الفصل الأول
(المسرح مُظلِم تمامًا، صمتٌ كامل، المسرح خال.)
(يتدلَّى من سقف المسرح صورة رجل كبيرة داخل إطار سميك مُذَهَّب، حول
الصورة لمبات نور صغيرة تُضيء وجه الرجل في الصورة، له ملامح صارمة ونظرة حادَّة قاسية
لكن
شفتاه مُبتسِمتان في ابتسامةٍ عريضة ناعمة.)
(ضوء خفيف يزحف كضَوء الفجر، صوت الكروان، سكون.)
(صباح المُتسوِّلة تمشي وحدها تعرُج، ترتدي جِلبابًا مُمزَّقًا، شعرها منكوش، على
كلِّ خدٍّ من خديها لطعة سوداء (طين أو زفت)، تجلس على الأرض وتنبِش في كوم قِمامة وهي
تُغني بصوتٍ
حزين، لا أحد ولا شيء على المسرح سواها.)
صباح المُتسوِّلة
(تُغنِّي)
:
آدِي الزمن اللي لوَّع اللي كان على كِيفه، وبلبل الصبر في الفنجان
وسقاه على كيفه، وآدِي بنت الحلال في الوَحل مَرميَّة وابن الهَيفة بِيتحكم على كِيفه،
الصبر كُلُّه حِكَم
واللي شَبَك أهو بان، من بَرَّه مزوَّق ومِن جوَّه مليان دخان، واصبر يا عِين ده كل شيء
بأوان.
(تنهَض وتمشي تعرُج وهي مَحنيَّة، تُردِّد بصوتٍ حزين.)
صباح المُتسوِّلة
:
بنت الحلال في الوحل مَرميَّة،
وابن الهيفة بيتحكم على كيفه.
(فجأةً يظهر عسكري شرطة. يُمسكها من قفاها بقسوة.)
الشرطي
:
تعالي هنا يا شحَّاتة يا بنت الشحَّاتة، مليون مرة قلنا لك يا بت الشِّحاتة هنا ممنوعة
بالقانون، أيوه بالقانون، كل حاجة بالقانون، كل حاجة هنا بالقانون يا بت، خدي! خدي!
(يضربها بالعصا.)
الشرطي
:
وابن الهيفة ده مين يا بت اللي بتقولي عليه؟
ايه؟ مين يا بت؟ ايه؟ خذي! خذي!
(يضربها مرَّةً أخرى.)
صباح
(تتوجَّع وتقول)
:
هي بِتغنِّي لبِنتها، مالهم بيها، وابن الهيفة أبوها مالهم بيها، هي
ماشية في حالها، ما يسيبوها في حالها.
الشرطي
:
بنتها مين وأبوها مين، قدامي، قدامي.
صباح
:
حياخدوها تاني، كل ما يشوفوها ياخدوها، يودُّوها ويجيبوها، ويجيبوها ويوَدُّوها، مالهمش
شغلة غيرها.
(الشرطي يشدُّ صباح. يظهر عددٌ من رجال الشرطة، يحوطونها ويضعونها في سيارة بوليس.)
(يُسمَع صوت الأحذية الثقيلة السريعة على الأرض، وصوت بوق سيارة البوليس.)
(ظلام، صمت.)
(يُسمَع صوت سلاسل حديدية، صوت وقْع أقدامٍ على الأرض، صوت مفتاح حديديٍّ يدور ثلاث مراتٍ
في باب
حديدي.)
(صرير باب حديدي يُفتَح ويَنغلِق، يتكرَّر الصوت عدَّة مراتٍ في سكون كامل.)
(صمت، ظلام.)
صوت صباح المُتسوِّلة
:
مالهُمش شُغلة غيرها، بيجيبوها ويودُّوها.
(يزحف ضوء الفجر الخفيف، يكشِف عن صباح المُتسوِّلة جالسةً في فناء السجن الخارجيِّ بجوار
بابٍ
حديديٍّ ضخم له قُضبان. أعلى الباب على الجِدار رقعةٌ نحاسيَّة صغيرة كُتِبَ عليها: عنبر
المُتسوِّلات.)
(يقود الباب إلى حوشٍ صغير داخليٍّ، ثم إلى بابٍ حديديٍّ آخر ضخم يقود إلى عنبر المتسولات.
تمدُّ
يدَها مِن خلال القُضبان الحديد لتشدَّ عود جرجير من الأعواد القليلة المزروعة في الحوش
الداخلي
الصغير، لكن يَدَها لا تصِل إلى عود الجرجير. العنبر له جُدرانٌ عالية جدًّا، والحوش
أيضًا له
جُدران عالية جدًّا تعلوها الأسلاك الشائكة.)
(صوت الكروان.)
(ترفع وجهها إلى السماء كأنما تبحث عن الكروان.)
صباح المُتسوِّلة
(تغنِّي وهي تنظر إلى السماء)
:
آدِي الزمن اللي لوَّع اللي كان على كِيفه، وبلبل الصبر في الفنجان وسقاه على
كيفه، وآدي بنات الحلال في السجن مرمية وابن الهيفة بيتحكِّم على كيفه، الصبر كلُّه
حِكَم واللي شبَك أهو بان، من بره مِزوَّق ومن جوَّه مليان دُخان، واصبر يا عين ده
كل شيء بأوان.
(رجُل زبَّال يلمُّ مِن فناء السجن الخارجي في صفيحة كبيرة، يترك بعض الزِّبالة قُربَ
الباب إهمالًا
وكسلًا.)
الزبَّال
:
امشي يا بت من هنا.
لو الشاويشة شافتك هنا نهارك مش فايت.
صباح المُتسوِّلة
:
هي تمشي تروح فين؟ مالهاش حتَّة.
الزبَّال
:
مالكيش حتَّة إزاي يا بت، السجن واسع أهه وكلُّه زنازين وعنابر.
يا بت الحوش واسع قُدامك، واقفة في الحتَّة دي ليه؟
صباح المُتسوِّلة
:
هي دي حتِّتها.
الزبال
:
ده كان زمان يا بت، دلوقتِ بَقَه عنبر السياسيات.
صباح المُتسوِّلة
:
هي دي حتِّتها، خَدُوها منها، وهي دي جرجيرتها خَدُوها رُخْرَة.
كل حاجة ياخدوها منها. مالهُمش شُغلة غيرها، ياخدوها، ويجيبوها ويجيبوها ويودُّوها، مالهُمش
شغلة غيرها!
(يخبِطها الزبَّال بالمقشَّة في يدِه فتنهَض وتمشي وتعرُج في فِناء السجن ثم تختفي وهي
تغنِّي):
بنت الحلال في السِّجن مرمِيَّة،
وابن الهيفة بيتحكم على كيفه.
(يزحف ضوء الفجر تدريجيًّا، ويكشِف عن العنبر، بابه الحديدي الضخم ذي القُضبان المُغلقة،
والحوش الداخلي الصغير أمامه ببابه الحديدي الضخم ذي القضبان.)
(باب العنبر في مُواجهة باب الحوش تمامًا بحيث يظهر فناء السجن الخارجي لمن يكون داخل
العنبر.)
(حبل غسيل منشور عليه بعض الملابس القليلة، يَقسِم العنبر إلى قِسمين: في القسم الأيمن
مجموعة من المَسجونات. في القسم الأيسر المجموعة الأخرى من المَسجونات. في نهاية العنبر
باب
صغير يقود إلى دورة المياه.)
(على أرض العنبر بعض الحقائب، وعُلب كرتون، ووابور، وقُمامة في الرُّكن على الأرض.)
(يشغل القِسم الأيمن من العنبر النساء والفتيات المُحجَّبات والمُنقَّبات. بِجوار الأسِرَّة
أو
المَراتب على الأرض فُرشت بطانيَّة قديمة تُستخدَم كسجَّادة للصلاة.)
(تظهر نفيسة الفيشاوي راكعةً تُصلي وهي مُحجَّبة، وجهها ناحية الجِدار.)
(من خلفِها ركعَت رشيدة ونفيسة واعتدال، الثلاث مُنقَّبات.)
(هادية تقرأ في مُصحَف وهي جالسة على الأرض، وقد خلعَت النقاب وظهر شعرها الطويل.)
(سالمة واقفة عند الباب، تُمسك القضبان الحديدية بيدِها وتنظر ناحية الحوش والفناء الخارجي،
تصعَد فوق القُضبان بقدمَيها، شعرها طويل تمشطه، يبدو عليها القلق والضيق والترقُّب.)
(في القِسم الأيسر تظهر بَسيمة شرف الدين، وهي لا تزال راقدةً على المَرتبة أو السرير.)
(وعزَّة لا تزال نائمة. مديحة ونجاة بجوار الوابور تصنَعان الشاي.)
(لبيبة جالسة وحدَها تُمسِك رأسها بيدها، يبدو عليها الضِّيق.)
(تظهر الشاويشة فهِيمة في الفِناء الخارجي تحمِل في يدِها مفتاحين كبيرين، وتهروِل مُسرعةً
في
اضطراب.)
(سالمة تراها من خلال قُضبان باب الحوش وباب العنبر.)
سالمة
:
الشاويشة جايَّة يا جماعة!
(تجرِي سالمة لتجلِس على مرتبتها أو سريرها.)
(سميرة تُنهِي الصلاة وتنهَض، وتفعل مِثلها رشيدة ونفيسة واعتدال.)
(لبيبة تفكُّ يديها من حول رأسها. مديحة ونجاة تُخَبِّئان الوابور داخل عِلبة كرتون،
بسيمة تجلِس
وتُشعل سيجارة. عزَّة تصحو من النوم، تفتح صندوق كرتونٍ صغيرا، وتبدأ في لفِّ شعرها «بالرولو»
تنظر
في المرآة وهي تلفُّ شعرَها.)
(الشاويشة تُكلم نفسها قبل أن تدخُل إلى الحوش، وقد رأت بعض الزِّبالة عند الباب.)
الشاويشة فهيمة
:
يا مصيبتي! إيه الوَساخة دي كلها، هو عنبر الدِّعارة بِيرمي زبالته هنا ولا
إيه؟
(تفتح باب الحوش الحديدي الضخم ذا القضبان. المفتاح ضخم جدًّا وثقيلٌ في يدِها. يُسمَع
صوت
المفتاح يدور في الباب الضخم ثلاث دَورات، تدفع الباب الحديدي بيدِها. الباب ثقيلٌ جدًّا
وضخمٌ.
له صرير غليظ ينفتِح عن شقٍّ صغيرٍ تدخُل منه إلى الحوش، تُغلِق الباب وراءها.)
الشاويشة فهيمة
:
والحوش كمان عاوز كَنس ورَش، والجرجيرة خلاص نِشفِت وقرَّبِت تموت.
(تفتح باب العنبر الحديدي الضخم.)
(يُسمَع صوت المفتاح يدور في الباب ثلاث دَوْرات.)
(تدفع باب العنبر الحديدي الضخم بيدِها. يظهَر أن الباب ثقيل جدًّا، في نفس حجم باب الحوش
ويُقابِله تمامًا، له صَرير غليظٌ شَبيه بالباب الآخر تمامًا.)
(تدفعه قليلًا، ينفتح الباب عن شقٍّ صغير تدخُل منه إلى العنبر بسرعةٍ واضطراب.)
الشاويشة فهيمة
:
المدير الكبير اللي فوق المدير واللي فوق المأمور جايز ييجي النهارده،
وجايز يكون فيه تفتيش كمان، ماحدِّش عارف، بس أول ما اعرف هاجي أقولكم. وضابط المباحِث
هنا من
الصبح وقاعد مع المأمور في المكتب.
(الشاويشة تُفتِّش بعينيها بسرعةٍ الجُدران والأركان والأشياء على الأرض؛ علب كرتون وحقائب
ومراتب.)
الشاويشة
:
المُهم خلُّوا اليوم يفُوت على خير، مش عاوزة حدِّ يلاقي عندكم حاجة من الممنوعات.
الناس الكبار دول مافيش في قلوبهم رحمة لا عليَّ ولا عليكم، وأنتم لسه في فترة التكدير،
وأنا
صاحبة عيال، مش عاوزة مشاكل، مش كده ولَّا إيه يا ستِّ بسيمة؟
بسيمة
:
طبعًا طبعًا يا ستِّ فهيمة، إن شاء الله مافيش مشاكل.
عزَّة
:
وفترة التكدير دي حتِخلَص إمته؟
(الشاويشة ترى المرآة في يدِ عزَّة.)
الشاويشة
:
خبِّي المِراية يا ستِّ عزة، إنتم عارفين المِراية ممنوعة، والوابور، والسكينة، خبُّوا
الحاجات دي كلها.
سالمة
(في سذاجة)
:
وهي المِراية ممنوعة ليه يا شاويشة؟
الشاويشة
:
فيه واحدة انتحرت السنة اللي فاتت بِحِتة مِراية صغيَّرة.
سالمة
(في سذاجة)
:
وانتحرت ليه؟
رشيدة
(تلكِزها في كتِفها)
:
يعني مش عارفة الناس بتِنتِحر ليه في السجون؟ اسكُتي يا بتِّ بلاش
هَبَل!
(الشاويشة لا تزال تُفتِّش العنبر بعينيها وهي تتمشى فيه.)
الشاويشة
:
وانتُم عارفين كل الممنوعات، لا فلوس، ولا جورنال ولا راديو ولا ورقة ولا قلم.
خالوا بالكم، الورقة والقلَم في عنبر السياسة أخطر من الطبنجة. لو لَقُوا عندكم طبنجة
أهوَن
عندي من الورقة والقلم.
سالمة
:
الحمد لله أنا لا عندي لا ورقة ولا قلم ولا باعرَف أكتِب ولا اقرا.
(الشاويشة تفتَح باب دورة المياه وتدخُل لتُفتِّش الدورة.)
بسيمة
(في اضطراب)
:
اللي معاها حاجة تخبِّيها بسرعة مش عاوزين مشاكل!
لبيبة
(في غضب)
:
كل يوم تفتيش تفتيش! مرة المأمور، مرة المدير، مرة الخفير، دي حاجة تقرف،
هم مالهُمش شغلة غيرنا؟!
(الشاويشة تخرج من دورة المياه.)
الشاويشة
:
الدورة عاوزة تنظيف، والعنبر عاوز يِتمِسح، والحُوش كمان لازم يِتكِنس ويِنرَش. مش
عاوزة حدِّ يقول علينا حاجة. بقالي في السجن ده عشرين سنة وسُمعتي عند المأمور والمدير
زيِّ
الجنيه الدهب، قبل ما ييجوا عاوزاكم كده ولَّا إيه يا سالمة؟
سالمة
:
واشمعنى يعني يا سالمة؟ هو مافيش غير سالمة في العنبر؟
ما تقوليش ليه ياعتدال ولَّا يا هادية؟
هادية
(في غضب)
:
أنتِ مالكيش شُغلة طول النهار.
سالمة
(في غضب)
:
ويعني انتِ بتعمِلي إيه؟ ما انتِ قاعدة طول النهار برضه.
هادية
:
قاعدة باقرا قرآن.
سالمة
(في غضب)
:
دي قراية القرآن دي شغلة؟
سميرة
(تنتفِض واقفةً في غضب)
:
إيه؟ بتقولي إيه؟ استغفِري ربِّنا بسرعة! قراية القرآن أعظم
شُغلة، قراية كلام ربنا أعظم عمل في الدنيا!
الشاويشة
:
ولما كلكم تقعدوا تقروا القرآن طول النهار، مين اللي يمسح العنبر؟
سميرة
:
فيه في العنبر ناس ما بتقراش قرآن، ولا بتصلِّي ولا لها شُغلة ولا مَشغلة، واحدة فيهم
تمسح العنبر.
