بحيرة النار
كل ما يفعله الإنسان سرًّا في ظلمة الليل يظهره الإنسان علنًا في نور النهار. الكلمات التي تهمسها شفاهنا في السكينة تصير على غير معرفة منا حديثًا عموميًّا، والأعمال التي نحاول اليوم إخفاءها في زاويا المنازل تتجسّم غدًا، وتنتصب في منعطفات الشوارع.
كذا أعلنت أشباح الدجى مقاصد المطران بولس غالب من اجتماعه بفارس كرامة، وهكذا حملت دقائق الأثير أقواله وأحاديثه إلى أحياء المدينة حتى بلغت مسمعي.
ما طلب المطران بولس غالب مقابلة فارس كرامة في تلك الليلة المقمرة ليفاوضه بشؤون الفقراء والمعوزين، أو يخابره بأمور الأرامل والأيتام، بل أحضره بمركبته الخصوصية الفخمة ليطلب منه ابنته سلمى عروسًا لابن أخيه منصور بك غالب.
كان فارس كرامة رجلًا غنيًّا، ولم يكن له وارث سوى ابنته سلمى، وقد اختارها المطران زوجة لابن أخيه، لا لجمال وجهها ونبالة روحها، بل لأنها غنية موسرة، تكفل بأموالها الطائلة مستقبل منصور بك، وتساعده بأملاكها الواسعة على إيجاد مقام رفيع بين الخاصّة والأشراف.
إن رؤساء الدين في الشرق لا يكتفون بما يحصلون عليه أنفسهم من المجد والسؤدد، بل يفعلون كل ما في وسعهم ليجعلوا أنسباءهم في مقدمة الشعب ومن المستبدِّين به والمستدرّين قواه وأمواله. إن مجد الأمير ينتقل بالإرث إلى ابنه البكر بعد موته، أما مجد الرئيس الديني فينتقل بالعدوى إلى الإخوة وأبناء الإخوة في حياته. وهكذا يصبح الأسقف المسيحي والإمام المسلم والكاهن البرهمي، كأفاعي البحر التي تقبض على الفريسة بمقابض كثيرة وتمتصّ دماءها بأفواه عديدة.
عندما طلب المطران بولس يد سلمى من والدها لم يجبه ذلك الشيخ بغير السكوت العميق والدموع السخينة، وأي والد لا يشق عليه فراق ابنته حتى ولو كانت ذاهبة إلى بيت جاره أو إلى قصر ملك؟ أي رجل لا ترتعش أعماق نفسه بالغصّات عندما يفصله ناموس الطبيعة عن الابنة التي لاعبها طفلة وهذّبها صبية ورافقها امرأة؟ إن كآبة الوالدين لزواج الابنة تضارع فرحهما بزواج الابن، لأن هذا يكسب العائلة عضوًا جديدًا، أما ذاك فيسلبها عضوًا قديمًا عزيزًا. أجاب الشيخ طلب المطران مضطرًّا، وانحنى أمام مشيئته قهرًا عما في نفسه من الممانعة، وكان قد اجتمع بابن أخيه منصور بك وسمع الناس يتحدثون عنه، فعرف خشونته وطمعه وانحطاط أخلاقه، ولكن أي مسيحي يقدر أن يقاوم أسقفًا في سوريا ويبقى محسوبًا بين المؤمنين؟ أي رجل يخرج عن طاعة رئيس دينه في الشرق ويظل كريمًا بين الناس؟ أتعاند العين سهمًا ولا تُفقأ؟ أو تناضل اليد سيفًا ولا تُقطع؟ وهب أن ذلك الشيخ كان قادرًا على مخالفة المطران بولس والوقوف أمام مطامعه، فهل تكون سمعة ابنته في مأمن من الظنون والتآويل؟ وهل يظل اسمها نقيًّا من أوساخ الشفاه والألسنة؟ أَوَ ليست جميع العناقيد العالية حامضة في شرع بنات آوى؟
هكذا قبض القدر على سلمى كرامة، وقادها عبْدة ذليلة في موكب النساء الشرقيات التاعسات، وهكذا سقطت تلك الروح النبيلة بالحبائل، بينما كانت تسبح لأول مرة على أجنحة الحب البيضاء في فضاء تملأه أشعة القمر وتعطّره رائحة الأزاهر.
