يوحنا الثامن (١٤٢٥–١٤٤٨)
وكانت الدولةُ قد تضاءلتْ فلم تَعُدْ تشمل سوى القسطنطينية وضواحيها حتى
سيلمبرية، ثم بعض الأراضي الضيقة في ساحل البحر، فجبل آثوس فثيسالونيكية فميسترة
وميزمبرية وأنخيالوس، وكانت المواردُ قد نضبتْ وقَلَّ الخيرُ، وكاد ينقطع، ولم
يتمكن يوحنا الثامن وخلفه من سك النقود الذهبية فاكتفيا بالفضيِّ منها.
١
واستغل مراد الثاني ضعف الروم فاستولى على مودونة
Modon في السنة ١٤٢٥ وخرج منها بألف أسير، وفي السنة ١٤٣٠ زحف
على ثيسالونيكية وضرب الحصار عليها، وكان أندرونيكوس باليولوغوس قد باعها من
البنادقة منذ السنة ١٤٢٣ لقاء خمسين ألف زكينة
Zechin، وكانت البندقية قد تحاشت الاحتكاك بمراد الثاني، ولكنها لم تتمكن — فيما يظهر — من
إقامة حامية قوية في المدينة، فاستولى عليها السلطانُ بنفسه (٢٩
أيار سنة ١٤٣٠) وأباح نهبها وذبح مَنْ قاومه من أهلها وكانوا كثيرًا، وحوَّل جميع
كنائسها إلى جوامعَ ما عدا كنيسة القديس ديمتريوس.
٢
وفي هذه الآونة نفسها تمكن قسطنطين باليولوغوس من احتلال بتراس ومن تصفية أمراء
آخية الإفرنج، فعاد العنصر اليوناني إلى السيطرة في بلاد اليونان بعد عراك طويل
بينه وبين العنصر اللاتيني بدأ في أيام ميخائيل الثامن.
٣
مجمع فراري (١٤٣٨-١٤٣٩)
وعظُم على يوحنا الثامن سُقُوط ثيسالونيكية في يد الأتراك، وأفزعه تقدمُ مراد
وانتصارُهُ، فهرع يرمم حصون العاصمة، ولا تزال بعض النقوش اليونانية الباقية تنطق
باهتمام يوحنا بالأسوار والحُصُون، وهاله تخاصمُ الجنويين والبنادقة في هذا الظرف الحرج.
٤
ومما زاده اضطرابًا وقلقًا أنه لم يكن له ولدٌ ذكرٌ يخلفه وأن أفراد أسرته
المالكة لم يتفقوا على أَحَدٍ منهم، وقضى العرف والقانون بأن يتولى الحكم بعده أخوه
الأصغر الديسبوتس ثيودوروس، ولكن الفسيلفس رأى في أخيه قسطنطين شخصيةً أقوى
وأَلْيَقَ وأجدر، والمؤسف المؤلم الذي حزَّ في صدر يوحنا أن المرشحين الاثنين خطبا
وُدَّ مراد الثاني واستعدَّا لحربٍ أهليةٍ مرَّة (١٤٣٥-١٤٣٦).
٥
وقام في الغرب آنئذٍ مَنْ طالب بإصلاح الكنيسة رأسها وأعضائها، وبوضع حدٍّ لخروج
يوحنا هوس وأتباعه، فالتأم مجمع مسكوني غربي في مدينة
بازل (١٤٣١–١٤٤٨) للنظر في هذين الأمرين
الهامَّين، وعلم الآباء المجتمعون بفوز الأتراك في البلقان وبتعاظُم شوكتهم،
ففاوضوا يوحنا الثامن في كيفية التعاوُن بين النصارى للصمود المثمر في وجه الأتراك،
وتبادل الطرفان الوفود وقام إلى بازل وفدٌ أرثوذكسيٌّ، وأشهر أعضاء هذا الوفد الأب
أزيدوروس الذي أصبح فيما بعد رئيس أساقفة موسكو.
