جهود الإصلاح
أنت تُلقي المحاضرات، وآمسدورف يلقي المحاضرات، ويوناس سيلقي المحاضرات، لكن هل توَدُّون أن تُعلَن مملكة الرب في بلدتكم فقط؟ أَلَا يحتاج الآخرون إلى الكتاب المقدس؟ أَلَنْ تنجب أنطاكيتكم سيلا أو بولس أو برنابا لمهمة روحانية أخرى؟
تبيِّن الإشارةُ إلى هؤلاء المبشِّرين البارزين الواردين في «سِفْر أعمال الرُّسُل»، وتشبيهُ مدينة فيتنبرج بأنطاكية؛ أن لوثر تصوَّر حركة الإصلاح الديني كمهمة تبشيرية تنبثق من فيتنبرج؛ حيث تعيَّن عليه أن يرسِّخ قيادته ويرسم معالمها. وفي ٩ من مارس عام ١٥٢٢، ألقى في كنيسة البلدة أول عظة دينية من العظات الثمانية التي تصفُ الكيفية التي سيغيِّر بها وتيرة واتجاه حركة الإصلاح التي مهَّد لها زميله كارلشتادت. دعت عظات الصوم الكبير الثمانية تلك (التي أُطلِق عليها هذا الاسم نسبةً إلى أحد الصوم الكبير في تقويم الطقوس الدينية) إلى إبداء تعاطف أكبر مع العامة الذين أزعجتهم وأربكتهم التغيرات المفاجئة التي طرأت على طقوس العبادة والطاعة، وهذا تطلَّب آنذاك أن تأخذ حركة الإصلاح وتيرة أبطأ. دافع كارلشتادت بقوة عن موقفه في هذا الشأن، لكنه لم يملك خيارًا إلا تَرْكَ تلك المبادرة للوثر.
إلا أن لوثر لم يَنْوِ الإبطاء كثيرًا، فوفقًا لمنظوره الديني إلى التاريخ، يجب اغتنام لحظة الإصلاح؛ فكتب أن كلمة الرب وفضله كانا دائمًا كسيل المطر العابر الذي لا يَعود قَطُّ إلى مكان مَرَّ به. وبين عامي ١٥٢٢ و١٥٣٠ دفعه هذا الشعور بالعجلة إلى البحث مع زملائه في فيتنبرج عن إجابات لقضايا مُهمة، منها: السرعةُ التي يجب أن تُلغَى بها صلوات القداس الخاصة (التي تضم رجال الدين وحدهم)، والتي يجب أن يُقدَّم بها الخمر والخبز معًا إلى العامة في العشاء الرباني، وتبنَّى بها طقوسًا دينية عامة جديدة؛ والكيفيةُ التي يجب أن يُنظَّم بها الزواج، وتوضيح حدوده في ضوء أن عزوبية رجال الدين لم تَعُدْ شرطًا، وأن المحاكم الأسقفية لم تَعُدْ موجودة للفصل في الخلافات الزوجية؛ وحدودُ طاعة المسيحيين للسلطات المدنية، بالأخذ في الاعتبار أن الأمراء ومجالس المدن تَحَدَّيَا الإمبراطور ودَعَمَا حركة الإصلاح؛ وهل يجب أن تُمنَع النذور الرهبانية؛ والشروطُ التي يجب أن تُوضَع للرهبان والراهبات الذين يرفضون ترك أديرتهم؛ والكيفيةُ التي يجب أن يُجرِي بها العامةُ معاملاتِهم الشخصيةَ والمالية مع اقتراب نهاية العالم — كما اعتقد لوثر؟ للإجابة على القضية الأخيرة لجأ لوثر إلى عظة الجبل، وخلص منها إلى أن المسيحيين يجب ألا يطالبوا بفوائد. أما فيما يتصل بالسلوكيات المجتمعية فكان لوثر أكثر واقعية؛ حيث خفَّف تعاليم المسيح التي تنهى عن مقاومة الشر بالإصحاح الثالث عشر من رسائل العهد الجديد إلى أهل رومية التي أوصت بطاعة الحاكم. وكتب أن المسيحيَّ الحق لا يحتاج إلى الحكومات؛ لأنه لن يرتكب الشر أو يقاوم وقوعه عليه، غير أنه أدرك أن القليل من مخلصي الإيمان يحيون حياة مسيحية نموذجية، ومن هنا كانت السلطات المدنية ضرورية لإحكام السيطرة على الشرور. وحثَّ لوثر المجتمعات المسيحية عام ١٥٢٣ مدفوعًا بحبِّه للدين المسيحي، وليس فقط بشعوره بواجبه الوطني، على أن تُعِيد توجيه ثروة مجالس الرهبان والأديرة لإغاثة الفقراء وإلقاء العظات والتعاليم البروتستانتية.
