الإصلاح السياسي
في ٢٥ سبتمبر عام ١٥١٣، أصبح المستكشف الإسباني فاسكو نونييز دي بالبوا أول مستكشف أوروبي شهير يتطلع إلى المحيط الهادي من شاطئ العالم الجديد من إحدى قِمَم برزخ بنما. كان لوثر قد ألقى قبلها بأربعين يومًا في ألمانيا أولى محاضراته عن سِفْر المزامير، ومنذ ذاك اليوم ترقى في مساره المهني بالتوازي مع توسعات الإمبراطورية الإسبانية في الأمريكتين. وفي الفترة ما بين عامي ١٥١٩ و١٥٢١، عندما بدأ الصراع بين لوثر والكنيسة الرومانية يُصَعَّد حتى وصل إلى حرمانه كنسيًّا وانتقاده بعنف في فورمس، كان هرنان كورتيس آنذاك يتقدَّم في زحفه على المكسيك كي يضع نهايةً لإمبراطورية الآزتيك، ناقلًا أخبارَ غزوته للملك شارل ملك قشتالة، الذي أصبح بعد انتخابه عام ١٥١٩ إمبراطورًا على الإمبراطورية الرومانية المقدسة وملكًا يأتمر به لوثر أيضًا. وعلى الرغم من أن حركة الإصلاح الديني بدأت في ألمانيا كحركة دينية معارضة، فقد كانت منذ ولادتها حركة سياسية يحدِّد مصيرَها الإمبراطورُ شارل الخامس لا لوثر؛ فمع أن شارل — الذي كان أحد أنصار الكنيسة الرومانية — فرض عام ١٥٢١ مرسومًا يحرم لوثر كنسيًّا، ظل بحاجة إلى تأييد البلدات البروتستانتية ودعم أمرائها لحماية ألمانيا من التهديد العثماني، ومن ثَمَّ سعى إلى إعادة الوحدة الدينية إلى إمبراطوريته، وسمح في سعيه نحو ذلك للحركة البروتستانتية بأن تحيا وتنمو. وقد لعب لوثر في تلك الأحداث السياسية المؤثرة دورًا ملموسًا، ولكن بعد عام ١٥٢٩ سيَّرته أحداثُ تلك الفترة أكثر مما تحكَّم هو في سَيْرها.
ضلع لوثر وزملاؤه في الأحداث السياسية على جميع المستويات، بدءًا من المستوى المحلي امتدادًا إلى الإمبراطورية الرومانية بأسرها؛ لأن تأييد حركة لوثر في ألمانيا كان إما يُصرَّح به أو يُحظَر من قِبَل الأمراء ومجالس البلديات. فكان النهج التالي هو المسلك التقليدي للحركة الإصلاحية في بلدان ألمانيا، سواء كبرت أو صغرت: يأخذ القس المتأثر بمنهج لوثر في تدريس الرسالة البروتستانتية التي مفادها أن الخلاص بالإيمان وحده، ويبدأ في تغيير أساليب الاحتفال بالقداس، وقد يُدين أيضًا صكوك الغفران والتضرع إلى القديسين وقواعد الصيام والنذر الرهبانية وامتناع رجال الدين عن الزواج باعتبارها غير واردة في الإنجيل، فإن جذب هذا القس عددًا كبيرًا من الأتباع تصدَّى له رجال الدين المناصرون للكنيسة الرومانية في البلدة، وأبلغوا أسقف الأبرشية عنه، بعد ذلك يرفع الواعظ قضيته لمجلس بلدية البلدة، ويطلب منها التصديق على عظاته والتعديلات التي أدخلها على القداس. وقد يعقد مجلس البلدية في بعض الحالات جلساتِ استماعٍ أو مناظراتٍ بين الواعظ البروتستانتي وبين ممثل عن رجال الدين المناصرين للكنيسة الرومانية، وقد يُنظِّم مؤيدو كلا الجانبين مظاهرات عامة. ففي مدينة جوتنجن عام ١٥٢٩ على سبيل المثال، أثناء مسيرة عبر المدينة نظمها الكاثوليكيون حاملين خبز القربان المقدس، اعترض مؤيدو البروتستانتية ملتقى طرق بالمدينة، وأنشدوا نسخة ترنيمية من المزمور رقم ١٣٠، كان لوثر قد كتبها قبل ستة أعوام، ولما بلغ الكاثوليكيون في نهاية مسيرتهم كنيسة البلدة وأنشدوا ترنيمة «نشكر الله»، وهي ترنيمة قديمة في تمجيد الله، عاود البروتستانتيون الضغط عليهم من الخلف، وحاولوا حجب أصواتهم بإنشاد ترنيمة ألمانية أخرى. كانت مجالس بلدية المدن في الحالات التي تحكم فيها لصالح المذهب البروتستانتي تسمح بالاستمرار في إلقاء العظات البروتستانتية، وتتبنَّى في أغلب الحالات نظامًا أو قانونًا كنسيًّا يجعل إلقاء العظات البروتستانتية وممارسة شعائرها هو التقليد المتَّبَع في هذا المجتمع.