ووصل هذا الوفدُ إلى بازل وبات ينتظرُ البحثَ في التفاهُم والاتحاد بين فَرْعَيِ
الكنيسة الأُم الرئيسين، ولكنَّ أساقفة الغرب تشاحنوا كثيرًا في تعيين المكان الذي
يَلتئم فيه مجمعٌ مسكونيٌّ جديد، ثم اتفقوا على إرجاء البحث في قضية التعاوُن بين
الكنيستين إلى أن يكونوا قد حَلُّوا مشكلة يوحنا هوس وأتباعه، فغضب الأرثوذكسيون
لكرامتهم وظَنُّوا أن إخوانهم الغربيين الكاثوليكيين إنما سَاوَوْا بين
الأرثوذكسيين «الحقيقيين» وبين الهراطقة، وعلمت الأوساط الإكليريكية والشعبية في
الشرق بما جرى، فهبتْ عاصفةٌ هوجاء من الاستياء في عاصمة الأرثوذكسية.
٦
ولم يرضَ البابا عن البحث في إصلاح رأس الكنيسة ولم يحضر اجتماعات بازل، ولكنه
اهتم لسير الحوادث السياسية في البلقان اهتمامًا كبيرًا، ففاتح يوحنا الثامن كلامًا
مستقلًّا في الموضوع نفسه الذي فاوض بشأنه الأساقفة المجتمعون في بازل، وكان يوحنا
على ما كان عليه من قلق واضطراب، فقبل باقتراح أوجانيوس الرابع (١٤٣١–١٤٤٧) واقترح
عقد مجمع مسكوني في القسطنطينية، ولكن البابا رأى أَنْ يعقد هذا المجمع في بلد
إيطالي وسط بين الشرق والغرب، ووعد بدفع نفقات الأعضاء الأرثوذكسيين، ودعا إلى مجمع
مسكوني في فراري وقبل يوحنا الثامن وترأس الوفد بشخصه وضم إليه أخاه والبطريرك يوسف
ومرقس متروبوليت إفسس وبيساريون العالم الأديب والإكليريكي الكبير سيلفستروس الذي
أصبح فيما بعد مؤرخ هذا المجمع
Sylvestrus
Syropoulos وعددًا غير قليل من الإكليروس والشعب، وأوفد أمير
موسكو أزيدوروس رئيس أساقفة موسكو وعددًا من الإكليروس والشعب.
٧
وعارض الفسيلفس في سياسته هذه عددٌ غيرُ قليل من وُجهاء الروم من رجال الدين
والدنيا، فأكدوا ليوحنا «أن عمله هذا يؤدي حتمًا إلى ضياع الأرثوذكسية النقية وإلى
عودة اللاتين إلى الحُكم في الشرق بسابق فظاظتهم وجشعهم»،
٨ وأفضل مثال على هذه المعارضة الشديدة ما كتبه يوسف برينوس
Bryennius في أوائل القرن الذي نحن بصدده،
فإنه قال: «ولا ينخدع أحدٌ منكم بالرجاء الفارغ بأن جيوش الحلفاء الإيطاليين
سيجيئون إلينا إن عاجلًا أو آجلًا، وإن هم تظاهروا بالدفاع عنا فإنهم سيحملون
السلاح للقضاء على مدينتنا وجنسنا واسمنا.»
٩
وعارض البابا في دعوة المجمع المسكوني إلى الانعقاد في فراري عددٌ من الأساقفة
أعضاء المجمع المنعقد في بازل، وأَبَوْا أن يُطيعوا أمره، وظَلُّوا في بازل
مجتمعين، ورفعوا سلطته!