سيَّرت الأحداث الجارية آنذاك لوثر وقادتْه إلى اتخاذ مواقفَ خلافيةٍ، فوضعته ثورة الفلاحين، التي قامت عام ١٥٢٥، بين شِقَّيْ رحى، فأعلن من ناحية أن تظلمات العامة مشروعة، لكنه رفض من ناحية أخرى العنف الذي عمدوا إليه لتحقيق غاياتهم. وعندما دافع عن السُّبُل القاسية التي استخدمها أمير فيتنبرج وغيره من الحكام لإخماد الثورة، اتُّهِمَ بأنه تابِعٌ خَنوعٌ للحكام. وبعد أن هَزمت الجيوش العثمانية التركية الجيشَ المسيحي في المجر عام ١٥٢٦، وحاصرت فيينا عام ١٥٢٩؛ رأى لوثر أن للمسيحيين الحقَّ في الالتحاق بالجندية، وأن الحرب ضد الأتراك مبرَّرة ما دامت لا تُعَدُّ حربًا صليبية، وطالما وَعَى الجنود المسيحيون أن مَهمَّتهم تنحصر في الدفاع عن جيرانهم وأحبَّائهم. ووصف لوثر في رسالته «حرية المسيحي» — التي كتبها في أواخر عام ١٥٢٠ وأرسلها إلى البابا ليو العاشر قبل أن يحرمه الأخير كنسيًّا بوقت ليس بطويل — أن المسيحي المثالي يجعله إيمانه سيد الأحرار، لا يخضع لأيٍّ كان، لكن حبه يجعله أكثر الخدام برًّا. غير أن تطبيق هذا المبدأ على النزاعات غير المتوقعة التي شهدتها عشرينيات القرن السادس عشر؛ مَثَّل للوثر تحديًا مليئًا بالصعاب.
انشغل لوثر طوال هذا العقد بالانقسامات التي نشأت داخل دائرته وخارجها. أتت التحديات التي واجهها من زميله كارلشتادت وأولريش زفينجلي والدعاة إلى تجديد العماد؛ إذ تبنَّت جميع هذه الفِرَق تفسيرًا مختلفًا للقرابين المقدسة ومارسوها بطرق لم يَقْبَلْها لوثر. بعد أن غادر كارلشتادت فيتنبرج تخلَّى عن منصبه بالجامعة، واستقر في بلدة أورلاموند، ليجعلها المجتمع المسيحي الذي تصوره من أجل فيتنبرج، وتوقَّف عن عماد الأطفال، واحتفل بالعشاء الرباني بطقوس بسيطة باللغة الألمانية بدون ارتداء زي الرهبان، وأسَّسَ في كتيبات وجَّهَها للوثر عقيدةً روحانية دينية، تنكر أن الخلاص الذي تحقَّق على الصليب يجب أن يُنقَل بوساطة القرابين المقدسة. إزاء هذا، دافع لوثر عن إلقاء العظات في العشاء الرباني، وعن القرابين المقدسة بوصفها وسائل خارجية لنيل مباركة الرب، وتُنقَل من خلالها كنوز الصليب بطريقة علنية وشخصية على حد سواء. رأى كارلشتادت أيضًا أن كلمات المسيح التي أَسَّسَت طقس العشاء الرباني لم تَعْنِ حرفيًّا أن خبز المناولة هو جسد المسيح، وأن خمر العشاء الرباني هو دمه. في هذا الصدد تبنَّى زفينجلي نظيرُ لوثر في زيوريخ رأيًا مغايرًا؛ لاعتقاد الأخير بأن المسيح يتجسد حقًّا في الخبز والخمر؛ إذ رأى أن المسيح عنى أن تُفهَم كلماته بالمعنى الروحاني والمجازي لها، بمعنى أن الخبز والخمر يرمزان فقط إلى جسده ودمه اللذين قُدِّما لخلاص الجميع، وعَدَّ القرابين المقدسة توحدًا روحانيًّا مع الصليب، لكنها لا تنطوي على أي حضور مادي غامض للمسيح فيها، ولم يمنح الخلاص من خلالها. من ثَمَّ لم يستطع زفينجلي ولوثر أن يتَّفِقَا حول هذه النقطة في اللقاء الوحيد الذي جمع بينهما في ماربورج عام ١٥٢٩، وقاد اختلافهما إلى شقاق دائم بين الشق اللوثري والشق الإصلاحي من حركة الإصلاح البروتستانتية.