(بسيمة تُشعِل سيجارة.)
بسيمة
(في سخرية)
:
والله يا ستِّ فهيمة أنا شخصيًّا مَقدرش أمسح البلاط، أولًا بحكم السن،
ثانيًا عُمري في حياتي ما مسحت بلاط بيتنا، عشان أمسح بلاط السجن.
عزَّة
:
وهو معقول واحدة فينا تمسح الأرض، ده اللي ناقص يا ست فهيمة.
لبيبة
(في تكبُّرٍ وغضب)
:
أنا عندي تلات خدَّامين في البيت يا ست فهيمة!
الشاويشة
:
هو أنا قُلت حاجة يا ستات؟ أنا عارفة إنكم كلكم ناس مُتعلِّمين مُحترمين وولاد
ناس.
سالمة
:
ويعني أنا مش بنت ناس؟
الشاويشة
(في غضب)
:
أنتِ لسه صغيرة يا بت يا سالمة، عاوزة تعمِلي نفسك زي واحدة
منهم؟
سميرة
(في غضب)
:
طبعًا هي زي أي واحدة فيهم، مافيش في العنبر ده كبيرة وصغيرة، ولا غنيَّة
ولا فقيرة، ولا واحدة عندها تلات خدَّامين وواحدة معندهاش! سالمة زي أي واحدة فيهم، ويمكن
أحسن. على الأقل هي بتصلِّي وتغطِّي شعرها وتخاف من ربنا!
لبيبة
(في غضب)
:
أنا ما أسمحلِكيش إنك تتكلِّمي علينا بالشكل ده!
الشاويشة
:
يا جماعة هدُّوا أعصابكم، المسألة بسيطة، أنا حاروح أجيب لكم واحدة من المسجونات تمسح
العنبر وتكنُس الحوش وتغسِل لكم هدومكم كمان.
(تخرج الشاويشة من العنبر. تجتاز الحوش الصغير ثم تخرج إلى الفناء الخارجي، تُغلِق باب
الحوش
الحديدي بالمفتاح.)
سميرة
(تُقلِّد لبيبة في تكبُّرها ولهجتها)
:
أنا عندي تلات خدَّامين في البيت يا ستِّ فهيمة! يا
سلام على الناس اللي بِيدافعوا عن الطبقات الفقيرة من الشعب!
لبيبة
(في غضب)
:
يا سلام على الناس اللي ما بيعملوش حاجة في الدنيا إلا الصلاة وقراية
القرآن.
سميرة
(في غضب)
:
الصلاة والقرآن والتقرُّب إلى الله هي كل حاجة في الدنيا، الدنيا كلها
زايلة وفانية ولن يبقى إلا وجه ربك الكريم. المفروض أن يكدَح الإنسان لله بالصلاة وقراءة
القرآن.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ صدق الله العظيم.
لبيبة
:
ومِين بَقَه اللي يشتغل ويصرِف عليكي؟ ربنا؟!
رشيدة
:
استغفر الله العظيم، الرزق من عند الله.
نفيسة
:
نعم، الرزق ليس في حاجة إلى سعيٍ لأنه من عند الله، والعنبر ليس في حاجة إلى مسح
أيضًا؛ لأن النظافة من الإيمان والوساخة من …
سميرة
(في غضب)
:
من الكفر!
بسيمة
:
وبعدين يا جماعة اهدوا شويَّة ورانا حاجات أهم من الخلافات البسيطة دي، عاوزين نستعد
للتفتيش والتكدير والنكَد بتاع كل يوم، مش ناقصين مشاكل ومش ناقصين نكَد.
(تظهر الشاويشة في الفضاء الخارجي. تفتح باب الحوش الحديدي ثم تُغلِقه وراءها. تَجتاز
الحوش
وتدخل العنبر. باب العنبر مفتوح.)
الشاويشة
:
بعد شوية هاتجيلكم زينب تمسح العنبر وتكنس الحوش وتغسل لكم الهدوم، هي نضيفة زيِّ
الفل، أنضف واحدة في عنبر الدِّعارة.
سميرة
(تنتفض)
:
الدعارة؟ لا يُمكن، يعني مش ناقصين إلا واحدة من الدِّعارة يا ست فهيمة؟!
رشيدة ونفيسة
(في نفَسٍ واحد)
:
يا خبر اسود!
الشاويشة
:
مالهم بنات الدِّعارة، لولا الملامة لقلتُ عليهم أنضف ناس. أنا بقى لي هنا عشرين
سنة في السجن، عِشت مع كل الأنواع، ومع القتالات وتاجرات المُخدِّرات والنشَّالات والمُتسوِّلات
والدعارة والسوابق، وكل الأصناف، وبصراحة كده ياما شُفت فيهم ناس بَني آدمين بصحيح،
عندهم كلمة، وعندهم شهامة وعندهم شرَف، وعندهم عزَّة نفس، غيرش الزمَن هو اللي غدار.
ياما في الحبس
مظاليم يا ستات، يعني انتو كنتوا عارفين إنكم حتدخلوا السجن وتقعُدوا كمان في عنبر
المُتسوِّلات؟!
(سميرة تنتفِض فجأةً وتصرُخ صرخةً حادَّة.)
الجميع
(في فزع)
:
فيه إيه؟ فيه إيه؟
سميرة
(في فزع)
:
صرصار!
(سالمة تُمسك الشبشب وتجري وراء الصرصار وتضربه وتقتله وتضعه على حافَة الشبشب وتخرج
إلى
الحوش، تبقى في الحوش واقفةً بجوار حوض الجرجير الصغير بعد أن تُلقي الصرصار خارج باب
الحوش،
في الفناء الخارجي.)
الشاويشة
:
يا مصيبتي! أنا افتكرت حاجة جَرِت؟!
حدِّ يخاف من صرصار بالشكل ده؟!
سميرة
:
أنا بخاف من الصرصار أكتر من التِّعبان.
الشاويشة
:
يا ساتر يا رب! السجن بتاعنا مافيهوش تعابين، عندنا صراصير وخنافس وسحالي …
لبيبة
:
وقَمل وبَق …
عزَّة
:
وجراد وعِرَس وقُطط، وتتخانق طول الليل وتدخل علينا من الحوش.
الشاويشة
:
ما هو لازم الحوش يتكِنس كل يوم وينرش، والعنبر يتمسح ودورة الميَّة، النظافة مُهمَّة
يا ستَّات، النظافة من الإيمان، والوساخة من إيه؟ بلاش أقول، أما أروح أنادي زينب زمانها
رجعِت
من الزيارة، دي بنت زي الفل وأمينة، لا يمكن أجيب لكم واحدة مش كويسة.
سميرة
:
عندك مساجين كتير يا ست فهيمة، بلاش بتاعة الدعارة دي، هاتي واحدة مُتسوِّلة ولا
نشَّالة ولا حتى قتَّالة.
الشاويشة
:
القتَّالة لا يُمكن تِمسح بلاط، مناخيرهم في السما، القتالات جايين من بيوتهم على
طول، ما داروش، ما راحوش هنا ولا هنا لحظة غضَب وخلاص، وفيهم ناس ما قتلوش خالص، أحسن
ناس هنا
في السجن هما القتالات، لكن الدعارة، دول غلابة واتلطَّموا كتير، كلهم غلابة وياما في
السجن مظاليم.
(تظهر في الفناء الخارجي صباح المُتسوِّلة بجلبابها المُمزَّق وشعرها المنكوش وخديها
المُلطَّخين
بالطين أو الزفت، حافيةً تمشي تعرُج حتى تصِل إلى باب الحوش الحديدي فتُمسك القضبان بيديها.
سالمة واقِفة في الحوش تنظر إليها.)
صباح المتسوِّلة
:
ناوليها عود جرجير من الجرجيرة بتاعِتها.
سالمة
:
مين هيَّ دي؟
(الشاويشة وهي واقفة في العنبر قرب الباب ترى سالمة في الحوش وهي تكلِّم صباح
المُتسوِّلة.)
الشاويشة
:
ممنوع يا سالمة الكلام مع المسجونات، وأنتِ يا بت يا صباح امشي من هنا، مش
عاوزة أشوف وشِّك هنا!
صباح المُتسوِّلة
:
ليه؟ ماله وِشِّي؟ وشِّي ماله؟
الشاويشة
:
وشِّك اسود زيِّ الهِباب، أنتِ حاطَّة عليه إيه يا بت؟
ماله لونه إسود كده؟!
صباح المُتسوِّلة
:
لون الدنيا! وشِّي لون الدنيا.
الشاويشة
:
أسود من الدنيا كلها، ده لون المَدخَنة دي السودة ولون الهِباب الأسود اللي طالع
منها علينا طول النهار، امتى ربنا يتوب عليَّ من السجن ده؟
(الشاويشة تخرج إلى الحوش الصغير.)
الشاويشة
:
امشي يا بت، المُدير والمأمور جايين هنا ومش عاوزاكي تجيبيلي الكلام.
صباح المُتسوِّلة
:
والمدير والمأمور جايين هنا ليه؟
الشاويشة
:
جايين هنا ليه؟ شوفوا الوليَّة المجنونة؟ انتِ اللي جاية هنا ليه؟
صباح المُتسوِّلة
:
هي جايَّة عشان هي ساكنة هنا، وهي اللي زَرَعت الجرجيرة اللي هنا.
الشاويشة
:
ادِّيها عود جرير يا سالمة.
(سالمة تقطَع مِن الأرض عود جرير وتُعطيه لها، صباح المُتسوِّلة تضعُ عود الجرجير في
فمِها!)
الشاويشة
:
اجري يا بت ناديلي زينب.
صباح المُتسوِّلة
:
زينب الحرامية ولَّا زينب القتَّالة.
الشاويشة
:
لا زينب دِعارة.
صباح المُتسوِّلة
:
حاضر يا شاويشة.
(تمشي في الفناء وهي تعرُج وتُنادي بأعلى صوتها.)
صباح المُتسوِّلة
:
يا زينب، يا زينب دِعارة.
(تظهر أمامها سجينة في الفناء، تضرِبها بيدها.)
صباح المُتسوِّلة
:
أنا بقول زينب دِعارة، عاوزَة تِعملي دِعارة على آخر الزمن! امشي يا تسوُّل يا
دِعارة غلَط.
(سالمة تدخل إلى العنبر. الشاويشة تدخُل وراءها إلى العنبر. تمشي حتى تصِل إلى الركن
الذي
تجلس فيه بسيمة.)
الشاويشة
:
نِسيت أقول يا ستِّ بسيمة، لما زينب تكنِس وتمسح وتغسِل لكم الهدوم ابقي ادِّيها
سيجارة ولَّا اثنين.
بسيمة
:
يبقى في الحالة دي عاوزين سجاير زيادة من الكانتين؛ أنا مَعَنديش غير السجاير بِتاعتي،
ما أقدَرش أعيش من غير السجاير بتاعتي، ما أقدرش أعيش من غير سجاير، إنتِ عارفة كِده
يا ستِّ
فهيمة.
(نفيسة كانت واقفةً قُرب الباب تُراقب الحوش.)
(سالمة تتمشَّى في العنبر تتأمَّل الجُدران. فجأةً تقع عينها على صورة الرجل الضخمة داخل
الإطار
السميك أعلى الجِدار.)
(سالمة تسأل الشاويشة وهي تُشير بيدِها إلى الصورة.)
سالمة
:
هو الراجل ده مين يا شاويشة؟
الشاويشة
(في فزع)
:
يا مصيبتي! ده مش راجل يا بت ده المدير اللي فوق فوق خالص.
سالمة في سذاجة
:
فوق فوق خالص يعني فين؟
الشاويشة
:
فوق فوق فوق فوق … (وهي تُشير بيديها إلى أعلى.)
سالمة
:
في السما يعني؟
الشاويشة
(لا تزال رافعةً يديها إلى أعلى)
:
فوق، فوق، كمان.
سالمة
(في دهشة)
:
فوق السما كمان؟ فوق ربنا يعني؟
الشاويشة
:
استغفر الله العظيم من كل ذنبٍ عظيم، هو فيه بني آدم فوق ربنا برضه يا سالمة،
أنتِ مش مؤمنة ولَّا إيه؟
رشيدة
(في غضب)
:
يا بت بطَّلي هَبَل يعني أنتِ مش عارفاه، ما هو اللي جايبك هنا في السجن يا
بت!
سالمة
(في دهشة وأكثر سذاجة)
:
هو اللي جايبني هنا؟ هو عارفني؟ أنا ماعرفوش ولو باشبَّه
عليه، زي ماكون شفته قبل كده.
(الشاويشة تضربها على كتفها وهي تضحك.)
الشاويشة
:
شفتيه إيه يا بت يا سالمة، هو ده حدِّ بيشوفه، ده فوق فوق قوي ولا حدِّش يشوفه ولا
يطوله أبدًا.
رشيدة
(في سخرية)
:
باتشبِّهي عليه يا بت؟ لازم يبت شبه أبوكي ولا أخوكي؟!
(رشيدة تضحك في سخرية.)
سالمة
(في غضب)
:
ويعني أبويا ولَّا أخويا مش راجل ولَّا مش راجل؟
الشاويشة
:
طبعًا راجل وستِّين راجل، بس قوليلنا بَقَه كده هو شبه مين فيهم؟
سالمة
(في ضيق)
:
هو أنا فاكرة شكل أبويا؟ لكن اللي أنا فاكرَة شكلُه جوز أمي، أهو أنا كنت
أقول له يابه برضه، وأهو كان يِشبه الجدع اللي في الصورة ده!
(جميع العنبر يضحك. بسيمة تُشعل سيجارة.)
الشاويشة
:
بقى لي عشرين سنة في السجن. أول مرة في حياتي أشوف في عنبر السياسة واحدة زيِّك يا
سالمة.
سميرة
(في غضب)
:
أقطع دِراعي إذا ما كانتش البنت دي عاملة هابلة وساذجة.
بسيمة
(تهمِس في أذن عزة)
:
الله يلعن الزمن اللي خلانا نعيش مع الأشكال دي!
(ترنُّ صرخة حادَّة في العنبر.)
(نفيسة تصرخ فجأة وهي تجري بعيدًا عن الباب.)
الشاويشة
(في فزع)
:
إيه؟ إيه؟ صرصار تاني؟
نفيسة
:
لا، لأ.
الشاويشة
:
راجل! راجل!
(نفيسة تجري مُسرعةً لترتدِي العباءة والنِّقاب. وكذلك تجري الأُخرَيات كل واحدة ترتدي
عباءتها
ونقابها أو حجابها.)
(الشاويشة تتَّجه نحو الباب بسرعةٍ وهي تقول):
الشاويشة
:
يا مصيبتي، ده المدير العام مش راجل!
(تخرج إلى الحوش بسرعةٍ وتفتح باب الحوش.)
(يظهر المدير العام مُمسِكًا بعصًا يُحرِّكها في يدِه كالصولجان. من خلفه المدير والمأمور
وضابط
المباحث والضابطة. ضابط المباحث يرتدي نظَّارةً سوداء على عينيه.)
(الشاويشة تفتح لهم باب الحوش. يدخلون إلى الحوش. الضابطة تنظر إلى الأرض في ضيق. تهمِس
في
أذُن الشاويشة وهما يسيران خلف الموكب.)
الضابطة
(في غضب)
:
ماحدش كنَس الزبالة دي ليه؟!
الشاويشة
(في جزع)
:
حالًا يا ستِّ سنيَّة، حالًا يِتكنِس!