كانت السياسات التي انتهجتها حركة الإصلاح الديني في فيتنبرج أثناء غياب لوثر (من أبريل عام ١٥٢١ إلى مارس عام ١٥٢٢) شائكة وغير منسَّقة، فتولَّى زمامَ المبادرة زميل لوثر المناصر للمذهب الأوغسطيني جابرييل زفيلينج وزملاؤه في الجامعة آندرو كارلشتادت وفيليب ميلانشتون؛ فجاهر كارلشتادت بدون الحصول على موافَقةِ ناخب مدينة فيتنبرج أو مجلس بلديتها بمعارضة تبتُّل رجال الدين، وبالاحتجاج على النُّذُر الرهبانية. وعلى الرغم من أنه كان قسًّا وكبير شمامسة مجلس رجال كنيسة جميع القديسين، ففي يناير عام ١٥٢٢ تزوَّج وهو في عمر الخامسة والثلاثين من آنا فون موخاو، وهي شابة لا يضاهي عمرها نصف عمره. أما ميلانشتون الذي لم يكن قد وُسِم كاهنًا بعدُ، فتناول مع بعض من الطلاب الخمر والخبز معًا في كنيسة المدينة، وقدم كارلشتادت في عيد الميلاد الخمر والخبز معًا للعامة في صلاة القداس، واستبدل بالصلاة الربانية (صلاة القرابين المقدسة) اللاتينية بكلمات التأسيس الألمانية، لكنه بعكس ميلانشتون وزفيلينج رأى أن العامة الذين يرفضون شرب الخمر يُعَدُّون من الآثمين، الأمر الذي عارضه لوثر بقوة في كتاباته التي كتبها في قلعة فارتبورج. في الوقت نفسه، طلب زفيلينج من العامة أن يمتنعوا عن تقديم الهدايا إلى الدير الأوغسطيني ليُجبِر رهبان الدير على تركه، وعليه ترك بالفعل ثلاثة عشر راهبًا أوغسطينيًّا الدير في نوفمبر عام ١٥٢١، وتزوجوا وعملوا بالحرف اليدوية. وفي أوائل ديسمبر من العام نفسه احتجَّ حشدٌ من الطلاب وأهالي فيتنبرج على تلاوة صلوات القداس الخاصة في كنيسة المدينة، بانتزاع كتب صلوات القداس وإجبار القساوسة على مغادرة منصات المذابح، وفي اليوم التالي، اقتحمت مجموعة من ثلاثة عشر طالبًا الكنيسة الفرنسيسكانية في اليوم التالي وفككت المذبح الخشبي. أراد ناخب ساكسونيا الأمير فريدريك معاقبة المقتحمين، لولا تدخُّل بعض شخصيات فيتنبرج البارزة في عمل مجلس بلدية المدينة الذي وجد نفسه عندئذٍ محاصَرًا بإرادة ناخب ساكسونيا من ناحية، ومواطني فيتنبرج من ناحية أخرى.
