الحكاية العاشرة: حقيقة جاليا

حدث هذا منذ زمن بعيد.

كانت بساتين الكَرز تتحول إلى اللون الأخضر، وبالكاد يبرز العُشب الطري من الأرض، وبنفسج الربيع يتحول إلى اللون الأزرق في الغابة.

سعد الجميع، وابتهجوا. أما في كوخ جاليا، فكان الحزن والدموع. جاليا تبكي. والدة جاليا مستلقية على سرير بائس شاحبة، وجنتاها غائرتان، تسعل وتئن بهدوء.

حضرت النساء المسنَّات، ورشَشْن الماء المقدس على وجه والدة جاليا، ونظرن إلى عينيها الغائمتين الكبيرتين. قلن وهززن رءوسهن: «ستموت … لن تتحمل حتى الغد.»

جاليا تبكي. كانت الأم دائمًا هادئة للغاية وحنونة. لقد أحبَّت ابنتها جاليا. كيف لا تبكي؟ كانتا فقط في العالم: الأم وجاليا؛ جاليا والأم. وفجأة تموت الأم.

جاليا تبكي.

آخر شعاع شمس جاء من خارج القرية، وغرقت البحيرة الزرقاء في زرقة أقوى. بهتت رائحة أقوى الزهور، وأبعد زنابق الوادي في الغابة، صرخت الطيور لآخر مرة قبل الليل، ونام كل شيء، وهدأ، وسكت حتى الصباح. نجم الليل أضاء في السماء، لامع، أنيق، وجميل. جلست جاليا عند النافذة، ونظرت إلى النجم وتذكرت كيف كانت تجلس هي ووالدتها دائمًا في المساء على عتبة الكوخ معجبين بالنجوم. والدتها تزداد حالتها سوءًا. سعلت بصوت خافت أكثر ووهن تنفسها.

وفجأة وبصوت رقيق هادئ، نادت جاليا: «طفلتي الحبيبة … اجلسي معي … اجلسي معي.»

تركت جاليا النافذة واندفعت إلى سرير والدتها، ولفَّت ذراعيها حول والدتها.

قالت الأم: «ليس لديَّ وقت طويل يا طفلتي. قريبًا، قريبًا جدًّا سأضطر إلى تركك يا حبيبتي.»

صاحت جاليا: «لا يا أمي! لا! لن أدعك تذهبين، لن أدعك تموتين!»

وعانقت والدتها بقوة أكبر.

وعانقت الأم ابنتها بيديها المرتعشتين.

قالت بوهن: «الوداع يا طفلتي العزيزة! وداعًا يا جاليا! وداعًا يا حمامتي. لا تنسي والدتك … تذكري: والدتك تحبك وستنظر إليك باستمرار من السماء. يا طفلتي، كل أفعالك الجيدة ستسعدني. ليس لديَّ أي شيء أتركه لك يا ابنتي. لم يكن في قلبي سوى كنز واحد بينما كنت أعيش وأتنفس، والآن سأعطيكِ إياه يا ابنتي. هذا الكنز هو الحقيقة يا جاليا. لا تقولي إلا الحقيقة، وسيكون لديكِ دائمًا نور في قلبك وضياء في روحك! دائمًا، قولي الحقيقة، دائمًا يا جاليا! الحقيقة فقط! لا تخفي أي شيء، لا تكذبي على أي أحد! وداعًا الآن.»

وبعد أن تركت ابنتها بيد مرتجفة، ضغطت المرأة المحتضرة على قلب ابنتها، ولمست وجهها الطفولي الرقيق بشفتيها الحارَّتين، وسكتت إلى الأبد.

سقطت جاليا على جسد والدتها البارد، وبكت بصوت مرتفع، وانهالت على يدَي المتوفاة بالقبلات.

عادت النساء المسنات مرة أخرى، وحملن جاليا الباكية إلى كوخ آخر، وبدأن بأنفسهن في إلباس والدة جاليا ووضعها في النعش.

وجاليا تجلس بمفردها في هذا الوقت تبكي.

رأى نجمٌ من السماء الفتاة تبكي. تلألأ عبر نافذة الكوخ الفارغ، وكأنه يريد مواساة اليتيمة. رفعت جاليا عينيها الممتلئتين بالدموع إلى السماء، ونظرت إلى النجم الصغير، ومدَّت يديها إليه وهمست بصوت حزين مكسور: «ليس أمي! أمي ماتت! تعالي يا أمي، تعالي!»

كانت جاليا تبكي.