لكن المعسكرين الإصلاحيَّيْن اتَّحدا في معارضة دعاة تجديد العماد الذين انشقوا عن مذهب زفينجلي عام ١٥٢٥، حول الوتيرة التي يجب أن تتقدَّم بها حركة الإصلاح في مدينة زيوريخ. اتُّهم زفينجلي من قِبَل نُقَّاده بالمغالاة في الحذر، واتُّهم عماد الأطفال — الذي عَدَّه أتباع زفينجلي المتشددون منافيًا لتعاليم الإنجيل — بأنه جعل الكنيسة تابعًا لحكومة المدينة وأخضعها لحكامها. أما لوثر فقد نشر عام ١٥٢٨ رفضًا لعماد المؤمن، وامتدح عماد الأطفال، واصفًا إياه بأنه ملمح طيب من ملامح المسيحية قبل مولد حركة الإصلاح؛ إذ إن رَهن العماد باتخاذ قرار متعمد باعتناق الإيمان، يجعل الخلاص قائمًا على القرارات البشرية المزعزعة ويبخس نعمة الله حقها. شكَّلت حدود اختيار الإنسان حجة لوثر أيضًا أمام إراسموس، رائد الحركة الإنسانية، الذي هاجم رفْض لوثر لإرادة الإنسان الحرة عندما يتعلق الأمر بالفضل الإلهي والخلاص؛ فأوضح لوثر في رسالة كتبها عام ١٥٢٥ بعنوان «الإرادة المقيدة» أن قوة الخطيئة سيطرت على الإرادة البشرية قبل أن يحرِّرَها الروح القدس لتثق بالرب، وبعد العماد يظل المؤمن يستند إلى قدرة الروح القدس على الإبقاء على إيمانه ووقاية إرادته من الوقوع مجدَّدًا في الخطيئة. عرضت هذه الفكرة في منظور لوثر جوهر المسيحية الذي وصفه بأنه البشارة للخطر؛ فالسبيل الوحيد إلى الخلاص هو الإيمان بالمسيح، وهذا الإيمان هو هبة من الروح القدس، وليس خيارًا يُتَّخَذ بالإرادة المحايدة التي أنكر لوثر وجودها. كانت المخاوف نفسُها تقف وراء جدل لوثر مع خصومه الكاثوليكيين حول صلوات القداس الخاصة والحج والصوم وصكوك الغفران والنذور الرهبانية وعزوبية رجال الدين وإخراج الصدقات والتضرع إلى القديسين؛ حيث امتدحت تلك الأعمال على أنها متمِّمَة للإيمان، أو أعمال صالحة يمكن أن تستخدمها إرادةُ الإنسان الحرةُ في إسعاد الرب ونيل الخلاص بسهولة أكبر من الوصول إليه بالإيمان وحده. وشعر لوثر وزملاؤه أن من الأهمية بمكانٍ نَبْذَ هذه الأعمال أو تقويمَها، ولكنْ تَعَيَّن عليهم أيضًا إيجاد طرق جديدة يغذي بها المؤمن إيمانه ويعبِّر عنه.