اعكفوا على العمل الآن؛ انشروا الكتاب المقدس وساعدوا الآخَرين على نشره. درِّسوا وتحدَّثوا واكتبوا وعِظوا بأن قوانين البشر لا قيمة لها. وحُثوا الناس على هجر مناصب القسيسين والأديرة والرهبنة وامنعوهم منها، وحثوا مَن لم يتركها منهم على تركها. ولا تُخرِجوا المزيد من أموالكم لأوامر [بابوية] أو شموع أو أجراس أو ألواح [نذر] أو كنائس، بل أذيعوا أن الحياة المسيحية قوامها الإيمان والحب.
لكن لم يلتفت كلٌّ مِن كارلشتادت وزفيلينج لنصح لوثر؛ فأمر الأخير، بعد اختتام مناقشة اجتماع أنصار المذهب الأوغسطيني في فيتنبرج، بإخلاء الكنائس من المذابح والصلبان وصُور القديسين وأدوات المذابح التي لم تَعُدْ ضرورية لطقوس العبادة البروتستانتية، وفي الوقت نفسه صاغ كارلشتادت — الذي حصل على درجات علمية في القانون المدني والكنسي — ترتيبًا كنسيًّا يشمل جميع التغييرات التي استحدثها هو وزملاؤه إلى تلك النقطة، إلا أن الناخب فريدريك رفض التصديق على هذا الترتيب الكنسي الجديد؛ نظرًا لأن الحكومة التابعة للإمبراطورية الرومانية قد أمرته بمعارضة كل الأمور المستحدثة في فيتنبرج. وبعد أن أشعلت عظة كارلشتادت التي انتقدت الصور المعلَّقة بالكنائس أعمالَ شغبٍ في كنيسة البلدة، استدعى ميلانشتون ومجلس البلدية لوثر إلى فيتنبرج ليأخذ بزمام حركة الإصلاح، فأذعن لوثر لطلبهما رغم أن الناخب فريدريك رفض أن يمنحه الإذن، وطلب منه أن يوثق هذا الرفض، فأبرأ لوثر ذمة فريدريك في هذا الشأن، إلا أنه أكد على أن فيتنبرج هي أبرشيته «جماعتي التي عهد لي بها الرب»، ولا يسعه التخلي عنها، وخشي أن يبتلي الربُّ ألمانيا ﺑ «ثورة حقيقية»؛ لأن شعبها لم يعرف كيف يستخدم الكتاب المقدس على الوجه الصحيح.
تحقَّقت مخاوف لوثر بعد ثلاثة أعوام في حرب الفلاحين أو ثورة عام ١٥٢٥ — إنْ أردنا الدقة — لكونها انتفاضة شاملة امتدت إلى جميع الطبقات الاجتماعية والاقتصادية. كانت هذه الثورة قد اندلعت بالفعل في جنوب ألمانيا، عندما قرأ لوثر مطالب الفلاحين الاثني عشر في سوابيا، وكان الهدف الذي نصَّت عليه هذه المطالب «هو مغفرة عصيان الفلاحين وتمردِهم سيرًا على نهج المسيحية»، بإثبات أن الكتاب المقدس يدعم شكواهم ومطالبهم. وردَّ لوثر على هذه المطالب في منشور سُمِّي وفاقًا ﺑ «نصح من أجل السلام»؛ إذ ظل مثار خوفه الأكبر هو احتمال اندلاع ثورة تتمخض عن فوضى أو — على حد تعبيره — عن «دمار ألمانيا إلى الأبد بالإطاحة بكلمة الله والسلطات المدنية»؛ من ثَمَّ ألقى لوثر اللوم على كلٍّ من الحكام ورعاياهم، فوبَّخ الأمراء والأساقفة لأن دورهم اقتصر على «غش وسرقة» الشعب لينعموا بحياة «البذخ والترف»، إلا أن شرورهم وإجحافهم لا يبرران فوضى العامة وتمردَهم؛ لأن مسئولية معاقبة الشر وفقًا للكتاب المقدس تقع على جهة الحكم الشرعية. بالإضافة إلى ذلك، إن كان الفلاحون مسيحيين مخلصين كما يزعمون، فعليهم أن يُذعنوا لوصية المسيح بأن يديروا الخد الآخَر؛ «المسيحي لا يذود عن نفسه بالسيوف والبنادق، بل بالصليب والمعاناة». من ثَمَّ خلص لوثر في النهاية إلى أن كلا الطرفين لم يعدلا أو يسلكا النهج المسيحي، وأوصى بمفاوضات تقضي بإقلاع الحكام عن ممارساتهم القمعية الطاغية، وأن يخفف العامة من حدة مطالبهم.