وقد جمع يوحنا، قبل أن يبرح القسطنطينية، مجلسًا من الوجهاء وبسط أمامه وجهةَ
نظره مجددًا، فتجددت المعارضة في شخص جاورجيوس
سكولاريوس
Scholarios وغيره، وأبدى البطريرك يوسف رأيه فإذا به يعارض أيضًا،
واضطرَّ يوحنا إلى أن يستأذن سيده مرادًا الثاني فلم يوافق هذا على خطة الفسيلفس،
وبعد أن قام الوفد من القسطنطينية أحب مراد أن يقتحم أسوارها، ولكنه أصغى إلى مشورة
وزيره خليل فعدل.
١٠
ووصل الوفدُ الأرثوذكسي إلى البندقية في الثامن من شباط سنة ١٤٣٨، وفي أوائل آذار
التالي وصل إلى فراري وبدأتْ أعمالُ المجمع، وبحث — بادئ ذي بدء — في برنامج العمل
فأَلَحَّ يوحنا على أن يبدأ في السياسة والحرب، ولكن الأساقفة الغربيين رَأَوْا غير
ذلك، وكانوا أكثريةً غالبة فبوشر في بحث نقاط الخلاف بين الكنيستين، وطال الجدالُ،
وقالت الأكثريةُ بوُجُوب حَصْرِ البحث في نقاط أربع: انبثاق الروح القدس، واستعمال
الفطير، ونوع آلام المطهر، ورئاسة البابا، وأكد متروبوليت إفسس أن القول بالانبثاق
من الابن أمرٌ أَحْدَثَتْه رومة، وجادله في هذا يمين البابا الكردينال يوليانوس
قيصريني.
ثم انتشر الطاعون في فراري وأصاب بعض أعضاء المجمع فانتقل الجميعُ إلى فلورنزة في
العاشر من كانون الثاني سنة ١٤٣٩، واحتدم الجدل مرةً ثانيةً حول هذه النقاط، وامتنع
البطريرك وغيرُهُ عن موافقة الأساقفة الغربيين، وأيَّد هؤلاء كل التأييد أزيدور
رئيس أساقفة موسكو وشَدَّ أَزْرَهُ بيساريون العالم، وسئم الفسيلفس هذه المشادة
وهذا الجدل ومَلَّ وكاد يغادر فلورنزة.
وتُوُفي البطريرك قبل الوصول إلى نتيجة حاسمة، وظل مرقس رئيس أساقفة إفسس متمسكًا
بوجهة النظر الأرثوذكسية حتى النهاية، وثابر الفسيلفس في تأيد الأساقفة الغربيين،
فاتخذت قرارات معينة وأُعلن اتحاد الكنيستين في السادس من تموز سنة ١٤٣٩.
١١
ولا تزال فلورنزة حتى يومنا هذا تُفاخر بما جرى فيها فتعرض في إحدى دور كتبها
Biblioteca Laurenziana نسخة معاصرة عن قرار
الاتحاد باللغات اللاتينية واليونانية والصقلبية، ولا تزال كنيسة
Santa Maria Novella تحتفظ بأثر تذكاري لوفاة
البطريرك المسكوني يوسف المشار إليه، ولا يزال الناظرُ إلى مدخل كنيسة القديس بطرس
في رومة يُشاهد نقوشًا صغيرةً تُخَلِّدُ ذِكْرَ إبحار يوحنا الثامن من القسطنطينية
ووصوله إلى فراري وجلوسه في فلورنزة وعودته من البندقية، أما تمثال يوحنا الثامن
الذي لا يزال يعرض في متحف البروبوغندة في رومة فإنه — في الأرجح — مُزَوَّرٌ من
صنع أحد النَّحَّاتين الإيطاليين في القرن الماضي.
