قسطنديوس الثاني ويوليانوس الجاحد
قسطنديوس (٣٣٧–٣٦١)
وتُوُفي قسطنطين الكبير عن ذُكُور ثلاثة جميعُهُم من زوجته فاوسطة بنت الإمبراطور مكسيميانوس، وهم: قسطنطين الثاني وقسطنديوس الثاني وقسطنس، وحكم الثلاثة الإمبراطورية معًا، فتولى قسطنطين الثاني الغرب: إيطالية وغالية وإسبانية وقسمًا من أفريقيا. وتولى قسطنديوس الثاني الشرق بأكمله. أما قسطنس فإنه حكم إيليرية وقسمًا من أفريقيا، وطمع قسطنطين الثاني في مُلك قسطنس فحاربه ولكنه خَرَّ صريعًا في أكويلية سنة ٣٤٠، ثم تمرد الجُند على قسطنس وقتلوه في السنة ٣٥٠، فأصبح قسطنديوس الثاني المالك وحده، وكان رجلًا عاقرًا لا وارث له، فاستدعى ابن عمه غالوس من منفاه ورفعه إلى رُتبة قيصر وأَمَّرَهُ على برايفكتورة الشرق وجعل مقره أنطاكية، ولكن غالوس هذا كان جافي الطبع فَظَّ القلب قليلَ الرحمة، فطغى وتجبَّر وأرهب الناس إرهابًا، فاستدعاه ابن عمه الإمبراطور إليه في إيطالية في السنة ٣٥٣، وحاكمه وأمر بقطع رأسه، وعندئذٍ طلب ابن عمه الأصغر يوليانوس وجعله قيصرًا على غالية.
شابور ذو الأكتاف١
وكادت الحرب تقع قبيل وفاة قسطنطين الكبير في السنة ٣٣٧ — كما سبق أن أشرنا — فقطع ذو الأكتاف الحدودَ في السنة ٣٣٨، وحاصر نصيبين، ثم عاد إليها في السنة ٣٤٦، وفي السنة ٣٤٨ جَرَتْ موقعةٌ ليليةٌ في منطقة سنجار، وفي السنة ٣٥٠ طلب ذو الأكتاف تغرانوس السابع ملك أرمينية للمفاوضة، فأسره ومضى به إلى بلاده. ويقال إنه سمل عينيه؛ لأنه كان نصرانيًّا مثل سلفه. وفي السنة نفسها مشى ذو الأكتاف إلى نصيبين للمرة الثالثة وشارف أسوارها مستعينًا بالفيلة التي استقدمها من الهند، ولكنه أخفق مرة أخرى وارتد على أعقابه لدرء خطر الشينيين الذين تدفقوا على فارس من الشمال والشرق.
وفي السنة ٣٥٥ جدد مَلِك أرمينية أرشاك الثالث (٣٥١–٣٦٧) التحالفَ الرومانيَّ الأرمني، وتزوج من أوليمبياس خطيبة قسطنس السابقة، فأَقضَّ ذلك مضجعَ شابور الثاني ذي الأكتاف واستفزه للحرب؛ وخصوصًا لأن عامله في بابل كان قد جرَّأَه بما بالغ له في تصوير المشاكل التي كان يُعانيها قسطنديوس الإمبراطور في الغرب، وعبر شابور دجلة في جيش عظيم في السنة ٣٥٨ فتجاوز نصيبين هذه المرة ولم يحاصرْها بل زحف على آمد «ديار بكر» فأخذها عنوةً بعد حصار دام شهرين. وكان قسطنديوس لا يزال في سيرميوم في إيليرية يعالج بعض المشاكل الدينية المسيحية، ولا سيما علاقة الآب بالابن، فقام منها إلى القسطنطينية وبقي فيها طوال شتاء السنة ٣٥٩-٣٦٠.
وفي ربيع السنة ٣٦٠ نهض من القسطنطينية لمُجَابَهَة الخطر الفارسي، ولدى وُصُوله إلى قبدوقية سمع بخيانة ابن عمه يوليانوس، فلم يكترثْ لها؛ لأنه كان يَجهل مواهبَ هذا الزميل الجديد، وكان شابور ذو الأكتاف قد استأنف الحرب فاحتل سنجار، ثم اتجه منها إلى بيت زبدي «جزيرة ابن عمر» على ضفة دجلة الغربية وحاصرها، فحاول قسطنديوس أن يفك هذا الحصار فلم يُفلح، وسقطت بيت زبدي في يد الفرس في خريف السنة ٣٦٠، وأقبل فصلُ الشتاء فتوقفت الأعمالُ الحربية ولبث قسطنديوس في أنطاكية، وفيها احتفل بزواجه الثاني بعد وفاة يوسيبية زوجته الأولى.