إنه الفجر. أشرقت الشمس فوق كوخ جاليا. هبط طائر كبير جميل على السطح. سأل الطائر: «من يبكي؟»

سأل ونظر إلى أسفل النافذة ورأى فتاةً. قال الطائر: «بنت جميلة!»

رفرف بجناحيه ووجد نفسه على النافذة بالقرب من جاليا. استدار الطائر إلى جاليا وطرق عتبة النافذة بمنقاره الطويل: «لماذا تبكين يا فتاة؟»

نظرت جاليا إلى الطائر، ورأت جناحيه العريضين، ومنقاره الطويل ولطفه، وعينيه المستديرتين، وشعرت على الفور بالثقة في الطائر الكبير. حكت له وهي تبكي كل أحزانها. أشفق الطائر على اليتيمة وقال لها: «أنتِ وحيدة في العالم، وأنا أيضًا وحدي. من الصعب والمحزن أن يكون كل واحد منا بمفرده، ولكن معًا، معًا سيكون من الأسهل علينا تحمل المشقة. اجلسي على ظهري يا فتاة، وسأطير بكِ إلى هذه البلدان؛ حيث يوجد صيف أبدي، حيث تمتلئ الغابات الضخمة التي لا يمكن اختراقها بالزهور العطرة، حيث تنمو الزهور البيضاء الضخمة على ضفاف النهر وتنظرين إليها معجبة بأشكالها الرائعة. سآخذك إلى حيث تسبح التماسيح الضخمة خارج النهر وتستمتع بأشعة الشمس بالقرب من الشاطئ، ويذهب عمالقة الأفيال إلى مكان الشرب في قطعان كاملة. سآخذك إلى هذه الأرض الرائعة يا فتاة. هل تريدين السفر معي؟»

نظرت جاليا حولها بعينين حزينتين. شعرت بالأسف للتخلي عن كوخها الأبيض وبساتين الكرز وقريتها الأصلية. لكن الفتاة تذكرت على الفور أن والدتها لم تعُد معها، ومن دون والدتها، الكوخ وبساتين الكرز وقريتها لم تكن بنفس الجمال.

قالت جاليا للطائر وهي تبكي بهدوء: «خذني بعيدًا أيها الطائر الكبير اللطيف، أينما تريد. أنا مستعدة للسفر معك بعيدًا، بعيدًا. حتى نهاية العالم!»

بمجرد أن نطقت جاليا بهذه الكلمات، وجدت نفسها على الفور على ظهر الطائر، الذي حلق بها على الفور في الهواء.

في البداية كان الطيران مُريعًا لجاليا. في الأسفل، كان الناس يركضون، ويبدون وكأنهم حشرات صغيرة من ارتفاع. الأكواخ والكنائس بيضاء، ومدن وقرًى بأكملها تومض. طار الطائر بسرعة مذهلة، فارتفع لأعلى وأعلى، حتى أصبح لا منازل ولا كنائس ولا قرًى يمكن رؤيتها …

حلقت الغيوم في الأسفل، وفصلت الطائرَ وجاليا عن الأرض، عن العالم كله. غيوم فوق وتحت وفي كل مكان …

شعرت جاليا بالخوف، وأغمضت عينيها واقتربت من الطائر. رفع الطائر جناحيه بقوة أكبر واندفع أسرع، وأعلى، نحو الشمس.

وعندما أنزلها الطائر بسرعة البرق إلى الأرض في حديقة فخمة ذات رائحة رائعة، سألته جاليا: «أين نحن؟»

امتدت الأزهار البيضاء في صفوف رفيعة وجميلة على جانبَي الطريق المؤدي إلى قصر ناصع البياض به أعمدة وشُرفة ضخمة. وعلى الشرفة، كان هناك الكثير والكثير من الناس يرتدون ملابس ملونة مخطَّطة، ووجوههم داكنة اللون، وأجسادهم برونزية. وفي وسطهم، جلس رجل بلحية حمراء، ورأس أبيض ملفوف بشيء، وشفتين لامعتين ووجه كبير مهيب؛ لدرجة أن جاليا ارتعشت من الخوف بمجرد النظر إليه.

انحنى الشعب البرونزي على الأرض للرجل الرهيب وقالوا: «أنت ذكي وقوي. أنت حكيم ووسيم. أنت رائع. لا مثيل لك في العالم كله.»