إن أموال الآباء تكون في أكثر المواطن مجلبة لشقاء البنين؛ تلك الخزائن الواسعة التي يملأها نشاط الوالد وحرص الأم تنقلب حبوسًا ضيقة مظلمة لنفوس الورثة. ذلك الإله العظيم الذي يعبده الناس بشكل الدينار ينقلب شيطانًا مخيفًا يعذب النفوس ويميت القلوب. وسلمى كرامة هي كالكثيرات من بنات جنسها اللواتي يذهبن ضحية ثروة الوالد وأماني العريس. فلو لم يكن فارس كرامة رجلًا غنيًّا لكانت سلمى اليوم حية تفرح مثلنا بنور الشمس.
مَرّ أسبوع وحب سلمى يجالسني في المساء منشدًا على مسمعي أغاني السعادة، وينبهني عند الفجر ليريني معاني الحياة وأسرار الكيان. حُبٌّ علوي لا يعرف الحسد لأنه غني، ولا يوجع الجسد لأنه في داخل الروح. ميل قوي يغمر النفس بالقناعة، مجاعة عميقة تملأ القلب بالاكتفاء، عاطفة تولِّد الشوق ولكنها لا تثيره، فتون جعلني أرى الأرض نعيمًا والعمر حلمًا جميلًا. فكنت أسيرُ صباحًا في الحقول وأرى في يقظة الطبيعة رمز الخلود، وأجلس على شاطئ البحر وأسمع من أمواجه أغاني الأبدية، وأمشي في شوارع المدينة وأجد في طلعات العابرين وحركات المشتغلين محاسن الحياة وبهجة العمران.
تلك الأيام مضت كالأشباح واضمحلّت كالضباب، ولم يبقَ لي منها سوى الذكرى الأليمة؛ فالعين التي كنت أرى بها جمال الربيع ويقظة الحقول لم تعد تحدِّق إلى غير غضب العواصف ويأس الشتاء. والأذن التي كنت أسمع بها أغنية الأمواج لم تَعُدْ تصغي لغير أنَّة الأعماق وعويل الهاوية. والنفس التي كانت تقف متهيِّبة أمام نشاط البشر ومجد العمران لم تعد تشعر بغير شقاء الفقراء وتعاسة الساقطين. فما أحلى أيام الحب وما أعذب أحلامها! وما أمرَّ ليالي الحزن وما أكثر مخاوفها!
وفي نهاية الأسبوع، وقد سكرت نفسي بخمرة عواطفي، سرت مساءً إلى منزل سلمى كرامة، ذلك الهيكل الذي أقامه الجمال وقدَّسه الحب لتسجد فيه النفس مصلية ويركع القلب خاشعًا. ولما بلغته ودخلت إلى تلك الحديقة الهادئة أحسست بوجود قوة تستهويني وتستميلني وتبعدني عن هذا العالم وتدنيني ببطء إلى عالم سحري خالٍ من العراك والجهاد، ومثل متصوف جذبته السماء إلى مسارح الرؤيا؛ وجدتني سائرًا بين تلك الأشجار المحتبكة والزهور المتعانقة، حتى إذا ما اقترَبتُ من باب الدار التفتُّ، وإذا بسلمى جالسة على ذلك المقعد بظلال شجرة الياسمين، حيث جلسنا منذ أسبوع في تلك الليلة التي اختارتها الآلهة من بين الليالي وجعلتها بدء سعادتي وشقائي، فدنوت منها صامتًا، فلم تتحرك ولم تتكلم؛ كأنَّها علمت بقدومي قبل قدومي، ولما جلستُ بجانبها حدَّقت إلى عينيَّ دقيقة، وتنهّدت تنهُّدة طويلة عميقة، ثم عادت ونظرت إلى الشفق البعيد حيث تعبث أوائل الليل بأواخر النهار. وبعد هنيهة مملوءة بتلك السكينة السحرية التي تضم نفوسنا إلى مواكب الأرواح غير المنظورة، حولت سلمى وجهها نحوي، وأخذت يدي بيد مرتعشة باردة، وبصوت يشابه تأوُّه جائع لا يقوى على الكلام قالت: انظر إلى وجهي يا صديقي، انظر إلى وجهي جيدًا وتأمله طويلًا واقرأ فيه كل ما تريد أن تفهمه مني بالكلام … انظر إلى وجهي يا حبيبي … انظر جيدًا يا أخي.