وكانت حاشيةُ قسطنديوس لا تزال توغر صدره على ابن عمه يوليانوس، بينما خطر الفرس في الشرق يتعاظم، فطلب الإمبراطور إلى ابن عمه القيصر أن يوافيَه بأحسن ما عنده من الجُند للصمود في وجه الفرس، ويقال إن يوليانوس مَالَ إلى تلبية الطلب ولكن جنوده تمردوا احتجاجًا ونادوا به إمبراطورًا في باريز في السنة ٣٦٠. وكتب يوليانوس إلى قسطنديوس يرجو منه الاعتراف بما تم ولكن قسطنديوس أَصَرَّ عليه أَنْ يَتَنَازَلَ ويثبت الطاعة، فاضطر يوليانوس أَنْ يزحف بجُنده على الشرق، وسار قسطنديوس من أنطاكية إلى القسطنطينية فالغرب لمنازلة خصمه، ولكنه مرض وهو لا يزال في طرسوس، واشتد الخطر على حياته فاعتمد بيد أسقف أنطاكية الآريوسي افزويوس، وتُوُفي على مسيرة يوم من طرسوس في الثالث من تشرين الثاني سنة ٣٦١. وأجمل ما يُذكر عنه أنه عندما أشرف على التلف أوصى بأن يكون يوليانوس نفسه خلفًا له.
الوثنية
ولكن قسطنديوس كان آريوسيًّا متطرفًا فأعلنها حربًا على النيقاويين الكاثوليكيين الأرثوذكسيين، فاضطهد أثناسيوس الكبير بطريرك الإسكندرية، ونفى هوسيوس الأسقف الإسباني صديقَ والده وهو في سِنٍّ تَزيد على المائة، كما نفى ليباريوس بابا رومة؛ لأنه كان قد امتنع عن قَبُول مقررات مجمع ميلان (٣٥٥).
يوليانوس الجاحد (٣٦١–٣٦٣)
هو يوليانوس بن يوليوس بن قسطنديوس الأول «كلوروس»، وهو أخو غالوس لأبيه لا لأمه، كما كان والده يوليوس أخا قسطنطين الكبير لأبيه لا لأمه، فوالدةُ قسطنطين هيلانة ووالدة يوليوس تيودورة ووالدة غالوس غلَّة ووالدة يوليانوس باسيلينة.
ولد يوليانوس في النصف الثاني من السنة ٣٣١ في ميسية على الدانوب، وما إن مضت بضعة أشهر حتى توفيت والدته، فنقل إلى القسطنطينية ونشأ في قصرٍ لجدته في بر الأناضول لا يبعد كثيرًا عن العاصمة، وفي السادسة من عمره؛ أي في السنة ٣٣٧، شهد مقتل والده وجميع أقربائه ونجا هو وأخوه غالوس بأعجوبة، فشبَّ مضطرب العصب غير متزن، وتولى أمره في هذه الفترة من حياته يوسيبيوس الآريوسي أسقف نيقوميذية ونسيب والدته، فوكل أمر تهذيبه إلى خصيٍّ نصرانيٍّ «مردونيوس» كان شديد الإعجاب بهوميروس الشاعر اليوناني، وتُوُفي يوسيبيوس في السنة ٣٤١، فنفى قسطنديوس الأميرين الصغيرين إلى قصرٍ في قبدوقية على مسافة قريبة من قيصرية، أما غالوس فشب شرسًا أحمق، وأما يوليانوس فإنه قضى ست سنوات يدرس ويطالع مؤلفات أعاره إياها كاهنٌ نصرانيٌّ. وفي السنة ٣٤٧ أمر قسطنديوس بانتقال غالوس إلى إفسس ويوليانوس إلى القسطنطينية.
وكان قسطنديوس يخشى تطلع الغاليين إلى الاستقلال، ولم يكن بإمكانه أن يُشرف بنفسه على أُمُورهم لكثرة أشغاله ولشدة خوفه مِنْ شابور ومطامعه، فاستدعى يوليانوس إليه وأطلعه على ما كان يخالج فؤاده ودفع به إلى شفيعته الإمبراطورة، فقالت هذه ليوليانوس: أنت مدين لنا بالشيء الكثير وسيكون لك أكثر فأكثر بعون الله إذا كنت أمينًا منصفًا، وكان يوليانوس قد التحى لحية الفلاسفة فأمر بها عمه فحلقت وارتدى يوليانوس لباس الأمراء، وفي السادس من تشرين الثاني من السنة ٣٥٥ استعرض قسطنديوس الجند وأمسك بيده يوليانوس وقال للجند: «أنتم الحَكَم! لقد طغى البرابرة على غالية، وإني أُرشح يوليانوس قيصرًا، فهل تقبلون؟» فصرخ الجند: «هذه هي مشيئة الله!» وعندئذٍ وضع قسطنديوس التاج على رأس يوليانوس ووشحه بالأرجوان، وشفع الجند عمله بأن دقوا ركبهم بالتروس.