١٢
وعاد يوحنا الثامن إلى الشرق، وعاد الوفدُ بأكمله، فالتفَّ حول مرقس متروبوليت
إفسس عددٌ كبيرٌ من المعارضين، ورجع عددٌ كبيرٌ ممن وَقَّعَ صَكَّ الاتحاد عن
تواقيعهم، وأوقف أمير موسكو رئيس الأساقفة أزيدور ولَقَّبَه بالذئب بدلًا من
الراعي، واجتمع بطاركةُ الإسكندرية وأنطاكية وأوروشيلم في مجمعٍ محليٍّ في أوروشليم
سنة ١٤٤٣، وشجبوا قرارات فلورنزة ووصموها بالدَّنَس،
١٣ ويرى بعضُ العلماء أَنَّ أقطاب الكنيسة الأرثوذكسية اجتمعوا في السنة
١٤٥٠ في كنيسة الحكمة الإلهية في مجمع مسكوني أرثوذكسي، فشجبوا الاتحاد ومن قال به،
وأول من نشر أعمال هذا المجمع لاوون أتاليوس الإيطالي، وذلك في القرن السابع عشر،
ومنذ ذلك الحين وعلماء الكنيسة معسكران، فمنهم مَنْ يقول بصحة هذه الأعمال، ومنهم
مَنْ ينكر انعقادَ هذا المجمع، وأَشْهَرُ مَنْ يؤيد الصحة العالم الألماني درايزكه
والعالم الإفرنسي براهيه،
١٤ وفي طليعة الآخرين العالم بابايوانو اليوناني ولبديف الروسي،
١٥ ويرى العلامة المعاصر فازيلييف الروسي أنه ليس هنالك دليلٌ كافٍ يؤيد
رُجُوع قسطنطين الحادي عشر عن الاتحاد، ولكن ليس هنالك أي اختلاف في أنه لدى سُقُوط
القسطنطينية في يد الأتراك (١٤٥٣) رقي السدة المسكونية البطريرك جناديوس، وأن هذا
البطريرك الذي كان قد اشترك في أعمال فلورنزة بصفته جاورجيوس سكولاريوس، كان قد عاد
عن اتحاد الكنيستين.
١٦
موقعة ورنة (١٤٤٤)
ثم رأى مُراد الثاني أن يستريح من عناء الملك فنزل عن العرش لابنه محمد الثاني،
وكان حديث السن لا يتجاوز الرابعة عشرة، وأقام مراد في مغنيسية في آسية الصغرى يطلب
الراحة، فلما رأى الكردينال قيصريني ويوحنا الثامن ذلك، حضَّا لاديسلاس ملك المجر
على أَنْ يغتنم هذه الفرصة لمتابعة النصر.
واعتبر الكردينال العُهُود التي تُعطى لغير المؤمنين غير ملزمة أصحابها، فادعى
لاديسلاس أَنَّ العثمانيين لم ينفذوا شروط الصلح؛ إذ إنهم لم يَتَخَلَّوْا عن جميع
الحُصُون في بلاد الصرب، فنقض عهده معهم وأمر يوحنا هونيادي بالزحف على الأراضي
العثمانية، فتقدم هذا في بلغارية واستولى على كثير من حصونها ووصل إلى شاطئ البحر
الأسود، وعلم مراد بذلك فرجع إلى الملك وسار بجيش إلى بلغارية، والتقى لاديسلاس
وهونيادي خارج ورنة
Varna في التاسع من تشرين
الثاني سنة ١٤٤٤، وأمر بأن تحمل بين الأعلام صورة المعاهدة المنقوضة، فأنزل
بالصليبيين هزيمةً شنعاء «بفضل حُمق الملك لاديسلاس الذي لم يكن تجاوز العشرين من
عمره، والذي يأكل نفسَه الحسدُ لانتصارات هونيادي، فبرح المكان المعين له وصُرع في
هجوم شَنَّهُ على الإنكشارية.»