فنظرتُ إلى وجهها، نظرت طويلًا، فرأيت تلك الأجفان التي كانت منذ أيام قليلة تبتسم كالشفاه وتتحرك كأجنحة الشحرور قد غارت وجمدت واكتحلت بخيالات التوجُّع والألم، رأيت تلك البشرة التي كانت بالأمس ثنايا الزنبقة البيضاء الفرحة بقبلات الشمس، قد اصفرَّت وذبلت وتبرقعت بنقاب القنوط، رأيت الشفتين اللتين كانتا كزهرة أقاح تسيل عليهما الحلاوة قد يبستا وصارتا كوردتين مرتجفتين أبقاهما الخريف على طرف الغصن، رأيت العنق الذي كان مرفوعًا كعمود العاج قد انحنى إلى الأمام كأنه لم يعد قادرًا على حمل ما يجول في تلافيف الرأس.
رأيت هذه الانقلابات الموجعة في ملامح سلمى، رأيتها جميعها، ولكنها لم تكن في نظري إلا كسحابة رقيقة توشّح القمر فتزيد منظره حسنًا وهيبة. إن الملامح التي تُبيح أسرار الذات المعنوية تكسب الوجه جمالًا وملاحة مهما كانت تلك الأسرار موجعة وأليمة، أما الوجوه التي لا تتكلم بصمتها عن غوامض النفس وخفاياها فلا تكون جميلة مهما كانت متناسقة الخطوط متناسبة الأعضاء. إن الكؤوس لا تستميل شفاهنا حتى يشفّ بلورها عن لون الخمر. فسلمى كرامة كانت في عشية ذلك النهار كأس طافحة من خمرة علوية تمتزج بدقائقها مرارة العيش بحلاوة النفس. كانت تمثل على غير معرفة منها حياة المرأة الشرقية التي لا تغادر منزل والدها المحبوب إلا لتضع عنقها تحت نير زوجها الخشن … ولا تترك ذراعيْ أمها الرؤوف إلا لتعيش في عبودية والدة زوجها القاسية.
وبقيت محدقًا إلى وجه سلمى، مصغيًا لأنفاسها المتقطعة، صامتًا مفكرًا، شاعرًا متألمًا معها ولها، حتى أحسست أن الزمن قد وقف عن مسيره، والوجود قد انحجب واضمَحَلَّ، ولم أعد أرى سوى عينين كبيرتين محدّقتين إلى أعماقي، ولا أشعر بغير يد باردة مرتعشة تضم يدي. ولم أفق من هذه الغيبوبة حتى سمعت سلمى تقول بهدوء: تعالَ نتحدث الآن يا صديقي. تعالَ نحاول تصوير المستقبل قبل أن يحمل علينا بمخاوفه وأهواله. لقد ذهب والدي إلى منزل الرجل الذي سيكون رفيقًا لي حتى القبر. قد ذهب الرجل الذي اختارته السماء سببًا لوجودي ليلتقي الرجل الذي انتقته الأرض سيدًا على أيامي الآتية. ففي قلب هذه المدينة يجتمع الآن الشيخ الذي رافق شبيبتي بالشاب الذي سيرافق ما بقي لي من السنين، وفي هذه الليلة يتفق الوالد والخطيب على يوم القِران الذي سيكون قريبًا مهما جعلاه بعيدًا، فما أغرب هذه الساعة وما أشدَّ تأثيرها! في مثل هذه الليلة من الأسبوع الغابر. وفي ظلال هذه الياسمينة قد عانق الحب روحي لأول مرة، بينما كان القدر يخط أول كلمة من حكاية مستقبلي في دار المطران بولس غالب. وفي هذه الساعة وقد جلس والدي وخطيبي ليضفرا إكليل زواجي، أراك جالسًا بجانبي وأشعر بنفسك متموجة حولي، كطائر ظامئ يحوم مرفرفًا فوق ينبوع ماء يخفره ثعبان جائع مخيف، فما أعظم هذه الليلة وما أعمق أسرارها!