ثم تزوج يوليانوس من هيلانة ابنة قسطنديوس وقام إلى غالية، وبقي فيها ثلاث سنوات، أظهر في أثنائها من الحزم والعدل واللطف ما فتن الناسَ به وأذاع صيتَه في الغرب والشرق معًا، وكان ما كان مِنْ أَمْرِ شابور ذي الأكتاف فقضت الظروف العسكرية بوجوب الاستعانة بأفضل مَنْ في الغرب من جُنُودٍ، على أن جنود يوليانوس آثروا المناداة به إمبراطورًا وسايرهم هو على الأمر. وفي صيف السنة ٣٦١ مشى إلى الشرق على رأس خمسة وعشرين ألفًا، واحتل سرميوم ونيش، ثم علم بوفاة قسطنديوس وبما أوصى به فأسرع إلى القسطنطينية ودخلها في الحادي عشر من كانون الأول سنة ٣٦١.
سياسة يوليانوس الداخلية
وما كاد يوليانوس يجلس على أريكة القسطنطينية حتى أمر بتشكيل مجلسٍ خاصٍّ لتطهير الإدارة من أدران الحكم السابق. وتألف هذا المجلس من أخصاء الإمبراطور العسكريين، فحكموا بالإعدام على طائفة من رؤساء الدوائر المدنية وبالنفي على غيرهم، وتناول مثل هذا التطهير القصر الإمبراطوري، فطرد الإمبراطور الجديد عددًا كبيرًا من الخَدَم والحشم ولا سيما الخصيان، وأراد أن يظهر بمظهرٍ جمهوريٍّ فعظَّم القناصل وجالس الشيوخ كأنه واحدٌ منهم. وعلى الرغم من قلة النقد في الخزينة فإنه أمر بتخفيف ضريبة التاج التي كانت تُجبى في مناسبة تبوُّء العرش.
موقفه من النصرانية والوثنية
وكان يوليانوس يرى في مصنفات علماء اليونان وفلاسفتهم ينبوع الثقافة كلها، ويرى في فلسفتهم فلسفة عالمية تتعدى حدود اليونان الجغرافية فتشمل العالم بأسره، وكان يرى في مؤلفات فيثاغورس وأفلاطون ويمبليخوس مئونة فكرية كافية يستغني بها كل عالم عن كل قولٍ فلسفيٍّ آخرَ، واستهواه يمبليخوس اللبناني وسيطر على تفكيره فابتعد عن أفلاطون ولم يهتدِ بهديه.
ويستدل من رسائله — ولا سيما تلك التي جعل عنوانها «الملك الشمس» — أنه قال بأكوان ثلاثة أو شموس ثلاث: الشمس الأولى شمس الحقائق الراهنة والمبادئ السامية والعلة الأولى وهي التي سمَّاها الشمس النفس، والشمس الثالثة شمس المادة الملموسة وصورة انعكاس الشمس الأُولى. وبين الاثنتين — بين النفس والمادة — شمسٌ ثانية هي شمس العقل. ولَمَّا كانت الشمس الأُولى بعيدةَ المنال وكانت الشمس الثالثة مادية غير صالحة للعبادة، فإن يوليانوس عَبَدَ شَمْسَ العقل وسمَّاها الملك الشمس، واعتقد أنه هو سليل الملك الشمس يهتدي بإرشاده عن طريق رؤًى معينة يتفضل بها عليه الملك الشمس بين حينٍ وآخرَ. وقال بتناسُخ الأرواح على طريقة فيثاغورس، فاعتقد أنه هو الإسكندر في دور آخر.
وتبنى في رسالته «ما يؤخذ عن النصرانية» موقفَ بورفيريوس الفيلسوف الحوراني اللبناني، فقال إن الإله يهوه إله التوراة هو إله شعب خاص لا إله الكون بأسره، وأنه هنالك تناقضًا بين التوحيد في التوراة والتثليث في الإنجيل، وأن الأناجيل الأربعة متنافرةٌ غير متآلفة، وكره النصارى لأنهم كفروا بالآلهة، كما كره كل وثنيٍّ لعن آلهة أجداده وجدَّف عليها.