لكن بدلًا من المفاوضات امتدت الثورة بخطى ثابتة إلى الشمال لتدنو أكثر من محيط لوثر، حيث حشد عالم اللاهوت المتطرف توماس منتسر — الذي أيَّد محو الحقبة الضالة التي تسبق حكم يسوع الذي امتد لألف عام (سفر الرؤيا، ٢٠ :٤–٦) — أتباعه لمعركة حاسمة في فرانكنهاوزن. لكن في مواجهة اتحاد القوى التابعة للأمراء، لم يملك هو وأتباعه أدنى فرصة للنصر، وسُحِقوا سحقًا، وأُجبِر منتسر الذي عُثِر عليه مختبئًا تحت فراش على توقيع إقرار بذنبه ثم أُعدِم. قبل ذلك بأسابيع قليلة، وبعد أن شهد لوثر الخراب الذي حل على أيدي عصابات الفلاحين المتجولة، كتب أنه يحق للأمراء ذبح تلك العصابات إن اقتضي الأمر لوقف غاراتهم، لكن بعد تلك المذبحة وُجِّهت له انتقادات حادة، وحُثَّ على كتابة تراجع عن أقواله. لكن تبيَّن أنه كتب بدلًا من ذلك دفاعًا عن رأيه، فقال إن العامة تمردوا، وأنهم يستحقون الموت لخروجهم على السلطة وهدمهم للنظام الاجتماعي. كما أكد لوثر على زعمه أن الأمراء طغاة لا يشبعون من إراقة الدماء، لكن غُض الطرف عن هذا الجزء من بيان تراجُعه عن أقواله، واستُهزِئ به ﻟ «تملقه» الأمراء، وهي وصمة لازمته رغم إصراره على أنه قصد فقط أن يرشد العامة والحكام كليهما لواجبهم كمسيحيين.
يجب أن تطاع جميع السلطات المدنية، لا لأنها تمثِّل وسيلة جديدة لطاعة الله، بل لأنها تتيح حياة منظمة يسودها الحب والسلام؛ لذا يجب أن تطاع في كل شيء، إلا إذا أمرت بما يخالف ناموس الله؛ كأن تأمر على سبيل المثال بإهمال الكتاب المقدس أو أجزاء منه. ففي هذه الحالة سنتبع القاعدة الواردة في الآية ٢٩ من الإصحاح الخامس من سِفْر أعمال الرسل، التي تنص على أنه «ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس».
لكن اتساع حركة الإصلاح الديني الألمانية وترسُّخَها نَبَعَ في الواقع من التعاون الوثيق بين الحكام البروتستانتيين وعلماء اللاهوت؛ إذ كان تهديد الإمبراطور شارل الخامس ومستشاريه الكاثوليكيين بالقمع له أبعاد سياسية ودينية. ففي عام ١٥٢٦ شكَّل سبعة أمراء بروتستانتيين اتحاد تورجاو الدفاعي، الذي أصبح مع خلفائه عماد مقاومة مساعي الإمبراطورية الرومانية لإجبار المقاطعات البروتستانتية (المدن والأقاليم الحرة التي تبنَّتْ حركة الإصلاح الديني) على الخضوع مجدَّدًا للسلطة البابوية. وأتيحت لتلك المقاطعات مساحة من الحرية، عندما سمح اجتماع شباير الأول (الذي عُقِد عام ١٥٢٦) لكل مقاطعة بإدارة شئونها الدينية كما ترتضي، إلى أن يفصل في تلك الشئون مجلس كنسي. لكن في عام ١٥٢٩ طالبت الولايات الكاثوليكية التي هيمنت على مجلس شباير الثاني بإلغاء اتفاق عام ١٥٢٦، ونادت بتنفيذ المرسوم الصادر ضد لوثر وأتباعه في مجلس فورمس عام ١٥٢١، فعارضت المقاطعات البروتستانتية التي شكَّلت الأقلية في ذلك الوقت هذا المرسوم، وألَّفت اتحاد شباير البروتستانتي.
