الحكاية الثانية عشرة: نرجس الطحَّان
كانت هناك طاحونة فوق النهر الأزرق، انتصبت وغنَّت. كان كل ما بداخلها يغني: العجلات التي تدفقت من خلالها المياه، والرحى الثقيلة، والطحَّان نفسه؛ كان شابًّا يبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا واسمه نرجس.
كان الطحان الشاب يغني بصوت أعلى وأفضل من الجميع. كان يغني جيدًا.
استمع إليه الناس وقالوا: «نرجس يغني مثل طائر في السماء.»
وكانت تلك حقيقة. امتلأت طاحونة نرجس بتيار فضي صاخب، قيثارة غير مرئية، صوت ذهبي ملائكي.
كان يتيمًا، وحده في الدنيا. لم يتذكر والدته أو والده. ماتا في وقت مبكر. كان نرجس يبلغ من العمر بضعة أشهر في ذلك الوقت. أشفق الطحَّان العجوز على الصبي اليتيم، وأخذه، ربَّاه مثل ابنه، ثم مات، وترك الطاحونة لنرجس. وهكذا بدأ نرجس نفسه في إدارة الطاحونة. يعمل ويغني.
وكم كان صوته جميلًا!
حتى طيور الرب تحسده على صوته الرقيق. لم يفاجأ الناس بوجهه المسرور، السعيد، الراضي دائمًا.
كانوا يسألون: «لماذا هو مسرور؟ ولماذا هو راضٍ؟»
هناك كثيرٌ مثله حزانى، ولكنه يغني ويترنَّم بابتسامة مرحة لا تفارق شفتيه. هو نفسه وحيد، يتيم وفقير مثل فأر كنيسة. ما فائدة الطاحونة؟ يجلبون له قليلًا من الحبوب ليطحنها، ويدفعون القليل؛ يعيش حول الفقراء، وهؤلاء لا يمكنهم الدفع، ولا يوجد لديهم الكثير! ومع ذلك ليس حزينًا. إنه يغني، يشدو مثل العندليب، رغم أنه لا يملك الكثير ليعيش به.
سمعت الساحرة الشريرة الخبيثة أورسولا عن الطحان السعيد الراضي، وأرادت أن ترى بهجته بأم عينيها. اختبأت تحت عجلة الطاحونة وبدأت تنتظر الطحان الغريب، الذي كان سعيدًا جدًّا بقدره المكتوب. الجميع يعرف أن الساحرة الشريرة لا تستطيع أن ترى السعادة والرضا دون أن تحسدها.
رأت الطحان سعيدًا حقًّا وراضيًا تمامًا عما قُدر له، ويبتسم بمرح ويغني ويُنشد.
تمتمت الساحرة بخبث: «حسنًا! انتظر يا عزيزي … سأجعلك تتوقف عن الغناء.»
وفي لحظة استدارت وسحرت الطحَّان نرجس وتغلبت عليه بحلم مسحور. نام الطحان ورأى نفسه في المنام ملكًا يضع تاجًا ذهبيًّا، ومن حوله حاشية مطيعة، أمامه ثروات لا حصر لها في قصر بِلَّوري.
خفق قلب نرجس بفرح وسعادة! فكر! هل من السيئ أن تكون ملكًا قويًّا؟
لكن الحلم الجميل لم يدُم طويلًا.
استيقظ الطحان، ولم يكن أمامه قصر ولا حاشية ولا كنوز. لا يوجد سوى فتاة ذات جمال غامض. تقِف وتبتسم له. كانت أورسولا الشريرة هي التي تحولت إلى جميلة حتى لا تخيف الطحان بوجهها القبيح والمثير للاشمئزاز والغضب.
اتسعت عينا نرجس وغمغم في حيرة: «من أنتِ؟»
ضحكت الجميلة بصوتٍ رنان وقالت: «لا! من الأفضل أن تخبرني من أنت؟»
أجاب نرجس: «أنا طحَّان. منذ لحظات كنت أحلم أنني ملك.»
ثم تنهَّد وهو يتذكر الحلم الرائع وأنه ليس ملكًا.
سألته الجميلة: «هل من الجيد أن تكوت ملكًا؟»
أجاب نرجس: «جيد، بل رائع على ما يبدو. سأبذل قصارى جهدي لأكون ملكًا لمدة عام على الأقل … سوف يتم تكريمي في كل مناسبة. سيكون لديَّ المال ولن أحتاج لتربية الدجاج، سآكل طعامًا لذيذًا وحُلوًا من أطباق فضية، وأشرب من كئوس ذهبية. كم هذا رائع. سأعيش في قصر من الكريستال، وأرتدي حريرًا ومخملًا، وقبعة من الريش، وحذاءً جميلًا … كل هذا جميل.»