ولا نعلم بالضبط متى أَعلن يوليانوس نفسه وثنيًّا، وقد يكون ذلك في السنة ٣٦١ في نيش عندما علم بوفاة قسطنديوس وبوصيته؛ ففيها ذبح يوليانوس باسم الآلهة، ومنها كتب إلى بعض أصدقائه، ولكن هذا لم يعنِ اضطهاد النصرانية، فإنه عندما دخل القسطنطينية استدعى إليه مكسيميوس الوثني كما استدعى القديس باسيليوس رفيقه في جامعة آثينة.
وأفرغ يوليانوس مجهوده في تذليل الأكليروس، فنزع منهم امتيازاتهم وأبطل ما كان قد أمر به قسطنطين الكبير من معونة لهم، وكان يقول مستهزئًا إِنَّ قصده من ذلك أن يقود المسيحيين إلى الكمال بحملهم على إتقان الفقر الذي أمر به الإنجيل، وعرَّى الكنائس ونقل تحفها إلى هياكل الأوثان.
في أنطاكية
وعلم يوليانوس أن يسوع تنبأ بأن لا يبقى من الهيكل في أوروشليم حجر على حجر، فلكي يكذِّب الكتب اهتم لإعادة بناء الهيكل، فأرسل إلى أوروشليم أحدَ أمنائه إليبيوس ليشرف على العمل، وتقاطر اليهود واجتمع عدد كبير منهم في مكان الهيكل، فجرفوا المكان وحفروا في الأرض كبارًا وصغارًا رجالًا ونساءً، ولَمَّا انتهَوا مِن هدم الأساسات القديمة وأوشكوا أنْ يضعوا الأساسات الجديدة حدثتْ زلزلةٌ هَدمت الأبنية المجاورة وقتلت بعض الفَعَلة وملأت الحفر ترابًا.
الحرب الفارسية
ولم يسعَ شابور ذو الأكتاف للحرب هذه المرة، بل فاوض في سبيل السلم والوئام وبعث الرسل إلى أنطاكية، ولكن يوليانوس أبى أن يُصغي إليهم واكتفى بالقول: «قريبًا ترونني.» واسترضى اليهود في مملكته؛ طمعًا في أن يعاونه إخوانهم في فارس، وحالف ملك أرمينية على الرغم من نصرانيته، ونهض في ربيع السنة ٣٦٣ إلى الفُرات على رأس جيشٍ مؤلَّف من خمسة وستين ألفًا. وكان يود أن ينصب على عرش فارس هورمزد أخا شابور وكان هذا لا يزال داخل الحدود الرومانية منذ السنة ٣٢٤، وقطع يوليانوس الفرات على جسر من القوارب، ولدى وصوله إلى الخابور أفرز ستة عشر ألفًا بقيادة بروكوبيوس أحد أنسبائه؛ ليتجه بهم شرقًا عن طريق نصيبين ويتصل بالأرمن الزاحفين شطر الجنوب، وأعطى بروكوبيوس في السر ثوبًا أرجوانيًّا وعينه خلفًا له في حال الوفاة، وزحف هو يحاذي الفرات في طريقه إلى بابل. وكان ذو الأكتاف قد أخطأ التقدير فحسب أن الجيش الروماني سينطلق من نصيبين، فاتجه هو إلى دجلة لمقابلة أعدائه، وتابع يوليانوس زحفه جنوبًا ثم اتجه شرقًا إلى دجلة، واحتل سلوقية وواقع خصمه عندها، فانتصر عليه انتصارًا باهرًا. واستأنف الزحف على طيسفون عاصمة شابور، فبلغها وشابور لا يزال بعيدًا عنها. وكانت طيسفون صعبة المنال، فرأى يوليانوس أن يتصل ببروكوبيوس والأرمن قبل ضرب الحصار عليها، وفيما هو فاعلٌ ضايقه الفرس في السادس والعشرين من حزيران بهجوم متتابع، وكان هو قد نزع عنه درعه من شدة الحر فاضطر فجأة أن يتقدم إلى الصفوف الأمامية لرد هجوم على مؤخرة جيشه، فأصابه سهمٌ في ذراعه عقبه نزيف شديد، وعبثًا حاول أطباؤه وقف النزيف فتُوُفي في منتصف الليل وهو يحدِّث صديقيه الفيلسوفين مكسيميوس وبريسكوس عن صفات النفس السامية العالية، وقيل إن فارسًا مسيحيًّا من فرسانه رماه بهذا السهم للقضاء عليه.