والملك — لأن الرجل البرونزي ذا النظرة الرهيبة كان ملكًا — لوى رأسه بعناد، وهز لحيته الحمراء الناريَّة، وأجاب بصرامة: «أنتم لا تقولون الحقيقة. تقولون هذا فقط لأنكم تخافون مني، لأنكم تعلمون أن حركة واحدة من حاجبي يمكن أن تقتلكم!»

ارتمى الناس على الأرض واستمروا في تبجيل ملكهم: «أنت ذكي وقوي وحكيم وجميل!»

وظل الملك يهز لحيته النارية ويقول: «لا، أنتم تتملقونني فقط، لأني الملك، لا أُصدقكم.»

وفجأة، عند نفس الدرجات المؤدية إلى الشرفة رأى فتاةً وطائرًا. دُهش بشكل لا يوصف. من أين يمكن أن تأتي هذه الفتاة؟ تومِض ابتسامةٌ على وجهه. كان الأمر كما لو أنه خمَّن شيئًا؛ كما لو أنه قرر شيئًا ما فجأة. وهو ينظر حوله إلى رجال البلاط قال: «سأسألها عن الحقيقة في حديثكم.»

ثم التفت إلى جاليا وقال وهو يمسد لحيته الحمراء: «أخبريني يا فتاة، هل صحيح أنني مشع وقوي وحكيم وجميل؟»

وثبَّت عينيه الصارمتين المرعبتين على جاليا. أرادت جاليا الإجابة بنفس الشكل مثل الشعب البرونزي، حتى لا تُغضب الملك الرهيب، لكنها تذكرت فجأةً وصية والدتها؛ الحقيقة فقط. وبصوت حازم قالت: «لا أيها الملك. أنت لست مُشعًّا، لأن وجهك قاتم صارم. رأيت الشمس وهي مشعة وقوية؛ الكثير من الحرارة والضوء يأتي من شعاعها الواحد! لا أدري إن كنت حكيمًا أم لا، لكني أعلم أن الذي خلقك أحكم منك. لا، أنت لست جميلًا أيها الملك؛ لا يمكن لشخص لديه مثل هذه العيون أن يكون جميلًا. أرى السماء الهادئة اللطيفة، إنها جميلة، أما أنت فلا.»

وبمجرد أن نطقت جاليا الكلمة الأخيرة، اندفعت الحاشية الملكية في رعب: «إنها بلا عقل! لا بد أنها مريضة! ماذا تقول لسيدنا.»

ركضوا واندفعوا مثل قطيع طيور خائفة. وعبس الملك نفسه وأصبح أشد سوادًا من الليل. أغضبته كلمات جاليا. لم يكن معتادًا على سماع مثل هذه الأقوال واعتبرها مجنونة.

أمر الخدم قائلًا: «خذوها وافصلوها عن الجميع، دعوا أفضل أطبائي يعالجوها. لكن لا تسمحوا لها بالتواصل مع الناس حتى لا يسمعوا منها الثرثرة المجنونة!»

وبعد أن قال هذا لوَّح بيده. هُرع الخدم إلى جاليا وكانوا مستعدين للإمساك بها، لكن في ذلك الوقت خفق الطائر الكبير بجناحيه، وأجلس جاليا على ظهره، وفي دقيقة واحدة كان بالفعل على بعد عدة أميال من القصر الأبيض والشعب البرونزي.

همست له جاليا: «أخرجني من هنا أيها الطائر، لنذهب حيث يحب الناس الحقيقة ويستمعون إليها.»

وطارا، الطائر وجاليا، في الاتجاه الآخر، إلى بلد آخر.

لفترة طويلة، اندفعا عبر السماء الزرقاء، بين السحب البيضاء، بحثًا عن المكان الذي يمكنهما النزول إليه. ذهبا مباشرة إلى المرج، محاطين بالغابات الكثيفة وغير القابلة للاختراق. على العشب حول النيران جلس أناس ضخام. كان هناك عدة آلاف منهم. وكان من بينهم شاب أطول وأرفع وأكثر وسامة من الآخرين. كان وراء ظهر كلٍّ منهم سهام وأقواس وفئوس ورماح. قالوا لقائدهم الشاب النحيل المسلَّح أكثر من غيره: «أوه، أيها القائد الشجاع! لقد جمع أخوك جيشًا كبيرًا وهو يحاربنا. يقول إن نصف هذا البلد له، وإن هذه الغابة هي غابته، وإن مساكننا يجب أن تكون ملكًا لمحاربيه، وإنه قادم ليأخذ كل شيء منك، ومنا. لكن دعه يجمع المزيد من القوات، فنحن لسنا خائفين من أي شيء. كل شجيرة في هذه الغابة مألوفة لنا. سنحاصر الغابة ونهاجم أخاك ونهزم جيشه ونأتي به إليك. يمكنك قتله أو جعله عبدك.»

