الحكاية الحادية عشرة: مملكة المرح
على بعد عشرات ومئات وآلاف الأميال، يمكنك أن تسمع دويَّ ضحكات مرحة وخالية من الهموم؛ ضحكات من الصباح حتى المساء، من شروق الشمس إلى الغروب، ضحكات مستمرة بلا انقطاع.
هؤلاء سكان مدينة المرح، الذين يعيشون في مملكة غريبة وفريدة من نوعها، لم يوجد مثلها من قبل ولا يوجد الآن، ولن يوجد في المستقبل.
كانت مملكة مسلية للغاية. هناك، لا يحزن أحد، ولا يبكي أحد، ولا يشكو أحد، ولا يمرض أحد … الجميع يضحكون ويمرحون طوال الوقت بلا توقف؛ يضحكون أثناء السير ويضحكون أثناء الجلوس وعند العمل وعند الحديث، وحتى عندما يَخلدون إلى النوم تستطيع أن ترى الابتسامة على وجوههم … الصوت الوحيد الذي تضمن سماعه عند دخول مملكة المرح هو الضحك، ولا شيء غيره.
لم يكن هناك حزن أو قلق في مملكة المرح. سكانها لم يعرفوا يومًا الفقر أو الحزن، لم يمرضوا قط ولم يتألموا، بل عاشوا سعداء وراضين حتى الشيخوخة، عاشوا معًا مبتهجين وماتوا مبتهجين وعلَّموا أحفادهم كيف يكونون مثلهم.
من بين جميع السكان المرحين، كان الملك أكثرهم سعادة. لم تترك الابتسامة الباهرة وجهَه قط. لم يكن هناك تجاعيد من الحزن على جبهته العالية، وكانت عيناه الملكيتان تتلألآن باستمرار من الضحك، لتصبح في النهاية ضحكة لطيفة ومبهجة واحدة.
في الصباح يستيقظ الملك المبتهج ويقرع الجرس وهو يضحك، ثم يظهر الخدم الملكي وهم يضحكون.
يأمر الملك: «هيا ساعدوني على ارتداء ملابسي.»
«في الحال يا صاحب الجلالة.»
يرتدي الملك ملابسه ويخرج إلى شرفة قصره ليسمع ضحك رعاياه في عاصمة مملكته.
في الشوارع، يركض الناس بمرح، وترى السائق يبتسم للركاب ويعرض عليهم خدماته، والتاجر يمزح مع زبائنه … الجميع يضحكون ويمرحون كالعادة … الجميع … الكبار والأطفال، الشباب والشيوخ، السادة والخدم، الجنرالات والجنود، الأغنياء والفقراء، كما لو أن المملكة في حالة احتفال وسعادة دائمة.
وفجأة، ذات يوم وجدوا شخصًا غريبًا يتجول في الشارع، امرأة عجوزًا نحيفة ومنحنية أكثر من أي شخص شاهدوه من قبل في مملكة المرَح والرضا والسعادة والضحك، وقالوا لأنفسهم سيدةٌ مثل تلك لم نقابل مثلها من قبل في مملكتنا!
كان وجهها كئيبًا حزينًا وعيناها مرتبكتين ونصف عمياء من الدموع، وخداها أجوفين من النحافة، وتبرز من تحت منديل رأسها ضفائر رمادية خفيفة.
فوجئ شعب المملكة وهم يقولون: «من هذه العجوز الغريبة؟»
واقتربوا منها ليتعرفوا عليها …
«من أنتِ أيتها الجدة؟»
قالت بصوت مبحوح وغريب: «أنا «العَوَز» … لقد جئت إليكم من الدولة المجاورة؛ حيث أعيش مع إخوتي الحزن والمرض والجوع والمعاناة، كنا نتجول دائمًا من بلدة إلى أخرى، وأحيانًا نبقى في بعض الأماكن لفترة، ولكن لم يأتِ أحد منا إلى هنا من قبل. لذا قررت أن أستطلع المكان، وإن كنت أستطيع البقاء هنا، ولكن يبدو أنني لا أستطيع … أنتم جميعًا تملكون الطعام الكافي والجيد الذي يُرضيكم ويجعلكم سعداء.»
تجمَّعوا حولها بفضول وقالوا: «هل تعرفين كيف تضحكين؟ هل تبتسمين أصلًا؟»
حاولت العجوز أن تقف باستقامة وعيناها تومضان بالغضب وقالت بفخر: «لا أعرف كيف أضحك … ولا أريد أن أضحك، بل أكره الضحك … العَوَز يجب ألا تضحك، بل أبكي، وإذا بقيتم معي فسوف أعلمكم كيف تبكون أيضًا …»
تساءل أهل المملكة وهم يبتسمون: «البكاء؟ لا … لا أيتها السيدة العجوز. نحن سوف نعلمك كيف تضحكين … سوف ترَين.»
قاطعتهم العجوز: «لا، لن يحدث هذا أبدًا!»