(يسيران خلفَ الموكِب بضعَ خطواتٍ داخل الحوش، المدير العام يتفقَّد جُدران الحوش العالية
تعلُوها
الأسلاك الشائكة.)
(المأمور يقترِب من الضابطة ويهمِس في أذُنها.)
المأمور
(في غضب)
:
ماحدش كَنَس الزبالة دي ليه؟
الضابطة
(في جزع)
:
حالًا يا بيه، حالًا يِتكِنس!
(يتقدَّم المدير العام بضع خطواتٍ في الحوش وهو يتفقَّد الجُدران بعينيه ويحرِّك العصا
في يده
بكبرياءَ شديدة كالصَّولَجان.)
(المدير يتخلَّف خطوةً أو خطوتين عن المدير العام. يقترِب من المأمور ويهمِس في أذُنه.)
المدير
(في غضب)
:
ماحدِّش كنَس الزبالة دي ليه؟
المأمور
(في جزع)
:
حالًا يا فندم! حالًا يتكِنس!
(الشاويشة تقترب من المدير العام في اضطرابٍ وخوف. تُوقِفه قبل دخوله العنبر.)
الشاويشة
(وهي تَتلعثَم)
:
لحظة واحدة يا سعادة البيه، بس … عبال البنات المُنقَّبات ما يلبِسوا، أصلهم يا سعادة
البيه من الجماعة دول اللي مش مُمكن ينكِشفوا على راجل.
المدير العام
(في غضب شديد)
:
راجل إيه؟ وكلام فارغ إيه؟ أنا المدير العام!
المأمور
(يلكِزها في كتِفها)
:
ده المدير العام يا حمارة مش راجل!
(يتلعثَم المأمور) قصدي، قصدي، مش أيِّ راجل!
(تتنحَّي الشاويشة جانبًا في اضطراب. يسير المدير العام نحو باب العنبر الحديدي المفتوح
عن
فتحةٍ صغيرة. يتوقَّف لحظةً عند الباب ثم يستدير للضابطة.)
المدير العام
:
أنتِ ستِّ زيُّهم. ادخُلي انت الأول شُوفيهم لابسين وجاهزين ولَّا لأ.
(تدخل الضابطة إلى العنبر، ترى المُنقَّبات والمُحجَّبات جالسات في الرُّكن الأيمن على
الأرض.
سميرة تجلِس وحدَها مُحجَّبة وفي يدِها المُصحف تقرأ. رشيدة ونفيسة إلى جوار بعض لا يظهر
منهما أي
شيء. هادية واعتدال يظهَر منهما فقط العينان ويرتدِيان قفَّازات في أيديهما. سالمة جالسة
وحدها
بالقُرب منهما وقد غطَّت شعرَها بالطرحة وارتدتْ جلبابًا طويلًا واسعًا. في الركن الأيمن
تجلِس
على الأرض (بطَّانية أو مرتبة على الأرض) بسيمة ومن حولها تجلس عزَّة ولبيبة ومديحة ونجاة.
كلهن
سافرات الوجه والشعر ظاهر، يرتدين جلاليب أو أثواب قصيرة عادية. بسيمة تُشعِل سيجارة
وتدخِّن.)
(المدير العام ينتظر عند الباب ومن خلفه المَوكب، يحرِّك عصاه في يده.)
المأمور
(بلهجة اعتذار)
:
أصلهم يا سعادة البيه …
المدير العام
(في غضب)
:
أصل إيه وفصل إيه! مش فاهم إزاي بيشتغلوا بالسياسة وعاملين دوشة
في البلد وقالبين الدنيا على رِجل، وعاوزين يقلِبوا نظام الحكم وهم مش بينكِشفوا على
رجالة!
(تطلُّ الضابطة من بين قضبان الباب وهي داخل العنبر وتكلم المدير العام.)
الضابطة
:
اتفضل يا سعادة البيه، كلهم جاهزين!
(يدخل المدير العام ومن خلفه الموكب.)
(يتمشَّى في العنبر فاحِصًا الجُدران والوجوه وهو يحرِّك العصا في يده بكبرياءَ وغطرسة.)
(سميرة جالسة في يدِها المُصحف والسبحة تُسبح، وقد ارتدَت العباءة والحجاب، تُظهِر وجهها
وكفيها
فقط.)
(رشيدة ونفيسة جالستين إلى جوار بعض وقد اختفَين تمامًا تحت عباءةٍ سوداء تغطي الرأس
والجسم
حتى الأرض.)
(هادية واعتدال يرتدين نقابًا فيه فتَحات للعيون فقط. يرتدين قفازات في الأيدي لإخفاء
الكفوف.)
(سالمة جالسة وحدَها بالقُرب منهنَّ وقد أخفت شعرها تحت الحجاب لكن وجهها ويديها ظاهرة.)
(في القسم الأيسر من العنبر، بسيمة جالسة على المرتبة إلى جوارها لبيبة وعزَّة ومديحة
ونجاة.)
(الجميع صامتات ينظُرن إلى المدير العام دون حَراك. عيون المَوكِب تفحص الجُدران والمسجونات.
ضابط المباحث يرتدي النظارة السوداء. يفتِّش الجدران بعينيه وينقل بصره من واحدةٍ إلى
واحدة وهن
جالسات صامتات.)
المدير العام
(يُحرِّك عصاه بزهوٍ شديد)
:
أرجو إنكم تكونوا مبسوطين هنا، معانا.
(ولا واحدة تردُّ عليه.)
الشاويشة
:
مبسوطين قوي يا سعادة البيه، بوجودك.
المدير العام
(بغضب)
:
اسكتي انت، أنا مش بكلمك انت.
المأمور
:
اسكتي يا فهيمة.
الضابطة
:
أنتِ مالكيش كلام قُدَّام البيه المدير العام.
المدير العام
:
يا ترى فيه أي واحدة فيكم لها طلبات.
(سالمة تنهَض بسرعةٍ وتقترِب من المدير العام.)
سالمة
(في سذاجة)
:
أيوه، أنا.
المدير العام
:
أنتِ اسمك إيه؟
سالمة
:
اسمي سالمة أبو خليل.
المدير العام
:
أيوه يا سالمة عاوزة إيه؟
سالمة
(في سذاجة)
:
عاوزة أعرف أنا هنا ليه؟!
(الشاويشة تُخفي وجهها في الجِدار وتضحك. الضابطة تزمُّ شفتيها لتُخفِي ابتسامة. عضلات
وجه ضابط
المباحث تتقلَّص في تكشيرة. المأمور يشعر بالحرج.)
المدير العام
:
أنتِ مش عارفة أنتِ هنا ليه؟
سالمة
(في سذاجة)
:
لأ معرفش.
المدير العام
:
على العموم ده مش اختصاصي.
(الضابطة تشدُّ سالمة من يديها بعيدًا عن المدير العام.)
الضابطة
:
ده مش اختصاص البيه المدير العام.
سالمة
(في سذاجة)
:
أمَّال مين؟
المأمور
:
بُكرة تعرفي لما تنزِلي التحقيق.
سالمة
(في ضيق)
:
تحقيق إيه؟ كل يوم يقولولي بكرة تِنزلي التحقيق، بكرة تِنزلي التحقيق، لا
فيه نزول ولا فيه تحقيق!
(الشاويشة تستدير وتُخفي وجهها في الجدار. والمأمور والضابِطة يُكشِّران في ضيق. ضابط
المباحث
يقترِب من سالمة وينتحي بها جانِبًا ويقول لها شيئًا. لا أحد يسمع ماذا قال لها.)
(سالمة تسكُت وتجلِس على الأرض إلى جوار هادية واعتدال.)
المدير العام
(يحرِّك عصاه بغرور)
:
أي طلبات أخرى؟
بسيمة
(تنهض وتخاطبه)
:
يا سيادة المدير، احنا كلنا لغاية دلوقت مش عارفين إيه التُّهم الموجَّهة
إلينا. عايشين في السجن في عنبر المُتسوِّلات زيِّ ما حضرتك شايف.
المأمور
:
ده أحسن عنبر في السجن، وعندكم دورة ميه، مافيش حد عنده دورة ميه غيركم؟
عزة
:
يا سيادة المدير احنا عايشين تحت ظروف سيئة جدًّا، لا عندنا زيارات ولا أكل بيجي
من برَّه، ولا نشوف جورنال، ولا نسمع راديو، وطول النهار المدخنة تحدِف علينا دخان وهباب
أسود.
سميرة
:
وطول الليل تزحف علينا الصراصير والبَق.
اعتدال
(بصوتٍ ضعيفٍ خائف)
:
ولا نشوف أهالينا ولا أهالينا تعرف احنا فين.
بسيمة
(بصوت ضعيف خائف)
:
يا سيادة المدير دي حياة لا يُمكن يرضى بيها حد، احنا تِعبنا،
تعبنا، خلاص! صحِّتنا الجسمية والنفسية هلكت، هلكت!
مديحة
(في هدوء)
:
مش عارفين ليه مش بيحقَّقوا معانا يا بيه؟
المدير العام
:
والله ده مش تخصُّصي، أنا مليش دعوة بالتحقيق.
مديحة
:
على الأقلِّ يصرَّحوا لنا يا بيه إن احنا نشوف المُحامين بتوعنا.
المدير العام
:
ده برضه مش تخصُّصي.
لبيبة
:
أمال تخصُّص مين يا فندم؟
المدير العام
:
والله مش عارف، كل الأمور حتتِّضح عن قريب إن شاء الله. مش كده ولَّا إيه يا
محمد بيه؟ (ينظر إلى ضابط المباحث).
ضابط المباحث
(في أدبٍ شديد)
:
أيوه يا فندم، احنا مُنتظرين الأوامر من فوق.
(سالمة تنهَض بسرعةٍ وتقول في سذاجة غريبة وهي تنظر إلى فوق.)
سالمة
:
من فوق مين؟!
(الشاويشة تُخفي وجهها بيديها. الضابطة تستدير وتنظر للحائط. المأمور يُمسِك سالمة من
يدِها
وهو يبتسِم في حرَج.)
المأمور
:
اقعدي يا سالمة جنب زميلاتك.
المدير العام
:
أي طلبات أخرى.
اعتدال
(بصوت ضعيف)
:
عاوزة قلَم وورَقة عشان ابعت جواب لأمي.
(المدير العام يُكشِّر فجأةً وتبدو عليه الصرامة الشديدة.)
المدير العام
:
إلا الوَرَقة والقلم! في العنبر ده أخطر من الطبنجة، مفهوم! أنا بقَه ليَّ في
مصلحة السجون تلاتين سنة، سُمعِتي معروفة، معروف عني الحَسم والحزم. أنا واضح جدًّا وصريح،
والأوامر واضحة وصريحة. إلا الورقة والقلم. الأوامر هي الأوامر ومش عاوزين مشاكل. ممنوع
الاتِّصال بالخارج بأيِّ شكل، لا جواب يدخل ولا جواب يخرج، لا ورقة ولا قلم لغاية ما
تيجي لنا
أوامر أُخرى مفهوم!
الشاويشة
:
هم كلهم فاهمين يا سعادة البيه، وكويسين قوي، ده أحسن عنبر عندنا.
الضابطة
:
فعلًا يا بيه، كلهم سلوكهم طيِّب وهاديين.
المأمور
:
طبعًا، كلهم ناس مُتعلِّمة وعارفة النظام والقوانين، واللوائح.
سالمة
(تهمِس في أذُن اعتدال)
:
اللوائح إيه؟ عارفة اللوائح تِبقى إيه يا اعتدال؟
اعتدال
(تُسكتها في ضيق)
:
هو احنا عارفين حاجة اسكتي يا بت.
عزَّة
(تهمِس في أذُن لبيبة)
:
قوانين؟ هو فيه قوانين؟ لو كان فيه قوانين كنا بَقينا
هنا؟
لبيبة
:
اسكتي أنا خلاص هانفِجر!
عزَّة
:
لأ وحياتك امسِكي أعصابك خلِّي اليوم يفُوت على خير.
(المدير العام يتحدَّث مع المأمور في حديثٍ جانبي.)
المدير العام
:
المأمور بيقول إن الأكل كويس، مش كده؟!
(يبتسِم وينظر إلى سالمة.)
المدير العام
(يخاطب سالمة)
:
مش الأكل كويس يا سالمة؟!
الضابطة
(تهمِس للشاويشة)
:
كويس قوي، أحسن من الأكل في بيتها.
(سالمة تنهَض وتقول في هدوء
وسذاجة الأطفال):
سالمة
:
بس أنا باجوع هنا، رغيفين مش بيكفُّوني في اليوم.
المدير العام
(للمأمور)
:
رغيفين ازاي؟ ليه مش ثلاثة أرغفة؟ في كل السجون ينصرِف ثلاثة
أرغفة لكل واحد.
المأمور
:
أصل المسألة …
المدير العام
(مُقاطِعه)
:
لا أصل ولا فصل، من النهاردة لازم ينصرِف لكل واحدة منهم ثلاثة
أرغفة.
المأمور
:
حاضر يا سعادة البيه.
لبيبة
(تسعَل)
:
مدخنة السجن طول النهار تحدِف علينا دخان، صدري اتملى دخان وبقيت أكُح، وممكن
يجيلي نزلة شعبية أو حتى سل، عنبر السل جنبنا على طول. (تهرُش) وكمان بَقيت باهرش، باين جالي جرَب.
سميرة
(تنتفِض فَزِعة)
:
إلا الجرَب.
المأمور
:
السجن بتاعنا مافيهوش جرَب يا سعادة البيه.
لبيبة
:
أنا سمِعت إن كل المُتسوِّلات اللي كانوا هنا في العنبر ده، كلهم كان عندهم
جرَب.
المأمور
:
غير صحيح يا سعادة البيه.
الضابطة
:
السجن بتاعنا مافيهوش جرَب أبدًا.
الشاويشة
:
السجن بتاعنا نضيف زي الفل. إيه الكلام ده، جرب إيه وبتاع إيه؟
الضابطة
:
الحاجات دي مش عندنا، مش مِن جوَّه السجن. الحاجات دي بتِيجي لنا من برَّه، وأول ما
تدخُل عندنا واحدة جربانة ولَّا مَسلولة ولَّا عندها أي مرض مُعدي، على طول بادِّي أمر
بعزلها في
المُستشفى يا بيه.
المأمور
:
عندنا عنابر مَخصوصة في المُستشفى للحاجات دي.
الضابطة
:
وبالنسبة لبنات الدعارة يا سعادة البيه، كل واحدة فيهم بينكشِف عليها، وإذا كان
عندها أي حاجة بتتعالِج على طول، مافيش أي تقصير يا بيه من ناحيتنا.
المدير العام
:
لا يا أستاذة … الاسم إيه من فضلك؟
لبيبة
:
لبيبة.
المدير العام
:
لا يا أستاذة لبيبة، لا جرَب ولا حاجة، أنتِ بس حسَّاسة شوية، وطبعًا لسة
مش واخدة على الحياة الجديدة هنا، مجرَّد تغيير جو طبعًا بيأثَّر. الجو هنا طبعًا مُختلف
عن
البيت، لكن بكرة حتتعوِّدوا، وكل حاجة تبقى سهلة. وعلى العموم يا سيادة المأمور، إذا
الأستاذة
لبيبة استمرِّت تِشتكي من مسألة الهَرش دي، يبقى مُمكن دكتور الجلد يشوفها.
المأمور
:
حاضر يا بيه.
(المدير العام يتمشَّى مَزهوًّا وهو يحرِّك العصا.)
المدير العام
(يهزُّ العصا مزهوًّا بنفسه)
:
أي طلبات أخرى؟!