فأجبتها وقد تخيلت القنوط شبحًا مظلمًا قابضًا على عنق حبنا ليميته في طفوليته: سيظل هذا الطائر حائمًا مرفرفًا فوق الينبوع حتى يضنيه العطش فيرديه، أو يقبض عليه الثعبان المخيف فيمزِّقه ويلتهمه.
فقالت متأثرة وصوتها يرتجف كالأوتار الفضية: لا، لا يا صديقي، فليبقَ هذا الطائر حيًّا، ليبقَ هذا البلبل مغردًا حتى المساء، حتى ينتهي الربيع، حتى ينتهي العالم، حتى تنتهي الدهور. لا تخرسْه؛ لأن صوته يُحييني، ولا تُوقف جناحيه؛ لأن حفيفهما يزيل الضباب عن قلبي.
فهمست متنهدًا: الظمأ يقتله يا سلمى والخوف يميته.
فأجابت والكلام يتدفق بسرعة من بين شفتيها المرتعشتين: إن ظمأ الروح أعذب من ارتواء المادة، وخوف النفس أحب من طمأنينة الجسد … ولكن اسمع يا حبيبي، اسمعني جيدًا، أنا واقفة الآن في باب حياة جديدة لا أعرف عنها شيئًا. أنا مثل عمياء تتلمس بيدها الجدران مخافة السقوط. أنا جارية أنزلني مال والدي إلى ساحة النخّاسين فابتاعني رجل من بين الرجال. أنا لا أحب هذا الرجل لأنني أجهله، وأنت تعلم أن المحبة والجهالة لا تلتقيان، ولكنني سوف أتعلم محبته، سوف أطيعه وأخدمه وأجعله سعيدًا، سوف أهبه كل ما تقدر المرأة الضعيفة أن تهب الرجل القوي. أما أنت فلم تزل في ربيع العمر، أمامك الحياة طريقًا واسعة مفروشة بالأزهار والرياحين، سوف تخرج إلى ساحة العالم حاملًا قلبك مشعلًا متّقدًا، سوف تفكر بحرية، وبحرية تتكلم وتفعل، سوف تكتب اسمك على وجه الحياة لأنك رجل، سوف تعيش سيدًا لأن فاقة والدك لا تجعلك عبدًا، وأمواله لا تنزل بك إلى سوق النخّاسين حيث تباع البنات وتُشرَى، سوف تقترن بالصبيّة التي تختارها لنفسك من بين الصبايا، فتُسكنها صدرك قبل أن تُسكنها منزلك، وتشاركها بأفكارك قبل أن تساهمها الأيام والليالي.
وسكتت دقيقة كيما تسترجع أنفاسها، ثم زادت بصوت تتابعه الغصات: ولكن أَهَهنا تُفرقنا سبل الحياة لتذهب بك إلى أمجاد الرجل وتسير بي إلى واجبات المرأة؟ أهكذا ينقضي الحلم الجميل وتندثر الحقيقة العذبة؟ أهكذا تبتلع اللُّجّة نغمة الشحرور وتنثر الرياح أوراق الوردة وتسحق الأقدام كأس الخمر؟ أباطلًا أوقفتنا تلك الليلة أمام وجه القمر وباطلًا ضَمّنا الروح في ظلال هذه الياسمينة؟ هل تسرَّعنا بالصعود نحو الكواكب فكلّت أجنحتنا وهبطت بنا إلى الهاوية؟ هل فاجأنا الحب نائمًا فاستيقظ غاضبًا ليعاقبنا؟ أم هيجت أنفاسنا نسمات الليل فانقلبت ريحًا شديدة لتمزِّقنا وتجرفنا كالغبار إلى أعماق الوادي؟ لم نخالف وصية ولم نذُق ثمرًا، فكيف نخرج من هذه الجنة؟! لم نتآمر ولم نتمرّد، فلماذا نهبط إلى الجحيم؟! لا لا وألف لا ولا. إن الدقائق التي جمعتنا هي أعظم من الأجيال، والشعاع الذي أنار نفسينا هو أقوى من الظلام، فإن فرقتنا العاصفة على وجه هذا البحر الغضوب فالأمواج تجمعنا على ذلك الشاطئ الهادئ، وإن قتلتنا هذه الحياة فذاك الموت يحيينا.