كرر السكان المبتهجون: «بل سنفعل بالتأكيد. سوف نعلمك. الآن دعينا نضحك، هل أنتِ موافقة؟»
كررت العجوز: «أبدًا! لا تطلبوا مني الضحك، إذا ضحكت فستقعون في ورطة.»
لكن الواقفين ضحكوا وظنوا أنها مزحة: «هل يمكن أن توجد مشكلة بسبب الضحك؟ لا يا جدتي يجب أن تضحكي معنا، حسنًا؟»
قالت العجوز بخفوت: «لن أفعل.»
«حسنًا، على الأقل قليلًا …»
«أبدًا!» ومهما حاول سكان المملكة المرحة إضحاك المرأة العجوز، لم تثمر مجهوداتهم شيئًا.
وفي النهاية، غضب السكان المبتهجون، لكنهم غضبوا بالطبع بطريقتهم الخاصة؛ بطريقة مضحكة.
قالوا: «إنها جريمة ألا تضحكي في مملكتنا المرحة، بل أيضًا أن تكوني حزينة عندما نضحك جميعًا. لن ندع هذا يمر، وسنسلمك أيتها العجوز إلى المحكمة، وهناك القضاة الأذكياء يقررون كيفية التعامل معكِ.»
ودون تردد، أخذوا المرأة العجوز وسحبوها إلى المحكمة.
وعندما أحضروا العجوز إلى القاعة الكبيرة في المحكمة سأل القضاة: «ما ذنب تلك المرأة العجوز؟»
حكى السكان ما حدث معهم في الشارع مع المرأة عندما رفضت مجرد الابتسام.
بدأ القضاة في التشاور حول ما يجب القيام به. ما عقوبة المرأة العجوز الحزينة؟ حدثت هذه المشاورات بالطبع وهم يضحكون ويقهقهون، ولم يكن القضاة وحدهم، بل الحرس على الأبواب أيضًا، وضحك الكُتاب الذين يكتبون قرارات القضاة، وحتى العاملون داخل المحكمة. وحدها العجوز التي تُدعى «العوز» لم تضحك أبدًا.
تشاور القضاة لفترة طويلة، وفي النهاية توجهوا إليها بالحديث وقالوا: «اسمعي أيتها العجوز، من الأفضل لك أن تتوبي عن هذا الحزن وتضحكي، وسوف نطلق سراحك.»
لكن العوز رفضت العرض بغضب: «لن أضحك … لم أفعلها من قبل، ولن أفعلها الآن … عملي هو أن أُحزن الناس، والضحك يتنافى مع عملي.»
ضحك القضاة: «لكننا سنجعلك تضحكين. إذا كنت لا تريدين ذلك فسنعاقبك بكل صرامة بقوانين المملكة المرحة.»
أعلنت العجوز بكبرياء: «عقاب! أنا لست خائفة من أي شيء!»
مرة أخرى بدأ القضاة في التشاور وارتفع صوتهم مثل سرب من النحل. تجادلوا وهم يضحكون ويقهقهون كل فترة وأخرى.
وأخيرًا أنهوا الاستشارة وأصدروا الحكم الآتي: «بما أن المرأة العجوز رغم كل التحذيرات عنيدة ولا تريد الضحك، أمرنا بطردها فورًا من حدود مملكة المرح، وعدم السماح لها بالبقاء بين السكان المبتهجين ولا دقيقة أخرى.»
كان الجميع يستمعون لهذا الحكم في صمت، لكن السكان الذين قدَّموا المرأة العجوز للمحاكمة لم يعجبهم أمر القضاة وقالوا: «ما هذه العقوبة! نحن لا نوافق بالتأكيد … يجب أن نجعل هذه المرأة العجوز تبتسم على الأقل! هذا مُهم.»
طالب السكان باستدعاء القضاة مرة أخرى لكي يجدوا عقوبةً مختلفة للمرأة العجوز.
تحققت هذه الرغبة على الفور. اجتمع القضاة مرة أخرى وتداولوا الأمر وتجادلوا قليلًا، وأصدروا العقوبة الآتية: «أغلِقوا جميع أبواب مملكة المرح ولا تدَعوا العجوز تخرج حتى تبدأ في الضحك.»
لكن الناس المبتهجين ظلوا غير راضين عن هذا الحكم.
صرخ السكان بطرق مختلفة: «هل ستنجح مثل هذه الجملة مع امرأة عجوز عنيدة؟ لا نظن هذا … لا، على ما يبدو لا يستطيع القضاة البتَّ في هذه القضية، من الأفضل أن نذهب إلى ملكنا، سوف يأمر المرأة العجوز بالضحك.»
واندفعوا ناحية المرأة وأمسكوا بها وجروها إلى القصر.
تجمع السكان تحت قصر الحاكم وهم يصرخون: «أيها الملك الكريم العادل … اسمعنا يا ملكنا! نريد حكمك في امرأة وصلت مؤخرًا إلى مملكتنا وهي حزينة ولا تريد الابتسام. أيها الملك، اطلب منها أن تبتسم على الأقل!»