١٨
قسطنطين الحادي عشر (١٤٤٩–١٤٥٣)
ودخل قسطنطين الحادي عشر القسطنطينية في الثاني عشر من آذار سنة ١٤٤٩ فاستقبله
الشعبُ بابتهاجٍ عظيمٍ، وكانت علاقاتُهُ مع الأتراك طيبةً للغاية، فعاهد مرادًا
الثاني على الولاء في الخامس والعشرين من الشهر نفسه، ولم يعنَ بالأسوار والحصون،
ولم يتصل برومة ليثبت لها أن اتحاد الكنيستين كان لا يزال قائمًا في نظره، وجَدَّدَ
الهُدنة بين الروم والبنادقة، ولم يقلقه في أول عهده سوى طمع أخويه توما وديمتريوس
في الحكم في المورة.
ففي السنة ١٤٥١ استولى توما على جزءٍ من مقاطعة أركادية التابعة لحكم ديمتريوس،
فاستعان هذا بطره خان حاكم ثيسالية التركي، فَأَعَادَ هذا إلى ديمتريوس ما كان قد
سلبه أخوه توما، ثم تُوُفي مراد الثاني في الثاني من شباط سنة ١٤٥١، فاكفهر جو
العلاقات الرومية التركية وعظم الخطب.
محمد الثاني والقسطنطينية (١٤٥١-١٤٥٢)
واستهل محمد حكمه بأن أمر بقتل أخيه الطفل أحمد، وحاول إبراهيم أمير القرمان أن
يشق عصا الطاعة، فقام محمدٌ إليه مقاتلًا فَأَخْضَعَه، وبينما كان منهمكًا في هذا
العمل كان وزيرُهُ خليل باشا يفاوض قسطنطين الحادي عشر في مصير الأمير أورخان حفيد
سليمان العثماني، الذي كان لا يزال في القسطنطينية، فطالب قسطنطين بمضاعفة المبلغ
الذي كان يدفع إلى الفسيلفس لقاء احتفاظه بأورخان.
وعاد محمد الثاني إلى أدرنة، فعلم بمطالب قسطنطين الحادي عشر، فوقع
في العاشر من أيلول من هذه السنة نفسها (١٤٥١)
معاهدة مع البندقية التي كانت تستعد لحربٍ ضد جنوى، وفي العشرين من تشرين الثاني
تمَّ التفاهم بينه وبين يوحنا هونيادي، فتعهد السلطان الجديد بأن يمتنع عن تحريض
هوسبودار الفلاخ على المجر وعن إنشاء الحصون عند الدانوب مقابل سِلْم وأمان بين الطرفين،
٢٠ وصادق في الوقت نفسه جنوى وراغوسة وفرسان رودوس،
٢١ وفي تشرين الأول من السنة ١٤٥٢ أنفذ السلطان حاكم ثيسالية بقوة عكسرية
إلى المورة ليستولي عليها ويمنع أميريها توما وديمتريوس من مساعدة قسطنطين الحادي
عشر عند الحاجة،
٢٢ وقام في الوقت نفسه تقريبًا بمحاربة إسكندر بك في ألبانية؛ لأن
أَلفونزو ملك نابولي كان قد أنزل بعض القوات على شاطئ ألبانية.
٢٣
وفي آذار السنة ١٤٥٢ كان محمد قد بدأ بإنشاء قلعة بالقرب من القسطنطينية أطلق
عليها اسم روم ايلي حصار؛ ليهدد بها الإبحار من مرفأ القسطنطينية وإليه، فقامتْ هذه
القلعةُ في الساحل الأوروبي مقابل كوزل حصار التي كان بايزيد قد أنشأها على الشاطئ
الآسيوي، فأرسل قسطنطين وفدًا يحتج على ذلك، فأمر محمد بهم فقُطعتْ رءوسهم، وبذلك
بدأت الحرب.