إن قلب المرأة لا يتغير من الزمن ولا يتحول مع الفصول، قلب المرأة ينازع طويلًا، ولكنه لا يموت. قلب المرأة يشابه البرية التي يتخذها الإنسان ساحة لحروبه ومذابحه، فهو يقتلع أشجارها ويحرق أعشابها ويلطّخ صخورها بالدماء ويغرس تربتها بالعظام والجماجم، ولكنها تبقى هادئة ساكنة مطمئنّة، ويظلّ فيه الربيع ربيعًا والخريف خريفًا إلى نهاية الدهور … والآن قد قُضي الأمر، فماذا نفعل؟ قل لي ماذا نفعل وكيف نفترق ومتى نلتقي؟ هل نحسب الحبّ ضيفًا غريبًا أتى به المساء وأبعده الصباح؟ أنحسب هذه العاطفة النفسية حلمًا أبانه الكرى ثم أخفته اليقظة؟ أنحسب هذا الأسبوع ساعة سُكْرٍ ما لبثت أن قضت بالصحو والانتباه؟ … ارفع رأسك لأرى عينيك يا حبيبي. افتح شفتيك لأسمع صوتك، تكلم، أخبرني، حدثني، هل تذكرني بعد أن تغرق العاصفة سفينتَيْ أيامنا؟ هل تسمع حفيف أجنحتي في سكينة الليل؟ هل تشعر بأنفاسي متموِّجة على وجهك وعنقك؟ هل تصغي لتنهُّداتي متصاعدة بالتوجّع منخفضة بالغصات؟ وهل ترى خيالي قادمًا مع خيالات الظلام مضمحلًّا مع ضباب الصباح؟ قل لي يا حبيبي، قل لي ماذا تكون لي بعد أن كنت نورًا لعيني ونغمة لأذني وجناحًا لروحي، ماذا تكون؟
فأجبتها وحبات قلبي تذوب في عيني: سأكون لك يا سلمى مثلما تريدينني أن أكون.
فقالت: أريدك أن تحبَّني، أريدك أن تحبني إلى نهاية أيامي، أريدك أن تحبني مثلما يحب الشاعر أفكاره المحزنة، أريدك أن تذكرني مثلما يذكر المسافر حوض ماء هادئ رأى فيه خيال وجهه قبل أن يشرب من مائه، وأريدك أن تذكرني مثلما تذكر الأم جنينًا مات في أحشائها قبل أن يرى النور، وأريدك أن تفكّر بي مثلما يفكّر الملك الرؤوف بسجين مات قبل أن يبلغه عفوه، أريدك أن تكون لي أخًا وصديقًا ورفيقًا، أريدك أن تزور والدي في وحدته وتعزّيه في انفراده؛ لأنني عما قريب سأتركه وأصير غريبة عنه.
فأجبتها: سأفعل كل ذلك يا سلمى، سوف أجعل روحي غلافًا لروحك، وقلبي بيتًا لجمالك، وصدري قبرًا لأحزانك. سوف أحبك يا سلمى محبة الحقول للربيع. سوف أحيا بك حياة الأزاهر بحرارة الشمس. سوف أترنم باسمك مثلما يترنّم الوادي بصدى رنين الأجراس المتمايلة فوق كنائس القرى. سوف أُصغي لأحاديث نفسك مثلما تُصغي الشواطئ لحكاية الأمواج … سأذكرك يا سلمى مثلما يذكر الغريب المستوْحش وطنه المحبوب، والفقير الجائع مائدة الطعام الشهية، والملك المخلوع أيام عزه ومجده، والأسير الكئيب ساعات الحرية والطمأنينة. سوف أفكر بك مثلما يفكر الزارع بأغمار السنابل وغلة البيادر، والراعي الصالح بالمروج الخضراء والمناهل العذبة.