ابتسمت أورسولا قائلة: «هل تريدني أن أجعلك ملكًا؟»
اشتعلت النيران في عينَي الطحان مثل النجوم. واحمرت وجنتاه بسعادة وأراد القفز من الفرح، لكن ساقيه تراجعتا، وسقط على ظهره على العشب.
سقط ونام بهدوء في لحظة واحدة … وانحنت عليه أورسولا الشريرة ومدت يدها وهمست بصوت مشئوم: «قف، استدر، دُر حول نفسك، انظر للخلف، وانحنِ لي، وعندما تستيقظ، لن تتذكر الماضي. بعد نوم طويل، سيصبح الطحان ملكًا.»
•••
استيقظ الطحان، ونظر حوله في دهشة ورأى أنه مستلق على سرير من ريش البجع، سرير واسع، تحت مظلة من المخمل ويرتدي رداءً ذهبيًّا. وبجانب السرير تاجٌ ملَكي. الملابس مصنوعة من أجود أنواع الحرير، ومزينة بدانتيل بطول ثلاث ياردات على طول الحواف. البطانية من الساتان، مطرزة بالذهب، خفيفة كالريش. والخدم يتزاحمون باحترام ووقار. في الأيام الخوالي، كان من المحتمل أن يكون الطحان الفقير نفسه خادمًا لواحد من هؤلاء الرجال المحترمين. لكن الوضع الآن مختلف. ودون أي تردد، مد قدميه العاريتين للخدم وقال بإيجاز: «ألبسوني الحذاء.»
تحرك الخدم ونزلوا على ركبهم وبدءوا في سحب الجوارب الحريرية من قدمَي الطحان بحذر شديد. كان الأمر كما لو أن هذه ليست قدمين، بل مِزهريتين من الكريستال يخشون كسرهما.
ثم جاءوا للملك الطحان بحذاء ذي سيور من ألماس وثوب تحتي. لم يحرك نرجس يده أو قدمه وهو يرتدي ملابسه، بل استدار يمينًا ويسارًا فقط، مثل دُمية بزنبرك. كل شيء فعله الآخرون. وعندما كان يرتدي القطع الأخيرة من ملابسه، جاء عبدان صغيران وأحضرا إبريق ماء فضيًّا. حمَّم الخدم الملك وأخذوه إلى غرفة الطعام.
كان في انتظاره وجبة إفطار غنية في غرفة الطعام. لا يوجد نوع من أصناف الطعام لم يوضع على الطاولة!
صعِد نرجس إلى الطاولة، وكان على وشك الاستيلاء على أفضل الأطباق، عندما ظهر أمامه فجأةً رجلٌ طويل القامة يرتدي رداءً داكنًا ونظارات على أنفه.
قال باحترام: «لا يمكن لجلالتك أن تتناول هذا، وإلا اضطربَت معدتك الغالية.»
ثم سحب الطبق من أمامه.
أمسك النرجس بطبق آخر. لكنَّ غضبه كان عظيمًا عندما أوقفه الطبيب (وهو رجل طويل يرتدي نظارات، كان رئيس المحكمة وطبيبه الخاص) مرة أخرى باحترام.
قال: «هذه وجبة ضارة لك يا جلالة الملك» وأضاف: «لا أفهم كيف يأتون بهذه لأصناف. مثل هذه الأطباق لا يمكن للملك أن يأكلها.»
وبدلًا من الطعام اللذيذ، دفع بكوب من الحليب وقطعتين صغيرتين من الخبز الأبيض إلى نرجس، مضيفًا أن صحة الملك مهمة لرعاياه، ومن ثَم يجب لجلالته أن ينفذ ما يُسعد الشعب، وقد تم تعيينه لمراقبة طعام الملك باستمرار، وأنه مضطر لأن يتأكد ألا يأكل الملك عن طريق الخطأ شيئًا ضارًّا أو أن يأكل كثيرًا.
لم يكن هناك ما يمكن أن يفعله نرجس، واضطُرَّ أن يكتفي بالحليب.
•••
قال نرجس بفرح بعد أن أنهى فطوره: «أريد أن أذهب في نزهة على الأقدام!»
ولكن بعد ذلك أحاط به نحو عشرة من ذوي الشعر الرمادي وسط حشد.