شكَّل انتشارُ حركة فيتنبرج الإصلاحية الدينية السريع بألمانيا وخارجها وصولًا إلى بلاد أوروبا الشرقية وإسكندينافيا قوةً دافعة تهيئ لذلك. فعندما تتحول بلدة أو منطقة إلى المذهب البروتستانتي، تمنع السلطات المدنيَّة صلوات القداس على طريقة العصور الوسطى، مؤْثِرًة طقوس العبادة اللوثرية، وتسحب من المناطق الخاضعة لسلطتها الأساقفة الكاثوليك، وتسمح للرهبان والراهبات والقسيسين بالزواج، وتحرِّم علنًا أغلب مظاهر العبادة القديمة، وتُوضَع قوانين لهذه الإجراءات لكل إمارة في هيئة دساتير دينية جديدة، وُصِفت بأنها أوامر كنسية. اضطلع زميل لوثر جون بوجنهاجن آنذاك بجزء كبير من هذه المسئولية في شمال ألمانيا والدنمارك. وقد خلَّفت ثورة الفلاحين في ساكسونيا وحولها في آثارها أبرشيات مهملة، يشعر رعاتها بالحيرة ويحتاجون إلى إرشادٍ وموادَّ جديدةٍ، يتمكنون من خلالها من تحويل رعاياهم إلى المذهب البروتستانتي. وقدَّم لوثر نفسُه أهمَّ الأدلة الإرشادية في هذا الصدد؛ أدلة عن إلقاء العظات الدينية حول النصوص الإنجيلية وطقوس العبادة البروتستانتية في كتابه «القداس الألماني» (عام ١٥٢٦)، بالإضافة إلى الترانيم الدينية وتراجِم الكتَاب المقدس، وكتب تلخيص العقيدة المسيحية (الكبيرة والصغيرة في عام ١٥٢٩) التي تفسِّر لعموم الناس ورجال الدين الوصايا العَشْرَ وقانون الإيمان والصلاة الربية والقرابين المقدسة. وكتب مع ميلانشتون أمرًا كنسيًّا لمقاطعة ساكسونيا عام ١٥٢٨، استخدمته فرق التفتيش البروتستانتية لتقييم حال أبرشيات ساكسونيا، ونصح رعاتها بوسائل تدريس الرسالة البروتستانتية وإعادة تنظيم الكنائس.
أوى حصن كوبورج على أطراف ساكسونيا الجنوبية عام ١٥٣٠ لوثرَ الخارج عن طاعة الإمبراطور أثناء انعقاد مجلس أوجسبورج، الذي رفض فيه شارل الخامس الإعلان العقائدي، الذي كان قد طلبه من الإصلاحيين الألمان والسويسريين، وأصبحت المواد الثماني والعشرون التي قدَّمها إصلاحيو فيتنبرج وحلفاؤهم — والتي شاعت تسميتها باسم إقرار أوجسبورج — الوثيقة المؤسسة للكنائس التي استخدمت تدريجيًّا اسم لوثر للتمييز بين حركتها النامية من روما ومن الكنائس البروتستانتية المتأثرة بحركة الإصلاح التي ظهرت في زيوريخ وجنيف. أرضى انضمامُ المناطق الخاضعة لدوق ساكسونيا (النصف الذي ظل على ولائه لروما) إلى قائمة المناطق المدينة بالمذهب اللوثري؛ لوثريِّي فيتنبرج إلى حدٍّ هائل. وفي عام ١٥٣٩، احتفل لوثر بالمناسبة بإلقاء عظة في مدينة لايبزيج؛ حيث تناظر هو وكارلشتادت قبل عشرين عامًا مع جون إيك أمام عينَي الدوق الكاثوليكي جورج، دوق ساكسونيا المعادي لهما. افتتح لوثر هذه العظة التي ألقاها يوم سبت بالإقرار بأنه لم يشعر بأنه على ما يرام، وبأنه يحتاج إلى الالتزام بدرس الكتاب المقدس المخصَّص لليوم التالي، الذي تصادف أنه يوافق عيد الخمسين. بدأ النص (إصحاح جون ١٤ من الآية ٢٣ إلى ٣١) بالتوكيد على أن المسيح وأباه سيسكنان مع مَن بَلَغَتْهم كلمة المسيح وحافظوا عليها. وَجَدَ لوثر هذا النص مُطَمْئِنًا، لكنه وجد فيه أيضًا أن مفهوم الكنيسة الحقَّة (هؤلاء الذين حافظوا على كلمة المسيح) يتنافى مع مفهوم البابا وكنيسته، اللَّذين وَجَدَ في نفسه عزمًا كبيرًا على انتقادِهما، وألقى في عصر اليوم التالي عِظة دينية في كنيسة سانت توماس، التي اشتهرت فيما بعدُ بفضل الموسيقِي باخ، ثم غادر يوم الإثنين من الأسبوع نفسه إلى مسقط رأسه برفقة يوناس وميلانشتون والدوق البروتستانتي الجديد هنري الذي صاحبهم للعشرين ميلًا الأولى من رحلتهم.