كنت أتكلم وسلمى تنظر إلى أعماق الليل وتتأوّه بين الآونة والأخرى، ونبضات قلبها تتسارع وتتماهل كأنها أمواج بحر بين صعود وهبوط. ثم قالت: غدًا تصير الحقيقة خيالًا واليقظة حلمًا، فهل يكتفي المشتاق بعناق الخيال ويرتوي الظمآن من جداول الأحلام؟
فأجبتها قائلًا: غدًا يسير بك القدر إلى أحضان العائلة المملوءة بالراحة والهدوء، ويسير بي إلى ساحة العالم حيث الجهاد والقتال. أنتِ إلى منزل رجل يسعد بجمالك وطُهْر نفسك. وأنا إلى مكامن أيام تعذِّبني بأحزانها وتُخيفني بأشباحها. أنتِ إلى الحياة وأنا إلى النزع. أنتِ إلى الأنس والألفة وأنا إلى الوحشة والانفراد. ولكنني سأرفع في وادي ظل الموت تمثالًا للحب وأعبده. سأتخذ الحب سميرًا وأسمعه منشدًا وأشربه خمرًا وألبسه ثوبًا. عند الفجر سينبّهني الحب من رقادي ويسير أمامي إلى البرية البعيدة. وعند الظهيرة سيقودني إلى ظل الأشجار، فأربض مع العصافير المحتمية من حرارة الشمس. وفي المساء سيوقفني أمام المغرب ويسمعني نغمة وداع الطبيعة للنور، ويريني أشباح السكينة سابحة في الفضاء. وفي الليل سيعانقني فأنام حالمًا بالعوالم العلوية حيث تقطن أرواح العشاق والشعراء. وفي الربيع سأمشي والحب جنبًا لجنب مترنمين بين التلول والمنحدرات متبعين آثار أقدام الحياة المخططة بالبنفسج والأقحوان، شاربين بقايا الأمطار بكؤوس النرجس والزنبق. وفي الصيف سأتكئ والحب ساندين رأسينا إلى أغمار القش مفترشين الأعشاب ملتحفين السماء ساهرين مع القمر والنجوم. وفي الخريف سأذهب والحب إلى الكروم، فنجلس بقرب المعاصر ناظرين إلى الأشجار وهي تخلع أثوابها المذهبة متأملين بأسراب الطيور الراحلة إلى الساحل. وفي الشتاء سأجلس والحب بقرب الموقد تاليين حكايات الأجيال مرددين أخبار الأمم والشعوب. وفي أيام الشبيبة سيكون لي الحب مهذبًا، وفي الكهولة عضدًا، وفي الشيخوخة مؤنسًا. سيظل الحب معي يا سلمى إلى نهاية العمر، إلى أن يجيء الموت، إلى أن تجمعني بك قبضة الله.
كانت الألفاظ تتصاعد مسرعة من أعماق نفسي، كأنها شعلات من نار تنمو وتتطاير ثم تتبدد وتضمحلّ في زوايا تلك الحديقة، وكانت سلمى مصغية والدموع تنهمر من عينيها، كأن أجفانها شفاه تجيبني بالدموع على الكلام.
