات واستنساخها، فجمع
مكتبة عظيمة من مؤلفات الآباء الشرقيين والغربيين ومن كل ما كان له علاقة بالأنسنة،
وقبيل وفاته وهب هذه المجموعة الكبيرة إلى البندقية، فكانت نواة المكتبة
المرقسية.
ثم سقطت القسطنطينية، فرحل عنها عددٌ كبيرٌ من أبنائها إلى إيطالية والغرب حاملين
ما تَوَافَرَ لديهم من آثار السلف حافظين بعملهم هذا تراثًا كبيرًا، وكان بين هذه
المخطوطات التي حفظت عددًا من أفضل النسخ عن مؤلفات العصر الكلاسيكي.
٣٢