٢٤
قسطنطين الحادي عشر يستعد (١٤٥٢)
وفي ربيع السنة ١٤٥٢ وصَيْفها رَمَّمَ قسطنطين الأسوار والحصون وذخر المؤن لوقت
الحصار، وراسل يوحنا هونيادي مقدمًا سيلمبرية، وألفونزو الخامس واهبًا جزيرة لمنوس،
ولوَّح بامتيازاتٍ هامةٍ لكلٍّ من البندقية وجنوى، وكتب إلى البابا نيقولاووس
الخامس، ولكنه لم يتلقَّ من الغرب شيئًا سوى شخص إيزودور الذي كان قد أصبح
كردينالًا بعد خروجه من موسكو؛ فإنه جاء من رومة موجبًا إعلان اتحاد الكنيستين في
كنيسة الحكمة الإلهية وذكر البابا في الذبتيخة، فضغط الفسيلفس على بعض رجال
الإكليروس العالي وأقام في الثاني عشر من كانون الأول من السنة ١٤٥٢ قداسًا حافلًا
في كنيسة الحكمة الإلهية بموجب الطقس اللاتيني، وما إن فعل حتى ضجت المدينة
بالاحتجاج والسخط وانتقد عالم المورة وفيلسوفها قول اللاتين بانبثاق الروح القدس من
الآب والابن وأوجع الفسيلفس لومًا؛ لأنه لجأ إلى الضغط في هذه القضية، وتزعم
جناديوس العالم هذه المعارضة، وأعلن الدوق الكبير نوتاراس
Notaras أنه يؤْثر عمائم شيوخ الأتراك على تيجان أساقفة اللاتين.
٢٥
وبدأ الحصار وظل قسطنطين يسعى لاستدرار المعونة من الغرب، ولكنه لم يَلْقَ سوى
سبعمائة محارب بقيادة يوحنا الغوستنياني الجنوي، وألح سفير البندقية وممثل البابا
على الأميرال غبريال تريفيزانو Trevisano الذي كان
قد واكب الكردينال إيزيدور، أن يبقى في مياه القسطنطينية، ولكن ربابنة البوارج
آثروا الخروج على البقاء، وحذا حذوهم أهل الحل والربط من رجال الجالية الجنوية في
بيرا، فقالوا بأن بقاءَهم على الحياد يكون في صالح الروم؛ إذ يتمكنون عندئذٍ من
إدخال المعونة إلى العاصمة.
ويستدل من أفضل المراجع الأولية على أَنَّ عدد المحاربين في عاصمة الروم آنئذٍ لم
يتجاوز اﻟ ٤٩٧٣ رجلًا وأن عدد الأجانب المقاتلين معهم تراوح بين الألفين والثلاثة
آلاف، وأن سلاح هؤلاء جميعًا كان أبيض، وأنه لم يكن لديهم سوى بعض المدافع المتوسطة
الحجم، وأن القوة البحرية كانت مؤلَّفةً من سبع بوارج، وأن الذخيرة لم تكن كافيةً،
وأن الفسيلفس اضطر إلى أن يسك النقود من فضة الكنائس.
٢٦
حصار القسطنطينية (٧ نيسان–٢٩ أيار)
وفي الثاني من نيسان سنة ١٤٥٣ مدَّ الروم السلسلة العظيمة فأقفلوا بها مدخل القرن
الذهبي، وفي الخامس منه وصل محمد الفاتح بجيوشه إلى الأسوار بستين ألف مقاتل وبعدد
كبير من الدراويش والتجار والفلاحين العزَّل الذي استهواهم النهب والسلب، وفي
السابع من الشهر نفسه أرسل السلطان إلى الفسيلفس إنذارًا رسميًّا بوجوب تسليم
المدينة، فرفض، فبدأ الحصار.