(صمت كامل، ولا واحدة ترُد.)
المدير العام
(يبتسِم في زهوٍ ويخاطِب ضابط المباحث)
:
السكوت علامة الرضا، بيقولوا كده
على الستَّات يا محمد بيه، مش كده ولَّا إيه؟!
(يضحك ضحكةً قصيرة مُفتَعَلة.)
ضابط المباحث
(في أدب)
:
تمام يا فندم، تمام.
المدير العام
:
ما دام كله تمام، أمشي وأنا مطَّمِّن ياللا بينا يا محمد بيه.
ضابط المباحث
:
لو سمحت لي، أنا حقعد معاهم شوية؛ عاوز منهم شوية بيانات بسيطة.
المدير العام
:
كده! طيب! سلامو عليكم.
(يخرج المدير العام ومِن خلفِه يُهروِل المَوكِب فيما عدا ضابط المباحث الذي يظلُّ بالعنبر.)
ضابط المباحث
:
عندي شوية بيانات ناقصة عنكم أحب أكملها.
(يُخرِج من جيبه ورقةً وقلَمًا ويبدأ في التسجيل.)
ضابط المباحث
:
بسيمة شرف الدين.
بسيمة
:
أيوه.
ضابط المباحث
:
حضرتك غير مُتزوِّجة مش كده؟
بسيمة
:
زوجي مُتوفَّي.
ضابط المباحث
(في برودٍ لزِج)
:
آه، مُتأسِّف، البقيَّة في حياتك.
بسيمة
(في برودٍ أشد)
:
وحياتك الباقية، ده مات من عشَر سنين.
ضابط المباحث
(ببرود)
:
آه، مُتأسِّف.
(يسكُت لحظة. ينظر في الورقة.)
ضابط المباحث
:
وحضرتك عندِك عِمارة في مصر الجديدة؟
بسيمة
:
ده بيت من أربع أدوار بس مش عِمارة.
ضابط المباحث
(في برود)
:
إن شاء الله تكمِّليهم عشرة وعشرين دور، مافيش حاجة بعيدة على
ربنا، ربنا قادر على كل شيء، يُعطي ما يشاء بغير حساب. (يسكت لحظة) والبيت ده جالك منين يا
ستِّ بسيمة؟!
بسيمة
(في برود)
:
من عند ربنا!
سالمة
(تهمِس)
:
أيوه ربنا هو اللي بيدي عبيده زي أُمي ما بتقول.
اعتدال
(تلكِزها)
:
اسكُتي يا بت، إيه اللي جاب سيرة أمك دلوقت.
ضابط المباحث
(في ضيق)
:
أنا عارف إن كل حاجة من عند ربنا يا ستِّ بسيمة، لكن البيت ده ورثتيه
عن المرحوم جوزك؟
بسيمة
:
لأ، أنا ما ورثتش حاجة من حد، لا من أبويا ولا من جوزي. البيت ده من عرَق جبيني،
أنا لي منصِبي وباشتغل في الحكومة من ثلاثين سنة.
ضابط المباحث
(في برود)
:
ادِّخارات يعني؟
بسيمة
(في ضيق)
:
أيوه ادِّخارات، والدولة بتشجَّع الادخار، مش كده؟!
عزة
(تهمِس في أذُن لبيبة)
:
لأ دلوقت عاوزين يشجَّعوا الاستهلاك عشان الناس تِشتري البضائع
المُستورَدة.
لبيبة
(تهمِس لها في غضب)
:
الراجل ده أنا حاشتِمه!
عزَّة
:
امسكي أعصابك خلِّي اليوم يفُوت على خير.
لبيبة
:
ده ماعندِهاش غير حتِّة بِيت مايسواش حاجة. يروح يسأل اللي عمَلوا ملايين
وملايين.
(يتَّجِه ضابط المباحث نحو عزَّة.)
ضابط المباحث
:
عزَّة مُرتَضى؟!
عزَّة
:
أيوه.
ضابط المباحث
(في برود)
:
حضرتك مُتزوِّجة مش كده؟
عزَّة
(في ضيق)
:
لأ مش مُتزوِّجة.
ضابط المباحث
(في برود)
:
أرملَة برضه زي الستِّ بسيمة.
عزَّة
(في ضيق)
:
لأ مش أرمَلَة!
ضابط المباحث
(في برود لَزِج)
:
أمَّال إيه يا ترى؟
عزَّة
(في صوت مُحرَج وشيءٍ من الخجَل)
:
مُطلَّقة.
ضابط المباحث
:
آه، مُتأسِّف، وعندك بِنت عندها ستاشر سنة، مش كده ولا ايه؟
عزَّة
(في برود وضيق)
:
ما البيانات كلها عندكم؟
ضابط المباحث
:
يعني يا ستِّ عزَّة، مش أحسن برضه إنك تربي بنتك بدَل القعدة هنا.
عزَّة
(في غيظٍ وبرود)
:
لأ القعدة هنا أحسن.
ضابط المباحث
(في برود)
:
على العموم إنتِ مآنسانا.
عزَّة
(في برود)
:
الله يآنسك.
(يتَّجِه ضابط المباحث إلى رشيدة ونفيسة، لا يظهر منهما أي شيء، الرأس والجسم كله مُغطًّى
بغطاءٍ
أسود كثيف لا يُظهر شيئًا، لا الوجه ولا العينين ولا أي شيء.)
ضابط المباحث
:
بالطريقة دي لا يُمكِن أعرَفكم من بعض، واحدة منكم تكشف وِشَّها عشان أعرفها
(يُشاور على رشيدة) إنتِ مين فيهم؟.
(لا تتحرَّك واحدة من مكانها ولا تكشِف وجهها. رشيدة صامتة،
لا تردُّ عليه.)
سميرة
(في ضيق)
:
هم لا يُمكِن يكشفوا وشُّهم قُدَّام راجل.
ضابط المباحث
(لسميرة)
:
أمال أنتِ كاشفة وشِّك ليه؟
سميرة
:
كل جماعة لها رأي، أنا رأيي إن وجه المرأة وكفيها ليست عورة، النبي ﷺ …
رشيدة واعتدال وهادية ونفيسة
(في نفسٍ واحد)
:
ﷺ.
سميرة
(تُكمِل كلامها)
:
أباح للنساء إنهم يكشفوا الوجه والكفِّين أثناء الحج.
(ضابط المباحث يُشاور على رشيدة.)
ضابط المباحث
:
طيب أنتِ مين فيهم؟
(رشيدة صامتة لا ترد.)
سميرة
:
صوت المرأة كمان عورة.
ضابط المباحث
(لسميرة)
:
أمال أنتِ نازلة كلام ليه؟ هو أنتِ مش امرأة ولا إيه؟!
سميرة
(في غضبٍ شديد)
:
لأ مش مرأة، المرأة خُلِقت من ضلعٍ أيسر أعوج، النساء ناقِصات عقلٍ ودين،
أنا مش مرأة، أنا إنسان.
ضابط المباحث
:
كده؟! والله البيانات دي مش عندي وحضرتك بقَه اسمك إيه؟
سميرة
(في كبرياء)
:
الأستاذة سميرة الفيشاوي.
ضابط المباحث
(في برود)
:
تشرَّفنا يا أستاذة، وحضرتك بقَه كده مُتزوِّجة ولَّا مطلقة أو
أرمَلَة؟
سميرة
(في غضبٍ شديد)
:
لا هذا ولا ذاك، أنا لم أتزوَّج أبدًا، لست في حاجةٍ إلى زواج، وهبتُ
نفسي لله، تزوَّجتُ الله.
سالمة
(تهمِس في أذُن اعتدال)
:
هو ربنا بيتجوِّز!
اعتدال
(تلكِزها)
:
استغفرُ الله العظيم، اسكتي يا بت، قَطع لسانك.
ضابط المباحث
(في برود)
:
آه، فهمت، حضرتك يعني عانس.
سالمة
(تهمس لنفسها في سذاجة)
:
عانس يعني إيه.
سميرة
(في غضب)
:
أرجوك، القاموس بتاعي مافيهوش الكلمة دي.
ضابط المباحث
(في برود)
:
مُتأسِّف يا أستاذة سميرة، مُتأسِّف (يتَّجه الضابط نحو اعتدال).
الضابط
:
وانت اسمك إيه؟
اعتدال
(بصوت ضعيفٍ عاجل)
:
اسمي اعتدال محمد الشيخ.
ضابط المباحث
:
انت فين يا اعتدال؟
اعتدال
(بصوت خافت)
:
في المدرسة.
ضابط المباحث
:
انت عارفة إن خلاص صدَرت الأوامر بمنع ارتداء النِّقاب في المدارس.
(اعتدال تُطرِق إلى الأرض وتسكُت.)
نفيسة
(تردُّ من تحت النقاب)
:
مش ضروري المدرسة.
الضابط
:
مين دي اللي بتتكلم.
(نفيسة تسكت ولا ترد.)
الضابط
(في غضب)
:
مين اللي اتكلِّمتْ دِلوقت.
نفيسة
(بصوت خائف)
:
أنا.
الضابط
:
إنت مين فيهم؟
نفيسة
(بصوتٍ خائف)
:
نفيسة.
الضابط
(بهدوء)
:
وانت فين يا نفيسة؟
نفيسة
:
في الجامعة، طالبة.
الضابط
:
يعني خلاص، مش هاتروحي الجامعة يا نفيسة؟
نفيسة
:
أروح بالنقاب.
الضابط
:
لأ، النقاب بقَه ممنوع.
(نفيسة تُطرِق إلى الأرض وتسكت.)
الضابط
:
عليكي تختاري يا النقاب يا الجامعة.
(نفيسة مُطرِقة لا ترُد.)
الضابط
:
هيه؟ اخترتِ إيه؟
نفيسة
:
النقاب. الآخِرةُ أبقى مِن الدُّنيا.
سميرة
(بشدة)
:
على العموم التعليم مِش في المدارس ولا في الجامعة.
الضابط
(في برود)
:
أمال فين يا حاجة؟
سميرة
:
التعليم في كتاب الله. الله هو المُعلِّم الوحيد.
الله والرسول ﷺ
الأخوات
(في نفس واحد)
:
ﷺ.
(الضابط يتَّجِه إلى سالمة.)
الضابط
:
وانت يا سالمة؟ إنت فين؟
سالمة
:
أنا في بيتنا.
الضابط
(مُبتسمًا)
:
قصدي في مدرسة إيه؟
سالمة
:
أنا مارحتش مدارس.
الضابط
:
وبتقرِي وتِكتبي.
سالمة
:
لا باعرف اقرا ولا اكتب!
الضابط
:
مش معقول؟
سالمة
:
ولا عندي لا قلَم ولا ورقة.
الضابط
:
إزَّاي ده؟
سالمة
:
وإذا ما كُنتش مصدَّقني تعالى فتِّشني.
أنا أهو.
(تقِف سالمة وتقترِب من ضابط المباحث وهي ترفَع يديها إلى أعلى.)
الضابط
(يبتسِم)
:
مصدَّقك والله. قوليلي يا سالمة أبوكي بيشتَغل إيه؟
سالمة
:
معرفش، ماشُفتش أبويا، هو مطلَّق أمي وأنا صغيرة.
الضابط
:
وعندك اخوات؟
سالمة
:
كتير.
الضابط
:
كام؟
سالمة
:
معرفش عددهم، أصل أبويا اتجوِّز كتير وخلِّف كتير، أمي ماتعرفش عنه حاجة، بتسمع عنه
من الناس.
الضابط
:
وأنت عايشة مع أمك يا سالمة؟
سالمة
:
لأ. (صوتها فيه ألم خفيف) أمِّي أتجوِّزت، وجابت عيال كتير من جوزها، وجوزها مايقدَرش يصرِف
على عياله وعيال غيره.
الضابط
:
يعني بتشوفي أمك يا سالمة؟
سالمة
:
طبعًا باشوفها، حدِّ مش بيشوف أمه، ساعات أزورها، وساعات هي تزورني، لازم أمي
حتيجي تزورني هنا، بس حدِّ يدِّيها العنوان.
الضابط
(يكتُم الضحك)
:
وانت عايشة مع مين يا سالمة؟
سالمة
:
عايشة مع ستِّي أمِّ أمي، لكن ستِّي ماتقدَرش تيجي تزورني، أصلها بعِد عنك عامية مابتشوفش،
لكن لو لَقِت حدِّ يجيبها تيجي.
سالمة
(تكلم نفسها)
:
أيوه لو لَقِت حدِّ يجيبها لازم تيجي، زمانها بتدوَّر علي.
(نجاة تُخفي رأسها بين يديها وتجهَش بالبكاء.)
(ضابط المباحث يضَع الورقة والقلَم في جيبه.)
لبيبة
(في عصبية)
:
كفاية بقَه أعصابنا تعبِت!
(تُمسِك رأسها بيديها.)
ضابط المباحث
(يتَّجِه نحو الباب)
:
مُتأسِّف، أنا آسِف، أنا كمان أعصابي تِعبت.
عزَّة
:
هو انتم مالكوش شُغلة غيرنا ولَّا إيه؟
ضابط المباحث
:
يا ريت كنتم انتم بس، ده أنا ورايا غيركم كتير ومن كتر الشغل لا بارجع بيتي
ولا باشوف الولاد. والله ما شُفت ولادي من يوم ما جيتم هنا.
عزَّة
:
يعني احنا اللي بنشوف ولادنا؟ خليك زينا.
الضابط
(في ألم)
:
والله العظيم انتم مِرتاحين عني؛ أنا شايل مسئولية قد الجبل على راسي من
فوق (يرفع يدَه إلى أعلى ودون أن يقصِد تُشير يده إلى الصورة العلوية المُعلَّقة).
(سالمة تُتابع حركة يده وهي ترتفِع وتُشير نحو الصورة.)
سالمة
(تهمِس في أذُن اعتدال)
:
هو إيه ده اللي فوق؟
اعتدال
(في سذاجة)
:
جبَل؟ هو فين الجبَل ده؟
الضابط
(يُكرِّر في ألم)
:
أنا مُتأسِّف يا جماعة، أرجوكم ماتضايقوش مني لو جيت لكم كل يوم. دي
شُغلتي. أنا مسئول عنكم لغاية ربِّنا ما يِفرجها وتُخرجوا من عندنا بالسلامة. والله أنا
مِستنِّي
قرار الإفراج عنكم كأنه قرار الإفراج عنِّي أنا، أنا محبوس هنا معاكم في السجن زيُّكم
تمام،
ويمكن أكتر، ربنا بس اللي يعلم!
(يسكت لحظةً ويُطرِق إلى الأرض في ألمٍ وتأثُّر.)
(الجميع صامِتات.)
ضابط المباحث
(في رِقَّةٍ مُفاجئة)
:
أي طلبات، أنا تحت أمركم، أي طلبات يا ستِّ بسيمة؟
بسيمة
(في ألم)
:
لأ، شُكرًا.
(يخرج ضابط المباحث.)
(صمتٌ وسكون، الجميع صامتات واجمات.)
سميرة
(في غضب)
:
كلهم كده! شاطرين في التمثيل!
ناعمين زي التَّعابين وقرصِتهم تموِّت.
بسيمة
(في غضب)
:
فعلًا، لك حق يا سميرة، يقول على البيت عمارة؟ عاوز يقول إني حرامية
الحقير! يروح يدوَّر على الحرامية الكبار!
عزة
(في غضب)
:
ويقولِّي ربِّي بِنتك أحسن؟ مين قاله الحقير إني أنا ماربتش بنتي؟
سميرة
(في غضب)
:
وأنا عانس؟ ابن الكلب!