مثلت الرحلة إلى لايبزيج المرحلة الأكثر إمتاعًا في حياة لوثر للسنوات القادمة، لكنها كانت كغيرها من الرحلات القصيرة التي سافر فيها إلى الوجهات القريبة من فيتنبرج في ثلاثينيات القرن السادس عشر؛ إذ قام سنويًّا — باستثناء عام ١٥٣٥ — برحلة أو أكثر من تلك الرحلات، رغم أنه كان يعاني بين الفَينة والفَينة خلالها من أمراض مؤقتة. وقد حملت أغلب تلك الرحلات — كزياراته إلى مقارِّ الإقامة الأخرى لأمير ساكسونيا جون فريدريك — أهدافًا سياسية، لكن في أكتوبر عام ١٥٣٨ اصطحبه يوناس وإراسموس شبيجيل قائد حرس فيتنبرج في رحلة صيد قصيرة، سقط فيها جواد الأخير أثناء ملاحقته أرنبًا بريًّا ولقي حتفه، فاعتقد لوثر أن الأرنب البري كان شبحًا شيطانيًّا، وعندما دُعِي للعودة إلى فيتنبرج لأن ناخب المدينة أراد مقابلته، رفض المغادرة لأن زميله يوناس أصيب بنوبة ألم شديدة جرَّاء الإصابة بحصوات في الكُلى. استقبل لوثر آنذاك في بلدته الكثير من الزوار البارزين، من بينهم الإصلاحيَّان مارتن بوسر وفولفجانج كابيتو، وزملاؤهما من جنوب ألمانيا الذين سعَوا للتوصُّل إلى اتفاقٍ حول طقوس العشاء الرباني لتعزيز التحالف البروتستانتي. كان لوثر قد طلب من هؤلاء القُدومَ إلى فيتنبرج لاعتلال صحته، لكنه لم يُبْدِ عند وصولهم إلا ميلًا ضعيفًا للتفاوض، والمدهش رغم ذلك هو أنهم توصَّلوا إلى اتفاق حقيقي لم يتطلب إلا تنازلات لا تُذكَر من كلا الطرفين؛ فقَبِلَ لوثر من ناحيةٍ بتصريح بوسر بأن جسد المسيح ودمه كائنان في الخمر والخبز ويقدَّمان للمؤمن، كما اتفق كلاهما على أن جسد المسيح ودمه يتلقاهما غير الجديرِين بهما، على الرغم من أن كليهما ربما لم يتفقا على معنى كلمة «غير الجديرين». وأعلن أستاذَا علم اللاهوت أنهما أَخَوان، واحتفلا معًا بالعشاء الرباني، لكن اتفاقهما لم يُفضِ إلى جبهة بروتستانتية موحَّدة؛ إذ لم يقبل السويسريون به، غير أنه أتاح للمزيد من سكان جنوب ألمانيا، الذين تحيروا ما بين اختيار مذهب زفينجلي ولوثر، الانضمام لأتباع الحركة اللوثرية في شمال ألمانيا.