قال الشاب بتهديد: «نعم سأجعله عبدًا لي؛ لأن الموت خير من الذل. فليجرب الذل، ليعرف غضب أخيه!»

ولوَّح برمحه.

أطلق المحاربون صرخة جامحة والتفوا حول النار في رقصة مسعورة. وعندما توقفوا، وكادوا يسقطون من التعب، رأوا فجأة طائرًا كبيرًا مع فتاة على ظهره.

كانت جاليا تقف بالفعل أمام قائدهم الشاب وتتحدث إلى القائد الشاب النحيل: «أيها الشاب، أنت مخطئ! لا تقاتل أخاك، لأن والدك وهو يحتضر ورَّث لكما هذه الأرض. أنا أعلم أنك أخذت نصف حق أخيك منه وطردته من هنا. وإذا جاء أخوك إلى هنا مرة أخرى، فهذا حقه. وأنت مخطئ أيها القائد الشاب. لقد تصرفت بقسوة وخِسة.»

استمع القائد الشاب إلى جاليا. وكلما تحدثت، أصبح خطابها أكثر جرأة، وارتجف المحارب الجامح. انعكس الخوف والاحترام على وجهه في نهاية خطاب جاليا. سقط عند قدمَي الفتاة وضرب على صدره وصرخ بصوت رهيب: «يا محاربيَّ! محاربيَّ الشجعان! الروح العظيمة نفسها ترسل لنا هذه الطفلة! الروح العظيمة نفسها تتكلم على لسانها! هي ترى قلبي وتعرف أفكاري. إنها ترى الحقيقة كاملة وتعرب عنها بلا خوف أمام قائدكم الجبار. لم يجرؤ أحد على إخباري بالحقيقة قبل الآن. هذا يعني أن الروح العظيمة هي نفسها أرسلت الفتاة إلى الأرض! هي سفيرة الروح العظيمة! إليكم أيها الكهنة! خذوا الفتاة، اصحبوها إلى هيكلنا، أجلسوها على عرش الكاهن الأول. ضعوا البخور أمامها واخدموها بشرف، تكريمًا لرسالة الحق! وأنا ومحاربيَّ ننحني لها على الأرض.»

وركع القائد الشاب على ركبتيه. وخلفه ركع كل محاربيه. وخرج رجل عجوز ذو لحية رمادية من الغابة الكثيفة. ألقوا على الأرض بأشياء غريبة وأطلقوا أصواتًا مبهَمة غير مفهومة.

ثم اقترب الشيوخ ذوو اللحى الرمادية من جاليا وانحنوا لها وقالوا: «يا رسولة الروح العظيمة! تعالَي معنا إلى معبدنا. هذا هو مكانك. ستعيشين في المعبد ليلًا ونهارًا، وسيندفع دخان أزرق على شرفك من مبخرتنا، وسوف نغني لك الأغاني المقدسة ونزينك بالورود. ستكونين ملكة معبدنا.»

وأخذوا جاليا بعناية من ذراعيها وأرادوا اصطحابها إلى غابة كثيفة، حيث كان معبدهم مختبئًا بين الأشجار. ملأ الرعب والخوف قلب جاليا في الحال.

صرخت بصوت يرتجف: «أين الحقيقة؟ منذ متى ينحني الناس للإنسان ويعتبرونه إلهًا؟ أين هي الحقيقة؟ هل الكلمة الصادقة نادرة هنا لدرجة أن الفتاة الصغيرة البسيطة التي قالت هذه الكلمة يخلطون بينها وبين الرسل؟ لا، لا أريد التكريم أو المجد. أيها الطائر الكبير، خذني بعيدًا، خذني بعيدًا عن هنا.»

والطائر الكبير موجود هنا بالفعل؛ فتح جناحيه، والتقط جاليا واندفع بها إلى السماء عاليًا، عاليًا، تاركًا المحاربين والكهنة مذعورين.

ومرة أخرى اندفع الطائر الكبير وجاليا بين الشمس والغيوم.

وأخيرًا تعِبا ونزلا إلى الأرض. يسمعان موسيقى رائعة وضحكات مرحة ونكات. شعرت جاليا بالسعادة في الأصوات الرنانة.

قالت: «احملني هناك أيها الطائر، حيث تأتي الموسيقى والأصوات.»