إن الذين لم يهبهم الحب أجنحة لا يستطيعون أن يطيروا إلى ما وراء الغيوم ليروا ذلك العالم السحري الذي طافت فيه روحي وروح سلمى في تلك الساعة المحزنة بأفراحها المفرحة بأوجاعها. إن الذين لم يتخذهم الحب أتباعًا لا يسمعون الحب متكلِّمًا، فهذه الحكاية لم تُكتب لهم، فهم وإن فهموا معاني هذه الصفحات الضئيلة لا يمكنهم أن يروا ما يسيل بين سطورها من الأشباح والأخيلة التي لا تلبس الحبر ثوبًا ولا تتخذ الورق مسكنًا. لكن أي بشريّ لم يرشف من خمرة الحب في إحدى كاساته؟ أية نفس لم تقف متهيبة في ذلك الهيكل المنير المرصوف بحبات القلوب المسقوف بالأسرار والأحلام والعواطف؟ أي زهرة لم يسكب الصباح قطرة من الندى بين أوراقها؟ وأي ساقية تضل طريقها ولا تذهب إلى البحر؟
ورفعت سلمى إذ ذاك رأسها نحو السماء المزيّنة بالكواكب، ومدت يديها إلى الأمام، وكبرت عيناها، وارتجفت شفتاها، وظهر على وجهها المصفر كل ما في نفس المرأة المظلومة من الشكوى والقنوط والألم، ثم صرخت قائلة: ماذا فعلت المرأة يا رب فاستحقّت غضبك؟! ماذا أتت من الذنوب ليتبعها سخطك إلى آخر الدهور؟! هل اقترفت جرمًا لا نهاية لفظاعته ليكون عقابك لها بغير نهاية؟! أنت قوي يا رب وهي ضعيفة، فلماذا تبيدها بالأوجاع؟! أنتَ عظيم وهي تدبّ حول عرشك، فلماذا تسحقها بقدميك؟! أنتَ عاصفة شديدة وهي كالغبار أمام وجهك، فلماذا تذريها على الثلوج؟! أنت جبار وهي بائسة، فلماذا تحاربها؟! أنت بصير عليم وهي تائهة عمياء، فلماذا تهلكها؟! أنت توجدها بالمحبة، فكيف بالمحبة تُفنيها؟! بيمينك ترفعها إليك وبشمالك تدفعها إلى الهاوية، وهي جاهلة لا تدري أنَّى ترفعها وكيف تدفعها؟! في فمها تنفخ نسمة الحياة، وفي قلبها تزرع بذور الموت، على سبل السعادة تسيرها راجلة ثم تبعث الشقاء فارسًا ليصطادها، في حنجرتها تبث نغمة الفرح ثم تغلق شفتيها بالحزن وتربط لسانها بالكآبة، بأصابعك الخفية تمنطق باللذة أوجاعها، وبأصابعك الظاهرة ترتسم هالات الأوجاع حول ملذاتها، في مضجعها تخفي الراحة والسلامة، وبجانب مضجعها تقيم المخاوف والمتاعب، بإرادتك تحيي ميولها، ومن ميولها تتولد عيوبها وزلاتها، بمشيئتك تريها محاسن مخلوقاتك، وبمشيئتك تنقلب محبتها للحسن مجاعة مهلكة، بشريعتك تزوج روحها من جسد جميل، وبقضائك تجعل جسدها بَعْلًا للضعف والهوان. أنت تسقيها الحياة بكأس الموت والموت بكأس الحياة. أنت تطهرها بدموعها، وبدموعها تذيبها. أنت تملأ جوفها من خبز الرجل، ثم تملأ حفنة الرجل من حبات صدرها. أنت أنت يا رب، قد فتحت عيني بالمحبة، وبالمحبة أعميتني، أنت قبَّلتني بشفتيك، وبيدك القوية صفعتني، أنت زرعت في قلبي وردة بيضاء، وحول هذه الوردة أنبتَّ الأشواك والحسَك، أنت أوثقت حاضري بروح فتى أحبه، وبجسد رجل لا أعرفه قيدت أيامي؛ فساعدني لأكون قوية في هذا الصراع المميت، وأسعِفْني لأبقى أمينة وطاهرة حتى الموت … لتكن مشيئتك يا رب، ليكن اسمك مباركًا إلى النهاية.
وسكتت سلمى وظلت ملامحها تتكلم، ثم حَنَتْ رأسها وأَرْخَتْ ذراعيها، وانخفض هيكلها، كأن القوى الحيوية قد تركتها فبانت لناظري كغصن قصفته العاصفة وألقتْه إلى الحضيض ليجف ويندثر تحت أقدام الدهر، فأخذتُ يدها المثلجة بيدي الملتهبة، وقبَّلت أصابعها بأجفاني وشفتي، ولما حاولت تعزيتها بالكلام وجدتني أحرى منها بالتعزية والشفقة؛ فبقيت صامتًا حائرًا متأملًا، شاعرًا بتلاعب الدقائق بعواطفي، مصغيًا لأَنَّةِ قلبي في داخلي، خائفًا من نفسي على نفسي.