في أواخر عام ١٥٣٥، بلغ فيرجيريو السفير البابوي، مدينة فيتنبرج للتعرف على أفكار لوثر حول نية البابا بعقد مجمع كنسي، وتساءل — وقد انتابه فضول أثناء إفطاره مع بوجنهاجن ولوثر في قلعة فيتنبرج — عن الشعائر الكنسية اللوثرية كتنصيب الكهنة، فأكَّد له لوثر أن شعائر تنصيب رعاة الكنائس استمرَّت رغم عدم وجود أساقفة لتأديتها. وانخرط الثلاثة في تبادُل المَزَحَات الساخرة بودٍّ، ووعدَ لوثر بحضور المجمع الكنسي إن عُقِد. وفي عام ١٥٣٦ دعا البابا بولس الثالث بالفعل إلى عقد مجمع كنسي يبدأ في العام التالي في مانوتا، فاجتمع كلٌّ من الحكام وعلماء اللاهوت في فبراير عام ١٥٣٧ في مدينة شمالكالد للبَتِّ في إرسال مبعوثين إلى المجمع الكنسي من عدمه، ثم رُفِضَت الدعوة التي قدَّمها المبعوث البابوي لحضور المجمع الكنسي بوقاحة من قِبَلِ جون فريدريك ناخب ساكسونيا، الذي تشبَّث بعنادٍ برفضه لحضور البروتستانتين المجمع، رغم نُصْح لوثر له بقبول الدعوة. وظل لوثر يذكر هذه المقابلة جيدًا؛ لأنه ابتلي حينها بانسداد في المسالك البولية، ورفض الاستجابة للعلاجات الطبية إلى أن استجاب لها أخيرًا في طريق عودته إلى المنزل. اشتدت معاناته من المرض في شمالكالد، حتى إن النقاشات الدينية قوطعت اضطرارًا آنذاك، وتخوَّفَ الجميع من أن يلقى حتفه. واستغرقت صحبته أسبوعين في طريق الرجوع عبر إيرفورت وفايمار للوصول إلى فيتنبرج، حيث كانت تشق طريقها بحذر.
استأنف لوثر لدى عودته إلى فيتنبرج برنامج عملٍ مزدحمٍ بالكتابة وإلقاء المحاضرات والعظات والعمل كعميد لجامعة فيتنبرج الدينية، فيما عُني أصدقاؤه وزملاؤه الآخرون كميلانشتون وبوجنهاجن ويوناس وآمسدورف بالإصلاحات في المناطق الأخرى، وما تزال محاضراته عن أهل غلاطية التي ألقاها عام ١٥٣١ (التي نُشِرت عام ١٥٣٥ و١٥٣٨) ودورته عن سِفْر التكوين، التي بدأت عام ١٥٣٥ واستمرت لعقد، من أهم مصادر نظريته اللاهوتية؛ إذ شعر لوثر وهو يخاطب جيلًا أصغر من الطلاب أن عليه أن يذكِّرهم بالسبب الذي يجعل حركة الإصلاح ضرورية، وبمدى أهمية حماية ما تم إنجازه، وقدَّم عام ١٥٣٨ أسبابًا مماثلة للاجتهاد لأخيه الأوغسطيني جيمس بروبست الطالب لديه، والذي كان آنذاك أحد مناصري حركة الإصلاح بمدينة بريمن. ورغم أن لوثر كان بحلول هذ الوقت عجوزًا منهَك القُوى، أضنته الجهود الجهيدة الكثيرة التي بذلها؛ تَجدَّدَ شبابه كل يوم نظرًا لظهور طوائف جديدة لمناوءته. بعد ستة أعوام، سُرَّ لوثر بإهداء كنيسة صغيرة جديدة في مقر إقامة حاكمه الساكسوني في تورجاو، حيث صُمِّمت الكنيسة — التي تُعَدُّ من أولى الكنائس التي شُيِّدت كأحد أماكن العبادة اللوثرية — حول منبر الوعظ للتوكيد على أن العظات هي محور العبادة اللوثرية، وزُيِّنت أطرافها الأنيقة بلوحات من أعمال صَديق لوثر؛ لوكاس كراناش، ووُضِع عند الحائط الموجود بنهاية الكنيسة أعلى مائدة الاحتفال بالعشاء الرباني آلةُ الأرغن الموسيقية، ليعزف عليها يوهان فالتر قائد جوقة ناخبو ساكسونيا ومؤلِّف موسيقى حركة الإصلاح في بدايتها. أكَّد لوثر أن المسيح مَنح أتباعه حرية التجمع للعبادة في الوقت والمكان الأنسب لهم، ومن ثَمَّ لم تكن كنيسة تورجاو كنيسة مخصَّصة لحاشية البلاط، بل كانت مكان عبادة لكلِّ مَن يرغب في زيارتها، حتى إنه قال إن من الممكن كذلك إلقاء العظات عند النافورة الموجودة خارج الكنيسة.