خرج الملك إلى الحشد خارج القصر واقترب من المرأة العجوز، وقال وهو مبتهج كعادته: «ما بكِ أيتها العجوز لمَ لا تضحكين؟! هيا أنا آمرك أن تضحكي معنا.»
قالت العجوز بصوت متململ: «لا لن أفعل …»
«لقد أمرتك أن تضحكي!»
«أبدًا … لا يمكن.»
أراد الملك أن يتخذ وجهًا صارمًا، لكنه لم يفلح وأخذ يضحك في النهاية، ولكن المرأة العجوز هي من ازدادت كآبة مع الوقت.
فكر الملك المرح في عقاب أو طريقة لجعل المرأة العجوز تلبي رغبة الناس وتضحك، وأخيرًا قال: «اسمعي أيتها الجدة، عقابًا لك على عنادك، أحرمك من أغلى شيء في العالم. من الآن فصاعدًا أمنعك من الضحك إلى الأبد. مهما كان شعورك بالمتعة، لم يعد مسموحًا لك بالضحك … هذا عقاب رهيب! ستشعرين به يومًا ما أيتها العجوز؛ لأنه مثلما لا يمكن للأسماك أن تعيش دون ماء، ومثلما لا يمكن لأي مخلوق على الأرض أن يتنفس دون هواء، لا يمكن للإنسان أن يعيش دون ضحك. وأنتِ يا سيدة عَوَز محرومة الآن من هذه النعمة العظيمة!»
وكان مردود هذا الحكم ضحكًا مُدوِّيًا من الشعب المرح. كانوا مسرورين جدًّا بالحكم الذكي لملكهم. وبينما الشعب غارق في الضحك، انفجرت العجوز أيضًا ضاحكة على عكس كل التوقعات!
انفجرت بضحكة صاخبة ومثيرة للاشمئزاز، بصوت مرتفع لدرجة أنها غطت على ضحك الآلاف من الناس المبتهجين.
انفجرت ضاحكة لأنها لم تكن تتوقع مثل هذه العقوبة. لقد حُرمت من شيء كانت تشعر نحوه باشمئزاز لا يقاوَم، شيء لم تستطع تحمله هي نفسها!
هي التي لم تضحك في حياتها قط تُمنع من الضحك؟! كان الأمر جديدًا وغير مألوف ومضحِكًا، لدرجة أن العجوز العَوَز لم تستطع تحمله وانفجرت ضاحكة لأول مرة في حياتها الطويلة.
ضحك الملك أيضًا في النهاية. لقد حقق مراده وجعلها تضحك من أجل الشعب، ومن خلفه ضحك المحاربون والحراس وباقي الناس.
سُمِع هدير الضحك من كل مكان، لكن المرأة العجوز نفسها ضحكت بأعلى صوت، ومع ذلك فإن الأمر غريب، إنه كلما زادت ضحكتها أصبح ضحك سكان المملكة المرحة من حولها أقل حدة!
أصبحت وجوههم التي كانت دائمًا مبتهجة للغاية متحفظة أكثر، وأكثر جدية. بغضِّ النظر عن شدة محاولتهم للعودة كما كانوا، فإن ضحكتهم تخرج بطريقة ما مخنوقة وحزينة.
تضحك المرأة العجوز بصوت أعلى وأعلى.
مر يوم، ثم آخر، ثم ثالث، ولم يعُد صوت الضحك يُسمع مطلقًا داخل المملكة … لم يُسمع إلا الضحك الغريب المبحوح الشرير للسيدة العجوز …
ولم يمر وقت طويل قبل أن يختفي الضحك كليًّا؛ لقد نسي السكان كيف يضحكون. حتى الملك نفسه لم يعد يبتسم. أصبح وجهه حزينًا وشاحبًا، وعيناه اللتان لم تعرفا إلا الابتسام صارتا تحدقان الآن في الشوارع حيث المرأة العجوز تمر من منزل إلى منزل … تضحك وتقفز وترقص … وأينما ظهرت كان الناس يختبئون، حتى نسوا أنهم الشعب الذي كان مبتهجًا في يوم من الأيام.
مر بعض الوقت، ولم يعد من الممكن سماع المزيد من الضحك في المملكة المرحة. لقد نسي الناس بالتأكيد كيف يضحكون.
كانوا يطلبون منها أحيانًا التوقف: «أيتها العجوز نرجوك هذا يكفي …»
لكن العجوز لم توافق قط، وكانت تقول: «لقد جعلتموني أضحك، والآن لا أستطيع التوقف …»
ومنذ هذه اللحظة، أو ربما في اللحظة التي أصر الشعب على ترك بهجته وإرغام شخص آخر على شيء لا يريده، تحولت المملكة من مملكة المرح إلى مملكة الحزن.