وبعد دقيقة، رأيا قلعة فاخرة مضاءة بشكل ساطع على البحيرة. القلعة بأكملها معلقة فوق الماء، تقف على صخرة عالية فوق بحيرة مظلمة ومضطربة.

تحت أضواء القلعة والموسيقى والمرح، السادة الذين يرتدون ملابس فاخرة، وحتى السيدات الجميلات الأكثر أناقة، كل هذا يتحرك في رقصة ناعمة بديعة. الديباج والذهب والأحجار الكريمة؛ كل شيء موجود، كل شيء يتلألأ ويتألق ويلمع مثل أضواء الثُّريات الكريستالية المعلقة من سقف القاعة.

وأمام الجميع تتقدم الملكة نفسها — صاحبة هذه القلعة والبلد بأسره الذي طارت إليها جاليا مع طائرها — جنبًا إلى جنب مع فارس جميل وأنيق.

قالت جاليا لنفسها: «أوه، يا لها من ملكة جميلة! عيناها زرقاوان داكنتان، مثل المياه في تلك البحيرة التي تلمع تحت نوافذ القلعة، وأيضًا هذا الإكليل الذي يتلألأ فوق رأسها، وشعرها الأصفر المرصع بالماس والأحجار الكريمة، ووجهها الطفولي تمامًا؛ هادئ ووديع ورزين.»

فكرت جاليا: «يا لها من ملكة حنون وجميلة. لا بد أنها تحب الحقيقة، وجميع رعايا هذه الملكة الطيبة يعيشون حياة طيبة!»

وبمجرد أن فكرت الفتاة في ذلك، من خلال ضجيج الموسيقى وضحك الراقصين المرح سمعت تأوُّهًا باهتًا وهادئًا.

ارتجفت جاليا.

وتكرر الأنين. جاء من الغابة الخضراء في الحديقة، مختبئًا بظلام الليل.

همست جاليا بحماسة: «دعنا نطير إلى هناك يا عزيزي الطائر، لنكتشف من يئن!»

انطلقا من القلعة المغمورة بالأنوار إلى الحديقة المظلمة، في ظلام الليل.

أصبح الأنين مسموعًا أكثر فأكثر عندما توغلت جاليا مع طائرها في عمق الحديقة. ظهر قوس القمر الباهت من وراء الغيوم وأضاء الفراغ الصغير. هناك بالقرب من جذع شجرة كبيرة وقفت فتاة صغيرة ذات وجه شاحب مُتَّسِخ. رُبِط ذراعاها وساقاها بإحكام بحبال كثيفة في شجرة. كان وجهها يحمل آثار معاناة شديدة.

سألت جاليا الفتاة: «ما خطبك؟ من قيدَك هنا؟ ولماذا تتأوهين؟»

همست الفتاة بصوت لا يكاد يُسمع من الضعف: «أنا خادمة الملكة الجميلة، تلك الملكة الجميلة التي ترقص وتستمتع هناك في القلعة. أمرت أن أُربط بشجرة وأنا أتضور جوعًا؛ لأنني منذ ثلاثة أيام تجرأت وأخبرتها أن الفارس الذي اختارته ليكون خطيبها لم يحبها، وأراد الزواج منها فقط ليصبح ملكًا. أنا أعلم أن هذا صحيح. ومن أجل كلمة الحق سأموت جوعًا.»

وبعد أن قالت هذا، تأوهت الفتاة بصوت خافت وحزن. كانت جاليا ترتجف بالكامل وقالت: «أسرع! أسرع يا طائري، دعنا نسرع إلى القلعة، دعنا نسرع إلى الملكة قبل فوات الأوان لتحرير الفتاة التعيسة وإنقاذها من الموت العنيف.»

انطلقا أسرع من الريح إلى القلعة.

وكما لو أن رعد السماء ضرب الراقصين، فقد أذهلهم ظهور فتاة صغيرة وطائر كبير في وسط القاعة. توقفت الموسيقى. توقف الزوجان كذلك. وفي دقيقة واحدة وجدت جاليا نفسها أمام الملكة الجميلة.

قالت الفتاة بصوت يرتجف: «اسمعي أيتها الملكة، أنت ترقصين وتستمتعين هنا، وهناك في الحديقة خادمتك تحتضر. هذا ليس جيدًا أيتها الملكة! لقد قالت خادمتك الحقيقة. لا يمكنكِ أن تكوني سعيدة عندما تفعلين الشر لجارك. إنني أطلب إطلاق سراح الفتاة التعيسة، ثم لتستمرَّ الموسيقى مرة أخرى، ويرقص الأزواج ويعلو صوت الضحك الممتع لضيوفك، أيتها الملكة! أنتِ لستِ امرأة طيبة؛ فأنتِ تعاقبين خدمك على الصدق.»