قالوا وهم ينحنون أمامه: «جلالة الملك، أليس من الواجب الاهتمام بشئون الدولة أولًا؟»
لا يمكن للملك أن يرفض الاهتمام بشئون الدولة، وكان على نرجس أن يخضع. تبع الشيوخ ذوي الشعر الرمادي إلى غرفة ضخمة تُسمى الغرفة الملكية. وهناك بدأ الملك ومستشاروه ذوو الشعر الرمادي في الاهتمام بشئون الدولة المهمة.
كانت الشمس مشرقة بقوة وعظمة. نظر من النوافذ. اندفعت حشود من المشاة في الشوارع. كانت الأشجار تتحرك بلطف خارج النوافذ كما لو كانت تريد أن تقول: «اترك عملك أيها الملك، وتعالَ إلينا كما تشاء، في الخارج!»
أراد الملك الشاب بشكلٍ لا يقاوم أن يخرج من المكتب الممل، أن يهرب من الشئون المملَّة والمستشارين المملِّين. وبالتأكيد لم يلاحظوا نفاد صبره، فكانوا يتحدثون كلهم، ويتحدثون إلى ما لا نهاية. وأخيرًا نهض الجميع وغادروا المكتب الملكي وهم ينحنون.
بدا أن الملك الشاب عادت إليه روحه.
غنى وهتف في داخله: «سأمشي في الحقول والغابات بحرية!»
بدأ يغني أغنيته، لكنه تذكر على الفور أنه أصبح الآن ملكًا، وأن الملوك ليس من المفترض أن يغنوا أغاني مرحة، وسكت.
وفي غضون ذلك، ظهرت الحاشية للملك الشاب على عتبة المكتب الملكي.
قالوا: «جلالة الملك، هل تود الذهاب في نزهة؟ الخيول مستعدة وتنتظر عند المدخل.»
وأمسك أقرب الشخصيات نرجس من تحت ذراعه، بحذر وعناية، كما لو كان مريضًا، وقادوه إلى أسفل الدرَج.
فوجئ نرجس برؤية العربة عند الشُّرفة. لقد أراد أن يركض عبر الغابات والحقول، ولكنهم أجلسوه في صندوق مغلق واستمتع بالعالم من خلال النوافذ الزجاجية فحسب.
فكر الملك قائلًا لنفسه: «حسنًا، على الأقل سأستمتع برحلة سريعة!» لكنه كان مخطئًا.
كانت الخيول تمشي. بالكاد تحركت العربة إلى الأمام، حيث رغب الناس في تحية ملكهم. ملَئوا الشوارع، وازدحموا حول العربة ولم يتركوا العربة تتحرك. علاوة على ذلك، صرخ الناس بجنون: «مرحبًا» حتى طنَّت أُذنا نرجس. وكان سعيدًا عندما توقفت العربة مرة أخرى عند مدخل القصر ورافقته الحاشية بعناية إلى غرفة الطعام حيث كان العشاء مُعدًّا.
غطت المائدةَ أطباقٌ وفيرة وفاخرة، لكن خادم الملك وضع أجزاءً صغيرة على طبق الملك. ونرجس، بكل رغبته في تناول أطباق شهية حتى يشبع، انتهى به الأمر شبة جائع.
نهض غاضبًا وغير راضٍ من أمام الطاولة.
قال بحدة: «أريد أن أذهب إلى الحديقة!»
لم يخاطب أحدًا.
قال الحارس الذي حمل القوس: «أوه يا صاحب الجلالة، لسوء الحظ رغبتك مستحيلة. لقد تأخر الوقت بالفعل، وبالكاد سيكون لديك الوقت للاستعداد للحفل الذي من المقرر إقامته الساعةَ التاسعة.»
حرك نرجس قدمه بغضب، لكنه ذهب ليرتدي ملابسه على أي حال.
تجمعت درزينة من الخدم حوله مرة أخرى. كان يجلس أمام المرآة. ظهر مصفِّف الشعر وبدأ في تجعيد شعر نرجس الجميل في حلقات رائعة. ثم ألبسوه بدلة ضيقة مطرزة بالذهب ومرصعة بالأحجار باهظة الثمن. لم يكن نرجس معتادًا على ارتداء مثل هذه الملابس. جلس متجهمًا. وإلى جانب ذلك، كان متعبًا.
شعر بالضيق وعدم الراحة في ثوبه الجديد. كان العرق يتصبب على وجهه.
ارتدى الملابس لأن الحفل سوف يستمر لساعتين كاملتين. وعلى صوت الموسيقى، محاطًا بحاشية رائعة، ذهب الملك نرجس إلى قاعة الاحتفالات، وامتلأت القاعة بأكملها بالأضواء.
عندما مر في القاعة، انحنى له الجميع، لكن لم يجرؤ أحد على التحدث إليه، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه، حتى إن نرجس في النهاية شعر بالملل وبدأ في التثاؤب.