(رشيدة تخلَع النقاب وينسدِل شعرها الطويل.)
رشيدة
(تقلد صوته وحركاته)
:
وأنت مين فيهم بَقَه؟
نفيسة
(تخلع النقاب وتقلِّد صوته)
:
يا النقاب يا الجامعة. تختاري إيه؟
إن شاء الله ربنا حيحدِفك في النار حدف!
(سالمة تخلع الطرحة. شعرها الطويل ينساب. تُقلِّد مشيته وحركاته وصوته ثم تقول):
سالمة
:
وأنت عايشة مع مين يا سالمة؟ وأنت مالك؟ عايشة مع اللي عايشة معاه، مالك أنت!
(تقلِّد حركاته مرةً أخرى، وهي تضحك بصوتٍ عالٍ وَمَرحٍ شديد كالأطفال.)
سميرة
(في غضب)
:
اسمعي بَقَه يا ستِّ سالمة انت! مش علينا شُغل الهَبَل ده والسذاجة وكل حاجة مش
عارفاها، الراجل ده خَدِك على جنب وقال إيه؟
سالمة
(في دهشةٍ وفزَع)
:
راجل مين؟
سميرة
:
مش عارفة راجل مين؟ الراجل اللي كان هنا، ضابط المباحث.
سالمة
(في خوف)
:
حيقولِّي إيه؟
سميرة
(في تشكُّك)
:
أمَّال خدِك على جنب ليه؟ ما قاليكيش ليه قُدَّامنا كلنا؟!
سالمة
(في ضيق)
:
أنا عارفة!
سميرة
(في استجواب)
:
وقال إيه؟ قولي قالك إيه؟
سالمة
:
قالي كلام كده مافهمتوش، زي ما يكون بيرطُن بالإنجليزي.
سميرة
(في غضب)
:
إنجليزي؟
رشيدة
(في سخرية)
:
هو أنتِ بتعرفي عربي أما حتعرفي إنجليزي.
سميرة
:
بطَّلي استهبال يا سالمة وقولي قالك إيه؟
عزَّة
:
قولي يا سالمة ماتخافيش.
سالمة
:
أنا مش خايفة، أنا معرَفش هو قالي إيه. أقول حاجة ماعرفهاش.
بسيمة
(في غضب)
:
ما هو لازم تقولي، غصب عنك لازم تقولي، كفاية اللي فينا، مش عاوزين كمان
واحدة معانا في العنبر تكون …
(تسكت بسيمة ولا تُكمل الجملة.)
سالمة
(في ألم)
:
تكون إيه؟ أنا مش عارفة حاجة!
سميرة
(في غضب)
:
تكون بتجَّسِّس علينا.
سالمة
(في دهشة)
:
بتجَّسِّس؟ يعني إيه؟
سميرة
(في غضب)
:
يعني جاسوسة! مش عارفة جاسوسة يعني إيه؟!
سالمة
(في غضب)
:
جاسوسة؟ أنا جاسوسة؟
ليه بَقَه؟ أنا عَملت إيه؟
(تُردِّد في غضبٍ هذه الجملة عدَّة مرات، ثم تُمسك رأسها وتبكي بحُرقةٍ شديدة وهي تُردِّد):
سالمة
(تبكي)
:
أنا جاسوسة، حرام عليكم، ده أنا ما أعرفش حاجة، والله ما أعرف حاجة خالص (تبكي).
(تظهر الشاويشة فهيمة ومعها زينب (بنت من عنبر الدِّعارة) ترتدي جلبابًا طويلًا أبيضَ
مَشقوقًا عند
الصدْر، يكشِف قليلًا من نهدَيْها الصغيرين. رشيقة تمشِي إلى جوار الشاويشة وهي تتراقَص
في مرَحٍ
وحيوية. في يدِها مقشَّة، تُطرقِع لبانة.)
(الشاويشة تفتح باب الحوش الحديدي. يُسمَع صوت المفتاح بدوراته الثلاث. تدخل زينب وحدَها
في
الحوش ومعها المِقشَّة. الشاويشة تُغلِق الباب مرةً أخرى، وتكلم زينب من بين القضبان
الحديد.)
الشاويشة
:
اكنِسي الحوش واروي الجرجيرة أحسن قرَّبت تموت، وإياك تُدخُلي عندُهم ولا تكلمي واحدة
فيهم إلا لما أجيلك. ماتجيبيش ليَّ مشاكل يا زوبة. مفهوم؟
زوبة
(تُطرقِع اللبانة)
:
مفهوم يا ماما فوفو! انت يا كايداهم يا دوبل كريم! (تضحك.)
الشاويشة
:
اختشي يا بتِّ؛ انت مش في عنبر الدِّعارة. دول سياسيَّات يا بت وما يحبُّوش الكلام ده،
وفيهم مُحجَّبات ومُنقَّبات. إوعي تقرَّبي من واحدة منهم أحسن والله ما يحصلِّك طيب أبدًا
يا بتِّ يا
زوبة! مفهوم؟
زوبة
:
مفهوم يا ماما فوفو! رُوحي انت كُلي؛ ماكلتيش من الصبح. الأكل بتاعك هناك مع ماما
شوشو، وابقي خليلي حتِّة قرقوشة طريَّة يا طريَّة!
الشاويشة
(تبتسِم)
:
أنا عضمِتي ناشفة زيِّ الحديد يا بت، إنت اللي طريَّة إنت وامك. صحيح بِنت
دعارة بصحيح.
(تتركها الشاويشة وتختفي في الفناء الخارجي.)
زوبة
(تُمسك المقشَّة وتبدأ في كنْس الحوش. تُدَندِن لنفسها وهي تكنُس بإحدى الأُغنيات
الشائعة)
:
اللي حيتجوِّزني
يوريني شهاداته
قبل ما ينرفِزني
يقولي تاريخ حياته
(من داخِل العنبر، رشيدة تراها من بين قضبان باب العنبر المفتوح قليلًا.)
(رشيدة تكلم نفسها وهي واقفةٌ وراء القضبان وقد بدا عليها الغضب والضيق.)
رشيدة
(تكلم نفسها)
:
شوفوا البِنت عاملة في نفسها إيه وعمالة تترقَّص وتغنِّي، إلهي يكسِفك يا
شيخة!
(نفيسة وهادية واعتدال ينهَضنَ كلُّهن بسرعةٍ لينظرْن من بين القضبان على زوبة وهي تكنُس.)
اعتدال
(تضرب على صدرِها بيدِها)
:
يا مصيبتي ده صدرها كله باين!
نفيسة
(في غضب)
:
مش مُمكن تدخُل عندنا واحدة بالشكل ده!
(نجاة ومديحة ولبيبة يقتربنَ من الباب وينظرْنَ أيضًا من بين القُضبان على زوبة.)
نفيسة
:
لا يُمكن نوافِق إن واحدة زيِّ دي تدخل هنا!
(سالمة أيضًا تنهض وتسير وتنضمُّ إليهن.)
زوبة
(لا تزال تغنِّي)
:
اللي حَيتجوِّزني
يُورِّيني شهاداته
قبل ما ينرفِزني
يقولِّي تاريخ حياته
سالمة
:
أنا سمعت راديو الجيران بيغنِّي الأغنية دي، هو مين اللي بيغنِّيها؟
رشيدة
(في غضب)
:
احنا مش بنِسمع راديو يا بت.
لبيبة
:
أنا خايفة يكون عندها مرَض من الأمراض الخبيثة! ممكن تِعدينا كلِّنا.
اعتدال
(تُخفي وجهها بيديها)
:
يا مصيبتي! أمراض خبيثة كمان؟
سالمة
(في سذاجة)
:
وهي الأمراض الخبيثة دي تِبقى إيه؟
هادية
:
اسكتي يا سالمة، دي حاجات مش مفروض نعرفها.
سالمة
:
وليه مانعرفهاش؟ مش جايز تِعدِينا كلنا زيِّ ما بتقول الست لبيبة.
رشيدة
:
اسكتي يا سالمة بلاش فضايح.
نفيسة
(في غضب)
:
لا يُمكن واحدة زانية، تدخُل عندنا!
اعتدال
:
يا مصيبتي! وهي «زانية» كمان؟
رشيدة
:
أمَّال دِعارة يعني إيه؟ يعني «زنا».
هادية
(في قلق)
:
دي مُمكِن تفسد أخلاقنا.
اعتدال
:
فعلًا، ممكن تفسِد أخلاقنا بسهولة.
(عزَّة تشترك في الحوار وهي جالسة على مَرتبتِها على الأرض.)
عزَّة
(في سُخرية)
:
وهي أخلاقكم ممكن تنفسِد بسهولة كده؟
(سميرة تَنبَري لها في غضب.)
سميرة
(في غضب)
:
لأ يا ستِّ عزَّة! أخلاقنا مش ممكن تنفسِد بسهولة!
أخلاقنا قويَّة والحمد لله.
لكن احنا مش ناقصين واحدة زانية، كفاية اللي عندنا!
عزَّة
(في غضب)
:
أنا بكلِّمهم هم مش بكلِّمك انت! إنت مالك؟
سميرة
:
طبعًا مالي! أنا وهُمَّ واحد!
بسيمة
(تتدخل)
:
يا جماعة هدُّوا أعصابكم، لما تيجي الشاويشة نخليها تجيب لنا واحدة غيرها.
يعني مافيش غيرها. السجن مليان.
رشيدة
:
أيوة! السجن مليان!
نفيسة
:
يعني مافيش غير بتاعة الدِّعارة دي اللي معندهاش شرَف ولا أخلاق؟ السجن مليان مسجونات
شريفات، على الأقل أشرف من بتوع الدعارة.
هادية
:
طبعًا، النشَّالات والمُتسوِّلات وتاجِرات المُخدرات والقتَّالات وغيرهم، كلهم أشرف من
الدعارة.
عزَّة
:
ليه بَقَه؟ هي السرقة والقتل مش حرام؟
هادية
:
أيوه حرام لكن الدِّعارة حرام أكتر.
عزَّة
:
هو فيه عندكم حاجة حرام أكتر وحرام أقل؟
هادية
:
أيوه، طبعًا، فيه أخطاء كبيرة هي الكبائر، وفيه أخطاء صغيرة هي الصغائر، وفيه
المعصية، أنا مثلًا ممكن أعمل معصية لكن أفضل مؤمنة وربنا ممكن يغفر ليه المَعصية.
سميرة
(في غضب)
:
إيه يا هادية الكلام الفارغ اللي بتقوليه ده، مافيش حاجة اسمها معصية
وصغائر، فيه كبائر وبس. وإذا كنت مؤمنة لا يُمكن تعملي معصية.
هادية
(في غضب)
:
ما تقوليش كلام فارغ، أنا عارفة كويس أنا بقول إيه.
رشيدة
(في غضب)
:
إنت عارفة حاجة يا هادية؟
هادية
(في غضب)
:
طبعًا عارفة أكثر منك على الأقل.
نفيسة
:
يا جماعة هدُّوا أعصابكم، وانت يا هادية اسكتي.
هادية
:
أسكُت ليه؟ أنا بقول رأيي.
نفيسة
:
خلِّي رأيك لنفسك.
هادية
:
من حقِّي إني أقول رأيي.
سميرة
:
مش عاوزين نسمع رأيك.
هادية
:
لكن أنا عاوزة أقوله.
سميرة
:
واحنا مش عاوزين نسمع.
هادية
:
وأنا عاوزة أقول، سدُّوا ودانكم إذا كنتم مش عاوزين تسمَعوا.
بسيمة
:
يا جماعة صلُّوا على النبي، يلعَن دين بتوع الدِّعارة على بتوع المُخدرات على النشَّالات
على القتَّالات، كلهم جرايم أشنَع من بعض.
سميرة
:
أيوة يا بسيمة كلها جرايم. احنا قُلنا كده.
هادية
:
وأنا قلت كده برضه، لكن جرايم عن جرايم تِفرق. حدِّ يقول إن السرقة زيِّ الزنا أو الزنا
زي القتل؟ ربنا أباح السرقة إذا كان الإنسان مُمكن يموت من الجوع.
سميرة
:
وربنا أباح قتل الكافر! قتل الكافر ثواب عند الله! وعدم طاعة الله كفر، والزنا كفر
وفسق وفساد!
(يرِنُّ في الجوِّ صوت زوبة، وهي لا تزال تُدندِن وتُغنِّي وهي تكنِس):
يا حبيبي تعالى الحَقني شوف اللي
جرالي، من بعدك
سهرانة من وجدي بناجي خيالك، مين قدَّك
وأنا كاتمة غرامي، وغرامي هالِكني، لأبكي وأشكي وأبكي، يا غرامي.
(رشيدة ونفيسة تَسِدَّان آذانهما بأصابعهما حتى لا تسمَعا الغناء.)
(سميرة تُمسِك السبحة وتسبِّح وتقرأ في المصحف.)
(تدخل زوبة من باب العنبر وتقِف عند الباب الحديدي.)
زوبة
:
عن إذنكم يا سياسيَّات، حاخد شوية ميَّة من الدَّورة عشان أروي الجرجيرة.
(لا أحد يرد.)
عزَّة
:
ادخلي يا زوبة، الجردل عندك تحت الحوض.
(زوبة تدخل دورة المياه. تخرج ومعها جردل. تجري بسرعةٍ ونشاطٍ وتروي الجرجيرة في الحوش،
ثم
تعود، وتبدأ مسح العنبر.)
(فجأة تنتفِض سميرة وتصرُخ وهي مفزوعة.)
زوبة
:
فيه إيه؟ فيه إيه؟
سميرة
(تصرخ)
:
صرصار!
(تُمسك زوبة الشبشب وتضرِب الصرصار وتقتله، ثم تكنُسه بالمقشَّة.)
زوبة
(في ألم)
:
إنتم بتخافوا من الصراصير؟ ربنا ينتقِم من اللي جابكم السجن!
(ترفع يديها إلى فوق. عن دون قصدٍ تُصبِح يداها ناحيةَ الصورة المُعلَّقة.)
زوبة
(كأنها تدعو الله)
:
إلهي ينتقِم منُّه!
(تعود زوبة إلى مسح العنبر. شمرت عن ذراعيها وساقيها، وراحت تمسح بهمَّةٍ ونشاط.)
(رشيدة ونفيسة واعتدال. جلس الثلاثُ يقرأن القرآن.)
(سميرة جالسة وحدَها تُسبِّح وتقرأ القرآن. هادية جالسة في مكانٍ آخر وحدَها صامتة شاردة.
سالمة
جلست إلى جوار نجاة تتحدَّث معها. بسيمة وعزَّة ولبيبة ومديحة، الأربع جالساتٍ إلى جوار
بعض
يتحدَّثن.)
(هادية تنهَض وتسير نحو الباب. شعرها هي الأخرى طويل. ترتدي جلبابًا واسِعًا طويلًا.
تنظُر
هادية من خِلال القُضبان على الحوش الصغير، والفناء الخارجي واسع.)
(فجأة تصرخ هادية وتجري إلى رُكنها.)
(الجميع ينتبِهن. زوبة تتوقَّف عن المسح في فزع.)
زوبة
:
فه إيه؟ فيه إيه؟ صرصار تاني؟
هادية
:
لأ، راجل!
(ما إن تسمع الأخريات كلمة راجل حتى تُسرِع كلُّ واحدةٍ إلى ارتداء العباءة والحجاب أو
النقاب.)
(زوبة تجري نحو الباب وهي تقول):
زوبة
:
هو فيه رجاله! ده الدنيا هنا كلها حريم!