ولم ينبس أحدنا ببنت شفة في ما بقي من تلك الليلة؛ لأن اللوعة إذا عظمت تصير خرساء، فبقينا ساكتين جامدين كعموديْ رخام قَبَرَهما الزلزال في التراب، ولم يعد أحدنا يريد أن يسمع الآخر متكلمًا؛ لأن خيوط قلبينا قد وَهَتْ حتى صار التنهُّد دون الكلام يقطعها.
انتصف الليل، ونمت رهبة السكوت، وطلع القمر ناقصًا من وراء صنين، وبان بين النجوم كوجه ميت شاحب غارق في المساند السوداء بين شموع ضئيلة تحيط بنعشه، وظهر لبنان كشيخ لوت ظهره الأعوام وأناخت هيكله الأحزان وهجر أجفانه الرقاد، فبات يساهر الدجى ويترقّب الفجر، كملك مخلوع جالس على رماد عرشه بين خرائب قصره. إن الجبال والأشجار والأنهار تتبدل هيئاتها ومظاهرها بتقلُّب الحالات والأزمنة، مثلما تتغير ملامح وجه الإنسان بتغيُّر أفكاره وعواطفه؛ فشجرة الحور، التي تتعالى في النهار كعروس جميلة يلاعب النسيم أثوابها تظهر في المساء كعمود دخان يتصاعد نحو اللاشيء، والصخر الكبير، الذي يجلس عند الظهيرة كجبّار قوي يهزأ بعاديات الزمن يبدو في الليل كفقير بائس يفترش الثرى ويلتحف الفضاء. والساقية التي نراها عند الصباح متلمعة كَذَوْب اللُّجَيْن ونسمعها مترنمة بأغنية الخلود، نخالها في المساء مجرى دموع يتفجر من بين أضلع الوادي، ونسمعها تندب وتنوح كالثكلى. ولبنان الذي ظهر منذ أسبوع بكل مظاهر الجلال والرونق عندما كان القمر بدرًا والنفس راضية قد بان في تلك الليلة كئيبًا منهوكًا مستوحشًا أمام قمر ضئيل ناقص هائم في عرض السماء وقلب خافق معتلّ في داخل الصدر.
وقفنا للوداع، وقد وقف بيننا الحب واليأس شبحين هائلين؛ هذا باسط جناحيه فوق رأسينا، وذاك قابض بأظافره على عنقينا، هذا يبكي مرتاعًا، وذاك يضحك ساخرًا. ولما أخذتُ يد سلمى ووضعتها على شفتي متبركًا دَنَتْ مني ولثمت مفرق شعري، ثم عادت فارتمت على المقعد الخشبي وأطبقت أجفانها وهمست ببطء: أشفق يا رب وشدد جميع الأجنحة المتكسرة.
انفصلت عن سلمى وخرجت من تلك الحديقة شاعرًا بنقاب كثيف يوشي مداركي الحسية، مثلما يغمر الضباب وجه البحيرة، وسرت وأخيلة الأشجار القائمة على جانبي الطريق تتحرك أمامي كأنها أشباح قد انبثقت من شقوق الأرض لتخيفني، وأشعة القمر الضعيفة ترتعش بين الغصون كأنها سهام دقيقة تريشها أرواح الجان السابحة في الفضاء نحو صدري، والسكينة العميقة تخيم عليّ كأنها أكف سوداء ثقيلة ألقتها الظلمة على جسدي.
كل ما في الوجود وكل معنى في الحياة وكل سر في النفس قد صار قبيحًا رهيبًا هائلًا، فالنور المعنوي الذي أراني جمال العالم وبهجة الكائنات قد انقلب نارًا تحرق كبدي بلهيبها وتستر نفسي بدخانها، والنغمة التي كانت تضم إليها أصوات المخلوقات وتجعلها نشيدًا علويًّا قد استحالت في تلك الساعة إلى ضجيج أروع من زمجرة لأسد وأعمق من صراخ الهاوية.
بلغتُ غرفتي وارتميت على فراشي كطائر رماه الصياد فسقط بين السياج والسهم في قلبه. وظلت عاقلتي تراوح بين يقظة مخيفة ونوم مزعج، وروحي في داخلي تردد في الحالتين كلمات سلمى: أشفق يا رب وشدِّد جميع الأجنحة المتكسرة.