لاحظوا ذلك … أحضر رجال البلاط فتاة طويلة قبيحة إلى الملك الطحان، وقالوا إنها ابنة ملك مجاور قوي، ويجب على الملك الرقص معها في بداية الحفل.
لم تحب السيدة نرجس. كانت طويلة جدًّا وممتلئة. أراد بعدها أن يرقص الفالس معها، لكن الحارس همس في أذنه محذرًا أن الملك لا يُفترض أن يرقص الفالس.
وبمجرد مغادرة الحجرة، اقترب أقرب شخص من نرجس وقال بهدوء: «حفلة الليلة هي الأنسب يا جلالة الملك لاختيار عروس. اجتمع في قصرك كل بنات أشرف الملوك والأمراء. يبقى لك فقط يا سيدي أن تختار من بينهن من تستحق أن تصبح ملكة.»
ابتسم نرجس. لم يكن يكره الزواج من فتاة شابة جميلة. مشى حول الدائرة النبيلة للضيوف والأميرات والنبيلات والدوقات. ولكن ما أثار استياءه الشديد أنه لم يجد واحدة تسعده بجمالها.
كان جميع الأميرات والدوقات والملكات يرتدين فساتين أنيقة ومربوطة بإحكام. خصرهن رقيق مثل الدبابير، وبالكاد يتنفسون في الكورسيهات الضيقة. كانت وجوههن مُبيضة بشدة. قصات الشعر القبيحة الضخمة لم تُصلح الوضع، لقد أدت تلك القصات إلى ثقل الرءوس وشد الشعر. كن أيضًا يتحركن بشكل غير طبيعي في أحذيتهن الضيقة ذات الكعب العالي، وبَدَون لنرجس مثل دُمى الساعة. كن يبتسمن بشكل مزيف مثل الدُّمى وهن يحركن شفاههن.
وفجأة، صدمت عينَي نرجس فتاةٌ تقف بمفردها بعيدًا عن الأخريات. لم تكن ترتدي زيًّا فاخرًا، ولا شعرًا كثيفًا، ولا حذاءً ضيقًا بكعب عالٍ. كانت ترتدي ملابس متواضعة للغاية. لكنها كانت أجمل من كل الأخريات.
شخصية ساحرة، وجهٌ أحمر، يدان بيضاوان، ابتسامة مرحة وخلَّابة، عينان تتألقان بالرضا، فستان بسيط، مئزر حريري، وشاح أنيق؛ كل هذا سَحَر الملك في لحظة.
نظر نرجس إلى الفتاة ولم يستطِع الاكتفاء من النظر. غرس مظهرها حبًّا شديدًا في قلبه.
قال بفرح: «ها هي عروسي!»
ذهب إلى الجميلة. صعد إلى المرأة البسيطة الفاتنة وأخذها من يدها.
وفي اللحظة نفسها، امتلأت الغرفة بضحك ساخر. أسرع أقرب رجل إلى نرجس بأقصى سرعة.
قال له: «ماذا تفعل يا مولاي! هذه خادمة بسيطة. إنها موجودة هنا فقط في القاعة لمعرفة ما إذا كان أيٌّ من هؤلاء السيدات والأميرات والدوقات والملكات المهمات يُردن أي شيء. كيف يمكن لخادمة بسيطة أن تصبح عروس الملك! وبالقوة تقريبًا أُخِذ الملك بعيدًا عن الخادمة الجميلة. لكن نرجس لم يعد يسمع كلماته. اندفع من قاعة الرقص؛ أولًا إلى الحديقة، ومن هناك إلى الشارع، إلى الحقل، إلى الغابة، إلى غابة واسعة.»
وهناك سقط على العشب الناعم المبلل وصرخ بحزن: «يا له من رعب. من الممل أن يكون المرء ملكًا! لا يمكنه أن يتحكم بوقته، ولا يمكنه أن يرتبط بالشخص الذي اختاره قلبه! سأتنازل عن كل شيء للشخص الذي يعيدني كما كنت؛ الطحَّان المتواضع نرجس!»
قال ذلك ونام على الفور، لأن أورسولا، التي كانت بجانبه، سمعت حديثه وقررت إعادته إلى حياته السابقة مرة أخرى.
وفي الصباح، استيقظ نرجس ليرى أمامه الطاحونة الجميلة، والعجلات تطن، والماء يتدفق برنين أزرق كريستالي. قفز على قدميه وغنى بفرح وسعادة؛ غنى كما لم يُغنِّ من قبلُ طوال حياته.