أتيحت لحركة الإصلاح الديني فترة راحة أخرى عندما زحف الأتراك العثمانيون على أوروبا الوسطى؛ إذ احتاج الإمبراطور شارل للدعم العسكري والمالي من الأقاليم البروتستانتية والكاثوليكية على حد سواء، من أجل الدفاع عن الإمبراطورية. فطلب شارل، بعد حصار الأتراك لفيينا في خريف عام ١٥٢٩، من أتباع المذهب البروتستانتي والكاثوليكي أن يقدِّموا بيانًا بتعاليم مذهب كلٍّ منهما وشعائره في اجتماع العام التالي في أوجسبورج، راميًا إلى تحقيق وحدة دينية بين أصحاب المذهبين. تجاهل الكاثوليكيون مطلبه، أما مؤيدو لوثر من أتباع المذهب البروتستانتي فأَعَدُّوا في اجتماع بساكسونيا مجموعةً من المواد المتصلة بالممارسات البروتستانتية، وألحق فيليب ميلانشتون، الذي ترأَّس علماء اللاهوت اللوثريين الحاضرين الاجتماع، الموادَّ العملية بلائحة للتعاليم البروتستانتية، ووقَّع هذه الموادَّ، البالغَ عددُها ثمانيًا وعشرين مادة، سبعةٌ من أمراء ألمانيا وممثلون عن مدينتين ألمانيتين في اجتماع أوجسبورج في يونيو عام ١٥٣٠، بعد مناقشة علماء اللاهوت ومراجعتهم لها، وقُدِّمت للإمبراطور شارل كَبَيَانٍ ديني وإعلان سياسي في الوقت نفسه. وأصبحت تدريجيًّا بعد أن رفضها علماء اللاهوت الكاثوليكيون — ليُطلَق عليها من ثَمَّ إقرار أوجسبورج — ميثاقًا للمدن والأقاليم البروتستانتية التي بدأت تنسب نفسها إلى المذهب اللوثري. وانسحبت أغلب الفصائل البروتستانتية من اجتماع أوجسبورج، قبل أن يصدر مرسوم باسم شارل يعلن مجدَّدًا خروج لوثر عن القانون، ويمهل البروتستانتيين ستة أشهر لإلغاء جميع المبتدعات الدينية في المناطق التابعة لهم.
إن اندلعت الحرب — معاذ الله — لن أنتقد مَن يدافعون عن أنفسهم ضد الكاثوليكيين القتلة المتعطشين للدماء، ولن أسمح لأي شخص باتهام مَن يذودون عن أنفسهم بأنهم محرِّضون على الفتن، بل سأقْبل أفعالهم وأتغاضى عنها باعتبارها دفاعًا عن النفس.
سيكون عليكم أن تساعدوا في استئصال وتدمير كل [منجزاتنا] … وأن تحرقوا جميع الكتب الألمانية، وأسفار العهد الجديد، والمزامير وكتب الصلوات والتراتيل وكل الأشياء الجيدة التي كتبناها … سيكون عليكم أن تبقوا على جهل الجميع بالوصايا العشر والصلاة الربية وأسس العقيدة؛ فتلك كانت الحال من قبلُ. وسيتعين عليكم أن تمنعوا الجميع من معرفة حقيقة المعمودية، والقربان المقدس، والإيمان، والحكومة، والزواج والكتاب المقدس. سيكون عليكم أن تمنعوا الجميع من معرفة الحرية المسيحية، وتمنعوا الناس من الثقة بالمسيح واستمداد السلوى منه. فكل هذا لم يكن موجودًا من قبلُ؛ كله مبتدَع.
لكن لم يقع أيٌّ مما أشار لوثر إليه حتى عام ١٥٤٨، بعد أن هَزم الإمبراطور شارل في نهاية المطاف قادة المذهب البروتستانتي، واستولى على مدينة فيتنبرج. وبدلًا من كل هذا، في نهاية عام ١٥٣٠، عقد جون ناخب ساكسونيا وفيليب حاكم هيسي اجتماعًا للأمراء ومسئولي المدن في بلدة شمالكالد لتشكيل اتحاد دفاعي سُمِّيَ باسم تلك البلدة، ووافق الإمبراطور شارل عام ١٥٣٢ على عقد هدنة حتى انعقاد مجلس كنسي عامٍّ، وسمحت هذه الأزمة التي تجدَّدت عام ١٥٣٩ للاتحاد بالاتساع سريعًا ليشكل كتلة بروتستانتية عسكرية وسياسية هائلة في الإمبراطورية.