وكان قد وفد على قسطنطين الحادي عشر مغامرٌ مجريٌّ اسمه أوربانوس عرض عليه إعداد
مدفعية قوية تسهل الدفاع عن العاصمة ضد الأتراك، فقبل الفسيلفس ولكنه لم يتمكن من
دَفْع التعويضات التي طلبها هذا المجري، فخرج أوربانوس من القسطنطينية ووفد على
سلطان الأتراك (١٤٥٢) واستأذنه في صنع مدفع جبار يقذف قنابل ضخمة مؤكدًا أن هذه
المقذوفات تدك أسوار القسطنطينية دكًّا، فتحمس السلطان الفتي وأمر بوضع كميات غير
محدودة من البرونز تحت تصرُّف أوربانوس، فصنع هذا منها مدفعًا جبارًا طول ماسورته
سبعة أمتار وقطر فوهته متر، وعملًا بنصيحة أوربانوس أمر محمد الفاتح بأن يوضع
المدفع على مركبة ذات ست عجلات صنعت من خشب السنديان القوي، أما القذائف فقد جعلها
أوربانوس من الحجر وزن الواحدة منها حوالي سبع
مائة كيلو، ونقل هذا المدفع إلى أدرنة وجرَّب في ضواحيها فإذا به يقذف هذه القنابل
إلى مسافة كيلومتر واحد أو أكثر قليلًا، فسُرَّ السلطان بالنتيجة وأمر بنقل المدفع
إلى جوار القسطنطينية، فجرَّ هذا المدفع مائة ثور وقطع المسافة بين أدرنة
والقسطنطينية في خمسة وستين يومًا.
وكان لدى الروم مدافع ولكنها كانت صغيرة الحجم لا تقوى على رد المثل بالمثل، ومن
هنا قول كريتوبولوس المؤرخ المعاصر: «إن القول الفصل في الحصار كان للمدفعية.» وخشي
السلطان معونة بحرية من الغرب فأنشأ منذ السنة ١٤٥٢ أُسطولًا حربيًّا مؤلفًا من
مائتين وخمسين بارجة ما عدا مراكب النقل، فأبحر هذا الأسطول عند بدء الحصار من بحر
مرمرة ورسا في مياه البوسفور.
وفي الثامن عشر من نيسان أمر السلطان بهجومٍ عامٍّ ولكنه نكص على أعقابه، وحاول
اقتحام مداخل القرن الذهبي فلم يفلح، وفي العشرين من نيسان أطل من بحر مرمرة أسطولٌ
غربيٌّ مؤلفٌ من أربع بوارج وثلاث ناقلات كبيرة، فأمر السلطان قائد أسطوله بلطه
أوغلو بصدهم عن الوصول إلى القسطنطينية وبتدميرهم، ونشب القتال بين الطرفين بمرأًى
من السلطان، وانتصر الأسطول الجنوي القادم على الأسطول التركي المدافع، فاستشاط
محمد غيظًا وأراد أن يقطع رأس بلطه أوغلو بيده، ووصل الأسطول الجنوي إلى القرن
الذهبي وإذا به ينقل الحبوب من صقلية إلى العاصمة.
وكان السلطان قد بدأ بمهاجمة الأسوار الغربية، وكانت تمتد من القرن الذهبي إلى
بحر مرمرة، ثم رأى — على ضخامة مدافعه — أنه لا يستطيع التغلُّب على الأسوار
لمناعتها وعظم سمكها، فعوَّل على مهاجمة المدينة من أضعف جهاتها وهي الجهة المشرفة
على القرن الذهبي، وكان يحمي الأسوار المشرفة على القرن الذهبي سلسلةٌ عظيمةٌ عند
مدخل هذا القرن ووراءها مراكب حربية، فرأى السلطان أن ينقل قسمًا من سفنه برًّا
وينزلها في مياه القرن الذهبي وراء البوارج الرومية التي تحمي مدخل هذا القرن،
فمهَّد طريقًا برية بين البوسفور والقرن الذهبي بلغ طولُها حوالي ثلاثة كيلومترات،
ووضع عليها عوراضَ ضخمةً من الخشب تتدحرج عليها أسطوانات طويلة خشبية، وسيَّر فوق
هذه ستين أو سبعين سفينة من أسطوله، فجُرَّت عليها هذه السفن حتى بلغت القرن
الذهبي، فنزلت فيه بلا عناء، وكان السلطان في أثناء نقل هذه السفن يضلل حامية
القسطنطينية بالقصف بالمدافع من الجهات الأخرى، وفي صباح الثالث والعشرين من نيسان
فوجئت بوارج الروم عند مدخل القرن الذهبي بالنار من أمامها وورائها في آن واحد، ولم
يبقَ أمام الروم سوى حيلة واحدة هي حرق السفن التركية التي أُدخلت بهذا الشكل إلى
مياه القرن الذهبي، فأعدوا العدة لذلك وقرروا الهجوم في ليل الثامن والعشرين من
الشهر نفسه، ولكن الجنويين في غَلَطة أعلموا الأتراك بذلك في حينه فاتخذ هؤلاء
الإجراءات اللازمة وحالوا دون نجاح الروم.