كانت الخسارة من فقدان كل شيء تقف خلف النبرة الحادَّة التي ميَّزت الكثير من كتاباته الأخيرة، ففي عام ١٥٤٤ حث زميل له على الدعاء بلا توقف من أجل الكنيسة؛ لأنها واجهت خطرًا كبيرًا. ومن ناحيةٍ كانت بعض مخاوفه مبرَّرة؛ ففي أربعينيات القرن السادس عشر أعرب مجلس ترينت الكاثوليكي عن صدق رغبة روما في إصلاح نفسها؛ مما جعل صبر الإمبراطور شارل الخامس ينفد، ودعاه إلى أن يقرِّر أن يجبر البروتستانتيين الألمان على الخضوع لسلطة البابا من جديد. لكن من ناحيةٍ أخرى غالى لوثر في تقدير بعض التهديدات التي شكَّلها خصومه الذين حشرهم جميعًا في زمرة أعداء الإنجيل، واتهم الأتراكَ واليهودَ ومؤيدي السلطة البابوية ومَن يؤمنون بمَجازيَّة القرابين المقدَّسة (البروتستانتيون المعارضون لنظرته إلى القرابين المقدَّسة) بأنهم عملاء الشيطان في عزمه على تدمير الحقيقة التي استعادتها الحركة اللوثرية. لقد سبَّبَ زَحْف الأتراك العثمانيين على أوروبا الوسطى مخاوفَ حقيقية، لكن قلق لوثر والإصلاحيين الآخرين من الكيان اليهودي في أوروبا كان غير منطقي. نَبَعَ هذا القلق من خيبة أملهم التي تشي بسذاجةٍ لفشل الرسالة البروتستانتية في إقناع اليهود بالتحول إلى البروتستانتية بأعداد كبيرة، ومن المناخ المُعَادِي لليهود في أواخر العصور الوسطى بأوروبا الذي قاد إلى طرد اليهود واضطهادهم. ونظر لوثر في عام ١٥٤٦ — كما فعل عام ١٥٢١ — إلى حركة الإصلاح الديني على أنها من عمل الرب، وأنه هو نفسه أداة الرب في صراعه العظيم مع الشيطان.
في باكورة صباح ١٨ من فبراير عام ١٥٤٦، توفي لوثر في آيسلبن، في البلدة نفسها التي وُلِد بها، بعد أن نجح في تسوية خلاف بين كونتات مانزفيلد. أقام هناك في منزل للدكتور فيليب دراتشتيدت، الذي كان كوالده صاحبَ مصهر بارز في مانزفيلد، ودرس القانون وأصبح مستشارًا بالمحكمة، ووفقًا لشاهدَيْن — صديق لوثر يوستوس يوناس، وراعي أبرشية مانزفيلد مايكل كوليوس — رحل لوثر عن العالم بهدوء بعد أن أقرَّ بإيمانه. وقبل أن يُعاد جثمانه إلى فيتنبرج، صُبَّ قالب من الشمع لوجهه ورُسِمت لوحات له بعد وفاته. ودُفِن لوثر بالقرب من منبر كنيسة القلعة، بعد خطبة ألقاها بوجنهاجن وخطاب تأبين رثائي ألقاه ميلانشتون، وقال فيه للمُعَزِّين: «نحن كالأيتام حُرِمنا من أبٍ صالح مخلص.» كان ميلانشتون قد أعلن في وقت سابق وفاة لوثر لطلاب الأخير، مشبِّهًا وفاته بعروج إيليا إلى السماء في مركبة النيران قائلًا: «رحل قائد مركبة إسرائيل الذي وجَّهَ الكنيسة في الأيام الأخيرة لهذا العالَم.»