خلال الأربعة عشر عامًا الأخيرة من حياته، خضع لوثر لناخب جديد في ساكسونيا هو جون فريدريك، الذي خلف أباه الناخب جون بعد وفاة الأخير عام ١٥٣٢. لم يحاول جون فريدريك أن يكبح لسان لوثر اللاذع في الشئون السياسية، بل حثَّه على أن يوظِّف موهبته الشهيرة في مجادلة الخصوم الكاثوليكيين لاتحاد شمالكالد. وسعد لوثر بالامتثال لهذا الأمر، لا سيما أن القضية الأساسية التي واجهت الاتحاد في ذلك الوقت تمثَّلت في الاختيار بين حضور المجلس الكنسي العام الذي أمر البابا بولس الثالث بعقده من عدمه. ورأى الناخب جون فريدريك أن الحضور سيكون تصرفًا غير حكيم، وقد اجتمع أعضاء اتحاد شمالكالد وبعض البروتستانتيين الآخرين في شمالكالد في أوائل عام ١٥٣٧ لمناقشة الأمر. طُلِب من لوثر آنذاك أن يكتب ميثاقًا لاهوتيًّا يُدرج فيه الموضوعات التي يمكن أو لا يمكن مناقشتها في المجلس القادم، وقد أعرب لوثر عن رأيه في العديد من المنشورات الدينية في أن المجلس لا يمكن أبدًا أن يكون ندوة حرة وصريحة ما دام قد انعقد بدعوة من البابا، غير أنه شدَّد في هذا الميثاق الذي عُرِف باسم مواد شمالكالد على أن البابا هو المسيح الدجال، وعلى أن النظام البابوي وَهْمٌ بشري لا يُجدي الكنيسة نفعًا قائلًا: «لو لم يرفع الشيطان مثل هذا الرأس، لكان هذا أفضل كثيرًا.» إلا أن مشهد المجلس قاد لوثر إلى صياغة رسالة تاريخية وسياسية مهمة نُشِرت عام ١٥٣٩ بعنوان «المجالس والكنيسة»، وحاول لوثر أن يوضح من تاريخ الكنيسة، أن المجالس الكنسية قد ناقضت نفسها؛ ومن ثَمَّ لا تصلح كأساس يمكن الوثوق به لإصلاح الكنيسة؛ فقد كانت وظيفتها الأولى هي الحفاظ على العقائد الإيمانية العريقة التي صحَّحتها حركة الإصلاح الديني بناءً على الكتاب المقدس، ومن ثَمَّ إنْ عُقِدت بدعوة من البابا فيستحيل أن تصب في مصلحة المسيحية الحقة التي يجدِّدها المصلحون الدينيون.
ثمة صراعان آخران ورَّطا لوثر في جدل سياسي حَرِج قبل وفاته. أولهما تسبَّب فيه زواج فيليب حاكم هيسي — أحد أنصار البروتستانتية الأقوياء منذ عام ١٥٢٤، وقائد اتحاد شمالكالد المحنك الذي اتُّهِم بتعدُّد الزوجات — إذ تزوج عام ١٥٤٠ من مارجاريته فون دير زاله دون تطليق زوجته كريستينا أميرة ساكسونيا التي أنجب منها عشَرة أطفال. سعى فيليب تحت إصرار مارجاريته إلى الحصول على تأييد علماء اللاهوت الثلاثة: مارتن بوسر ولوثر وميلانشتون؛ على زواجه الثاني، بدعوى أن الجمع بين زوجتين هو وسيلته الوحيدة للخلاص الأخلاقي من خطيئته، وبالتهديد بتأييد الإمبراطور شارل إنْ لم يبارك الإصلاحيون زواجه الثاني، فجاءت موافقة لوثر وميلانشتون على الزواج على مضض في هيئة نصح سري أثناء اعتراف فيليب بخطاياه في الكنيسة، لكن فُضِح أمر الزيجة وأُلقِي اللوم على جميع مَن تورَّطوا فيها، على اعتبار أنهم ارتكبوا خطأً فادحًا. وتراجع بعض حلفاء فيليب البروتستانتيين عن تأييدهم له، عندما تنامى إلى علمهم أمر زواجه الثاني، ودُمِّرت مصداقيته السياسية ما إن أعُلن أنه وعد الإمبراطور شارل بالتزام الحياد لتلافي محاكمته بموجب القانون الإمبراطوري.