ودام قصف المدينة بالمدافع أسابيع أربعة، فرأى البطريرك والوجهاء والقائد
الإيطالي غوسطنياني أن يغادر الفسيلفس العاصمة ليجيِّش الروم في المورة وغيرها
ويتلقى المعونة المنتظرة من الغرب، ولكن قسطنطين الحادي عشر آثر الموت مع شعبه في
الدفاع عن النفس.
وقام السلطان في السابع من أيار وفي الثاني عشر منه بهجومين عنيفين، ولكنه أخفق
في المرتين، وفي الحادي والعشرين من أيار حاول قطع السلسلة العظيمة عند مدخل القرن
الذهبي فلم يفلح، وفي الثالث والعشرين من هذا الشهر نفسه أوفد محمد الثاني أمير
سينوب يفاوض الفسيلفس بتسليم المدينة مقابل خروجه منها وخروج مَن رغب في ذلك مِن
السكان آمنين حاملين كنوزهم وأمتعتهم ومقابل تولية قسطنطين على المورة، وأنه في حال
الرفض تؤخذ العاصمة عنوةً وتستباح ثم يُذبح رجالها ذبحًا وتباع نساؤها في أسواق
الرقيق، فلم يرَ قسطنطين في هذا كله سوى فخ منصوب، فرفض، فعقد محمد في السابع
والعشرين مجلسًا حربيًّا لدرس الموقف، فاقترح خليل باشا رفع الحصار؛ نظرًا لِمَا
كان قد شاع من وُصُول قوة غربية إلى مياه خيُّوس، ولكن محمدًا عارض كل المعارضة
وأمر بوجوب الاستعداد لهجومٍ عامٍّ في التاسع والعشرين، وعلم الروم بذلك وقاوموا
ببسالة فائقة وردوا الأتراك على أعقابهم مرتين متتاليتين، وكان قد تهدم السور
الخارجي بالقرب من باب أدرنة، فتسلل الإنكشاريون من هذه الثغرة إلى السور الداخلي،
وعلموا من أعوانهم في داخل القسطنطينية أن الباب الخفي الصغير
Kerkoporta الذي كان يطل على الخندق في هذا
القطاع نفسه كان مهملًا، فاقتحموه ونفذوا منه إلى داخل المدينة، فدب الذعر في
العاصمة، وكان القائد غوسطنياني قد جرح فنقل إلى جزيرة خيُّوس وتُوُفي لدى وصوله
إليها، وتابع قسطنطين الجهاد وما فتئ يحارب حتى خرَّ صريعًا في ميدان الشرف، وأباح
السلطان المدينة ثلاثة أيام بلياليها ثم دخلها وذهب توًّا إلى كنيسة الحكمة الإلهية
فصلى على مذبحها وأعلنها مسجدًا، ثم استقر في القصر المقدس، وذبح الأتراك أربعين
ألفًا وساقوا إلى أسواق الرقيق خمسين أو ستين ألفًا.
٢٧
(انتهى)