(ترى المأمور قادِمًا نحو الحوش، ومن خلفِه الشاويشة تجري وفي يدِها حقيبة ملابس.)
زوبة
:
يا مصيبتي، ده المأمور! مش راجل!
(تجري زوبة وتختفي في دورة المياه. الشاويشة تفتح باب الحوش للمأمور. يدخل ثم تدخل وراءه.
يتوقف المأمور لحظةً عند باب العنبر.)
المأمور
:
ادخلي يا فهيمة، شوفيهم لابسين وجاهزين عشان أدخل.
(الشاويشة تدخل العنبر.)
الشاويشة
:
المأمور يا جماعة، إنتم لابسين وجاهزين.
سميرة
:
أيوة.
الشاويشة
:
اتفضل يا بيه.
(يدخل المأمور.)
المأمور
:
فين الست بسيمة؟
بسيمة
(في اضطراب)
:
أيوه، فيه حاجة!
المأمور
:
فيه واحِد برة بيقول إنه خالِك وجاب لك شنطة الهُدوم دي.
بسيمة
(مُتأثِّرة)
:
أيوه، لازم خالي محمود، ويا ترى هو فين؟
المأمور
:
قاعِد في مكتبي.
بسيمة
:
مقدَرش أشوفه؟
المأمور
:
أنت عارفة يا ستِّ بسيمة الزيارات ممنوعة، تحبِّي أقوله حاجة.
بسيمة
(في تأثُّر)
:
قوله إني كويسة وصحِّتي كويسة، ده راجل كبير في السن وعيان كمان،
ومايقدرش يستحمِل.
(بسيمة تمسَح دموعها. تُشعل سيجارة.)
المأمور
:
ادِّيها الشنطة يا شاويشة، أنا مُتأسِّف؛ ضابط المباحث فتِّش الشنطة، والملابس بس هي
اللي مسموح تدخل. إنتم عارفين المسموح واللي مش مسموح.
(يخرج المأمور ومن خلفِه الشاويشة، تُغلق باب الحوش الحديدي. تخرج زوبة من دَورة
المياه.)
(بسيمة جالسة على مرتبتها، تفتح الشنطة، تمسح دموعها وهي تشمُّ ملابِسها في الحقيبة،
فجأةً
تبكي بصوتٍ عال.)
بسيمة
(تنشج)
:
ريحة دولابي وسريري وأوضة نومي وبيتي.
(زوبة وعزَّة ومديحة يواسينها.)
زوبة
:
بكرة إن شاء الله تُخرجي وتروَّحي بيتك يا ماما بسيمة.
بسيمة
(لا تزال تبكي)
:
خالي راجل كبير في السن وعنده ذبحة وجايز يروح فيها!
ما يستحملش البهدَلة دي!
عزَّة
:
خالك راجل قوي ويتحمل كل حاجة يا أستاذة بسيمة، وعنده مراته وولاده، بلاش تِهِدِّي في
صحِّتك وأعصابك كده، أمَّال أنا أعمل إيه اللي سايبه بِنتي لوحدها.
مديحة
:
أنا حولَّع الوابور وأعمل لك شاي يروق مزاجك يا أستاذة بسيمة.
(زوبة تضع يدَها على خدِّها وقد بدا عليها الألم والحزن فجأة.)
زوبة
:
وانت عندك بنت يا ستِّ عزَّة.
عزَّة
(في ألم)
:
أيوه.
زوبة
:
يا بختها! اللي معهاش حدِّ أحسن من اللي معاها. الدور والبقيَّة على بنتي أنا. عمرها
حداشر سنة ومعاها راجل إلهي ربنا ياخدُه.
عزَّة
:
ومين الراجل ده؟
زوبة
:
الراجل اللي ميِّل بختي وبختها، جوزي وأبوها، ربنا ياخدُه. أبويا جوزهولي وأنا عندي
أربعتاشر سنة. قبض القرشين ورَماني في جهنَّم، ربنا يسامحك يابه، إنما هو ربنا مش حيسامحُه
أبدًا. لولا الخوف من جهنَّم كنت قتلتُه وأخدت فيه تأبيدة. وبدَل عنبر الدعارة يبقى عنبر
القتالات. وأهو كله سجن.
عزَّة
:
وجوزك بيعمل فيكي وفي بنتك إيه؟
زوبة
:
ما هو اللي شغَّلني. لولا هو ماكنتش عرفت الصنعة المهبِّبة دي. في يوم قُلت أقتله
وأستريح، لكن قلت لنفسي تضيَّعي نفسك عشان راجل مش مُحترم. لو كان راجل مُحترم يمكن كنت
قتلته.
الرِّجَّالة المُحترمة هي اللي تستاهل القتل، لكن الراجل اللي مايسواش بصلَة خُسارة فيه
القتل.
(زوبة تسكُت لحظة، يبدو عليها الألم فجأة.)
زوبة
:
لولا بنتي ياسمين أنا كنت قتلت نفسي، لكن (تبكي) مالهاش غيري، وأنا عاوزة أربِّيها
كويس عشان تِطلَع ستِّ مُحترمة، مش زي أمها.
(تمسح دموعها فجأةً ثم تبتسِم، وتُخرِج من صدرِها صورةً صغيرة.)
زوبة
:
صورتها أهي معايا، لا يُمكن صورتها تفارِقني. شوفي يا ماما بسيمة بنتي حلوة ازَّاي،
شوفي يا ماما عزَّة، شوفي يا … أنا مش عارفة أساميكم لسه (تدور عليهن جميعًا في العنبر
تُفرِّجهُن صورة ابنتها).
بسيمة
(في تأثُّر)
:
حلوة قوي.
عزَّة
:
زي القمر.
مديحة
:
زي أمها.
سالمة
:
ربنا يخليها لكي يا زوبة.
(هادية واعتدال تنظران إلى الصورة ولا تقولان شيئًا.)
(سميرة تُشيح بوجهها من على الصورة في ضيق.)
زوبة
:
مش عاجباكي صورة بنتي يا ماما؟
سميرة
(في غضب)
:
مش عاوزة أشوف صور.
رشيدة
:
الصور عندنا حرام.
زوبة
(تضرب على صدرها)
:
حرام ليه الصور بَقَه؟
نفيسة
:
«لا تدخلوا بيوتًا بها كلب وصور.»
(زوبة تدُسُّ الصورة في صدرها مرةً أخرى.)
زوبة
:
يا مصيبتي، طب والكلب ليه كمان؟
سميرة
(بلهجةٍ آمِرة)
:
إنتِ مالكيش في الكلام بتاع ربِّنا.
بسيمة
:
تعالي هنا يا زوبة مالكيش دعوة بالكلام ده، تعالي كمِّلي مسح العنبر وامسحي دورة
الميه، نضفيها كويس أحسن الصراصير جوَّاها بتمشي.
زوبة
:
حاضر يا ماما بسيمة.
(تُسرع زوبة إلى الخِيشة والجردَل وتدخل إلى دورة المياه وهي
تقول): ياما تعيشي يا زوبة وتشوفي!
(صمت. الجميع واجِماتٍ صامتات. مديحة تُوزِّع أكواب الشاي على الجميع.)
عزَّة
(وهي تشرب الشاي)
:
اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوِتُه.
بسيمة
:
امتى ربنا يفرِج عنَّا بَقَه!
لبيبة
(في غضب)
:
هو ربنا اللي حبسنا؟
بسيمة
:
لأ مش ربنا اللي حبسنا، لكن نعمل إيه؟ لازم نقول يا رب! لنا مين غيره؟ ربنا
موجود.
عزة
:
طبعًا ربنا موجود، لكن فيه برضه لنا ناس موجودة برَّه مُمكن تدافع عن حقوقنا. الدنيا
مش
سايبه، وواحد لوحده مش ممكن يتحكم في أربعة وأربعين مليون.
بسيمة
:
أهو اتحكِّم ورَمانا كلنا زيِّ الكلاب في السجون. لازم نكون واقِعيين ونعترف بالحقيقة
المُرَّة.
لبيبة
(في غضب)
:
مهما اتحكم لازم يجيله يوم يعرف إن الله حق.
عزة
:
ويعرف إن مش ممكن يكَسَّر القوانين ويضرب يمين وشمال ويحبِس نُص البلد.
بسيمة
:
طول عُمرنا نقول مش ممكن، مش ممكن، وأهو عمَل وكسَّر وضَرب، حد يقدر يقَف قُدَّامه؟
عزَّة
:
ماحدِّش عارف يا أستاذة بسيمة بُكرة حيحصَل إيه. بلاش التشاؤم ده. أنا قلبي
مقبوض.
بسيمة
:
هو الواقعية تشاؤم يا عزَّة.
عزَّة
:
أنا معاكي لكن مش عارفة ليه النهاردة صِحيت من النوم قلبي مقبوض. بالليل جالي كابوس،
شُفت المرحوم أبويا واقف في الصالة في بيتنا القديم في الزقازيق وأنا واقفة قُصادُه باترِعِش
من
الخوف، ماعرفش عملت إيه، وشُفت إيده مرفوعة في الهوا، وبَعدين بَصِّيت لِقيت نفسي في
الهرَم قُدَّام
أبو الهول. أبو الهول رافِع إيده لفوق، وعلى الحجر مكتوب كلام بالهيروغليفي. وناس كتير
واقفة
وبيقولولي ترجِمي، وأنا مش عارفة أترجِم ولا كلمة، وصحيت على صوت سميرة الفجر وهي بتقول
الله
أكبر.
بسيمة
:
تعرفي يا عزَّة إن سميرة والمجموعة بتاعِتها مِستريَّحين عنِّنا؛ طول النهار والليل يصلُّوا
ويقروا قرآن. المسألة عندهم بسيطة، وجوَّه السجن زيِّ برَّه السجن؛ ما هو برَّه السجن
هم حابسين
نفسهم في البيوت وبيقروا قرآن برضه وبيصلوا، مافيش فرق خالص، يمكن السجن أحسن شوية فيه
حُرِّية
أكتر، وبيكلِّموا بعض وبيشوفوا ناس تانية زيِّنا، وزيِّ الشاويشة، والمأمور، والمدير،
والزبَّال
وغيرهم. وبالنسبة لسالمة السجن أحسن من بيتها بالتأكيد، وكمان الأكل هنا أحسن من بيتها،
لكن
احنا اللي تعبانين.
عزَّة
:
فعلًا يا أستاذة بسيمة، الحياة في العنبر ده صعبة بعد حياتنا برَّه اللي كان كلها
حركة ونشاط ولجان وكتابة وعمل وندوات وسفر ومؤتمرات. أنا مش عارفة ازَّاي أنا عايشة من
غير ما
أشوف جورنال ولا أسمع راديو ولا مزِّيكة، ولا ورقة ولا قلم ولا كتاب ولا حاجة خالص.
بسيمة
:
اسكتي يا عزَّة أحسن أنا أعصابي خلاص تِعبت. ساعات يتهيَّأ لي إن الجنون مسألة سهلة قوي
في السجن.
عزَّة
:
لا يا أستاذة بسيمة، ده إحنا عاوزينك تِشجَّعينا وتقوِّينا.
بسيمة
:
أشجَّع إيه وأقوِّي إيه؟ أنا خلاص البنزين خِلِص.
عزة
:
لا لا، لسة كتير يا أستاذة، وبكره نخرُج ونبقى نفتكِر الكلام ده ونضحك.
بسيمة
:
والله ما باين لنا خروج يا عزة. الراجل مش مِخلِّي حاجة ولا حد.
عزة
:
بلاش نرجع للتشاؤم تاني.
بسيمة
:
لا تشاؤم ولا حاجة، ربنا معانا وربنا كبير أكبر منه.
عزَّة
(باسمة)
:
لا يا أستاذة بسيمة، إنت اليومين دول كل حاجة ربنا ربنا، إيه الإيمان اللي
نزِل عليكي مرة واحدة كده. أنا خايفة بعد شوية تلبِسي حجاب، وتخرجي من هنا مُنتقَّبة
وماحدِّش
يعرفك.
(عزَّة تضحك. بسيمة تشاركها الضحك. بسيمة تضع يدَها على فمِها لتكتُم الضحك.)
بسيمة
:
وطِّي صوتك وانت بتضحكي أحسن سميرة تِسمعك تقولك إن الضحك حرام وإن الله لا يحبُّ
الفَرِحين!
(عزة تضحك وتضع يدَها على فمِها. بسيمة تُشعل سيجارة. زوبة تخرج من دورة المياه.)
زوبة
:
الدورة بقِت زي الفل، ادِّيني سيجارة بَقَه يا ماما بسيمة.
(بسيمة تُعطيها سيجارة. زوبة تُشعِلها، تقِف تدخِّن.)
زوبة
:
أهي السيجارة دي عندي تساوي مليون جنيه. لا آكُل ولا أشرب ولا حاجة خالص، بس أشرب
سيجارة.
عزَّة
(باسمة)
:
سجاير بس يا زوبة؟
زوبة
:
واللي يقدَّرني عليه ربنا، برشامة، اتنين. أنا مش باخد من الحجات دي كتير، إنما
البنات عندنا في العنبر طول الليل يضربوا ماكس. الواحدة منهم تاخُد في الليلة الواحدة
٩ سنتي
ماكس غير البرشام. أصلهم كلهم ولاد حرام.
(سالمة تنهَض وتقترب منها.)
سالمة
(في دهشة)
:
بتقولي إيه ماك؟ إيه هو الماكس ده؟
(سميرة تشخُط في سالمة بحدَّة.)
سميرة
(في حدَّة)
:
بس! اسكتي! مش عاوزَة أسمع كلام فارغ!
زوبة
(تجري إلى خارج الحوش وهي تقول)
:
يا ماما!
(ترى الشاويشة قادِمةً ناحية باب الحوش.)
زوبة
:
افتحيلي يا ماما فوفو عشان أخرج من هنا، العنبر والحوش ودورة المية، وكل حاجة بقَت
زيِّ الفل.
الشاويشة
:
جدَعة يا بتِّ يا زوبة. الساعة بقَت أربعة ولازم أقفِل عليهم.
التمام يا ستَّات.
(تشدُّ الشاويشة باب العنبر وتُغلِقه وهي تقول لهم من خلال القضبان. يُسمع صوت المفتاح
يدور
ثلاث دورات.)
الشاويشة
:
تصبَحوا على خير يا جماعة.
الجميع
:
وانت من أهله يا ستِّ فهيمة.
الشاويشة
:
مش عاوزين حاجة؟
بسيمة
:
ماتِنسيش الجاز أحسن الوابور فاضي. مانقدرش نعيش من غير شاي والسجاير يا ست فهيمة.
السجاير بتاعتي قرَّبت تِخلص وماقدرش أعيش من غير سجاير.
الشاويشة
:
حاضر يا ستِّ بسيمة.
(الشاويشة تُغلِق باب الحوش الحديدي. يُسمَع صوت المفتاح يدور ثلاث دورات. الجميع يرقُدن
على
مراتبهن أو على الأسِرَّة. الأخوات المُسلِمات يقرأن القرآن أو يُسبِّحن أو يُصلين، ما
عدا اعتدال
التي جلست قُرب الباب ساهِمةً تنظر من بين القضبان.)
لبيبة
(في ضيق)
:
معقول نِنام من دِلوقتِ؟
مديحة
:
تعالوا نعمِل حاجة.
عزَّة
:
نعمِل إيه؟
مديحة
:
إيه رأيك يا أستاذة بسيمة تكلمينا شويَّة في السياسة أو في التاريخ، ولَّا انت يا
عزَّة احكي لنا شوية عن مؤتمر فرنسا، ما هو لازم نِستفيد بوقتنا.