تولَّد الصراع الثاني عن نزاع طويل الأمد بين دوق فولفينبوتيل الكاثوليكي هنري من ناحية، والقائدين البروتستانتيين فيليب وجون فريدريك من ناحية أخرى؛ إذ فاقمت مجموعة من الأحداث في عام ١٩٣٨ النزاع بين الفريقين، حتى لجأا إلى هجاء أحدهما الآخَر في المواد المطبوعة التي زخرت بالسخرية والإهانات الفجة والألفاظ البذيئة، وطُلِب من لوثر آنذاك الرد على إحدى مقالات هجاء جون فريدريك، الذي صوَّره هنري على أنه وحش وكافر وسمين وكاذب وسكِّير ومهرطق، واتهمت الرسالة لوثر أيضًا بأنه وصف أميره بأنه مهرِّج يرتدي النقانق حول عنقه، فنفى لوثر ذلك، وقلب الطاولة على هنري بوصفه بالمثل، وندَّد به باللغة الفجة البذيئة نفسها التي استخدمها الأخير ضد الناخب جون فريدريك.
لم يُجْدِ منشور لوثر «ردًّا على المهرج» في إنهاء الصراع بين الأمراء المتنازعين أو تعزيز سمعة لوثر كناقد سياسي ساخر، لكنه أظهر تداخل السياسة مع الدين في حياة لوثر بأسرها، والترسيخ المبدئي لحركة الإصلاح الديني في ألمانيا في عام ١٥٥٥. مَنحت شروطُ حركة الإصلاح الديني الأمراءَ ومجالس بلديات المدن التي التزمت بإقرار أوجسبورج حقَّ تبنِّي المذهب اللوثري على أراضيها دون تدخُّل الإمبراطور أو أي سلطة أخرى، و«أن تتمتع بمعتقداتها الدينية وطقوسها وشعائرها وغيرها من الحقوق والمزايا الأخرى في سلام». وكفلت الشروط للمقاطعات والأمراء الذين تشبثوا «بدينهم القديم» الحقوقَ نفسها، بالإضافة إلى ذلك لا يُسمَح لمقاطعة «بمحاولة دعوة رعايا المقاطعات الأخرى لنبذ دينهم». ولم تكن ألمانيا المنقسمة على نفسها بسبب الدين هي النتيجة التي تخيَّلَها لوثر عندما أعلن أن كلَّ ما يريده هو «إيقاظ وإعمال فِكْر مَن يستطيعون ويبغون مساعدة الأمة الألمانية على أن تعود حرة ومسيحية من جديد، بعد حكم البابا التعس الوثني المخالف لتعاليم المسيحية». كما لم تكن ألمانيا هذه جزءًا من المملكة العالمية المجيدة التي خططت للإمبراطور شارل على يد مستشاره الأكبر السابق ميركورينو من منطقة جاتينارا. كان شارل بحلول عام ١٥٥٦ قد فاض به من السياسة، وبدأ يتخلى عن أراضي إمبراطوريته المتفرقة واحدة تلو الأخرى، وانتقلت إدارةُ ما تبقَّى من إمبراطوريته إلى أخيه الدوق فيرديناند حاكم النمسا، فيما تقاعد هو عام ١٥٥٧، وعاش في منزل في قشتالة قريب من دير يوست، وأمضى شارل الثمانية عشر شهرًا المتبقية من حياته في العناية بحديقته، وإشباع نهمه للأطعمة الشهية، وعزْف الفلوت والتباهي بمقتنياته والصيد.