وبعد أن أنهت خطابها، نظرت جاليا إلى الملكة وكادت أن تموت رعبًا. ماذا حدث فجأة للملكة الجميلة؟ تحولت عيناها إلى السواد واستدارت مرة واحدة، مثل عينَي غراب، وتحول وجهها إلى اللون الأخضر والتَوَت شفتاها، وفجأة أصبح جسدها كله مُقززًا وقبيحًا.

صاحت الملكة في جاليا وضربت الأرض بقدميها: «فتاة فقيرة مثيرة للشفقة! كيف تجرُئين على انتقادي؟! يجب أن تموتي على الفور!»

وعلى الفور أمرت الحراس بإلقاء جاليا في البحيرة. نفذ الحراس أوامر ملكتهم، وأمسكوا بجاليا، وسحبوها إلى النافذة، وألقوا بها حيث كانت المياه المظلمة للبحيرة الضخمة.

سقطت جاليا في البحيرة، وانغمست في الأمواج الباردة وغرقت ميتة في القاع. وربما كانت ستصبح فريسة لحوريات البحر الضاحكات، لو لم يندفع الطائر الكبير المخلِص وراءها وسحب الفتاة الصغيرة الغارقة من الماء.

انتزع الطائر الكبير جاليا الميتة بمنقاره القوي، وسرعان ما صعد معها من الأرض والبحيرة عاليًا … عاليًا إلى السماء. وهناك كانوا ينتظرون جاليا بالفعل. كانت تنتظرها مخلوقات بيضاء جميلة، أولاد وبنات بأجنحة فضية على ظهورهم. رأوا طائرًا بفتاة ميتة في منقاره، حملوا جاليا بين أذرعهم وأخذوها إلى الجنة.

لم يكن طريق المخلوقات المجنحة الصغيرة طويلًا.

وفجأة سمعت موسيقى رائعة. غنت جوقة غير مرئية أغنية رائعة حلوة. أحضر الأطفال المجنحون جاليا إلى الحديقة السماوية الفاخرة، ووضعوها في أرجوحة معطرة، مغطاة بالكامل بأوراق الشجر والورود، وهم يقفون حولها يغنون بأصوات جميلة رنانة لا يملكها غير الملائكة: «استيقظي … استيقظي يا عزيزتنا جاليا! لقد جئتِ إلى عالم الحقيقة؛ الحقيقة النقية والجميلة، التي لن تجِديها على الأرض! استيقظي يا جاليا! يا عزيزتنا الصغيرة جاليا.»

لكن جاليا لم تسمع غناء الملائكة، ولم تشعر برائحة الزهور. ثم دون توقف عن الغناء، طار الأطفال المجنحون عاليًا فوق الغيوم، وبعد دقيقة عادوا مرة أخرى، يقودون بيدهم امرأة طويلة في ملابس بيضاء، وديعة وجميلة، مثل الحمامة. انحنت المرأة على جاليا الميتة ولفت ذراعيها الرفيعتين برفق حولها. نزلت دمعتان من عينيها على قلب جاليا، وفجأة عاد هذا القلب للحياة وارتعش. فتحت الفتاة عينيها، ونظرت أمامها وصرخت بصوت فرح، مدركةً أن المرأة المنحنية أمامها هي أمها: «أمي!»

همست المرأة البيضاء: «جاليا! جاليا! لقولك الحقيقة جمعني الرب بك مرة أخرى، حتى لا نفترق أبدًا. لقد حملك الطائر الكبير إلى عالم الحقيقة، إلى ذلك العالم حيث تعيش الحقيقة المبهجة والمنتصرة.»

عانقت الأم ابنتها بقوة وقبَّلتها إلى ما لا نهاية دون حساب. كانت الحديقة الفخمة عطرة، وغنت الملائكة ذات الوجوه الرقيقة ترنيمة عن حقيقة جاليا.

وحلق الطائر الكبير مرة أخرى إلى الأرض والناس، راغبًا في العثور على الحقيقة بأي ثمن هناك على الأرض. طار الطائر العنيد بمفرده، دون جاليا. وبقيت جاليا مع والدتها في المملكة اللازوردية.

حدث هذا قبل زمن طويل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