عزَّة
:
أنا مُستعدَّة أتكلِم عن البحث بتاعي الأخراني.
مديحة
:
كويس خالص، تعالي يا نجاة اسمعي معانا، مالك قاعدة كده لوحدك؟
(نجاة جالسة وحدَها، تبكي.)
مديحة
:
مالك يا نجاة.
نجاة
:
أبدًا ولا حاجة، افتكرت أمي.
مديحة
:
تعالي هنا جنبنا، تعالي.
(نجاة تنهَض وتجلس بجوارهن.)
(فجأةً ترتَمي اعتدال على الأرض بجوار الباب الحديدي. عضلات جِسمها تتقلَّص في هيستريا
وهي تردِّد
في حالةٍ تُشبِه الإغماء، ترفُس بيدَيها وقدمَيها على الأرض وتغيب عن الوعي.)
(الجميع يُسرِعن لإنقاذها وتفويقِها. تعود إلى الوعي تدريجيًّا.)
(تَبكي وهي تقول): آه يامَّه.
(مديحة تُقرِّب من أنفها زجاجة كولونيا.)
(سميرة تشدُّ الزجاجة بعيدًا عن أنفها وتقول في حدَّةٍ وغضب):
سميرة
:
ابعدي الإزازة دي عن مَناخيرها!
مديحة
:
دي كولونيا تفوَّقها.
سميرة
:
الكولونيا حرام.
مديحة
:
حرام.
سميرة
:
أيوة فيها كحول يعني خمرة.
مديحة
:
وهي حتشربها؟ دي بتشمَّها بس؟
سميرة
:
الاستنشاق مثل الشرب!
(لبيبة تُمسك رأسها بيديها وهي تقول):
لبيبة
:
آه يا راسي! حتنفِجر!
(الجميع يَعُدْن إلى مراتبهنَّ ويجلسْنَ أو يرقُدن.)
(الظلام يزحَف تدريجيًّا.)
(لبيبة ترقُد على مرتبتها وتنام.)
(ظلام وسكونٌ وصمتٌ كامِل.)
(يستمرُّ الظلام والصمتُ بضعَ لحظاتٍ فقط.)
(فجأةً يَرنُّ صوت سميرة العالي الحاد في السكون التامِّ وكأنها تصرخ): الله أكبر، الله
أكبر!
(تهبُّ لبيبة من نومِها مفزوعة.)
لبيبة
(في فزَع)
:
فيه إيه! فيه إيه!
(ترى سميرة واقفةً تُصلِّي، وجهُها ناحيةَ الحائط ومن خلفِها وقفَت رشيدة ونفيسة واعتدال
مُنقَّباتٍ
يُصلِّين وراءها. الجميع في صوتٍ واحد): الله أكبر، الله أكبر.
لبيبة
(تُمسِك رأسها في غضب)
:
مش معقول! مش قادرة أنام، مش عارفة أنام. مش معقول أصحى على
الأصوات المُفزِعة دي!
سميرة
(تستدير إليها وتقول في غضب)
:
دي مش أصوات مُزعِجة يا كافرة، دي صلاة لربنا. لو كنتِ
مُسلِمة بصحيح كنتِ قُمتِ وصلِّيت بدَل ما أنت نايمة في حُضن إبليس.
لبيبة
(في غضب)
:
أنا حُرَّة أصلي ماصليش، أنام في حضن إبليس ولَّا في حُضن عزرائيل مالكيش
دعوة.
سميرة
(في غضب)
:
وأنا كمان حُرَّة أصلي زي ما أنا عاوزة.
عزة
(تنهض)
:
ماحدِّش مَنعِك من الصلاة يا سميرة، بس صلِّي بصوت واطي؛ فيه ناس نايمة وفيه ناس
تَعبانة.
سميرة
:
الصلاة الجماعة لازم تكون بصوت عالي. حدِّ يقول على الصلاة زَعيق وأصوات مُفزِعة. دي
أحلى حاجة إن الواحد يصحى على صوت بيذكر الله. مافيش أحسن من اسم الله.
عزَّة
:
اسم الله على عِينَّا وراسنا بس مش بالطريقة دي.
سميرة
:
هي دي طريقتنا الوحيدة واللي مش عاجِبها تشوفلَها عنبر ولَّا زنزانة لوحدَها.
(سميرة تستدير ناحية الجِدار. ترفَع يديها إلى أعلى وتُصلي بصوتٍ عال.)
سميرة
:
الله أكبر، الله أكبر.
(رشيدة ونفيسة واعتدال من خلفها واقفاتٍ يَستعدِدْنَ للصلاة.)
(هادية تَستعِدُّ للصلاة وحدَها على بُعدٍ منهم.)
رشيدة
(تُخاطِب هادية)
:
تعالي يا هادية صلِّي معانا جماعة.
هادية
:
لأ، أنا حصلِّي لوحدي.
رشيدة
:
صلاة الفرد ما تنفعَش، لازم تصلِّي جماعة.
هادية
(في غضب)
:
مين قال إن صلاة الفرد ما تنفَعش؟
رشيدة
:
ربنا يا بتِّ اللي قال.
هادية
:
ربنا ما قالش.
رشيدة
:
لأ ربنا قال.
هادية
:
لأ ربنا ما قالش.
سميرة
(تستدير في غضب)
:
وبعدين بقَه؟ سيبيها تصلِّي لوحدَها يا رشيدة، سيبيها تصلِّي لوحدها.
أصلَها فرامويَّة!
هادية
:
أنا فراموية يا خومينية يا علوية!
عزة
(تهمس في أذُن بسيمة)
:
والله احنا مش في سجن، احنا في سراية المجانين.
(بسيمة تنهَض وتُشعِل سيجارة. يبدو عليها التعب والإرهاق.)
بسيمة
:
جسمي ثقيل وصدري مكتوم، أنا خايفة يكون عندي القلب أو جَتْ لي ذبحة صدريَّة.
عزَّة
:
بعد الشر عنك يا أستاذة بسيمة، حاقوم أعملك كوباية شاي.
السجاير بِتقطَع النَّفَس.
مديحة
:
أنا باعمل شاي.
بسيمة
:
والنفَس أصله مقطوع.
عزَّة
:
لا مقطوع ولا حاجة، بس يا ريت تقلِّلي السجاير أو تِبطلِيها خالص، على الأقلِّ في
السجن.
بسيمة
:
بالعكس، دي السجاير في السجن بتسليني، وبتنسِّيني. مش عارفة من غير سجاير كنت أعمل
إيه.
عزَّة
(تضحك)
:
كنتِ تاخدي برشام أو تِضرَبي ماكس.
(بسيمة تضحك وتُغطِّي فمَها بيدِها.)
بسيمة
:
وطِّي صوتك؛ مش عاوزين مشاكل، ربنا يخرَّجنا من هنا على خير.
عزَّة
:
تعالي يا لبيبة نِعمل الشاي سوا. عاوزينك تكلِّمينا شوية عن آخر حاجة عَملتيها.
لبيبة
:
ماعنديش دِماغ لحاجة خالص.
عزة
:
طب قُوليلنا حلِمتِ إيه امبارح.
لبيبة
:
الكابوس هو هو.
عزة
:
والله كله قَلَق وتشاؤم مالوش لازمة. زوجك رجل أفكاره مُتقدِّمة ومُخلِص.
لبيبة
:
هو فيه راجل اسمه مُخلِص.
عزة
:
مهما كان مش مُمكن دخولك السجن يأثَّر عليه، بالعكس يحترِمك أكتر.
لبيبة
:
ده كلام خيالي.
عزة
:
والله إذا خرجتِ ولَقِيتيه، كان بها، وإذا ما لقيتهوش يبقى كويس اللي مشي واستريَّحتِ
منه.
لبيبة
:
هو مش مُهِم، أنا قاعدة معاه طول السنين اللي فاتت بس عشان البنت. هو طول عمره
بِصباص، ودلوقتِ بقَه يبُصِّ للبنات أصحاب بنته. على العموم أُمِّي هي اللي حطَّمِت حياتي،
وكنت هاعمل
نفس الغَلطة مع بِنتي.
عزَّة
:
كلنا بناتِك يا أستاذة بسيمة.
(الأخوات أنهينَ الصلاة، وجلسنَ يقرأن القرآن. اعتدال تقترب من مديحة لتأخُذ شايًا من
الإبريق.)
مديحة
:
ازَّيك يا اعتدال دلوقتِ.
اعتدال
(بصوتٍ ضعيف)
:
الحمد لله كويسة.
مديحة
:
تعالي اقعُدي هنا جنبِنا شويَّة.
(مديحة تصبُّ لها الشاي. اعتدال تجلس بجوارها.)
اعتدال
:
أنا قلقانة قوي على أُمِّي؛ خايفة يجْرى لها حاجة لو عرفت إني أنا هنا في
السجن.
مديحة
:
لأ أبدًا، ماتقلقيش، مش حيجرى لها حاجة، وبكره تخرُجي وتلاقيها كويسة خالص.
اعتدال
:
يسمع منِّك ربِّنا.
مديحة
:
ابتِسمي. أيوه كدة ابتسامتك الحلوة.
عزَّة
:
أنا باحبِّ ابتسامة اعتدال قوي؛ وشَّها زيِّ الملاك.
(اعتدال تبتسِم ويبدو عليها السرور.)
عزَّة
:
كنَّا بنِحكي عن أحلامنا في السجن.
اعتدال
:
كل أحلامي في السجن كوابيس.
(عزة تضحك.)
عزَّة
:
الكوابيس بتاعتِك لازم غير الكوابيس بتاعِتنا.
(اعتدال تشرَب الشاي.)
اعتدال
:
كل ليلة أحلم حِلم واحد، إن أمي ماشية تدوَّر لي في الدكاكين على فُستان الفرح. كل ما
نروح دكان يقولنَّا مافيش، مافيش، وأخيرًا أمِّي تِعبِت قوي وأنا تعِبْت ودَخلنا آخر
دكان قال
مافيش، أمي قالت ليه بس مافيش؟ قالولها ماعندناش فُستان فرح لخرِّيجة السجون!
(عزة تضحك ومديحة. اعتدال تُشاركهما الضحك بصوتٍ خافتٍ خجول.)
عزَّة
(في دهشة)
:
إنت بتحلَمِي بفستان الفرح يا اعتدال؟
اعتدال
:
ما هو إذا كان منعوا النِّقاب في المدارس يبقى حاقعُد في البيت واتجوِّز.
فيه واحد من الإخوة قايل علي.
مديحة
:
من الإخوَة؟
اعتدال
:
أيوه طبعًا من الإخوة. لا يمكن أتجوِّز إلا واحد من الإخوة. لا يمكن أتجوِّز راجل
مايعرفش ربنا.
عزَّة
:
والمدرسة مش خسارة ياعتدال.
اعتدال
:
خسارة خسارة، في ستِّين داهية المدرسة، مش أحسن من إن ربِّنا يعذِّبني واتحِرِق في
النار، وكمان عذاب القبر.
مديحة
(في دهشة)
:
عذاب القبر؟
اعتدال
:
أمَّال إيه؟ ما هو اللي ماتلبِسشِ نِقاب تتعذِّب في القبر، وبعد عذاب القبر تروح جهنَّم
كمان.
عزَّة
:
يا ساتر! عذابين يعني مش عذاب واحد.
اعتدال
:
أيوه، أمَّال، عذابين، طبعًا عذابين، ده يمكن كمان أكتر من عذابين، يمكن تلاتة
أربعة خمسة، ستة، عشرة، عشرين عذاب وعذاب. أنا بخاف ربِّنا وأخاف عذابه وناره، بخاف من
النار والحرق. وكمان باستخسَر نفسي في النار والحرق، وأنا مِستخسَراكم في النار والحرق
وعذاب
القبر، ليه مش بتصلُّوا وتغطُّوا شعركم؟ أنتم مُسلمين موحدِّين بالله.
مديحة
:
صحيح أنا مُسلمة وموحِّدة بالله، لكن اتولَدْت في بيت ماحدِّش فيه بيصلي، لا أبويا ولا
أمِّي
ولا حتى جِدِّتي، ولا جدِّي. جدِّي أبو أبويا مسلم، لكن جدِّي أبو أمي كان قِبطي.
اعتدال
:
قبطي؟ جدِّك كان كافر؟
(مديحة تنظر إلى نجاة. نجاة تشعُر بالضيق والألم. تنهَض وتترُك المكان.)
مديحة
:
كده زعَّلتيها يا اعتدال؟
اعتدال
:
يا مصيبتي، أنا نسيت خالص إنها مِسيحية.
لبيبة
(في غضب)
:
يعني إيه نسيتي؟ إنت عارفة إنها مسيحية، ودي حاجة تتنِسي؟
اعتدال
(في حرج وألم)
:
والله العظيم نِسيت، ولا يُمكن أحلِف بربِّنا كِذب. كل واحد بينسى وهي
كمان شكلَها مش قِبطيَّة أبدًا. اللي يشوفها يقول عليها مُسلِمة زيِّنا.
لبيبة
(في غضب)
:
والأقباط دول بيبقى شكلُهم إيه؟ مش بني آدمين زيِّنا.
اعتدال
(بصوت ضعيفٍ وحرج)
:
طبعًا بني آدمين، أنا قُلت حاجة؟
لبيبة
(في غضب)
:
قلتِ إنها كافرة.
اعتدال
(في اعتذار)
:
معلهش. غلطة وتفُوت والمسامح كريم.
(سميرة تتدخَّل وهي جالسة في مكانها تُسبِّح وفي يدِها المصحف، كانت تتابع من بعيدٍ الحديث
دون
أن تتدخَّل، لكنها تنهَض فجأة، وتقول بصوتٍ غاضبٍ حاد):
سميرة
(في غضب)
:
لأ مش غلطة! غلطة ازَّاي ياعتدال؟ ربنا قال إن مافيش غير الإسلام وسيدنا
محمد عليه السلام آخر الأنبياء، عاوزة تغيَّري كلام ربنا، أيوة المسيحيين كفَرَة وحيروحوا
جهنَّم إن شاء الله، والمُسلمين كمان اللي مش عارفين ربِّنا حيروحوا جهنَّم الحمرا. تعالي
هنا يا
اعتدال اقري القرآن بدَل ما أنت قاعدة تضيَّعي وقتك في كلام فارغ.
(اعتدال تنهَض في ألمٍ وتذهَب لتجلِس إلى جوار رشيدة ونفيسة وهما تقرآن القرآن. تجلِس
إلى
جوارهما حزينةً صامِتةً ثم تقرأ معهما!)
(نجاة وحدَها جالسة صامتة، تمسَح دموعها في صمت.)
(مديحة تذهَب إليها وتجلِس إلى جوارها.)
مديحة
:
ماتِزعليش يا نجاة، مش انت بس اللي كافرة هنا، احنا كلنا كفَرَة معاكي، ولا يهمِّك،
يعني هي كانت ربنا، ربنا بس هو اللي مُمكن يقول ده كافر أو ده مش كافر.
نجاة
(وهي تبكي في ألم)
:
أنا مش كافرة يا مديحة، أنا بصلِّي الصلاة بتاعِتنا. من صغري وأنا
بروح الكنيسة مع أمِّي كل يوم أحد.
مديحة
:
وحتى لو مَكُنتيش بتروحي الكنيسة ولا بتصلِّي، ربنا بس هو اللي ممكن يقول انت كافرة
ولَّا لأ، أنا مثلًا مش بصلي، عمري ما شُفت حدِّ في بيتنا بيصلِّي أو بيقرا قرآن. ماعرفش
في
القرآن غير الفاتحة، وحتى العربي بتاعي مكسَّر. دخَّلوني مدرسة فرنساوي وأنا صغيرة، اتعلمت
فرنساوي وإنجليزي حتى ألماني، لكن ماتعلِّمتِش عربي.
نجاة
(تمسح دموعها)
:
على الأقل أنت مُسلِمة يا مديحة، مش بيقدروا يقولوا عليكِي كافرة.
مديحة
:
بيقولوا عَليَّ كافرة برضه عشان مش بصلِّي ومعرِّية شعري. أنت مش بتسمعي سميرة طول
النهار والليل تقول علينا كفَرَة.
نجاة
:
أيوة يا مديحة، لكن برضه كلامها عنكم غير كلامها عني. دي مرَّة بصِّت لي بصَّة، أنا خُفت
منها. أنا خلاص مش قادرة أستحمِل أعيش معاهم في عنبر واحد، حأقول للمأمور ينقِلني في
زنزانة
لوحدي.
مديحة
:
أوعي تعملي كده يا نجاة؛ مش عاوزين حدِّ يعرف المشاكل اللي بينَّا. دول نفسهم إنِّ تِحصل
مشاكل، دول حطِّينا مع بعض مخصوص عشان نتخانِق مع بعض، ونصفِّي بعض.
نجاة
:
أنا كمان تعبانة يا مديحة، وكلمة كافرة دي بتِتعبني أكتر وأكتر، كافرة ازَّاي بس يا
ربي. أنا مؤمنة بربنا والمسيح والروح القدس. أنا اتولدت لقيت أبويا مسيحي وأمي مسيحية.
ربنا
عاوزني أكون مسيحية. هو أنا اللي عملت نفسي مسيحية. ربنا هو اللي عملني مسيحية، يعني
كنت
حاخالف إرادة ربنا.
مديحة
:
وربنا هو اللي عملهم مسلمين، يعني هي فيه واحدة منهم اختارت الإسلام، كل واحدة
منهم اتولدت لقت أبوها مُسلم بقت مسلمة.
نجاة
:
يا ريت كنت اتولدت لقيت أبويا مسلم. طول عمري أقول الحكاية دي. في المدرسة كان كل
البنات مسلمين إلا أنا، وكنت دايمًا لوحدي، والبنات بيبعدوا عني، ويقولوا عليَّ
كافرة برضه، هي أول مرة يا مديحة اسمع الكلمة دي؟ ده أنا طول عمري اسمعها (تبكي نجاة،
تبكي بصوت خافت
مكتوم).
مديحة
:
تعالي تعالي نخرج شوية في الحوش نشم شوية هوا، تعالي يا نجاة، بلاش توجعي
قلبك.
عزة
:
تعالي نعمل حاجة بدَل ما احنا قاعدين كده ننعي همومنا، حدِّ يكلمنا أو تقولنا محاضرة
تحرك مُخِّنا شوية؛ أنا حاسة إن مُخِّي واقف.
بسيمة
:
مُخنا بس، أنا حاسة إن جِسمي كله همدان، المسألة طالت قوي يا جماعة، وباين عليها
حاطوِّل كمان وكمان. باين مش هانخرج من هنا، باين البلد مش خارجة من الأزمة دي.
عزة
:
مش ممكن يا أستاذة بسيمة، البلد لسه بخير والناس بخير، مش ممكن الناس تسكت على الظلم
ده، مش ممكن!
بسيمة
:
ما هي ساكتة أهه.
عزة
:
لأ مش ساكتة! مين قالك إنها ساكتة؟
بسيمة
:
مش سامعين حدِّ قال حاجة، كل الناس مَلهيَّة في حياتها ومشاكلها. واحنا خلاص اترمينا
في السجن واتنسينا خالص.
عزة
:
لأ يا أستاذة بسيمة، إحنا لا يمكن نتنسي، الناس كلها فاكرانا، هو احنا قليلين في
البلد، لازم فيه اعتراضات واحتجاجات.
بسيمة
(في سخرية)
:
وجايز كمان مظاهرات، يا سلام على التفاؤل الساذج، يا سلام على
السذاجة.
عزَّة
(بشيءٍ من الغضب)
:
لأ أرجوك ماتقوليش السذاجة. أنا مش ساذجة، أنا فاهمة كويس.
بسيمة
:
وأنا يعني اللي مش فاهمة؟ أنا أكبر منك وعندي خبرة أكثر منك.
عزَّة
:
صحيح حضرتك أستاذتي، لكن أنا برضه بافهم وعندي عقلي، وكمان مش عاوزين تشاؤم زيادة عن
اللزوم، التشاؤم ده بيضعِف، عاوزين نشجَّع بعض لغاية الأزمة ما تمر، وضروري حتمُر، وضروري
حانخرج من هنا، طبعًا حنخرج من هنا، أمال يعني حانموت هنا؟
لبيبة
(في ضعفٍ كاملٍ وانهيار)
:
إن كان عليَّ أنا خلاص حاسَّة إني هاموت هنا (تسكت لحظة وهي
تنظر أمامها شاردة).
(الجميع في وجوم، صامتات.)
(يُسمَع صوت في الفناء الخارجي يُشبِه صراخ النسوة والولولة على ميت.)
(اعتدال وسالمة وهادية ومديحة يُسرِعن إلى الباب وينظُرن خلال القضبان. يُرى في الفناء
الخارجي
بعض مسجونات يَجرين ناحية الصوت. زوبة تجري معهن.)
زوبة
(وهي في الفناء الخارجي)
:
واحدة ماتت، واحدة ماتت في عنبر القتالات.
(اعتدال وسالمة وهادية ومديحة يترُكن الباب ويَجلسنَ في وجومٍ وصمت.)
هادية
(بصوت حزين)
:
ربنا ريَّحها من عذاب السجن.
اعتدال
(بحزن)
:
أيوه، ربنا ريَّحها.
هادية
:
ربنا تاب عليها من السجن، وأهي خرجت أهي.
اعتدال
:
خرجت من غير تصريح من المأمور.
(مديحة تضحك فجأة. سالمة تضحك أيضًا.)
مديحة
:
ولا أوامر عليا!
(سالمة تنهض وتسير وهي تقلِّد مِشية المدير العام المُتكبِّرة وتحرِّك يدَها كأن معها
عصا.)
سالمة
:
ولا قرار من فوق.
(سالمة ترفع يديها إلى فوق وتقلِّد حركة المدير المُتكبِّرة وتشير بيدها دون قصد منها
إلى
الصورة العلوية.)
اعتدال
:
يا بَختها، عُقبالي يا ربِّ ما تخرَّجني من هنا.
مديحة
:
إن شاء الله حتُخرجي ياعتدال، أول واحدة فينا حتخرج هي اعتدال.
(اعتدال يبدو عليها السرور، تكاد تقفِز فجأةً من السرور.)
اعتدال
:
والنبي، يا ريت، من بُقِّك لباب السما.
(سالمة واقفة عند الباب، تضع قدمها على القضبان وتُخرج رأسها من بين القُضبان كأنها تلعب
وتقفز.)
سالمة
:
أنا كمان حاخرج مع اعتدال، وأنا وهي أول ناس حنُخرج.
(تقفز على قضبان الباب، شعرها طويل يتناثر حول رأسها.)
(الأخريات جالسات بعيدات عن الباب فوق مراتبهن في أماكنِهن المُعتادة. سميرة في ركنها
البعيد
جالسة تقرأ القرآن، ورشيدة أيضًا، ونفيسة وقد انضمَّت إليها الآن اعتدال، هادية وحدها
تجلس
على بُعدٍ غير قليل منهن تقرأ القرآن.)
(سالمة لا تزال في حالةٍ من المرَح الطفولي تلعب أمام الباب وتحرِّك ذراعيها وساقيها،
كأنها
تقوم ببعض الحركات الرياضية الخفيفة.)
(تقع على الأرض وتضحك بصوتٍ عال.)
(سميرة ترفع رأسها فجأةً من فوق المُصحف. تنظر إلى سالمة في غضب.)
سميرة
(بغضب)
:
انت مش عارفة إن الضحك بصوت عالي واحنا بنقرأ القرآن حرام؟ وعمالة تتنطَّطي زيِّ
الأطفال وانت طويلة طول الباب؟ وواقفة كده قصاد الباب وشعرك عريان!
سالمة
:
وهو فيه رجالة في الحوش؟ الحوش فاضي مافيهوش رجالة، لا مدير ولا مأمور، ولا ضابط
المباحث، ولا حتى الواد محمد الجدع اللي بيشيل الزبالة.
سميرة
(في دهشة)
:
هو الجدع اللي بيشيل الزبالة اسمه محمد.
سالمة
:
أيوه اسمه محمد، ماله اسمه كمان؟ اسمه على اسم النبي.
سميرة
:
أول مرة اسمع إن اسمه محمد.
سالمة
:
لأ، اسمه محمد فيها حاجة دي؟
سميرة
(في غضب)
:
أيوة فيها حاجة، إنت عرفت اسمه منين؟ عرفت اسمه ازَّاي؟ احنا كلنا معاكي
هنا في العنبر ماحدش عرف اسمه. حدِّ يا جماعة فيكم عرف ان الجدع اسمه محمد؟
(الجميع صامتات.)
رشيدة
:
وحانعرف اسمه منين؟ هو احنا بنكلِّم رجالة؟
سالمة
(في غضب)
:
ويعني أنا اللي بكلم رجَّالة؟ ده أنا كنت واقفة في الحوش وهو كان بيكلم
البت صباح.
اعتدال
:
صباح مين فيهم؟ الحرامية ولَّا القتالة؟
سالمة
:
لا دي ولا دي، صباح المُتسوِّلة الشحاتة. كان واقف بيكلِّمها وسمِعتها بتقوله يا محمد.
سمِعتها بتقوله يا محمد، كفرت يعني لما سمِعتها بتقوله يا محمد؟ كفرت ولَّا كفرت؟ أسدِّ
وداني
ولَّا أسدِّ وداني.
سميرة
:
لأ ماتسدِّيش ودانك، ماحدِّش قالك سدِّي ودانك، لكن تِقَفي في الحوش ليه وفيه راجل في
الحوش؟
سالمة
:
ده كان في الحوش الكبير اللي برَّه، وأنا في الحوش بتاعنا، والباب الحديد
مقفول.
رشيدة
(في غضب)
:
وهو الباب مسدود يا بت، ماهو يقدَر يشوفك وانت واقفة في الحوش.
سالمة
:
ده كان بعيد عنِّي خالص، مش مُمكن يشوفني ولا أشوفه، وضهره كمان مش وشُّه هو اللي كان
ناحيتنا.
رشيدة
(في سخرية)
:
وشُفتي ضهره ازَّاي لما هو بعيد عنك خالص ومش ممكن يشوفك ولا
تشوفيه؟
نفيسة
:
وإذا كان ضهره هو اللي ناحيتنا ما هو يقدر يدَّوَّر ويبُصِّ عليكي.
رشيدة
:
طبعًا يقدَر يدَّوَّر ويبُص. كل الرجالة اللي بتمُر في الحوش بتمُر علينا.
نفيسة
:
مالهُمش شغلة غير البصِّ علينا.
سالمة
:
هو فيه رجَّالة بتمُر في الحوش يا ناس؟! ده السجن كله حريم، ومافيش راجل بيمشي.
رشيدة
(في سخرية)
:
أُمَّال الجدع اللي بيشيل الزبالة ده اللي اسمه محمد، ده مش راجل ولَّا مش
راجل؟
سالمة
:
طبعًا راجل، لكن كل أربعة أيام لما يمُر في الحوش مرَّة واحدة.
رشيدة
(في سخرية)
:
كل أربعة أيام؟ واش عرَّفك إنهم أربعة أيام، لازم قاعدة تعدِّي الأيام يا
بت.
سالمة
(في ألم)
:
أيام إيه اللي حاعِدَّها يا رشيدة، أنا قلت أربعة أيام، يمكن خمسة يمكن ستَّة، يمكن عشرة،
أنا لا باعِدِّ ولا باحسِب، قصدي أقول إنه كل حين وحين لما حدِّ يشوفه في
الحوش.
سميرة
:
مش أحسن لك يا سالمة بدل الكلام الفارغ ده تقعدي وتقريلك آيتين قرآن، جايز
ينفعوكي في الآخرة وربنا يتوب عليكي.
(سالمة تنهَض وتجلِس إلى جوار هادية وتنظُر معها في المصحف.)
لبيبة
(تهمِس في أذُن بسيمة)
:
امتى ربِّنا يتوب علينا احنا من الهمِّ اللي احنا فيه ده!
بسيمة
(في أسًى تُشعِل سيجارة)
:
والله باين إنه مش هايتوب علينا. المسألة طوِّلت قوي، وأنا
خلاص زِهقت وتعِبت.
عزَّة
:
أنا لسَّه عندي أمَل في الناس اللي برَّه، مش ممكن ينسونا بالشكل ده، والكابوس لازم
ينزاح.
مديحة
:
تعالوا نعمل حاجة.
لبيبة
:
نعمل إيه؟ لا قلَم نكتب ولا كتاب نقرا. مافيش في العنبر غير كتاب واحد،
القرآن.
مديحة
:
تعالوا نقرا قرآن.
بسيمة
:
اقري انت، أنا شخصيًّا مش عاوزة اقرا حاجة.
عزَّة
:
طب كلِّمينا يا أستاذة بسيمة في أي موضوع.
بسيمة
:
وكمان مش عاوزة اتكلم؛ أنا تعبت من الكلام والمحاضرات. حاجة واحدة أنا عاوزاها،
وهي إني أنام. أحسن حاجة في السجن النوم.
(ترقُد بسيمة على مرتبتِها وهي تُدخِّن. تواصِل كلامها):
بسيمة
(شاردة)
:
قبل ما يمسكوني هِربت كام يوم. ما تتصوروش تِعبت أد إيه، ورُحت وسلِّمت نفسي.
أنا اللي سلمتهم نفسي، وبقيت استعجِلهم عشان يجيبوني السجن، وقلت لنفسي يا سلام أول ما
أحط
راسي على المرتبة حانام نوم، ولا حافكر في حاجة، ولا حاكون مسئولة عن حاجة خالص، حتى
نفسي
مش مسئولة عنها.
عزَّة
:
أنا كان مُمكن أهرب خالص ولا يعرفوش طريقي خالص، لكن قلت: واهرب ليه هو أنا عملت إيه؟
أنا قلت رأيي ورأيي هو كده، واللي يعملوه يعملوه. خَدوا مننا كل حاجة، خدوا شبابنا وطفولتنا،
خدوا وظايفنا وفلوسنا، خدوا كل حاجة فينا ومافضلش غير إن احنا نقول رأينا. هو مش عاوزنا
نقول
رأينا كمان؟ ده إيه ده! ده ولا ربنا!
مديحة
(في أسى)
:
صحيح والله ولا ربنا!
لبيبة
(في غصب)
:
أكثر من ربنا، ربنا مش ممكن يظلِم.
(لبيبة تُمسِك رأسها بيديها وتُطرِق إلى الأرض.)
(صمتٌ ووجومٌ يُخيِّم على الجميع.)
(سميرة تُسبِّح وتهمِس لنفسها وهي تُحرِّك السِّبحة في يديها.)
سميرة
:
الله فوق الجميع، الله فوق الجميع، الله فوق الجميع.
(وفجأةً تنتفِض سميرة وهي تصرُخ.)
(تهبُّ اعتدال مفزوعةً وهي تصيح.)
مديحة
(تصيح)
:
إيه! فيه إيه! صرصار والَّا راجل؟
(ظلام.)
(انتهى الفصل الأول.)